أسدل على مشيعي محجوب محمد صالح، رئيس تحرير صحيفة “الأيام” ومدير مركز “الأيام للدراسات الثقافية والتنمية”، في مقبرة بالقاهرة روع مهيض كأنهم شهود جريمة حرب، لا موت عزيز عليهم. فلم تعودهم “تقاليد الرحيل المسلمة”، في قول الشاعر محمد المكي إبراهيم، سوى تشييع مثل محجوب القامة إلى قبر في مكان قفر بالسودان يودعونه الأرض التي أشرقت بـ”أصداء وأصوات”، عموده الراتب بصحيفة “الأيام” منذ سنة 1953، ولكن ستعلمهم الحرب، التي ألجأت محجوب إلى مصر المحروسة حتى تضع أوزارها، نحواً جديداً مفزعاً في وداع أهل المأثرة فيهم.

ولد محجوب في سنة 1928 بمدينة الخرطوم بحري، وتلقى مراحل دراسته الأولية والوسطى بها، والتحق بكلية غردون، المدرسة الثانوية وقتها، بأم درمان، بعد أن رحلوا إليها من الخرطوم، خلال الحرب العالمية الثانية، ثم دخل مدرسة الآداب بالمدارس العليا، نواة جامعة الخرطوم، سنة 1947. وانتخبه الطلاب لاتحادهم في 1948، وصار نائب السكرتير فيه، وفصلته الكلية بعد أن قاد إضراباً طلابياً مع زملائه الدكتور مصطفى السيد والطاهر عبدالباسط.

وجاء للعمل بالصحافة كخيار ثانٍ. فأراد أن يعمل مدرساً لكن حالت صحيفة سوابقه السياسة دون ذلك. فلم ترفضه مصلحة المعارف فحسب، بل حرمت تعيينه على المدارس الأهلية التي قبلته أيضاً. فانضم في سنة 1949 إلى صحيفة “سودان ستار”، التي تصدر باللغة الإنجليزية، كما عمل أيضاً لفترة قصيرة في صحيفة “السودان الجديد”، ثم أسس صحيفة “الأيام” مع بشير محمد سعيد، وهو من عمل معه في “سودان ستار”. ومحجوب عثمان، من قادة حركة الاتحاد مع مصر قبل تحوله إلى زعامة الحزب الشيوعي. وصدر العدد الأول من “الأيام” في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1953. وتولى محجوب منصب مدير التحرير في بداية صدور الصحيفة حتى ترأس تحريرها لاحقاً. وأصدرت “دار الأيام” صحيفة إنجليزية هي “مورنينغ نيوز”، ومجلة “الحياة” الحبيبة إلى نفس محجوب. وترأس تحريرها في أول صدورها في سنة 1957 حتى قيام انقلاب عبود في 1958 وعادت إلى الصدور في 1967 بعد ثورة أكتوبر 1964.

كان محجوب نفساً مطمئنة. فهو آمن إلى سياسته قابض بزمامها وآمن لمهنته لكونه من جيل الحركة الوطنية الأخير بعد الحرب العالمية الثانية. جاء الجيل لساحة السياسة وقد انسد أفق الحركة الوطنية لاصطفاف أطرافها حول الدعوة إلى الوحدة مع مصر من جهة، ودعاة الاستقلال تحت وصاية الإنجليز من جهة أخرى.

وغشيت الجيل في ذلك المنعطف الجذرية الوطنية السياسة لما بعد الحرب وعنوانها المعرفة بالماركسية المستجدة وبروز الاتحاد السوفياتي قوة ذات شأن. فأنشأوا الحركة الوطنية للتحرر الوطني (حستو) نواة الحزب الشيوعي السوداني، للخروج بالحركة الوطنية من إسار الخريجين الذين احتكروها طويلاً إلى الجمهرة الواسعة.

ولم تطل إقامة محجوب في (حستو) حين ضربها الخلاف في سنة 1951 بين من أرادوا إعلانها حزباً شيوعياً ومن أرادوها على حالها حلقة ماركسية تعمل تحت راية الأحزاب الوطنية. واعتزل محجوب ذلك النزاع الذي انتهى بـ(حستو) للانقسام في 1951. وخرج بهدوء يسارياً مستقلاً في وصفه. واحتفظ بعلاقته مع الشيوعيين وبزعيمهم عبدالخالق محجوب بخاصة من فوق صداقة عائدة للمدرسة الثانوية.

