القوانين الدولية أمام امتحان الضغوط السياسية

 

للمرة الأولى في التاريخ ينتظر العالم قرارات استثنائية مؤقتة يتوقع أن تصدرها محكمة العدل الدولية في لاهاي في إطار خطوات المرحلة الأولى من إجراءات التقاضي في الدعوى التي قدمتها جمهورية جنوب أفريقيا للمحكمة الدولية ضد الكيان الإسرائيلي بارتكاب جرائم إبادة جماعية، في خطوة قد تُرغم حكومة الكيان على وقف مجازرها بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وسط ضغوط دولية تسعى لكبح هذا القرار.

الثورة  / أبو بكر عبدالله

تبدو محكمة العدل الدولية المعنيّة بالنظر في النزاعات بين الدول المستقلة أمام امتحان صعب حول قدرتها والمنظمة الدولية على تجاوز الضغوط السياسية وإنفاذ القانون الدولي تجاه الدعوى المقدمة ضد إسرائيل بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، والتي تحوّلت إلى قضية رأي عام عالمي محاطة بقدر هائل من الحساسية القانونية والأخلاقية.
حتى الآن تذهب التقديرات القانونية إلى إمكانية أن تحقق جنوب أفريقيا نجاحاً بصدور قرار ملزم ضد دولة الكيان من أعلى هيئة قضائية في الأمم المتحدة يشمل إجراءات طارئة بوقف فوري للحرب الهمجية الإسرائيلية في غزة كخطوة أولى على طريق طويل يسعى لإدانة إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة.
ورغم أن حكومة الكيان وافقت على المثول أمام المحكمة لنفي الاتهامات الواردة في الدعوى دون حساب للنتائج، إلا أن المخاوف برزت بقوة بداخل حكومة الكيان من مخاطر أن توجه محكمة العدل الدولية اتهامات إليها بارتكاب جرائم إبادة وهي التهمة التي قد تعرّض الكيان الإسرائيلي لعقوبات دولية في حال رفضها الخضوع لقرارات المحكمة.
وعلى أن الدعوى التي قدمتها جوهانسبرغ ضد إسرائيل أزعجت الحلفاء الدوليين للكيان، إلا أنها لاقت دعماً وتأييداً من دول كثيرة مثل اندونيسيا وماليزيا وتركيا والجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي التي تمثل 57 دولة فضلاً عن دول غربية أخرى كلها رأت أن الالتزام الدولي بمبادئ اتفاقيات جنيف واتفاقية منع الإبادة الجماعية صار اليوم موضع اختبار وتدقيق عالمي.
بيان الاتهام
في دعواها المرفوعة أمام المحكمة الدولية، اتهمت جنوب أفريقيا إسرائيل بارتكاب “أعمال إبادة” بحق الفلسطينيين في غزة من خلال أفعال محددة قصدت تدمير الفلسطينيين كمجموعة قومية وعنصرية وإثنية، ما شكّل انتهاكاً لاتفاقية منع جرائم الإبادة والتي تعرف هذه الجرائم بأنها “أفعال مرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو عرقية أو عنصرية أو دينية”.
تضمنت الدعوى التي استندت إلى الاتفاقية الموقعة في العام 1948 أربع تهم يتصدرها ارتكاب اسرائيل الإبادة الجماعية، بقتل أكثر من 23 ألف فلسطيني، والتسبب في ضرر جسدي أو عقلي خطير لعدد كبير من سكان قطاع غزة ناهز 50 ألف فلسطيني بما خلفته من معاناة إنسانية طاولت مئات الآلاف من سكان القطاع.
