مفقودون في غزة.. عائلات تبحث عن أجوبة
تاريخ النشر: 17th, March 2024 GMT
مراهق يبيع السجائر ومغن صاعد ومهندس في مصنع تعبئة الزجاجات المحلي، هم من بين الآلاف الذين تم الإبلاغ عن فقدانهم في غزة.
واختفى الكثيرون تحت الأنقاض بعد الغارات الجوية الإسرائيلية، ويُعتقد أن آخرين قد تم احتجازهم عند نقاط التفتيش الإسرائيلية أثناء فرارهم جنوبا أو محاولتهم العودة إلى الشمال، وفق تقرير لصحيفة "واشنطن بوست".
وتقوم عائلات المفقودين اليائسة بالبحث في المستشفيات والاتصال بالخطوط الساخنة التي أنشأتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ويبحث أفرادها في صور الجثث في الشوارع والرجال معصوبي الأعين الذين تحتجزهم القوات الإسرائيلية ويشاركون صور أقاربهم عبر الإنترنت، متوسلين الحصول على أدلة وأجوبة.
ومنذ أكتوبر وحتى فبراير، أفادت اللجنة الدولية للصليب الأحمر تقارير عن فقدان 5118 فلسطينيا في غزة. وأجرت صحيفة واشنطن بوست مقابلات مع 15 شخصا فقدوا الاتصال بأصدقائهم وعائلاتهم في غزة منذ 7 أكتوب، ولم يتمكنوا من العثور عليهم إلا في حالتين فقط. وقال الكثيرون إن الجزء الأكثر إيلاما هو عدم معرفة مصيرهم.
أحمد جلال، الذي اختفى صهره، محمود أبو هاني، مغني الموسيقى العربية التقليدية، البالغ من العمر 25 عاما، في 3 فبراير أثناء محاولته العودة لمنزله في مدينة غزة، قال للصحيفة: "كنا نأمل أن ننجح في الحصول حتى على أبسط المعلومات".
وأضاف جلال للصحيفة "ضياع الشخص أصعب من أن يُقتل في الحرب أو يُعتقل.. عندما تضيع، لا أحد يعرف عنك شيئا".
واندلعت الحرب إثر هجوم غير مسبوق نفذته حركة حماس التي تسيطر على القطاع، في السابع من أكتوبر وأسفر عن مقتل ما لا يقلّ عن 1160 شخصا، معظمهم من المدنيين، بحسب تعداد أجرته وكالة فرانس برس استنادا إلى بيانات إسرائيلية رسمية.
وتؤكد إسرائيل أنّه ما زال في غزة 130 رهينة، يعتقد أنّ 32 منهم لقوا مصرعهم، من بين نحو 250 خطفوا في الهجوم.
ردا على هجوم حماس، توعدت إسرائيل بالقضاء على الحركة، وأطلقت حملة عسكرية خلفت دمارا هائلا و31553 قتيلا معظمهم من المدنيين النساء والأطفال، وفق آخر حصيلة لوزارة الصحة في غزة.
وتشير الصحيفة الأميركية إلى أن وزارة الصحة في غزة تعتمد، في أغلب الأوقات، على مستشفيات القطاع في تسجيل الوفيات، ومع تدمير القطاع الصحي يقول مسؤولون فلسطينيون في قطاع الصحة إن العديد من الوفيات لم يتم تسجيلها، بالأخص مع الطرق المدمّرة وقلة إمكانية الاعتماد على شبكات الاتصالات، في حين إسرائيل ترفض الكشف عن هويات مئات السكان الذين تشير منظمات حقوقية إلى احتجازها من قبل القوات الإسرائيلية.
ولم يعلق الجيش الإسرائيلي على تقرير "واشنطن بوست"، لكن الصحيفة نقلت عنه تصريحات في وقت سابق قال فيها إن "المشتبه بهم في أنشطة إرهابية" في غزة يتم اعتقالهم و"إحضارهم إلى الأراضي الإسرائيلية لإجراء مزيد من التحقيقات".
وقال الجيش إن أولئك الذين يتبين أنهم غير متورطين في نشاط إرهابي تتم إعادتهم إلى غزة، ويتم التعامل مع من يبقون في الاحتجاز، وفقا للقانون الإسرائيلي.
وتنوه الصحيفة إلى أنه لا توجد طريقة ممنهجة يمكن من خلالها تتبع المفقودين، ويوم الجمعة الماضي، بعد مضي خمسة أشهر على الحرب، نشرت وزارة الصحة في غزة وثيقة عبر غوغل للبدء بجمع أسماء القتلى والمفقودين.