وأمن محجوب المهني من أبواب طمأنينة نفسه فسعى باكراً إلى كتابة تاريخ مهنة الصحافة ليوطن نفسه في شجرة نسبها فصدر له “الصحافة في نصف قرن، 1903-1953″، وذلك في سنة 1971، وهو تاريخ للمهنة كما يكتب التاريخ ويمتع. ورأينا الإحسان ممن استظلوا بسيرة مهنتهم من مثل الدكتور التجاني الماحي، المتخصص في علم النفس وعضو مجلس السيادة في الستينيات، الذي كتب “الطب عند العرب”.

كانت نواة كتاب محجوب محاضرة ألقاها أمام الجمعية الفلسفية بجامعة الخرطوم في أوائل الستينيات. ورأى من بحثه في شجرة نسبه تمكين صحيفة “السودان”، الأولى للصدور في 1903، نفسها في سوق عز فيه الطلب بالاستثمار في مشروعات تجارية مثل إنشاء مطبعة تجارية ومكتبة لبيع الكتاب والأدوات المكتبية. وبقيت من ذلك كله “سودان بوكشوب” الشهيرة حتى وقت قريب. وربما اقتدت صحيفة “الأيام” نفسها بصحيفة “السودان” حين عززت مواردها بالاستثمار في مطبعة تجارية ومصنع لكراسات المدارس.

وتجد عزة محجوب بالشجاعة في الرأي ممن توقف عندهم في عرضه لتاريخ الصحافة. فعرض لشجاعة السوري عبدالرحيم مصطفى قليلات رئيس تحرير صحيفة “رائد السودان” (1912) الذي تمسك بالولاء للأستانة العثمانية، وهي في الحرب العالمية الأولى ضد بريطانيا السيدة على السودان، فأبعده الإنجليز. ولن يخفي على القارئ إعجاب محجوب بصحيفة “الحضارة” (1919) الصحيفة السودانية الأولى تملكاً وتحريراً. فلم تأسره سياساتها، لكونها صوت أعيان السودان ممن استحسنوا حكم الإنجليز دون المصريين، ولكنه ميز جراءتها في المطلب والأداء. فلم يحل أسلوبها في المحسنات دون أن يرى قوة تسلسل الفكرة عندها ووضوحها.

أما محررها حسين شريف فهو أثير عنده جداً. وشريف هو الذي استصرخ السودانيين بعبارة خالدة “شعب بلا صحيفة قلب بلا لسان”. فوفر محجوب للقارئ نصوص رؤية شريف للصحيفة ومقالات أخرى له في المعنى. وذكر له شجاعته أيضاً في تمسكه بالأستانة حتى أبعده الإنجليز إلى منقلا بجنوب السودان، ولكن سرعان ما استولت الإدارة البريطانية على الحضارة في سنة 1924، وهي عام ثورة صفوة المتعلمين المعروفة ضد الإنجليز، وعوضت ملاكها. ثم بهت تأثيرها بعد ذلك لتتوقف نهائياً في 1934. وسمى محجوب استيلاء الإنجليز على صحيفة الحضارة “تأميماً” سيكون هو نفسه طرفاً متهماً في تجربة لاحقة للتأميم كما سنرى.

وفي ما يخص فصل محجوب عن الصحافة والقانون في الكتاب فسبق كشف عن أن قانون 1930 الذي وضعه الإنجليز حكم الصحافة حتى 1970 في السودان المستقل. ولم تجر سوى تعديلات بعينها عليه في سنة 1948 تحت ضغط من اتحاد الصحافيين. علاوة على فصله عن المطبعة والصحافة أسس به لدراسة تكنولوجيا النشر وآثارها على تخيل الأمة.
ونواصل

عبد الله علي إبراهيم

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: فی سنة

إقرأ أيضاً:

تقرير كارتي | نظرة تحليلية على سوق السيارات السعودي - فبراير 2025

تم نشر هذا المقال بواسطة كارتي

تُعد المملكة العربية السعودية واحدة من أكبر الأسواق الاستهلاكية في قطاع السيارات على مستوى الشرق الأوسط، وهي تمر حاليًا بمرحلة تحول كبيرة داخل هذه الصناعة. ووفقًا لما ورد في تقرير "سوق السيارات السعودي - فبراير 2025" الصادر عن كارتي، وهي منصة عربية تُعنى بأخبار السيارات، وتقديم إرشادات دقيقة لشراء المركبات، إلى جانب توفير خدمات متكاملة للسيارات في المنطقة، فإن المصنعين اليابانيين والكوريين معًا يسيطرون على ما يزيد عن 50% من الحصة السوقية. وتواصل شركتا تويوتا وهيونداي تصدرهما لقائمة المبيعات، في حين أن إجمالي حصة أكبر خمس شركات سيارات صينية لا يتجاوز 5.3%، مما يعكس التحديات الكبيرة التي تواجهها هذه الشركات في سبيل تحقيق انتشار أوسع داخل السوق السعودي.

