جذور الحقد.. لماذا ترغب إسرائيل في محو غزة؟ ولماذا استعصت عليها عبر الزمن؟
تاريخ النشر: 25th, February 2024 GMT
مع مرور زهاء 5 أشهر على اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، التي سقط خلالها قرابة 30 ألف شهيد فلسطيني حتى اللحظة وفق الإحصاءات الرسمية، يتجدد السؤال حول سر الوحشية التي تتعامل بها دولة الاحتلال الإسرائيلي مع قطاع غزة وسكانه، والتي يبدو معها أنها لا ترغب فقط في تحقيق نصر عسكري -لا تزال أبعد ما يكون عنه- ضد المقاومة الفلسطينية، بقدر ما ترغب في إبادة هذه البقعة الصغيرة من الأرض، بمعالمها وبيوتها وأهلها.
لماذا هذا الحقد الإسرائيلي الدفين ضد قطاع غزة وسكانه؟ هذا ما يجيبنا عليه الفيديو التالي من ميدان الذي يأخذنا في جولة سريعة في التاريخ الحديث لقطاع غزة منذ وطأ الصهاينة أرض فلسطين، لنكتشف أن معضلة الاحتلال الإسرائيلي مع غزة تحديدا تعود إلى عهد ما بعد النكبة مباشرة، حين تقلصت مساحة القطاع بعد هزيمة الجيوش العربية عام 1948 إلى حوالي 1.3% من مساحة فلسطين التاريخية. غير أن هذه البقعة الضيقة جدا، كُتب لها أن تستضيف أكثر من 200 ألف من لاجئي النكبة، ما يفوق ضعف عدد سكانها الأصليين، لتضيق ذرعا بساكنيها وتبدأ المحاولات المبكرة لإعادة توطينهم، وتبدأ معها بذور مقاومة مشتعلة لم تنطفئ إلى اليوم.
شاهد الفيديو
فبُعيد قيام ثورة يوليو 1952 في مصر (حيث خضعت غزة للإدارة المصرية بعد النكبة)، انفتح النظام الجديد على مشروع طرحته وكالة الأونروا تُقدم فيه مصر نحو 50 ألف فدان شمال غرب سيناء للوكالة لإعادة توطين 12 ألف أسرة، وهو ما قوبل برفض فلسطيني قاطع، وضغوط على مصر التي حولت موقفها نحو دعم بذور المقاومة الفلسطينية المسلحة في القطاع، التي بلغت ذروتها عامي 1955 و1965 لترد إسرائيل بعملية عسكرية عٌرفت باسم "السهم الأسود" قتلت خلالها 38 جنديا مصريا على الحدود، قبل أن تشارك في عملية عسكرية واسعة للسيطرة على سيناء وقناة السويس بصحبة بريطانيا وفرنسا ضمن ما عُرف تاريخيا بالعدوان الثلاثي.
وبعد فشل العدوان، اضطرت إسرائيل للانسحاب من القطاع تحت ضغوط دولية، لكن حلم السيطرة عليه لم يفارقها، لتعاود عدوانها وسيطرتها عليه من جديد خلال حرب عام 1967 وهي السيطرة التي استمرت حتى عام 2005، حين اضطر الاحتلال للانسحاب أحاديا من القطاع في عهد أرييل شارون، بعد أن حولته المقاومة إلى جحيم لجنود الاحتلال ومستوطنيه. يكشف لنا فيديو ميدان كيف نمت المقاومة الفلسطينية وترعرعت وطورت ترسانتها من الأسلحة تحت رقابة الاحتلال، وبعد رحيله، لتستمر منذ ذلك الحين حروبه الدموية الهادفة إلى إخضاع غزة وسكانها واستئصال مقاوميها، ولا تعد عملية طوفان الأقصى إلا حلقة ضمن حلقات التاريخ الملحمي والبطولي لنضال غزة وأهلها، وفي المقابل، تظل الحرب الحالية أحد التجليات الأكثر قسوة للوحشية الإسرائيلية المستمرة منذ النكبة وحتى اليوم.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
قرار مجلس الأمن وغزة بين رفض الوصاية الدولية وحماية حق المقاومة
لا يتعامل الفلسطينيون مع قرارات مجلس الأمن بوصفها نصوصا قانونية مجردة، بل كوقائع قد تعيد تشكيل حياتهم وحدودهم ومستقبل قضيتهم. القرار الأخير المتعلق بغزة تحت عناوين "الاستقرار" و"الإعمار" لم يُستقبل كخطوة تقنية لإنهاء الحرب فحسب، بل كمنعطف يمكن أن يكرّس نمطا جديدا من الوصاية الدولية على جزء حيوي من الجغرافيا الفلسطينية، ويعيد تعريف طبيعة الصراع نفسه.