وفي الأسابيع الأولى من الحملة الجوية الإسرائيلية، كان يُعتقد أن المفقودين محاصرون، أحياء أو أموات، تحت الأنقاض.
ويقدِّر محمد بصل، المتحدث باسم خدمات الطوارئ بالدفاع المدني في غزة، في حديثه للصحيفة أن 8000 جثة لا تزال تحت الأنقاض.
وخلال الأشهر الأولى من الحرب، سارعت فرق الإنقاذ إلى المواقع التي تم استهدافها عندما استطاعت ذلك. ولكن بدون المعدات المناسبة، كما قال، غالبا كانوا يضرون لإنقاذ العالقين بإزالة الأنقاض بأيديهم، ولم يتمكنوا من فعل ذلك في بعض الأحيان.
يقول بصل إن فرقه في مدينة غزة نادرا ما تجد جثثا كاملة الآن، وبدلاً من ذلك تكشف عن أشلاء جزئية، معظمها متحللة ولا يمكن التعرف عليها.
وتعتقد غادة الكرد، 38 عاماً، أن شقيقها صفوت وزوجته ميسون وابنتهما حبيبة البالغة من العمر 10 سنوات، هم من بين الذين فقدوا تحت الأنقاض.
اتصلت شقيقة الكرد بها، يوم 19 نوفمبر، لتبلغها أن صاروخاً أصاب منزلا مكونا من ثلاثة طوابق كان يقيم فيه شقيقها في مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة. في البداية، قال الجيران إنه لم يكن هناك أحد في المنزل. ثم رأوا أرجلا تبرز من تحت الأنقاض.
لكن بدون المعدات الثقيلة، قالت الكرد للصحيفة عبر الهاتف من رفح، إن رجال الإنقاذ "لم يتمكنوا من انتشالهم، وما زالوا مفقودين". والأسرة ليست مدرجة في القائمة الرسمية للوفيات الصادرة عن وزارة الصحة.
آخر مرة سمعت فيها غادة عيسى، التي تعيش في بلدة سلفيت بالضفة الغربية المحتلة، من شقيقتها وفاء العمور في مدينة غزة كانت في 8 نوفمبر. ولم يكن لدى السيدة البالغة من العمر 50 عامًا أي عائلة في القطاع.
وقصف الجيش الإسرائيلي حي العمور بالقرب من مستشفى الشفاء، قائلا إنه يستهدف مقاتلي حماس في المنطقة. أخبر مالك المنزل، الذي يعيش في الخارج، عيسى أن الشقة المجاورة تعرضت للقصف.
ولا تعلم عيسى إن كانت شقيقتها في الشقة المجاورة عند القصف، وتستدرك قائلة للصحيفة: "إن شاء الله سنجدها.. جميعنا سنموت في النهاية لكننا يجب أن نعلم ما حلّ بها".
وتنقل الصحيفة الأميركية واقعة اختفاء رائد حلبي، وهو مبرمج يبلغ من العمر 30 عاما، وكان شقيقه محمود يسافر معه ويقول إن القوات الإسرائيلية اعتقلته.
وعندما غزت إسرائيل غزة في أواخر أكتوبر، وجهت السكان في الجزء الشمالي من القطاع إلى الفرار جنوبا، واستجاب حلبي لذلك.
وفي 15 نوفمبر، وفقا لمحمود، اقترب الشقيقان من نقطة التفتيش الإسرائيلية الرئيسية، المسماة نتساريم، على طريق صلاح الدين السريع.
وقال محمود: "لقد نادى عليه جندي إسرائيلي عبر الميكروفون"، وكانت زوجة رائد وأطفاله الثلاثة حاضرين أيضا، "فقالوا: أعط ابنك لأمه وتعال".
وقال محمود إن رائد امتثل. وكانت تلك آخر مرة تراه عائلته، مؤكدا "نحن مدنيون، ولا علاقة لنا" بالحركات المسلحة.
واتصل محمود باللجنة الدولية للصليب الأحمر، لكن إسرائيل منعت المنظمة من الوصول إلى مراكز الاحتجاز التابعة لها منذ 7 أكتوبر، ورفضت حماس أيضا طلبات اللجنة زيارة الإسرائيليين الذين اختطفتهم الحركة في 7 أكتوبر. وما زال أكثر من 100 منهم محتجزين في غزة.
وقالت سارة ديفيز، المتحدثة باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر: "إننا نتفهم الألم الشديد الذي يشعر به أفراد الأسرة الذين ينتظرون بفارغ الصبر أخبارا عن أحبائهم، والإحباط عندما لا يحدث ذلك في الوقت المناسب".