ورغم هذا، لا تزال السيارات التي تعمل بمحركات الوقود التقليدية تحتفظ بنصيب الأسد من المبيعات بنسبة 93.3%، ويقترن هذا بزيادة ملحوظة في الطلب على المركبات العائلية، واهتمام متنامٍ بالتقنيات الذكية داخل السيارات. من هنا، تبرز تساؤلات جوهرية: كيف يمكن للشركات الصينية منافسة النفوذ الطويل الأمد للعلامات اليابانية والكورية؟ وما هي السبل التي تمكّنها من تلبية متطلبات المستهلكين السعوديين، خاصة في ما يتعلق بسيارات السيدان الاقتصادية، والسيارات الرياضية متعددة الاستخدامات (SUV) ذات السبعة مقاعد، إلى جانب توفير خدمات محلية مخصصة؟

يسلط هذا التقرير الضوء على واقع السوق من خلال ثلاث زوايا تحليلية: بنية السوق، وتوزيع فئات السيارات، وسلوك المستهلك الرقمي، لتقديم خارطة طريق استراتيجية للعلامات الصينية.

1. هيكل العلامات التجارية

يتميز السوق السعودي بتوزيع ثلاثي الأقطاب للعلامات التجارية:

• العلامات المهيمنة: وتتمثل في الشركات اليابانية والكورية التي رسّخت مكانتها بفضل شبكات التوزيع الواسعة، وثقة العملاء في جودة منتجاتها، فضلًا عن قوة خدمات ما بعد البيع.

• اللاعبون الصاعدون: شركات جديدة، سواء كانت عالمية أو إقليمية، بدأت تكتسب حصصًا سوقية متزايدة، مستفيدة من حملات تسويقية مكثفة وإطلاق نماذج مصممة خصيصًا لتلائم أذواق المستهلك السعودي.

• العلامات الصينية: رغم تمكنها من الدخول إلى الفئة المتوسطة، خاصة ضمن نطاق 50، 000 إلى 120، 000 ريال سعودي، فإنها ما زالت غائبة تمامًا عن فئة السيارات الفاخرة التي تتجاوز 120، 000 ريال، ما يوضح حجم التحديات التي تواجهها في سعيها لاكتساب حصة في هذه الفئة العليا.

2. توزيع فئات السيارات

خلال شهر فبراير من عام 2025، أظهرت بيانات التسجيلات أن:

• السيارات السيدان شكّلت أكثر من 50% من إجمالي المبيعات، وتركزت هذه النسبة بالأساس في الفئة السعرية بين 50، 000 و120، 000 ريال سعودي، مما يدل على تفضيل المشترين للنماذج الاقتصادية التي تتمتع بكفاءة في استهلاك الوقود.

• أما مركبات الـSUV فقد حققت ما يزيد عن 30% من المبيعات، لا سيما في فئة الأسعار الأعلى من 120، 000 ريال سعودي. ويرجع هذا الطلب المرتفع إلى رغبة العائلات السعودية في اقتناء سيارات فسيحة وقوية تُلبي احتياجات السفر على الطرق الوعرة.

ورغم هذا الإقبال الكبير على هذين النوعين، إلا أن السيارات الصينية لم تحقق بعد موطئ قدم واضح في أي من الفئتين، وهو ما يشير إلى وجود فجوة بين ما تقدمه هذه العلامات وما يتطلع إليه المستهلك المحلي.

3. تفضيلات أنظمة الدفع (نوع الطاقة)

• السيارات التقليدية (ICE) ما زالت تحظى بالغلبة الساحقة بنسبة 93.3% من إجمالي المبيعات.

• المركبات الهجينة (HEV) تسجل حضورًا محدودًا جدًا في السوق.

