بعيدا عمّا أثاره طوفان الأقصى من تأثيرات قوية بلغت في الغرب حد التحول الديني (الدخول في الإسلام) أو تبني السردية الفلسطينية ورفض المواقف الحكومية الرسمية المساندة لدولة الكيان، وبعيدا عن تلك المواقف الانتهازية العربية التي لا تتجاوز قيمتها امتصاص الغضب الشعبي والتهرب من تحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية والدينية فيما يجري من إبادة جماعية في غزة، فإنّ قياس قوة "الطوفان" تفرض علينا تجاوز التأثيرات المباشرة -رغم أهميتها- والبحث عن تأثيراته الاستراتيجية المتوقعة، خاصةً في مستوى النماذج الإدراكية/ الفكرية أو ما يُسمى بالبراديغمات (الأطر النظرية) التي تتحكم في المواقف المختلفة للدول العربية والإسلامية وكذلك للدول الغربية وغيرها من القضية الفلسطينية.



في الفضاء العربي الإسلامي، نحن نذهب إلى وجود نموذجين فكريين أساسيين يحددان المواقف الرسمية والشعبية من القضية الفلسطينية: أما النموذج الأول فهو نموذج الدولة-الأمة بالمعنى الوستفالي لهذا الكيان. وهو نموذج فكري يحكمه منطق الأمن القومي أو المصالح العليا للدولة التي هي في الحقيقة مصالح الطبقات المهيمنة اقتصاديا وثقافيا وسياسيا باعتبارها -في الأغلب الأعم- طبقات ملحقة وظيفيا بالمركز الغربي في مرحلة الاستعمار غير المباشر. وأما النموذج الثاني فهو نموذج الطائفة-الأمة الذي يحكمه منطق المذهب والمطابقة بينه وبين "الإسلام". وفي هذا النموذج ينتقل مركز الإسلام من "القرآن" إلى "الرسول" ومنه إلى الرموز أو المرجعيات المعتبرة داخل المذهب، ويتحول العدو الوجودي من "الكافر الملّي" إلى ذلك المسلم المختلف طائفيا والمعادي لهم -بالجوهر والقصد- باعتبارهم "الفئة الناجية" أو حرّاس ميراث النبوة و"الإسلام الصحيح".

بحكم قدرة العديد من الكيانات الوستفالية -ومن ورائها مراكز التخطيط الاستراتيجي في الغرب- على توظيف المعطى الديني (بعقائده وفقهه ومخياله) لخدمة أجنداتها السياسية داخل الإقليم، تحولت الطموحات المشروعة للعرب في العدالة والحرية والديمقراطية إلى مشاريع للاحتراب الأهلي ولتغذية الطائفية، ولخدمة مشروع "التطبيع" من وراء تلك "الثورات التصحيحية" التي لا محصول لها إلا مزيدا من الاستبداد السياسي والتزييف الإعلامي والتفقير المُمنهج للأغلب الأعم من "المواطنين"
رغم اختلاف هذين النموذجين الفكريين من جهة النشأة والرموز ومجال الاشتغال والتأثير، فإنهما يتعامدان وظيفيا لتكريس واقع الصراع بين جناحَي الأمة (أي السنة والشيعة) ومنع توحدهما لنصرة "أولى القبلتين" أو للتحرر من التبعية لمراكز القرار الصهيو-صليبية في الغرب، أو على الأقل لبناء نصاب سياسي "وطني" متحرر من الطائفية.

فبحكم قدرة العديد من الكيانات الوستفالية -ومن ورائها مراكز التخطيط الاستراتيجي في الغرب- على توظيف المعطى الديني (بعقائده وفقهه ومخياله) لخدمة أجنداتها السياسية داخل الإقليم، تحولت الطموحات المشروعة للعرب في العدالة والحرية والديمقراطية إلى مشاريع للاحتراب الأهلي ولتغذية الطائفية، ولخدمة مشروع "التطبيع" من وراء تلك "الثورات التصحيحية" التي لا محصول لها إلا مزيدا من الاستبداد السياسي والتزييف الإعلامي والتفقير المُمنهج للأغلب الأعم من "المواطنين". ونحن لم نضع كلمة "مواطنين" بين ظفرين إلا لأنها مجرد مجاز في واقع سياسي لم يبلغ فيه العرب مرتبة "الرعايا" في نظام ملكي يحكمه "مستبد عادل".