ولم يعلق الجيش الإسرائيلي على طلب الصحيفة بشأن حلبي.
خرج ولم يعدونقلت الصحيفة قصص لفلسطينيين اختفوا خلال تنقلهم من موقع لآخر في القطاع، من بينهم المغني محمود أبو هاني، الذي تمكن من الوصول بأمان من مدينة غزة إلى النصيرات في وسط القطاع في وقت مبكر من الحرب. وفي الشهر الماضي حاول العودة إلى منزله واختفى.
وقالت شقيقته حليمة أبو هاني: "قال إن الناس كانوا عائدين إلى منازلهم لأنه لم يكن هناك جنود في الطريق"، مضيفة أنه "خرج من مدينة غزة دون أي ملابس أو أي شيء. كان الجو شتاءً وكان ينام في خيمة".
ولدى وصول الشاب وادي غزة، الذي يفصل بين شمال القطاع وجنوبه، أغلَق أو أُغلق هاتفه، وفقا للصحيفة الأميركية.
وقال بصل: "مع كل دخول بري (للجيش الإسرائيلي) إلى المناطق، نتلقى مئات المناشدات من أجل أفراد الأسرة المفقودين".
واختفى زياد صباح، 23 عاما، مطلع 13 فبراير في دير البلح وسط قطاع غزة. وقال والده محمد إنه كان "يشعر بالملل ويريد أن يتمشى".
وقال والده إن زياد مصاب باضطراب فصام الشخصية "شيزوفرينيا"، وتفاقمت أعراضه بعد انتشاله من تحت أنقاض غارة جوية في نوفمبر. والآن تتساءل العائلة: هل ضاع؟ هل كان عدائيا عند نقطة التفتيش؟ هل لا يزال على قيد الحياة؟
أسئلة مماثلة تعذب عائلة المصري.
وقال والده محمد إن هيثم، 17 عاما، غادر مدرسة تابعة للأمم المتحدة في رفح، حيث كانت الأسرة تلجأ يوم 11 فبراير، لبيع السجائر في السوق. لكنه لم يعد أبدا.
وقال المصري الأسبوع الماضي إن أحد مراسلي صحيفة واشنطن بوست كان أول من اتصل بشأن ابنه.
ورد عليه الوالد بالقول: "هل لديك أي أخبار عنه؟"
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: اللجنة الدولیة للصلیب الأحمر تحت الأنقاض واشنطن بوست مدینة غزة من العمر فی غزة من بین
إقرأ أيضاً:
نساء غزة.. أيقونات الصمود بين الأنقاض والنار
تحت خيمة ممزقة بفعل الرياح، أو على ركام منزل كان يومًا ما مأوى للذكريات، أو داخل فصل دراسي تكدّس فيه النازحون، تقف المرأة الغزية، ليس فقط شاهدة على فصول المأساة، بل حاملة لها فوق أكتافها.
في قطاع غزة، حيث لا مجال للفرار من الحرب، تكون المرأة أول من ينهض من تحت الأنقاض، تمسح دموع الصغار، وتعيد إشعال موقد الحياة، ولو كان من رماد. العدوان الإسرائيلي المستمر منذ نحو 17 شهرًا، حوّل حياة نساء غزة إلى نضال يومي في مواجهة الجوع، القصف، الفقد، والتشريد. ومع ذلك، فإن صوت المرأة الغزية ما زال يعلو فوق الدمار، شاهداً على الكرامة والصبر.
في حي الزيتون بمدينة غزة، تجلس أم ياسين دلول (28 عامًا) داخل خيمتها التي لا تقي حر الصيف ولا برد الليل. تروي معاناتها بصوت خافت لا يخلو من قوة دفينة: «استشهد أولادي الثلاثة في قصف المستشفى المعمداني، وبُترت يدي اليمين. من يومها والدنيا اسودّت في عيني».
فقدت أم ياسين بيتها وأطفالها في لحظة، وبقيت تجرّ جسدها الجريح بين صفوف الخيام، تبحث عن لقمة تسد بها رمقها. «إحنا بنعاني من قلة الأكل والشرب، حتى المياه صارت حلم. ولما الدنيا شوب، أنت مش متخيل كيف بنعيش داخل الخيمة. كأننا بنطبخ حالنا في فرن»، تضيف والدمعة تختنق في عينيها.
