mohammedhamad11960@gmail.com
بقلم: د. محمد حمد مفرح
٢/١
يعد الشعر الشعبي، وبالذات ذلك الذي ينهل من معين الطرفة، بجانب عكسه لنبض الحياة في المجتمعات المحلية بمناطق السودان المختلفة، يعد ذا دلالات خاصة وثيقة الصلة بطبيعة الحياة بالمجتمع و بهمومه و قضاياه. علاوة على ذلك فهو يعتبر لونية شعرية اسرة للقلوب و مستميلة للأفئدة، كونه يعمل على ترطيب دواخل الإنسان و يحلق به عاليا في فضاءات المتعة التي تنقله من الروتين القاتل الناشيء عن الحراك الحياتي الميكانيكي، إلى عوالم محتشدة بالانشراح والحيوية.
و بذا فان المتعة التي يبثها هذا الضرب من الشعر في نفس الإنسان أشبه ما تكون بالهناء الذي يتغلغل في دواخل الإنسان عند نهار أنس يجمعه بأتراب تحت ظل تبلدية ضخمة، وارفة الظلال، تحفها "الرهود" والخضرة اليانعة... خضرة الحشائش والأشجار ، وتزين البقعة المحيطة بها ، أي التبلدية،أزهار الخريف التي تتراقص طربا عندما تهب عليها نسمات براري كردفان.
و تتمثل جاذبية الشعر الشعبي في كونه يحبك من الموروث الشعبي الذي يعد مستودعا ضخما للطرفة و الحكي والروايات الشيقة وكل ما يندرج تحت الحراك الإنساني ذي الصلة بالإنسان البسيط في تفاعله مع مجتمعه الحضري و الريفي علاوة على وسطه البدوي. ومما يضفي على هذا النمط من الشعر بعدا عميقا ارتباطه بال"الشعبيات" أي بالأنشطة الشعبية في مستواها اللصيق بالفطرة، البعيد عن الصنعة والتكلف والزخرف الزائف. ذلك أنه، كلما كان الرباط بالفطرة أوثق كلما كان الإنتاج الشعري و الأدبي بصورة عامة معبرا بصدق عن تجليات النفس في مستواها الانساني غير المشوب ب(غبار الحياة) و زخرفها، إذا جاز التعبير.
و نظرا لكون البيئة الريفية تمثل معينا ثرا لهذا اللون من الشعر فان موضوع هذا المقال سينحصر، في الغالب، حول الشعر الشعبي الريفي بمنطقة دار حمر بكردفان، نظرا لالمامي بجانب من محتوى ديوان الشعر الشعبي الكبير هناك، و الذي يمثل تراثا شعريا جد عبقري. غير انه يعد، مع هذا، شعرا شفويا يتناقله الناس و بستمتعون بالقائه في مجالسهم المختلفة و في حلهم و ترحالهم. كما انه لم يوثق و لم يجد حظه من الذيوع و الانتشار خارج دائرته المحلية، كما حدث لغيره.، و ذلك باستثناء كتاب (ملامح من تراث حمر الشعبي) لكاتبه الاستاذ محمد أحمد ابراهيم البارودي، ذلك الكتاب الذي تضمن نماذج من الاشعار الشعبية الحمرية في ثنايا العادات و التقاليد التي سلط الضوء عليها. غير أنه و بالرغم من أن الكتاب يمثل مجهودا مقدرا فانه لم يجد. حظه من الذيوع و الانتشار.
و ليس ثمة أدنى شك في أن مناطق كردفان الريفية الأخرى بل و عامة مناطق السودان تمثل، هي الاخرى، حواضن لمثل هذا الضرب من الشعر و تشهد حركة شعرية مؤثرة يتفاعل معها الناس و يجدون أنفسهم فيها.
و مما تجدر الإشارة إليه ان الشعر الشعبي بمنطقة الكبابيش و منطقة المجانين بكردفان ظل يلعب دورا ملموسا في التعريف بالشعر الشعبي الكردفاني، خاصة قصائد الشاعر الكباشي عبد الله ود ادريس و قصائد شعراء المجانين. كما ان الشاعر الكببر أحمد أم بده (ود أم بده)، من بلدة خماس حجر، و الشاعر ود أم سيالة.و الشاعر ود ام خريف و الشاعر محمد ابراهيم، من ابو ماريقة ريفي النهود، كان لهم.اسهامات مقدرة في هذه اللونية الشعرية.
