تعود الجذور الأولى للعلاقة بين عُمان ولبنان إلى الألف الثالث قبل الميلاد.. جذور بعيدة جدا، ولكنها وضعت لبنات صلبة في علاقة ستبقى مستمرة في سياقها الإنساني والحضاري منذ الفينيقيين الذين مرّوا على صور العُمانية، ومن شدّة إعجابهم بها أطلقوا على البقعة التي نزلوا فيها في لبنان الاسم نفسه وإلى اللحظات الحديثة حيث تشكلت الدولة الوطنية في العالم ومرت بمنعطفات كثيرة ومختبرات نهضوية خاصة في القرنين التاسع عشر والعشرين الماضيين.

منذ ذلك الحين وإلى اليوم، ظلّ البحر قناة مهمة للتبادل بين الضفتين: ضفة تبحث عن أفق تجاري ومعرفي، وأخرى تحمل معها خبرات المدن والمرافئ والكتابة واللغة.

في هذا الامتداد الزمني والحضاري الطويل تبدو الزيارة الرسمية التي يقوم بها اليوم فخامة الرئيس العماد جوزاف عون إلى سلطنة عُمان، ولقاؤه بحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- حلقة جديدة في سلسلة قديمة خضعت للكثير من اختبارات الصمود وكانت النتيجة أنها راسخة لا تتزعزع مهما تقلب الزمن وتاقت الأنفس إلى التغيير. بقيت لبنان حاضرة في الضمير العماني تأثيرا وتأثرا منذ الأبجدية الأولى التي تشكلت فوق جبل لبنان وتلك التي نُقشت على صخور جبال الحجر في عُمان، ومنذ الرصاصة الأولى التي انطلقت في سبيل كرامة لبنان واستقراره وسيادته في لحظة كان فيها لبنان أحد أهم مراكز التنوير في العالم العربي وأحد أهم المراكز الحضارية الواقعة بين مصر والشام والأناضول والجزيرة العربية وبين الداخل العربي والبحر الأبيض المتوسط.. في كل هذه المحطات كانت لبنان حاضرة وكانت عُمان ترقب ما يحدث فيها من تحولات وما تمتلكه من تنوع ديني وثقافي وقدرة على بناء الاستقرار تحت وحدة الإنسانية ومبائدها وقيمها.

وفي العصر الحديث ومنذ افتتاح أول سفارة لسلطنة عُمان في بيروت عام 1972 والعلاقة بين البلدين تُبنى على قاعدة واضحة لا لبس فيها، احترام سيادة لبنان على كل أراضيه، وعدم الانجرار إلى محاور تقوم على رؤية جزئية، وتقديم مبدأ الحوار على الدخول في مغامرات لا عائد منها. هذا النهج الذي استطاعت عُمان ترسيخه في الإقليم، من خلال حياد إيجابي يحترم ميثاق الأمم المتحدة ويبحث عن تسويات سلمية للنزاعات، هو نفسه الإطار الذي يُظِل علاقتها بلبنان اليوم. فالموقف العُماني الداعم لوحدة لبنان الوطنية ورفض أي انتهاك لأراضيه هو خيار استراتيجي يرى في استقرار لبنان جزءا من أمن المشرق العربي كله.

في مقابل هذه الرؤية التاريخية والحضارية وما يصاحبها من ثبات على المبدأ والنهج يمكن أن تقرأ الزيارة من حيث توقيتها، الصعب حيث يمر لبنان بأزمة تمس أمنه واستقراره ووحدته إضافة إلى الأزمة الاقتصادية والاجتماعية العميقة. لكن السياسة العمانية تقوم على فكرة الشراكة المتكافئة مهما كان الطرف الآخر يعيش في أزمات اقتصادية.. فما بالك إذا كان هذا الطرف هو لبنان بكل حضارته ومكوناته الثقافية ومساهمته في حركة التنوير العربية!

والأرقام المعلنة بين الجانبين تشير إلى حركة تجارية تشهد نموا مطردا. حيث ارتفع التبادل التجاري بنسبة تقارب 30% في النصف الأول من العام الجاري، وهناك أكثر من ألف شركة لبنانية مسجلة في سلطنة عُمان، برأسمال يقترب من مائتي مليون ريال عُماني، واستثمارات ممتدة من التجارة والتشييد إلى الصناعة والخدمات الغذائية.