ورغم بتر يدها، تصر أم ياسين على إدارة شؤون حياتها بنفسها، تطهو على النار، وتغسل ملابسها بيد واحدة. تقول لـ«عُمان»: «ما حدا رح يطبطب علينا، إحنا لازم نعيش. أنا بحاول أكون قوية، يمكن أقدر أعيش عشان أجيب حقي وحق أولادي»، مصيفًة بإصرار، وقد تحولت أحزانها إلى نار داخلها، تُشعل بها صبرها.
تغدو خيمة أم ياسين مسكنًا ومعسكرًا للصمود في آن، تلمّ فيه نساء الجيران كل مساء. يروين القصص، ويتشاركن الوجع، ويتناوبن على تحضير كاسات الشاي. «صرنا عيلة وحدة، الحرب لمتنا على حزن واحد»، تقول بابتسامة حزينة، تشبه ضوء قنديل يوشك أن ينطفئ.
حمل فوق الأكتاف
في مدينة خان يونس، جنوب القطاع، تقيم أم رامي العبادلة (53 عامًا) في مدرسة ابتدائية، تحولت إلى مركز إيواء مكتظ بعشرات العائلات. تقول السيدة الخمسينية، التي نزحت من مدينة رفح، مع زوجها المريض وأبنائها الخمسة، قبل نحو عام: «أنا شايلة الحمل كله. من تعبئة المي، للفرن، للتكية. كله أنا بعمله. حتى لما ابني الكبير يرجع من الشغل، يشتكي التعب، أقوم أنا أكمّل عنه».
لم تكن حياة أم علي سهلة حتى قبل الحرب، لكنها اليوم تشبه صعودًا لا يتوقف على سلم من الجمر تقول لـ«عُمان»: «أنا بصحى على صوت الطيارات، وأنام على صراخ الجيران. ومع هيك، لازم أطبخ، أعتني في جوزي، وأدبّر شؤون الأولاد. مرات بفكر، كيف جسمي لسه واقف؟ بس يمكن قلب الأم أقوى من الحديد».
في زوايا المدرسة، تفترش أم علي الأرض، تصنع من قطع الكرتون فراشًا، وتضع على رأسها عباءة سوداء اتخذت من الغبار لونًا جديدًا. «الدنيا ما عاد فيها كرامة، بس بنحاول نعيش. عشان ولادنا، عشان نظل صامدين، حتى لو متنا واقفين»، تضيف وهي تضبط حجابها على عجل؛ كي تذهب إلى طابور التكية، وتحضر طعام الغداء.
صارت أم علي رمزًا للعطاء بين نازحي المدرسة، يتهافت الجميع عليها لطلب المساعدة أو المشورة. «كل واحدة هون عندها حكاية، بس في الآخر، إحنا النساء اللي شايلين البلد على ضهرنا»، تهمس وهي تضع صحن المجدرة أمام أبنائها الجياع.
نار من الحطب والدم
في بيت لاهيا، شمال قطاع غزة، تعيش غالية أبو القمصان (62 عامًا) بين أنقاض منزل ابنها الذي قصف في بداية العدوان. «32 شخص نعيش هنا، وزوجي استشهد. ما في مكان نذهب إليه. خبزنا على الصاج، نعد طعامنا على الحطب، وننام على الأرض. صار لنا سنتين بهذا الحال»، تقول بحزم يشبه السكاكي خلال حديثها لـ«عُمان».
كل صباح، تستيقظ غالية قبل الفجر، تجهّز الحطب، وتشعل النار. فوقها، تضع صاجًا قديمًا تخبز عليه أرغفة الحياة من دقيق أفسدته الحرب. «ما في كهربا، ولا غاز، ولا أمان، ولا حتى دقيق كويس. بس في صبر، وفي أطفال انتظرونا أن نطعمهم»، تضيف وهي تمسح رماد الحطب عن يديها.
تصف غالية الحياة بين الأنقاض بأنها أشبه بالسير على الأشواك. «كل شي مهدود، كل شي موجوع. بس أنا صرت أم الجميع. حتى جاراتي بيجوا يخبزوا عندي ما يجدونه من بقايا طحين مدوّد. صرنا نعيش يوم بيوم، نضحك رغم الدموع».
الأعباء النفسية الخفية
وراء هذا الصمود اليومي، تتراكم جراح نفسية عميقة لا تُرى بالعين المجردة. بحسب صفاء مشتهى، الأخصائية النفسية في جمعية عايشة لحماية المرأة والطفل، فإن النساء يعانين من نسب مرتفعة من اضطراب ما بعد الصدمة، والقلق المزمن، والاكتئاب، بسبب فقد الأحبة، والخوف المستمر، وانعدام الأمان.