و من الأهمية بمكان الإشارة الى أن المراة بكردفان ظلت تلعب دورا كبيرا في نظم الشعر الشعبي مساهمة في التعبير عن كل القضايا الحياتية في محيطها المحلي. و هناك شاعرات ماجدات كثر ينتشرن في أنحاء كردفان المختلفة منهن الشاعرة حبيبة يت حمدان شاعرة اغنية (كباشي كان برضى) من ود بنده و بلدوسة ابراهيم شاعرة اغنية ( كان ما كلام الناس)، من النهود و غيرهن ممن لا يتسع المحال لذكرهن.
و فيما يتصل بالمتعة التي يحدثها الشعر الشعبي في النفس و كذا الدور الذي يلعبه في كسر الروتين الحياتي، اود أن أشير الى ان الشعراء الرومانسيبين في فرنسا قد اتجهوا في القرن التاسع عشر، عندما ضاقوا ذرعا بالحياة المدنية الخانفة، التي بدأت تنحو منحى ذا صبغة مصطنعة، اتجهوا إلى الطبيعة رافعين شعار " العودة للطبيعة"
(Back to nature)
بغية استلهام مادتهم الشعرية منها، فألهمتهم أيما الهام ووجدوا فيها أنفسهم وكذا تفاعلوا مع بيئتها وانغمسوا في مفرداتها البسيطة العميقة، ما أخرجهم من حالة السأم والروتين الحياتي التي كانوا يعانون منها. وقد تبدى هذا التحول في أشعارهم بصورة جلية و عكس الأثر النفسي الايجابي في دواخلهم.
و في العادة يكون النمط الشعري الشعبي على هيئة قصائد بسيطة الصياغة، نابعة من صميم البيئة المحلية ومن قلب التراث الشعبي،لكنها،في ذات الوقت، تعد عميقة الدلالات والمعاني نظرا لكونها تعكس، بعمق و شمولية، النشاط الحياتي لقطاع شعبي عريض فتعبر عن آماله وطموحاته وتطلعاته فضلا عن آلامه وخيباته وأتراحه وذلك في قالب شعري أثير إلى النفس مدر للنشوة، يتفاعل الإنسان مع مضمونه ويتوه في مادته العذبة.
يقول خبراء اللغة Linguists أنه لا يمكن وصف لغة أو لهجة ما بأنها متخلفة، مهما كان تخلف الواقع الاجتماعي لمن يتحدثونها، و ذلك نظرا لأنها تعتبر أداة او وسيلة تواصل Means of communication تعمل على نقل الأحاسيس والأفكار والآراء وغيرها. وبذا فانها تعد كذلك و تؤدي وظيفتها طالما قامت بهذا الدور. و لهذا فان أية لغة أو لهجة محلية يمكن أن تعبر عن أسمى المعاني وتنقل الرؤى التي تولد في النفس الراحة و الهناء وخلافهما. وتأسيسا على هذه الحقيقة فانه يمكن للهجة المحلية أن تكون أداة لنظم الشعر الشعبي الرصين، ذي المعاني المعبرة و الدلالات العميقة.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الشعر الشعبی من الشعر
إقرأ أيضاً:
في الإسماعيلية.. قصور الثقافة تحتفي بالمسيرة الإبداعية للشاعر علي نظير هويدي
كرّمت الهيئة العامة لقصور الثقافة، برئاسة اللواء خالد اللبان، اسم الشاعر الراحل علي نظير هويدي، ضمن فعاليات برنامج "عطر الأحباب" الذي استضافه قصر ثقافة الإسماعيلية، في إطار خطط وزارة الثقافة للاحتفاء برموز الإبداع وتقدير عطائهم الأدبي.
استُهلت فعاليات اللقاء، الذي أداره الشاعر جمال حراجي، بعرض فيلم تسجيلي قصير عن الشاعر الراحل، بحضور شيرين عبد الرحمن مدير عام ثقافة الإسماعيلية، والشاعر عبده الزراع مدير عام الثقافة العامة، إلى جانب نخبة من الأدباء والشعراء والمثقفين.