واتهمت الدعوى المؤلفة من 84 صفحة إسرائيل بالتعمد في إخضاع الأفراد لأوضاع معيشية تدمرهم كلياً أو جزئياً، وهي التهمة التي تم توثيقها بإعلان مسؤولين إسرائيليين منع الطعام والماء والإمدادات الطبية والوقود عن سكان القطاع والدعوة لتحويل غزة إلى معسكر اعتقال، فضلاً عن فرض حكومة الكيان تدابير لمنع الولادات وتدمير المشافي وقتل الأطباء واستهدفت سيارات الإسعاف بشكل متعمد، كما لفتت إلى إخفاق الكيان في تقديم الأغذية الأساسية والمياه والأدوية والوقود، وتوفير الملاجئ والمساعدات الإنسانية الأخرى لسكان القطاع.
خلال الجلسات قدّم فريق الدفاع الجنوب افريقي الذي ضم خبراء في القانون الدولي برئاسة المحامية من أصول يمنية عديلة هاشم محمد المشرقي، مرافعات مشفوعة بالأدلة، أكدت أن الهجوم الجوي والبري الإسرائيلي دمر مساحات واسعة من القطاع الساحلي الضيق وقتل أكثر من 23 ألف فلسطيني بهدف “القضاء على السكان” ما عزز هدف الدعوى باعتبار كل الممارسات الصهيونية في غزة جرائم إبادة.
دفاع مضطرب
في مقابل التهم والأدلة المقدمة من جنوب افريقيا حاول فريق الدفاع الإسرائيلي هدم الأركان التي تقوم عليها دعوى جرائم الإبادة، إذ أكد إن جيش الاحتلال لم ينتهك القوانين الإنسانية وقوانين الحرب وأن تحقيقا إسرائيلياً سيجري للتحقيق في هذه الادعاءات نافياً أن يكون لدى الجيش الإسرائيلي أي نيات لتنفيذ جرائم إبادة جماعية، أو احتلال غزة بشكل دائم أو تهجير سكانها المدنيين.
استنادا إلى ذلك رفضت إسرائيل اتهامها بارتكاب جرائم إبادة بحق الفلسطينيين ودعت قضاة المحكمة إلى رفض طلب جنوب أفريقيا المتعلق بوقف هجومها على قطاع غزة الفلسطيني، كون ذلك سيمنعها من الدفاع عن نفسها وطعنت بالأسباب الشكلية للدعوى لعدم توفر شروطها.
ومنذ جلسة الاستماع التي قدم فيها الدفاع الإسرائيلي مرافعاته واضحاً أن الحجج الإسرائيلية ضعيفة، كونها تعارضت مع ما يجري على الأرض، حيث سقط أكثر من 30 ألف قتيل و70 ألف جريح خلال ثلاثة أشهر في نتائج بدت مذهلة إن تم مقارنتها مع نتائج عامين من الحرب المندلعة في اوكرانيا.
ولم يستطع الدفاع الاسرائيلي تبرير سقوط العدد الكبير من الضحايا، والذي يعدّ قرينة قوية على وجود نية للإبادة جماعية واكتفوا بعرض الصور التي كان عرضها جيش الاحتلال الإسرائيلي لترويج مزاعمه حول استغلال حماس للمستشفيات والمرافق المدنية في حين أن حجة “الدفاع عن النفس” كانت ضعيفة أيضا باعتبار أن إسرائيل هي المحتل وتقوم بممارساتها ضد شعب محتل ما يفقدها حق الدفاع عن النفس بموجب القانون الدولي والمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
خسارة مبكرة
هذه المرة هي الأولى التي تخضع فيها حكومة الكيان للمساءلة والاتهام أمام المحكمة الدولية في واحدة من أكثر القضايا التي أثارت ردود فعل ساخطة ضد إسرائيل ومتضامنة مع الشعب الفلسطيني.
ومنذ الجولة الأولى بدت إسرائيل قد خسرت القضية، فجنوب أفريقيا وفريقها القانوني قدموا ما يكفي للحصول على قرار ينهي مجازر الحرب التي يرتكبها الاحتلال في غزة، في الوقت الذي فشل فيه فريق الدفاع الإسرائيلي في إسقاط الدعوى أو التشكيك في الأدلة المقدمة وبالتالي إسقاط المطالب العاجلة التي تضمنتها الدعوى بوقف فوري للمجازر الوحشية في القطاع.