بصرف النظر عن المآلات العسكرية والسياسية لـ"طوفان الأقصى"، فإن هذا الطوفان قد جاء يؤكد أن نموذجي الدولة-الأمة والطائفة-الأمة هما نموذجان متصهينان بالضرورة، أي نموذجان مستلحقان واقعيا -عن قصد أو بدون قصد- بالمشروع الصهيوني، باعتبار "الصهيونية أعلى مراحل الإمبريالية". كما أن طوفان الأقصى قد جاء ليغير فهمنا لمعنى "إسرائيل الكبرى". فإذا كانت السردية التلمودية تفترض "التهويد" عبر الاحتلال المباشر للأرض، فإن علمنة تلك السردية في الصهيونية يعني الاستغناء -ولو مؤقتا- عن التهويد بالقوة العسكرية إلى سياسة "الصهينة" أو التهويد غير المباشر التي يكون هدفها النهائي صهينة الوعي الجمعي. فالكيان -ومن ورائه الغرب الصليبي المتصهين- لا يحتاج إلى احتلال دول يمكنها أن توفر له كل ما يحتاجه دون إراقة قطرة دم واحدة أو إنفاق دولار من أموال دافعي الضرائب في الغرب.

لقد أكدت مسارات التطبيع أن المشروع الصهيوني يحتاج فقط أن يكون على رأس الدول "العربية" أنظمة غير شرعية متصهينة لا علاقة لها بشعوبها؛ إلا من جهة ما تمارسها عليها من إذلال وتفقير وتجهيل. ولا يهم شكل تلك الأنظمة العربية (ملكية أو جمهورية)، استشعار الغرب لخطورة "المقاومة" (بجناحيها السني والشيعي) لا يأتي فقط من قدرتها على إرباك مسارات التطبيع أو تهديد الكيان "وجوديا"، بل إن خطورة المقاومة تأتي أيضا من قدرتها على نزع الشرعية أو المصداقية من نموذجي الدولة-الأمة والطائفة-الأمة باعتبارهما الحليف الاستراتيجي للمشروع الصهيوني في المنطقة وخارجها كما لا يهم أنماط شرعيتها، بل لا يهم معاداتها الخطابية للكيان أو اشتراطها الكاذب لحل الدولتين للتطبيع معه، ما دامت كلها في خدمة المشروع الصهيوني في المنطقة، بل حتى خارج الإقليم كما هو الشأن في كل القضايا التي يحتاج فيها الغرب إلى أموال العرب أو إلى مواقفهم الديبلوماسية (مثل قضية أوكرانيا أو قضايا دول غرب أفريقيا وغيرها).

ولا شك عندنا في أن استشعار الغرب لخطورة "المقاومة" (بجناحيها السني والشيعي) لا يأتي فقط من قدرتها على إرباك مسارات التطبيع أو تهديد الكيان "وجوديا"، بل إن خطورة المقاومة تأتي أيضا من قدرتها على نزع الشرعية أو المصداقية من نموذجي الدولة-الأمة والطائفة-الأمة باعتبارهما الحليف الاستراتيجي للمشروع الصهيوني في المنطقة وخارجها.

إن الخطر الأعظم الذي تمثله المقاومة يأتي من أنها تقدم نموذجا إدراكيا جديدا. وهو نموذج يتجاوز الدولة-الأمة والطائفة-الأمة على حد سواء. ونحن لا نزعم أن "المقاومة الإسلامية" بجناحيها السني والشيعي قد تخلصت نهائيا من خلفيتها/مرجعيتها الطائفية، ولكننا نقول بأن الالتقاء بين جناحي المقاومة يمثل خطوة عملاقة في كسر الأنساق المذهبية.