هذه الأرقام تشكل ملامح تكامل اقتصادي في إطار رؤية «عُمان 2040»، حيث تمتلك سلطنة عُمان بيئة أعمال جاذبة وبنية لوجستية متطورة ومناطق اقتصادية وحرة تبحث عن شركاء يمتلكون خبرات في الخدمات، والقطاع المالي، والاتصال الإعلامي، والصناعات الثقافية والإبداعية؛ ولبنان تملك نخبه اقتصادية وفكرية وخبرة طويلة في هذه المجالات.

لقد مهدت المنتديات الاقتصادية المشتركة التي عُقدت في الأشهر الماضية، من المنتدى العُماني – اللبناني في سبتمبر إلى المنتدى الاقتصادي بمسقط في أكتوبر، ثم اللقاءات الوزارية في مجالات التجارة والتعليم، لهذه الزيارة، وجاءت لتقول إن الطريق بين بيروت ومسقط لم يعد يمر عبر الكلمات وحدها، بل عبر عقود ومذكرات تفاهم مرتقبة ولجان مشتركة ومشروعات صغيرة ومتوسطة تبحث عن أسواق جديدة.على هذا الأساس يمكن قراءة زيارة الرئيس اللبناني بوصفها خطوة تمنح هذا المسار الاقتصادي - الثقافي غطاء سياسيا أعلى، وتفتح الباب أمام مرحلة أكثر تنظيما للعلاقة بين البلدين وفي كل المسارات التنموية.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

إيران: لا علاقة لنا بالشأن الداخلي في لبنان.. وحزب الله مسؤول عن قراراته

أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي، اليوم الأحد، أن بلاده لا تتدخل في الشؤون الداخلية للبنان وإن حزب الله هو من يتخذ قراراته بنفسه.

 

وأضاف بقائي، خلال المؤتمر الصحفي الأسبوعي: "الحديث عن تدخل إيران في الشؤون اللبنانية حديث منحرف تمامًا. لا نتدخل في الشؤون الداخلية للبنان، وحزب الله مؤسسة وذراع راسخة وفاعلة في لبنان والمجتمع الدولي، وهو من يقرر سلوكه وسياساته".

 

وتابع: "حرصنا الدائم على السلام والأمن في المنطقة، وتهديداتنا للكيان الصهيوني في هذا الصدد، لا يعني التدخل في الشؤون الداخلية للبنان أو أي دولة أخرى، بل يعني مسؤولية إيران"، وفق ما نقلت وسائل إعلام إيرانية.

 

وأكد بقائي، أن إيران على أتم الاستعداد للتحدث مع المسؤولين اللبنانيين حول العلاقات الثنائية، لافتًا إلى أن هناك علاقات دبلوماسية بين البلدين، وقد عُين سفير لبناني جديد في طهران مؤخرًا.

 

وقال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، إن "اتخاذ القرارات بشأن القضايا الداخلية اللبنانية، بما في ذلك الاستراتيجية الدفاعية للبلاد، يجب أن يتم في إطار الحوار اللبناني اللبناني، وقضية سلاح المقاومة هي أيضًا إحدى القضايا التي يجب على لبنان نفسه وحزب الله اتخاذ القرار بشأنها".

 

 

مقالات مشابهة

  • المستقبل يُواجه اتهامات
  • في ذكرى سقوط الاسد.. الحريري: من كان سبب الخراب لا مكان له في المستقبل
  • سفراء اعضاء مجلس الامن يأسفون لانهاء مهمّة اليونيفيل ولبنان متمسك بـالقبّعات الزرق
  • الداخل اللبناني لا يملك ترف الوقت والخارج يرسم فصول المستقبل
  • الحفرة التي سقطت فيها الفتاة: أهمية منع الإهمال لمنع الكارثة قبل أن تقع
  • سلام: إسرائيل تشنّ حرب استنزاف وبالتالي لسنا في وضعية سلام
  • الذكاء الاصطناعي ولبنان: سباق بين دولة متعثّرة وطاقات تبحث عن مستقبلها
  • إيران: لا علاقة لنا بالشأن الداخلي في لبنان.. وحزب الله مسؤول عن قراراته
  • طبيب يكشف الحالات التي يمكن فيها خفض ضغط الدم دون الحاجة إلى أدوية