ذلك أن الدعوى المقدمة من جوهانسبرغ كانت استعجالية واستندت إلى نص المادة 41 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية التي تنص على أنه: ” يكون للمحكمة سلطة أن تبيّن، إذا رأت أن الظروف تتطلّب ذلك، أي تدابير مؤقتة ينبغي اتخاذها للحفاظ على الحقوق الخاصة بأي من الطرفَين. ريثما يتم اتخاذ القرار النهائي يجب على الفور إبلاغ الأطراف ومجلس الأمن بالتدابير المقترحة”.
والتدابير المؤقتة المطالب بها تكمن في إصدار قرار بوقف الحرب الإسرائيلية في غزة فوراً، على اعتبار أن استمرار هذه الأعمال سيؤدي إلى سقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين بمرور الوقت، ما يجعل من اتخاذ تدابير مستعجلة أمراً ضرورياً لحفظ حق الفلسطينيين في الحياة.
مخاوف اسرائيلية
من المعلوم أن إسرائيل ليست عضوا في المحكمة الجنائية الدولية وترفض ولايتها القضائية، غير أن إجراءات المحكمة التي تزامنت مع تصاعد الإدانات الدولية تجاه ما يقوم به جيش الاحتلال من مجازر وحشية اضطرتها للمثول أمام المحكمة خصوصا بعد أن تزايد عدد القتلى يوم تقديم الدعوى إلى أكثر من 33 ألفاً ناهيك عن أكثر من 70 ألف جريح ودمار شامل في القطاع.
هذه النتائج التي أثارت غضباً عالمياً، أرغمت الكيان على إرسال مندوبيه للتعاطي مع قواعد القانون الدولي والمثول أمام المحكمة وهي ذاتها التي دفعت مئات اليهود المقيمين في لاهاي إلى التظاهر ضد إسرائيل وإعلان براءتهم من مجازرها الوحشية في غزة.
والمسار القانوني المدين لدولة الاحتلال كان موضع اجماع خبراء القانون الدولي الذي توقعوا إصدار المحكمة قرارات عاجلة استنادا إلى سوابق قانونية في قضايا ميانمار مع الروهينغا وأوكرانيا والبوسنة وهو ما زاد من حجم المخاوف الإسرائيلية بإدانتها بارتكاب جرائم إبادة.
ومعالم القلق بدت بوضوح خلال الأيام الماضية في الحملة الدولة الواسعة النطاق التي بدأتها إسرائيل لحث الحكومات في دول العالم على مقاومة الدعوى المقدمة ضدها والتنديد بها، ودعوتها سفارات بلادها في عواصم العالم للمماسة الضغوط من أجل إصدار مواقف ترفض المحاكمة والاتهامات الموجهة لإسرائيل.
ورغم اطمئنان حكومة الكيان بإمكان وقف هذه الإجراءات عبر الفيتو الأميركي لكبح أي إجراء تنفيذي يتبناه مجلس الأمن، إلا أن القلق الإسرائيلي ينبع من أن جنوب افريقيا تستطيع أن تواجه الفيتو برفع الأمر إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لتنفيذه بموجب قرار “الاتحاد من أجل السلام” وهي الخطوة التي قد تُفضي إلى تعليق مشاركة دولة الكيان في أنشطة المنظمة الدولية استناداً إلى حالات سابقة مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وغيرها.