وقد يتفاجأ القارئ إذا ما قلنا بأن المقاومة تبشر بميلاد حركة "إسلامية" للمرة الأولى في التاريخ، فكل الحركات الإسلامية هي في الحقيقة حركات "طائفية" لا يحضر فيها الإسلام القرآني بقدر ما يحضر إسلام الطائفة أو إسلام التاريخ. ونحن نذهب إلى أن معيار "الإسلامية" هو أن يجد كل المسلمين أنفسهم في أي خطاب يزعم أنه خطاب إسلامي (وهو أمر لا يوجد من قبل أن ينبجس صبح المقاومة "الإسلامية" المتوحدة حول مطلب تحرير "أولى القبلتين"). ولا شك عندنا في أن خطاب المقاومة هو خطاب إسلامي صميم يتجاوز الطائفية بالدفع بها إلى خلفية المشهد، أو على الأقل هو خطاب سيمهد لتجاوز الطائفية في المستوى الاستراتيجي.

استطاع طوفان الأقصى أن يضع "المواطن الغربي" أمام هذه الحقائق ممهدا لميلاد مقاومة "مواطنية" لمراكز النفوذ المتصهينة، باعتبارها أداة استعباد وتهميش لإرادة الغربيين قبل غيرهم من ضحايا النظام العالمي المتصهين. ونحن على يقين من أن أصحاب هذا الوعي الجديد سيكونون بالضرورة حصنا متقدما للدفاع عن القضية الفلسطينية وحليفا موضوعيا للمقاومة، بل سيكونون لبنة هامة في صرح "الاستبدال العظيم"
إذا ما خرجنا من الفضاء العربي الإسلامي ونظرنا إلى تداعيات الطوفان في الغرب، فإننا سنجد أنه قد أثبت زيف نموذج الحداثة (وهو النموذج المرجعي للدولة- الأمة وللطائفة- الأمة سواء بالتبني أو بالرفض والمنازعة) وتهافت ما يدعيه ذلك النموذج من قيم كونية وعلمانية. كما أثبت الطوفان حقيقتين هامتين: أولا الروح الصليبية والاستعمارية للغرب، تلك الروح التي لم تختف بعد مسارات العلمنة الطويلة وبعد مشاريع "الاستقلال الصوري" التي رافقت نشوء الدول الوطنية في دول الهامش (ومنها الدول العربية)، ثانيا هيمنة الصهيونية باعتبارها سقف التفكير الغربي أو مرجع المعنى النهائي في كل تعبيراته الفلسفية والسياسية والحقوقية وغيرها؛ منذ تكوين دولة الكيان وبلوغ الإمبريالية لحظتها الصهيونية (بهيمنة المال اليهودي على إنتاج الثروات المادية والرمزية وتحالفه مع المسيحية المتصهينة، خاصة الكنائس البروتستانتية في أمريكا، وكذلك بسيطرته على الإعلام وعلى مصادر التمويل لما يسمى بـ"المجتمع المدني" في الغرب وفي الدول العربية وغيرها).

لقد استطاع طوفان الأقصى أن يضع "المواطن الغربي" أمام هذه الحقائق ممهدا لميلاد مقاومة "مواطنية" لمراكز النفوذ المتصهينة، باعتبارها أداة استعباد وتهميش لإرادة الغربيين قبل غيرهم من ضحايا النظام العالمي المتصهين. ونحن على يقين من أن أصحاب هذا الوعي الجديد سيكونون بالضرورة حصنا متقدما للدفاع عن القضية الفلسطينية وحليفا موضوعيا للمقاومة، بل سيكونون لبنة هامة في صرح "الاستبدال العظيم" الذي لن يكون مستقره إلا نهاية الصهيونية (أي النظام العالمي الصهيو-صليبي) وزوال "إسرائيل" وكل الكيانات/السرديات الوظيفية المتصهينة في الوطن العربي.. ولو بعد حين.

twitter.com/adel_arabi21

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الصهيونية المقاومة المقاومة الإسلاميين الصهيونية أيديولوجيا طوفان الاقصي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القضیة الفلسطینیة من قدرتها على طوفان الأقصى فی الغرب

إقرأ أيضاً:

هل باع الغرب إسرائيل؟

شهد شهر مايو/ أيار 2025 تحوّلًا لافتًا في المواقف الرسمية الغربية تجاه الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة، تمثّل في تبنّي لغة قانونية حادّة في توصيف الانتهاكات، وطرح علني لمراجعة العلاقات مع تل أبيب، وتزايد الدعوات إلى تقييد التعاون العسكري والاقتصادي.