أشار "حراجي" في كلمته إلى أن علي نظير هويدي من مواليد 1944 بمحافظة الإسماعيلية، وتخرج في كلية الحقوق بجامعة الزقازيق، وبدأ رحلته الأدبية مطلع السبعينيات حين التقى الأديب الكبير يحيى حقي، الذي كان له بالغ الأثر في تشكيل تجربته الشعرية.
وأضاف أن "نظير" خدم في القوات المسلحة قرابة أربعين عاما، وكان أحد عشرة أدباء أسسوا بابا جديدا في الأدب المصري عرف بـ"أدب الحروب الحديثة"، وقد أطلق عليه الفريق الراحل سعد الدين الشاذلي لقب "العم نظير". كما حصل على جائزة زكريا الحجاوي في الأدب، وكرمته وزارتا الثقافة والإعلام عام 2002، وصدرت له عدة دواوين شعرية، من أبرزها "أكتوبر والسنين" و"غناوي في الهوا"، وقد وافته المنية في مايو الماضي.
من جهته، أكد الشاعر عبده الزراع أن الشاعر علي نظير كانت له مسيرة شعرية حافلة بالإبداع والجوائز، لافتا إلى أن برنامج "عطر الأحباب" يهدف إلى تسليط الضوء على مسيرات الكبار من الأدباء، وتقديم شهادات حول تجاربهم الإبداعية في مسقط رؤوسهم.
كما قدم الشاعر أحمد إسماعيل شهادة أكد خلالها أن للراحل العديد من الأعمال تحت الطبع، تتراوح بين الفصحى والعامية، وتتنوع بين الرواية والمجموعة القصصية.
بدوره، أشار الشاعر د. حمدي سليمان إلى أن أول دواوين الراحل صدر عام 1979 بعنوان "أكتوبر والسنين"، وتلاه ديوان "أنا غبي" عام 1985، و"غناوي في الهوا" عام 1993، ثم "أوعاكي يامه" عام 2000، و"هلهلة" عام 2007، وكان آخر دواوينه "حصاد الشرذمة" عام 2018.
وشهد اللقاء مشاركة الشاعر عبد الله علي نظير، نجل الراحل، الذي ألقى عددا من القصائد التي كتبها والده في مناسبات وطنية وشخصية، كما أعلن خلال كلمته عن إطلاق مسابقة سنوية في شعر العامية تحمل اسم "علي نظير هويدي"، تقام في يونيو من كل عام، وهو موعد ميلاد الشاعر، وتستهدف الشعراء الشباب من الإسماعيلية والمحافظات المجاورة، وتمنح جوائز نقدية وشهادات تقدير، وتختتم بحفل فني.
وقد عرض "حراجي" ملخص دراسة نقدية أعدها الشاعر د. مسعود شومان، رئيس الإدارة المركزية للشئون الثقافية، بعنوان "علي نظير هويدي.. الغارق في القضايا الاجتماعية وأمير الحس الزجلي الساخر".
جاء في الدراسة أن ديوان "أوعاكي يامه" يضم إحدى عشرة قصيدة تدور حول قضايا اجتماعية في قوالب زجلية وتفعيلية، وتغلب عليها نبرة ساخرة تجمع بين المباشرة والحكمة.
ومن خلال عناوين مثل "طنش"، "بيع الضمير"، "الشباب"، و"استيراد الفساد"، تبرز رؤية نقدية للواقع، تعتمد على بنى موالية رباعية الشكل، كما تعكس القصائد حنينا وقلقا من تحكم الأغراب في خيرات الوطن، وتختتم بتحذير من تكرار مشاهد الظلم والفساد في حال تجاهل صوت الشعر والضمير.
أُقيم اللقاء تحت إشراف الكاتب محمد ناصف، نائب رئيس الهيئة، ضمن برنامج "عطر الأحباب" الذي أطلقته الإدارة المركزية للشئون الثقافية، ونفذ من خلال الإدارة العامة للثقافة العامة بالتعاون مع إقليم القناة وسيناء الثقافي بإدارة د. شعيب خلف، وفرع ثقافة الإسماعيلية.
وشهد اللقاء مشاركة من شعراء الإسماعيلية، والتل الكبير، والقنطرة غرب وشرق، إضافة إلى ضيوف من بورسعيد والعاشر من رمضان وكفر الشيخ، والذين ألقوا قصائدهم في تأبين الشاعر الكبير.