وأكثر من ذلك أن تذهب الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي ظل التأييد الدولي للقضية إلى إنشاء محكمة جنائية دولية خاصة بإسرائيل على غرار المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة، باعتبارها هيئة فرعية بموجب المادة 22 من ميثاق الأمم المتحدة.
حسابات سياسية
أكثر التقديرات تشير إلى أن المرحلة الأولى من إجراءات التقاضي أمام محكمة العدل الدولية، قد تُفضي إلى إصدار أوامر عاجلة تأمر فيها المحكمة إسرائيل بوقف حربها الوحشية في قطاع غزة وأقل من ذلك قرار عاجل بمنع المساس بالمدنيين والمنشآت المدنية في القطاع والضفة الغربية.
وثمّة احتمال آخر بإصدار المحكمة قراراً بعدم صلاحيتها القانونية للنظر في القضية، نظراً للطعون التي طرحتها حكومة الكيان التي تقول إنه لم يسبق القضية منازعات حقيقية بين جنوب أفريقيا وبين إسرائيل، وهي الخطوة التي تعتبر أحد الأسس التي يعتمد عليها قبل التنازع أمام محكمة العدل الدولية.
مع ذلك لن يكون سهلاً أن تصدر المحكمة الدولية قرارها في ظل الضغوط الدولية التي تواجهها الدعوى الجنوب أفريقية وفي ظل عدم اعتراف اسرائيل بمحكمة لاهاي.
ومن الوارد أن تعرقل الولايات المتحدة وحفائها الغربيين إجراءات الدعوى أو تغير نتائجها المتوقعة، خصوصاً وأن الولايات المتحدة الأميركية ستكون بموجب المادة الثالثة من اتفاقية منع الإبادة الجماعية متهمة بالتواطؤ من إسرائيل في الجرائم محل الدعوى.
ومن جانب آخر فإن المرجح أن يواجه قضاة المحكمة ضغوطاً من جانب الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل من أجل افشال هذه الجهود أو حرف نتائجها لتكون لصالح إسرائيل، خصوصاً إذا علمنا أن رئيسة المحكمة الدولية جون دوناهو تعمل منذ فترة طويلة في وزارة الخارجية الأميركية، وهي تُخضع عملها في المحكمة لمصالح الولايات المتحدة.
وقد استبقت واشنطن ذلك بتصريحات أدلى بها المتحدث باسم مجلس الأمن الوطني جون كيربي اعتبر فيها ما جاء في دعوى جنوب أفريقيا عارٍ عن الصحة.
والثابت أن أي قرار تصدره المحكمة الدولية سيواجه مقاومة من إسرائيل التي تؤكد مراراً وتكراراً أنها ستواصل الحرب لحين تحقيق أهدافها في القضاء على حماس واستعاده الأسرى وهو موقف يحظى بدعم أمريكي كبير وعلّق عليه نتنياهو اثناء جلسات المحكمة بالتأكيد أن “لا شيء سيمنع حكومة الكيان من مواصلة الحرب سواءً محكمه لاهاي أو محور الشر” على حد قوله.
ومن غير المستبعد أن اسرائيل التي لا تعترف بالمحكمة الدولية ولم توقع على اتفاقية منع جرائم الإبادة أرادت هي وواشنطن امتصاص الغضب العالمي بالتماهي مع الإجراءات والمثول أمام المحكمة لتكون هذه الخطوة خط رجعة لحكومة نتنياهو في حال اضطرت إلى التنصل عن التزاماتها بتحقيق الأهداف المعلنة.
ولا يمكن اغفال أن واشنطن التي صارت اليوم تشعر أن الحكومة الإسرائيلية وضعتها في مأزق كبير في ظل استمرارها بارتكاب المجازر الوحشية بحق المدنيين قد تكون سمحت بالمضي بهذه الخطوات تحت سقف معيّن أملاَ في تكون وسيلتها الأخيرة للضغط على إسرائيل من أجل التعجيل بوقف مجازرها بحق الفلسطينيين في القطاع.