ما بدا لسنوات وكأنه جدار دعم غربي مطلق بدأ يتصدّع، ليس فقط في دوائر الإعلام والنقابات، بل داخل البرلمانات والحكومات ذاتها.

لكن يبقى السؤال الجوهري: لماذا الآن؟ ما الذي جعل هذا التحوّل ممكنًا بعد عقود من التواطؤ أو التجاهل؟ وما السياقات والتطورات – الإقليمية، والحقوقية، والداخلية – التي أفضت إلى هذا المشهد الجديد؟

ثم، الأهم من ذلك: إلى أي مدى ستؤثر هذه المواقف والضغوط – رغم أنها لم ترقَ بعد إلى مستوى العقوبات الشاملة – على سلوك إسرائيل فعليًا؟ وهل يمكن الرهان عليها لإحداث اختراق في جدار الحصانة السياسية التي أحاطت بها نفسها لعقود؟

في هذا المقال، نحاول تقديم إجابات ممنهجة لهذه الأسئلة من خلال تتبّع أبرز ملامح المواقف الغربية الجديدة، وتحليل منطلقاتها، وتقييم حدودها وإمكاناتها المستقبلية:

هل نحن أمام بداية تحوّل بنيوي في علاقات الغرب مع إسرائيل، أم أمام جولة مؤقتة من الغضب الأخلاقي سرعان ما تنكفئ أمام ضرورات السياسة؟

إعلان أولًا: مواقف غربية رسمية غير مسبوقة

في الأسبوع الأول من مايو/ أيار 2025، شهد الخطاب الأوروبي تحولًا نوعيًا في التعامل مع إسرائيل، عبر مواقف رسمية اتسمت بصراحة قانونية حادّة وخطوات عملية غير معهودة، في دلالة على انكسار حاجز التحفّظ الدبلوماسي الذي طالما طغى على العلاقات الغربية- الإسرائيلية.

إدانة خطط إسرائيل.. ومكانة فلسطين القانونية

في 7-8 مايو/ أيار، أصدرت ست دول أوروبية: (أيرلندا، إسبانيا، سلوفينيا، لوكسمبورغ، النرويج، وآيسلندا) بيانًا مشتركًا اعتبرت فيه محاولات إسرائيل تغييرَ ديمغرافية غزة وتهجير سكانها، ترحيلًا قسريًا وجريمة بموجب القانون الدولي. كما شدد البيان على أن غزة "جزء لا يتجزأ من دولة فلسطين"، في إقرار قانوني صريح بمكانة فلسطين، طالما تجنبت حكومات أوروبية النطق به بهذا الوضوح.

اتهام إسرائيل بسياسة الحصار والتجويع

البيان نفسه وصف الحصار الإسرائيلي المستمر منذ 2 مارس/ آذار بأنه "مانع شامل للمساعدات الإنسانية والإمدادات التجارية"، وطالب برفعه الفوري دون تمييز أو شروط.

كما وثّقت منظمة الصحة العالمية في 12 مايو/ أيار، أن غزة تواجه إحدى أسوأ أزمات الجوع عالميًا، مع وفاة عشرات الأطفال، ووصفت ما يحدث بأنه نتيجة "حرمان متعمّد من الغذاء"، في توصيف يقارب التجويع كجريمة حرب أو حتى جريمة إبادة محتملة.

رفض الآلية الأميركية- الإسرائيلية لتوزيع المساعدات

في 19 مايو/ أيار، أصدرت 22 دولة، من بينها فرنسا، ألمانيا، المملكة المتحدة، وكندا، بيانًا مشتركًا أعربت فيه عن رفضها الآلية الجديدة التي اقترحتها إسرائيل بالتعاون مع الولايات المتحدة لتوزيع المساعدات في غزة.