في جوهر الرفض الفصائلي، تُقرأ صيغة القرار كجزء من مسار أوسع لتحويل القضية الفلسطينية من قضية تحرر وعودة وإنهاء استعمار استيطاني إلى "ملف إنساني/أمني" تُديره منظومات دولية وإقليمية. اللغة المستخدمة ـ من "قوات استقرار" و"آليات مراقبة" و"تقارير دورية" و"ترتيبات أمنية واقتصادية" ـ تعكس مقاربة ترى في غزة منطقة أزمة تحتاج إلى إدارة، لا أرضا محتلة تحتاج إلى تحرير. حين يصبح الحديث منصبا على شكل القوة الدولية وتركيبة اللجان وآليات الرقابة، يتراجع إلى الخلف النقاش حول الاحتلال والحصار والاستيطان وحق العودة، ويتحوّل الاحتلال إلى خلفية صامتة بينما تتصدّر المشهد مفردات "الاستقرار" و"إدارة الوضع الميداني".
الخوف في الحالة الفلسطينية أن تتكرّر الصيغة نفسها في غزة: قوة دولية تدخل تحت عنوان الحماية، ثم تتحوّل بمرور الوقت إلى سلطة أمر واقع تتحكم بالمعابر والحدود والمشاريع، وتشرف على الإعمار وإعادة الهيكلة الأمنية، وتتّخذ من غزة كيانا شبه مستقل له نظامه الأمني والاقتصادي الخاص. حينها يكون الخطر مضاعفا: تكريس فصل سياسي وجغرافي بين غزة والضفة، وخلق بنية وصاية دولية تُعيد إنتاج السيطرة على القطاع في صيغة جديدة وإن تغيّرت الشعارات والأسماء.أحد أبرز عناصر الجدل يتعلّق بفكرة نشر قوة دولية أو إقامة إدارة انتقالية واسعة الصلاحيات في غزة. من حيث الشكل، قد تبدو "الحماية الدولية للمدنيين" مطلبا منطقيا بعد حجم الكارثة الإنسانية، لكن التساؤل الفلسطيني الأساسي هو: من يحدّد تفويض هذه القوة؟ ولصالح من تعمل عمليا؟ التجارب الدولية في البوسنة وكوسوفو وتيمور الشرقية تُقرأ فلسطينيا بوصفها تحذيرا لا نموذجا؛ إذ تحوّل الوجود الدولي هناك إلى إدارة طويلة الأمد كرّست الانقسام أو جعلت القرار السيادي مرتهنا لهيئات فوق وطنية، وأحيانا إلى سلطة فعلية تدير الأرض والاقتصاد والأمن لسنوات.
الخوف في الحالة الفلسطينية أن تتكرّر الصيغة نفسها في غزة: قوة دولية تدخل تحت عنوان الحماية، ثم تتحوّل بمرور الوقت إلى سلطة أمر واقع تتحكم بالمعابر والحدود والمشاريع، وتشرف على الإعمار وإعادة الهيكلة الأمنية، وتتّخذ من غزة كيانا شبه مستقل له نظامه الأمني والاقتصادي الخاص. حينها يكون الخطر مضاعفا: تكريس فصل سياسي وجغرافي بين غزة والضفة، وخلق بنية وصاية دولية تُعيد إنتاج السيطرة على القطاع في صيغة جديدة وإن تغيّرت الشعارات والأسماء.
في قلب هذا المشهد، يحتل ملف سلاح المقاومة موقعا مركزيا. فالقرار يتعامل مع هذا السلاح بوصفه "مشكلة أمنية" يجب تفكيكها أو تحييدها، لا كجزء من حق شعب واقع تحت الاحتلال في مقاومة من يحتل أرضه. من وجهة نظر فصائل المقاومة، لا يمكن فصل السلاح عن سياقه: احتلال قائم، حصار طويل، وغياب مسار جدي يضمن الحقوق الوطنية. لذلك يُنظر إلى أي ربط بين وقف العدوان أو الإعمار وبين نزع السلاح أو وصم المقاومة بالإرهاب على أنه تفريغ لحق المقاومة وتحويله إلى ملف أمني يُدار بالتمويل والضغط السياسي ومعادلات من نوع "هدوء مقابل إعمار" و"تسهيلات مقابل نزع سلاح".
مع ذلك، يبقى النقاش حول سلاح المقاومة أيضا شأنا فلسطينيا داخليا، لا يمكن اختزاله في الموقف من قرارات دولية. فهناك أسئلة مشروعة عن كيفية إدارة هذا السلاح، وربطه باستراتيجية وطنية متوافق عليها، والتوفيق بين فعاليته العسكرية وحماية المدنيين وتقليل الكلفة الإنسانية قدر الإمكان. إلا أن القرار الدولي المطروح يتجاهل هذه الأبعاد تماما، ويقفز مباشرة إلى اعتبار السلاح عائقا أمام "الاستقرار"، متبنيا سردية أمنية متقاربة مع نظرة الاحتلال أكثر مما تقترب من رؤية شعب تحت الاحتلال.