المصدر: الثورة نت

كلمات دلالية: محکمة العدل الدولیة بارتکاب جرائم إبادة الولایات المتحدة الإبادة الجماعیة المحکمة الدولیة القانون الدولی جرائم الإبادة حکومة الکیان جنوب أفریقیا أمام المحکمة ضد إسرائیل فی القطاع قطاع غزة التی قد أکثر من فی غزة من أجل

إقرأ أيضاً:

الرنتاوي يكتب .. “بيت جن” حين جُنّ جنون إسرائيل

#سواليف

#بيت_جن …حين جُنّ #جنون_إسرائيل

كتب: #عريب_الرنتاوي، مدير مركز القدس للدراسات السياسية

5 كانون الأول/ديسمبر 2025

مقالات ذات صلة إعلان تشكيلة النشامى أمام الكويت / أسماء 2025/12/06

فجر الثامن والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر، وقع ما لم يكن في حسبان #جيش_الاحتلال_الإسرائيلي…لم تكن طريقه إلى بلدة بيت جن سالكةً وآمنة، وفي الاتجاهين معاً، لا عند الدخول ولا عند الانسحاب، وجد ما لم يكن ينتظره…غطرسة القوة واستعلائها، أوقعته في شرّ أعماله، لم ينجح في تأمين القوة الغازية إلا بالاستناد لتفوقه الجوي، ولم يقو على سحب آلياته المعطلة، فآثر تدميرها.

إنه الاحتلال، الذي يستدعي المقاومة، حيثما وجد، وطالما وجد على أرض الغير…هو قانون المجتمعات والشعوب، الذي يحاكي قوانين الطبيعة…ولأن الاحتلال فعل عدواني لا يستأذن أحداً، فإن المقاومة هي رد الفعل الطبيعي، الذي لا ينتظر الإذن من أحد، وهي مكفولة للمقاومين، وفقاً لمختلف الشرائع السماوية والوضعية، لا تنتظر قراراً “من فوق”، ولا تراعي موازين القوى وحساباتها “من تحت”.

السوريون في بيت جن، انتصروا لأرضهم وعرضهم، ودافعوا عن حق في البقاء الآمن، الحر، السيّد، والمزدهر، فوق تراب وطنهم…ليست مؤامرة سقطت الخارج، ولا هي فعل دٌبّر في ليل بهيم، هي التعبير العفوي، عن أنهم شعب لا يقبل الضيم والذل والاستباحة…هذه هي سوريا التي عرفنا منذ مطلع القرن الفائت، زمن التصدي للاحتلالات الاستعمارية المتعاقبة.

وليست الخسارة الإسرائيلية تنحصر في الجنود والضباط الستة الذي أصيبوا برصاص أهل البلدة وأصحابها، الخسارة التي لم تحسب إسرائيل حسابها، أن عملية بيت جن، والمجزرة التي قارفها الاحتلال ضد سكانها الآمنين، والتصدي الشعبي البطولي للغازي والمحتل، إنما أعادت تصويب البوصلة السورية بالكامل، وكانت بمثابة “أحدث تذكير” للسوريين، بأن عدوهم، الذي يحتل أرضهم، ويمثل أمامهم كتهديد لمستقبلهم ووحدة كيانهم وأرضهم ومجتمعهم، هو إسرائيل، وإسرائيل وحدها، أما باقي من أدرجوا لأسباب سياسية ومذهبية، سورية وإقليمية، في عداد “الأعداء”، فهم ليسوا في أسوأ الأحوال سوى خصوم، والخلاف معهم، يحل على موائد التفاوض والحوار، والتفاهم معهم، ممكن، بل وقد يصبح ضرورة ذات مرحلة قادمة.

العدوان على بيت جن، ومقاومة أهلها، أنعش الهوية الوطنية السورية الجامعة من جديد، رأينا ذلك في الهتافات ضد العدوان والمعتدين، وفي صيحات التضامن مع أهل الجنوب السوري، التي صدحت في مختلف المحافظات السورية، وتردد صداها في الأرجاء … لم تكن إسرائيل تقصد ذلك بالمرة، وهي صاحبة المشروع التقسيمي-التفتيتفي لسوريا، صاحبة نظرية “حلف الأقليات”، الذي لا وظيفة له، سوى تفتيت سوريا، دولة وشعباً وسيادة وكياناً.

إنها الضارة التي أصبحت نافعة، فقد قدمت الفعلة الإسرائيلية النكراء في بيت جن، خدمة جليلة لكل سوري حر، هَالَه ما تمر به سوريا من “يقظة” لـ”الهويات القاتلة”، الهويات الفرعية المتدثرة بلبوس فيدراليات الطوائف والأقوام، كلام الحق الذي يُراد به باطل…أصحاب هذه الدعوات، تلقوا صفعة في الصميم، وانكشف المستور من رهاناتهم البائسة على عدو يعترف العالم بمقارفته لجرائم الفصل والتمييز العنصرية، وممارسته لحرب التطهير والإبادة، و”عسكرته” للمساعدات والإغاثة، واتخاذه من التجويع والترويع سلاحاً ضد نساء غزة وأطفالها وشيوخها…لقد ضربت إسرائيل بخنجرها المسموم، في اللحم السوري الحي في بيت جن، وهي فعلة ليست الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة.