واعتبرت هذه الدول أن "النموذج الجديد" يفتقر للفاعلية، ويربط المساعدات بأهداف عسكرية وسياسية، ويقوّض حيادية الأمم المتحدة، ويُعرّض العاملين والمستفيدين للخطر. كما شددت على أن سكان قطاع غزة "يواجهون المجاعة وعليهم الحصول على المساعدات التي يحتاجون إليها بشدة".

إعلان دعوات لحظر التسليح ومراجعة الشراكات

أبدت هولندا تحولًا واضحًا في خطابها التقليدي تجاه إسرائيل. فقد صرّح وزير خارجيتها كاسبر فيلد كامب بوجوب "رسم خط أحمر" عبر مراجعة اتفاقية الشراكة الأوروبية مع إسرائيل، وأعلن تجميد أي دعم حكومي لتمديدها.

كما شددت السلطات الهولندية الرقابة على تصدير المواد ذات الاستخدام المزدوج منذ أبريل/ نيسان. وفي أيرلندا، صوّت مجلس الشيوخ بالإجماع أواخر أبريل/ نيسان لصالح فرض عقوبات على إسرائيل ومنع مرور الأسلحة الأميركية عبر الأجواء الأيرلندية، في خطوة رمزية، لكنها تعكس تغير المزاج التشريعي والمؤسساتي بوضوح.

تحركات نحو الاعتراف بدولة فلسطين

من أبرز مظاهر التحول أيضًا، تلويح عدد من الدول: (فرنسا، لوكسمبورغ، إسبانيا، أيرلندا، سلوفينيا)، باعتبار الاعتراف بدولة فلسطين ضرورة سياسية لحماية حل الدولتين.

وكان قد سبق ذلك اعتراف رسمي من أيرلندا، وإسبانيا، والنرويج بدولة فلسطين في مايو/ أيار 2024، ثم سلوفينيا في يونيو/ حزيران، ما رفع عدد دول الاتحاد الأوروبي المعترفة إلى عشر دول على الأقل، معظمها من أوروبا الغربية، بما يشكّل تحوّلًا غير مسبوق في بنية العلاقات الأوروبية- الإسرائيلية.

انضمام بريطانيا إلى دائرة التحوّل

وفي تطوّر نوعي، أعلن وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، خلال جلسة البرلمان في 20 مايو/ أيار 2025، تعليق مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة مع إسرائيل، وفرض عقوبات على ثلاثة مستوطنين ومنظمتين إسرائيليتين متورطتين بأعمال عنف في الضفة الغربية.

كما وصف الحصار المفروض على غزة بأنه "غير أخلاقي ولا يمكن تبريره"، مطالبًا برفعه الفوري، بينما دعا رئيس الوزراء كير ستارمر إلى وقف إطلاق النار، وزيادة المساعدات الإنسانية، مؤكدًا أن "مستوى المعاناة في غزة لا يُحتمل".

ثانيًا: ضغط الشارع، وانكشاف الفظائع

ولكن: لماذا الآن؟ وهل التحوّل الغربي لحظة عابرة أم بداية تغير بنيوي؟

إعلان

لم يأتِ التحول في المواقف الغربية تجاه إسرائيل كنتيجة لقرار سياسي منفرد أو يقظة أخلاقية مفاجئة، بل جاء بفعل تراكم غير مسبوق لضغوط إعلامية، شعبية، حقوقية ودبلوماسية، تقاطعت كلها في لحظة انكشافٍ عالمي كامل لما يجري في غزة. السؤال عن "لماذا الآن؟" يجد إجابته في هذه اللحظة الكاشفة التي بات فيها التغاضي الغربي مرادفًا صريحًا للتواطؤ.

صور الأطفال المتوفين جوعًا، مشاهد الدمار الكلي، المقابر الجماعية والمجازر المتواصلة، فُرضت على الإعلام التقليدي والمنصات الرقمية رغم محاولات الحجب. حتى عالم الفن والثقافة انخرط في الإدانة، كما حصل عشية مهرجان "كان" حين وقّع أكثر من 350 فنانًا عالميًا على رسالة تصف ما يحدث في غزة بـ"الإبادة الجماعية". بالتوازي، وثّقت منظمات كالعفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، واليونيسيف تفاصيل الجرائم بدقة لا تُطاق.