«النساء في غزة لا يعشن فقط الحرب، بل يتحملن مسؤولية إنقاذ العائلة نفسيًا أيضًا. هي الأم، والمعيلة، والمُطمئنة، والممرضة. هذا الحمل يتضاعف كل يوم»، تقول مشتهى، مؤكدة أن كثيرات لا يملكن حتى رفاهية التعبير عن مشاعرهن.
تتحدث مشتهى عن نساء رفضن البكاء خوفًا من أن ينهار أطفالهن، وعن أمهات فقدن أبناءهن لكنّهن واصلن الطهو والغسل في اليوم التالي: «هذا الصبر مدهش، لكنه مكلف نفسيًا. نحن نخشى من تزايد حالات الانهيار النفسي بعد انتهاء الحرب، حين تسمح الظروف ببعض التنفيس».
وفي ظل تردي الوضع الصحي وغياب الرعاية النفسية، تطلق مؤسسات محلية مبادرات دعم نفسي جماعي داخل المدارس والمخيمات. «الاستماع للنساء، منحهن مساحة للحكي، صار هو العلاج الأولي في ظل انعدام الإمكانيات»، توضح مشتهى.
غياب العدالة الإنسانية
تتساءل النساء في غزة عن العدالة الدولية الغائبة، عن الضمير العالمي الذي خذلهن. تقول د. لينا بركات، المحامية المتخصصة في قضايا حقوق الإنسان في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، إن المرأة الغزية تُستهدف مرتين: الأولى بالقصف، والثانية بالتجاهل.
«لم نرَ أي تحرك دولي جاد لحماية النساء في غزة، رغم كل النداءات. تقاريرنا توثق الاستهداف المباشر للنساء، سواء في منازلهن أو في طريق النزوح أو داخل مراكز الإيواء»، توضح بركات، مشيرة إلى أن أكثر من 12 ألف امرأة فقدن حياتهن منذ بدء العدوان، حتى أبريل 2025.
وتضيف خلال حديثها لـ«عُمان»: «المرأة في غزة تُعامل كرقم في الأخبار، بينما هي الحقيقة الكاملة. هي التي تدفن أبناءها بيديها، وتعود لتصنع لهم قبرًا من الحب في قلوبها».
يحاول المركز توثيق الانتهاكات بشكل يومي، ويعمل مع منظمات أممية لإيصال الصوت، لكن العوائق السياسية تحجب العدالة. «صوت المرأة الغزية أقوى من صمت العالم. هي لا تطلب شفقة، بل عدالة وإنصاف»، تختم بركات.
أمل يولد من رحم الرماد
رغم كل ما سبق، يبقى للمرأة الغزية قدرة خارقة على بثّ الأمل في ظلال الكارثة. في خيمة قرب دير البلح، تجمع أم رامي نساء المخيم لتعليم التطريز. تقول: «هذا ليس فقط تطريز، هذا علاج. كل غرزة هي صرخة صامتة ضد الظلم».
وفي مدرسة أخرى، تنظّم أم مجاهد الأغا جلسات قراءة للأطفال. تصنع من صوتها حضنًا دافئًا، وتحوّل الكلمات إلى خيمة أمان. «لو الحرب أخدت بيوتنا، ما رح نخليها تاخد أرواحنا»، تقول وهي تحتضن طفلة يتيمة تقرأ قصيدة عن الشهداء.
الأمل لا يولد من الرفاهية، بل من رحم القهر. والمرأة الغزية تعرف كيف تصنع من دموعها جدولاً صغيرًا يسقي جذور الصبر في كل من حولها.
نساء من صلب الجراح
لا تنتهي الحكاية هنا، بل تبدأ كل يوم من جديد. على موقد الحطب، في طوابير الخبز، بين أنقاض الأحلام، تنهض المرأة الغزية كمن تبني وطنًا على صبرها. هي الشاهدة، والضحية، والمقاتلة في آنٍ معًا. تكتب بدمها فصول الكرامة، وتعلّمنا أن الأنوثة ليست ضعفًا، بل صلابة تليق بالمجد.
وفي ظل عدوان لا يرحم، تبقى النساء في غزة صوت الحياة الذي لا يسكت، ونور الأمل الذي لا ينطفئ. هنا، لا تُقاس البطولة بعدد الطلقات، بل بعدد الأرغفة التي خُبزت على النار، والدموع التي جُففت كي لا يبكي الأطفال. هذه غزة، وتلك نساؤها.