لقد تابعنا باهتمام وارتياح بالغين، متحدثين ومواطنين سوريين، ينافحون عن الهوية الوطنية السورية الجامعة، ويتوعدون إسرائيل بأن بلادهم لن تكون لقمة سائغة لشهيتهم المفتوحة على التوسع والهيمنة والعربدة، لقد رأينا ما يشبه إعادة ترتيب جدول الأولويات السورية، مع أن البلاد تمر بظروف لا تحسد عليها، وهي خارجة لتوها من عشرية مثقلة بالدم والخراب والحصار والعقوبات.

لا يعني ذلك، ولا يجوز أن يعني للحظة واحدة، أن قوى التقسيم والانقسام والانفصال في سوريا، قد ابتلعت مطالبها وطوت صفحة مشاريعها، فهؤلاء ما زالوا على رهانهم بالتبعية والولاء للعدو الإسرائيلي، ما زالوا على مقامرتهم بطلب الحماية والرعاية من مقترفي مجزرة بيت جن، وأبشع ما أقدموا عليه بعد المجزرة، مطاردة عشرة من شبان السويداء واعتقالهم بتهمة “التعامل مع دولتهم”، لكأن دمشق باتت طرفاً خارجياً في حسابات هؤلاء تستوجب الصلة بها أو التعامل معها، المحاسبة والمساءلة، أما طوابير الذين يمموا وجوههم شطر تل أبيب، فلا ذنب لهم ولا جُناح عليهم.

غطرسة القوة وعماها

إسرائيل لم تتعلم دروس “الأحزمة الأمنية” و”الأشرطة الحدودية”، لقد فعلتها في لبنان، فماذا كانت النتيجة، إذ لولا الشريط الحدودي، الدويلة العميلة، التي أوكلتها لسعد حداد، ومن بعده أنطوان لحد، لما تنامت مقاومة لبنان، وصولاً للتحرير، بلا قيد أو شرط، بلا تفاوض ولا معاهدات واتفاقيات، في أيار 2000، لولا “الشريط” لما تداعت كافة القوى الوطنية لإطلاق جبهة المقاومة الوطنية، ولما تسلم حزب الله الراية من بعدها، ليواصل مشوار المقاومة ضد احتلال جائر.

اليوم، في ذروة غطرسة القوة، وعماها، تسعى إسرائيل في استنساخ تجربة الشريط الحدودي، في لبنان مرة ثانية، وفي سوريا كذلك، تريد للمنطقة من جنوب دمشق، وحتى الحدود مع الجولان السوري المحتل، أن يكون منطقة خالية، منزوعة السلاح، وربما تُنَصّبُ عليها، أمراء وعملاء محليين، ليقوموا بالدور نيابة عنها، ودائما من طراز سعد حداد، وعلى شاكلة أنطوان لحد، وما لا يأتي بالقوة قد يأتي بالمزيد منها، هكذا يرد نصاً في خطاب الاستعلاء والاستكبار.

والحقيقة التي ستتعلمها إسرائيل بالطريقة الصعبة، إن لم تستوعبها بالطريقة السهلة، أن الاحتلال يولد المقاومة، وأن القوة تستدعي القوة، والمزيد منها، يستجلب مقاومة أشد وأذكى، وإن الضعيف اليوم، لن يبقى كذلك أبد الدهر، وأن القوي اليوم، لن يستفيد من فائض قوته غداً، وتلك الأيام نداولها بين الناس، والمجتمعات والشعوب والدول.