في الولايات المتحدة، بدأت موجة الاحتجاجات الشعبية تتصاعد بقوة في أواخر عهد الرئيس السابق جو بايدن، وسط اتهامات علنية لإدارته بالتواطؤ في الجرائم المرتكبة في غزة، وتحوّل وسم "Genocide Joe" إلى رمز للاحتجاج الرقمي.

ومع وصول إدارة ترامب الثانية، استمرت التظاهرات، لا سيما في الأوساط الجامعية والنقابية؛ احتجاجًا على استمرار الدعم غير المشروط لإسرائيل، وإن اتخذت طابعًا أكثر تحديًا للخطاب الرسمي الصدامي.

أما في أوروبا، فقد شهدت عواصم كبرى كمدريد، دبلن، لاهاي، وأوسلو مظاهرات حاشدة طالبت بوقف فوري للحرب ومحاسبة إسرائيل. ومن أبرز التحركات المؤسسية، كان تصويت اتحاد النقابات النرويجي (LO) بنسبة 88% لصالح مقاطعة شاملة لإسرائيل، تشمل سحب صناديق التقاعد من الشركات الداعمة للاحتلال، وهي خطوة غير مسبوقة في أوروبا.

الضغط الشعبي ترافق مع تصدعات في الخطاب السياسي: أكثر من 53 ألف شهيد فلسطيني، منهم 15 ألف طفل؛ تدمير كامل للبنية التحتية: (الصحية، التعليمية، الزراعية…)؛ ومجاعة جماعية وثقتها الأمم المتحدة.

ورغم ذلك، يبقى السؤال قائمًا: هل نشهد تغيرًا بنيويًا في السياسات الغربية، أم مجرّد موجة غضب ظرفية سرعان ما تنكفئ؟

إعلان

التحذير من "النكوص" مشروع، لكن المؤشرات الإيجابية لا يمكن تجاهلها: دول مثل أيرلندا وإسبانيا، تبنّت مواقف كانت تُعتبر راديكالية، منها فرض قيود على العلاقات العسكرية والاعتراف بدولة فلسطين.

كما تشكّلت كتل أوروبية تنسق مواقفها بجرأة، كما في البيان السداسي لوزراء خارجية آيسلندا، أيرلندا، النرويج، سلوفينيا، إسبانيا ولوكسمبورغ. كذلك بدأنا نلمس تغيّرات داخل البرلمان الأوروبي نفسه، مع تصاعد أصوات تطالب بمحاسبة إسرائيل قانونيًا.

ثالثًا: دور إعادة التموضع الإقليمي

لا يمكن فهم هذا التحوّل من دون التوقف عند الترتيبات الجيوسياسية التي مهّدت له. فبالتزامن مع تصاعد الخطاب الأوروبي المنتقد لإسرائيل، نشطت إدارة ترامب على عدة جبهات إقليمية في مطلع مايو/أيار 2025.

ففي 7 مايو/ أيار، تدخّلت واشنطن لاحتواء تصعيد عسكري خطير بين الهند وباكستان بالتعاون مع مجموعة السبع (G7). وفي اليمن، رعت هدنة بحرية بين الحوثيين والتحالف السعودي- الإماراتي، بوساطة عُمانية، أفضت إلى خفض التوتر في البحر الأحمر.

هذه التهدئة الإقليمية سحبت من يد إسرائيل أوراق التهديد التي طالما استخدمتها لتبرير استمرار الحرب على غزة، خصوصًا ما يتعلق بـ"محور إيران- الحوثيين-حماس".

وتُرجِم ذلك دبلوماسيًا في تراجع الحرج الأوروبي من اتخاذ مواقف علنية حادة تجاه تل أبيب. بل تشير بعض التقديرات إلى دور خليجي غير معلن في هذه التهدئة، مقابل ضغوط أميركية على إسرائيل، ما سمح للغرب بإعادة التموضع من دون الدخول في صدام مباشر مع واشنطن.