الانقسام في الموقف الفلسطيني من القرار لا يقف عند حدود "المقاومة في مواجهة المجتمع الدولي"، بل يمتد إلى الداخل الفلسطيني نفسه. فحركات مثل حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية تتعامل مع القرار باعتباره مقدمة لوصاية دولية وفصل لغزة عن الضفة، وتحذر من ربط القطاع بنظام أمني واقتصادي خاص يُدار دوليا أو إقليميا. في المقابل، تحاول السلطة الفلسطينية أن ترى في القرار فرصة دبلوماسية قابلة للتعديل، يمكن استثمارها لتعزيز موقعها التمثيلي ودورها في الإعمار والإدارة.
هذا التباين يعكس اختلافا في الرهانات لا في اللغة فقط. فالفصائل المقاومة تعطي الأولوية لحماية سلاحها ووحدة الأرض ورفض أي وصاية، بينما تراهن السلطة على توسيع هامش حركتها داخل النظام الدولي القائم ولو بثمن قبول بعض الترتيبات الانتقاصية. الخشية هنا من أن يؤدي هذا المسار الأخير إلى إعادة إنتاج نموذج "إدارة دولية ـ محلية مشتركة" رأيناه في تجارب أخرى، ولكن فوق أرض ما زال الاحتلال والاستيطان فيها حقيقة يومية.
لا ينحصر الجدل الفلسطيني حول قرار مجلس الأمن في سؤال "مع أم ضد"، بل في سؤال أعمق: هل يُراد لغزة أن تكون مدخلا لحل عادل أم بوابة لوصاية جديدة وتسوية منقوصة؟إلى جانب البعد الأمني والسياسي، يبرز البعد الاقتصادي كجبهة صراع أساسية. فالمساعدات والإعمار والتحكم في المعابر ليست شؤونا تقنية محايدة. من خلال السيطرة على تدفق الأموال والمواد، وعلى هوية الجهات المنفّذة للمشاريع، يمكن تحويل لقمة العيش إلى أداة ضغط لإخضاع المجتمع وإعادة تشكيل نخبه السياسية. استهداف وكالة الأونروا وتقليص دورها التاريخي تجاه اللاجئين ليس خطوة إدارية عابرة، بل مسّ بجوهر قضية اللاجئين وحق العودة. حين تصبح الإغاثة ورقة سياسية، والإعمار أداة ابتزاز، يتحول الاقتصاد إلى وسيلة لإعادة إنتاج التبعية وربط حياة الناس بإرادة الاحتلال والمنظومة المانحة.
في المقابل، يذكّر مؤيدو القرار بوقائع لا يمكن تجاهلها: اختلال ميزان القوى، الحاجة الفورية لوقف نزيف الدم، صعوبة تأمين تمويل دولي واسع خارج إطار أممي أو دولي منظّم، وخطر استمرار الحرب إذا رُفضت كل المبادرات. من وجهة نظرهم، قد يكون القبول بإطار دولي ناقص أقلّ سوءا من استمرار حرب مفتوحة ودمار شامل.
لكن الرافضين يردّون بأن التجربة الفلسطينية الطويلة مع "المجتمع الدولي" لا تشجّع على الثقة بحياده، وأن أي ترتيبات لا تمسّ جوهر الاحتلال ولا تفرض عليه انسحابا ووقفا للاستيطان ومحاسبة على جرائمه ستظل إدارة لأزمة لا حلا لها. القبول اليوم بصيغ وصاية، حتى لو تحت ضغط الضرورة الإنسانية، قد ينتج واقعا جديدا يفرض نفسه لاحقا ويُستخدم لتصفية عناصر أساسية من القضية.
لذلك، لا يتوقف الموقف الفلسطيني الناضج عند حدود الرفض، بل يتجه نحو طرح شروط وطنية لأي ترتيبات دولية تخص غزة، من بينها: مرجعية فلسطينية موحدة تشارك فيها القوى الأساسية؛ وتحديد وظيفة أي قوة دولية في حماية المدنيين وتسهيل المساعدات والفصل بين الأطراف دون أن تتحول إلى سلطة حكم؛ ووضع سقف زمني واضح لأي وجود دولي؛ وربط أي إطار أممي بآليات ملزمة لرفع الحصار ووقف الاستيطان والانسحاب من الأراضي المحتلة.
في المحصلة، لا ينحصر الجدل الفلسطيني حول قرار مجلس الأمن في سؤال "مع أم ضد"، بل في سؤال أعمق: هل يُراد لغزة أن تكون مدخلا لحل عادل أم بوابة لوصاية جديدة وتسوية منقوصة؟ الرفض الفصائلي يعكس خوفا حقيقيا من تحويل المعاناة الإنسانية إلى أداة لإعادة هندسة القضية. والتحدي الأكبر أمام الفلسطينيين يبقى في قدرتهم على بناء موقف وطني موحد يضع شروطا واضحة لأي تدخل دولي، بحيث يتحول من أداة لإدارة الصراع إلى رافعة لحقوق الشعب، لا إلى غطاء لتذويبها.