ما لا تدركه إسرائيل بالطريقة السهلة ستدركه بالطريقة الصعبة، وهو أن تفريغ جنوب سوريا من رموز الدولة وقواها العسكرية والنظامية، لن يجلب لها الأمن والاستقرار، بل قد يحيلها إلى ما آل إليه جنوب لبنان وبقاعه، طيلة أزيد من خمسين عاماً: “فتح لاند”، و”حزب الله لاند” …. وإنه سيصبح نقطة جذب، لكل من له حساب مع إسرائيل، من فصائل ومنظمات وحركات ودول كذلك، وأنه من دون التعامل مع سوريا كدولة سيدة مستقلة موحدة، ومن دون انهاء احتلالاتها القديمة والجديدة لأراضٍ سورية، لن تنعم لا بأمن ولا باستقرار، وأن “الهيمنة” و”الغطرسة” لحظة لن تدوم طويلاً، وأن من يضحك أخيراً يضحك كثيراً.

وستدرك إسرائيل، بالطريقة الصعبة كذلك، أن إضعاف المركز السوري، لن يعزز مكانة الأطراف، فهذه فاقدة لقدرتها على الديمومة والبقاء بذاتها، وهي بتغريدها خارج السرب الوطني السوري، ستجد نفسها في بحر متلاطم من القوى الشعبية المعادية لها، وإن ما لا تستطيع الدولة السورية الضعيفة، أن تقوم به، ستقوم به قوى “لا-دولاتية”، إن لم يكن اليوم، فغداً، وتلكم هي سيرة العلاقة بين قوى الدولة و”اللا-دولة” في كل التجارب العربية الحديثة، وما يتخطاها من دول في العالم الثالث.

وأحسب أنه من غير المتوقع، لحكومة نتنياهو في لحظة الغطرسة والكبر والاستعلاء، أن تفكر بعقل بارد في هذه المشكلات الساخنة، وأرجح أن إسرائيل سيُجَنُّ جنونها، وستلجأ إلى نظرية “أن ما لا يتحقق بالقوة سيتحقق بالمزيد منها”، وستعتمد سياسة الاستباحة وسيناريو غزة والضاحية الجنوبية، ضد القرى والبلدات المقاومة في جنوب سوريا، وستعتمد على تفوقها الجوي والتكنولوجي، في كل مرة، تستشعر فيها خطراً على جنودها وضباطها، لكن حبل الغطرسة قصير، مهما طال واستطال.

أما الذين في قلوبهم زيغ، ممن استسهلوا الارتماء في أحضان عدو بلادهم القومي، واستمرأوا طعم الرعاية والحماية، فنحيلهم إلى المصائر البائسة التي انتهى إليها من سبقوهم على دروب العمالة والتعاون مع الاحتلال، وطلب الحماية من دولة النازيين الجدد والقدامى، لعلهم يستبصرون ويرتدعون قبل فوات الأوان.

مقالات مشابهة

  • “الصليب الأحمر”: “إسرائيل” تمنعنا من زيارة الأسرى الفلسطينيين
  • النزاهة: اعتبار التجاوزات البيئية “جرائم فساد” وشمولها بأولويات التحقيق
  • مركز: جرائم القتل التي ارتكبتها العصابات المسلحة بغزة تستوجب التحقيق والمساءلة
  • العالم ينتفض.. ظاهرات حاشدة تندد باستمرار جرائم الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين
  • رئيس الكنيست الإسرائيلي السابق: جرائم إسرائيل في غزة تستوجب المحاسبة الدولية
  • منظمة العفو الدولية: نحتاج رفع قضايا جديدة في المحكمة الجنائية الدولية ضد إسرائيل
  • العفو الدولية: المجتمع الدولي ابتعد عن مساءلة “إسرائيل” ولم يعد يركز على غزة
  • النرويج تحذر من “هشاشة” وقف إطلاق النار في قطاع غزة
  • الرنتاوي يكتب .. “بيت جن” حين جُنّ جنون إسرائيل
  • الخارجية الروسية: محكمة العدل الدولية وافقت على النظر في جرائم نظام كييف وحلفائه في دونباس