هكذا، جاء التحوّل الغربي نتيجة "ترتيب سياسي هادئ" أكثر مما هو لحظة أخلاقية خالصة. لكنه، وعلى محدوديته، شكّل بيئة جديدة أكثر تحررًا للحكومات الأوروبية التي بادرت بتعليق اتفاقيات، فرض عقوبات، واستدعت سفراء، كما حدث في لندن، دبلن، وأوسلو.

إعلان رابعًا: إسرائيل وجنوب أفريقيا

والسؤال: هل سيكون الوضع كما جنوب أفريقيا؟ هل تقود الضغوط الغربية إلى تحوّل حقيقي في سلوك إسرائيل؟

رغم أن ما فُرض حتى الآن من عقوبات غربية لا يرقى بعد إلى مستوى الردع، فإن أثرها الواقعي بدأ يظهر على أكثر من صعيد. تعليق صفقات الأسلحة، خصوصًا من دول أوروبية، ووقف مرورها عبر الأجواء، كما فعلت أيرلندا، يعقّد التموين العسكري الإسرائيلي. حظر المواد ذات الاستخدام المزدوج يقيّد تصنيع بعض مكونات الأسلحة الدقيقة. تجميد اتفاقيات تجارية، وتلويح هولندا وفرنسا بإعادة تقييم الشراكة مع إسرائيل يضعان تل أبيب في مواجهة عزلة اقتصادية بدأت فعليًا.

الأثر السياسي لا يقل أهمية: انكشاف إسرائيل على المسرح الدولي، تصدّع صورتها كشريك غربي "طبيعي"، وعودة قضيتها إلى ساحات المحاكم والمنظمات الدولية، كلّها تطورات تُعيد تعريف الكلفة السياسية لجرائمها.

هذا الضغط لم يأتِ فقط من الحكومات، بل من البنية المجتمعية الغربية: النقابات، الجامعات، الأحزاب، ومن داخل برلمانات كانت حتى الأمس القريب تصمت أو تبرّر.

بهذا المعنى، فإن هذه الخطوات السياسية – رغم محدوديتها – تمثل كسرًا للإجماع الغربي التقليدي حول دعم إسرائيل المطلق، وتفتح الباب أمام الانتقال من الإدانة الخطابية إلى أدوات ضغط ملموسة، تشمل مراجعة الاتفاقيات، تعليق الشراكات، وتقييد العلاقات الدبلوماسية، بما قد يتطور لاحقًا إلى تدابير أكثر صرامة.

وهي لحظة تذكّر، من حيث الشكل والمناخ الدولي، بالبدايات التي سبقت فرض العقوبات الشاملة على نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، حين بدأت الدول الغربية بإجراءات تدريجية قبل أن تنهار شرعية النظام تحت وطأة الضغط المتراكم.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • "تعليم البرلمان" توجه الحكومة بتوفير الاعتمادات اللازمة لجهاز الملكية الفكرية
  • فصائل المقاومة الفلسطينية تحيي الشعب اليمني وتدعو قادة الأمة العربية والإسلامية للخروج من حالة الصمت المريب
  • هل باع الغرب إسرائيل؟
  • فصائل المقاومة الفلسطينية توجه التحية للجيش اليمني وأنصار الله على الوقفة الصادقة لإسناد الشعب الفلسطيني
  • فصائل المقاومة تُحذّر المواطنين من مخططات دفعهم للنزوح جنوب قطاع غزة
  • حماس: قناة العربية تضلل الرأي العام وتشوّه المقاومة
  • حماس”: ما ورد في قناة “العربية” محاولة رخيصة لتشويه صورة المقاومة
  • موسى: التدخل الحزبي في الانتخابات البلدية جيّد لحفظ التوازنات الطائفية
  • الأمة العربية.. مأساة وحدة ضائعة وكرامة مهدورة
  • أسامة السعيد: خطاب الرئيس السيسي تجسيد حي لدور مصر التاريخي في دعم القضايا العربية