• أما السيارات الكهربائية ومركبات الطاقة الجديدة (NEVs) فهي لا تزال في بداياتها، وتواجه عقبات كبيرة، منها ضعف البنية التحتية لمحطات الشحن، وقلة وعي المستهلكين بها، فضلًا عن كون الوقود في السعودية يُعد رخيصًا مقارنة بالدول الأخرى، ما يقلل من جاذبية هذه الفئة.

هذه العوامل تُبيّن أن انتشار السيارات الكهربائية على نطاق واسع لا يزال بعيدًا، خاصة في ظل غياب محفزات قوية للمستهلكين في الوقت الحالي.

4. الشرائح السعرية

أظهرت بيانات السوق أن العلامات الصينية تركز بشكل رئيسي على الشريحة السعرية المتوسطة:

• في فئة 50، 000 إلى 120، 000 ريال سعودي، قدّمت الشركات الصينية طرازات صغيرة مزودة بتجهيزات متقدمة مقابل أسعار تنافسية.

• أما الفئة التي تتجاوز 120، 000 ريال سعودي، فتظل مقتصرة بشكل شبه كامل على العلامات اليابانية والكورية المعروفة، حيث تهيمن السيارات الفاخرة وموديلات SUV المتميزة.

وهذا يدل على أن الشركات الصينية بحاجة إلى تعزيز الجودة، وبناء صورة ذهنية قوية لدى المستهلك، إلى جانب توسيع شبكات الدعم الفني وخدمات ما بعد البيع إذا أرادت دخول هذا القطاع بنجاح.

5. سلوك البحث الرقمي

تشير تحليلات محركات البحث داخل السعودية إلى أن:

• جيتور (Jetour) حصلت على 15، 959 عملية بحث، مدفوعة بإطلاق طراز جديد وحملة دعائية فعالة على المستوى المحلي.

• بينما شانجان (Changan) كانت الأعلى من حيث عدد زيارات الموقع الإلكتروني، بعدد وصل إلى 86، 000 زيارة، وهو ما يعكس قوة استراتيجيتها التسويقية ونجاحها في جذب اهتمام المستهلكين المحليين.

هذا يبرز أهمية التفاعل الرقمي المخصص للمنطقة، والتركيز على بناء الثقة من خلال الحملات الإعلانية المناسبة للسوق المحلي.

خلاصة استراتيجية

استنادًا إلى تحليل مبيعات السيارات وسلوك المستهلك عبر الإنترنت، توصلت منصة كارتي إلى ثلاث توصيات رئيسية لمصنّعي السيارات، خاصة الصينيين منهم، الراغبين في التوسع بالسوق السعودي:

• مواكبة الهيكل السوقي الثلاثي: عبر تقديم منتجات مخصصة محليًا، والتركيز على رفع جودة الخدمات لاختراق الفئات العليا.

• التكيف مع واقع الطاقة: من خلال الاعتماد على السيارات التقليدية مؤقتًا، والاستثمار في نشر الوعي والبنية التحتية لمركبات الطاقة الجديدة.

• التركيز على الفئات المستهدفة: بتلبية احتياجات الباحثين عن سيارات سيدان اقتصادية، وتوسيع العروض ضمن فئة SUV العائلية القوية بسعر يفوق 120، 000 ريال سعودي.

اقرأ المقال الكامل

مقالات مشابهة

  • حمد الشرقي يستقبل المهنئين بعيد الأضحى المبارك
  • الشرقي يؤدي صلاة عيد الأضحى بجامع الشيخ زايد في الفجيرة
  • حمد الشرقي يؤدي صلاة عيد الأضحى في جامع الشيخ زايد بالفجيرة
  • حمدان بن محمد في يوم عرفة: اللهم تقبل من الحجاج حجهم ومِنَّا ومنكم صالح الأعمال (فيديو)
  • أحمد شموخ: يا له من خواجة بلبوسي! .. أو السيادة كامتياز استعماري!
  • المنيا تستقبل وفد “Kids Camp” في جولة سياحية بالمناطق الأثرية لتعزيز الهوية الوطنية لدى النشء
  • العدو الخفي في حرب السودان!
  • نواب البرلمان: تطوير الغزل والنسيج خطوة استراتيجية لإحياء الصناعة الوطنية
  • «التعليم العالي»: لا مبرر للدراسة في جامعات أقل تصنيفاً من «الوطنية»
  • تقرير كارتي | نظرة تحليلية على سوق السيارات السعودي - فبراير 2025