العلاقات العربية الروسية.. بين الاستراتيجية والتكتيك
تاريخ النشر: 20th, March 2024 GMT
مسعود أحمد بيت سعيد
masoudahmed58@gmail.com
لم يعرف تاريخ العلاقات السياسية بين الدول سوى شكلين علاقة قائمة على القهر والتبعية، وأخرى قائمة على المبادئ والقيم الإنسانية المشتركة، وفي ظل التفاوت الحضاري التاريخي وعدم التكافؤ بين الأطراف تطلبت الأخيرة نضالات وطنية حارقة، من أجل استقلالية القرار السيادي والاختيارات الاجتماعية والسياسية بمظاهرها المتعددة.
وعلى ضوء هذه الحقيقة ولدت العلاقات العربية الروسية في ظروف ومناخات مضطربة، رغم أن المؤشرات الأولية كانت توحي بإمكانية واقعية لرحلة طويلة من العلاقة الاستراتيجية؛ حيث شكل انتصار الثورة البلشفية سنة 1917 حدث عظيم في التاريخ البشري المعاصر، غيَّرت نمط العلاقات الدولية، وأرست نموذحا اقتصاديا واجتماعيا وفكريا جديدا، وفتحت مجالات وأسعة أمام الشعوب المستعبدة، وكان من انعكاساتها المباشرة على الصعيد العربي إشهار اتفاقية "سايكس- بيكو" التي أعدتها الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية لتقسيم المشرق العربي ووراثة ما يعرف في الأدبيات السياسية بتركة "رجل الشرق المريض"، في إشارة إلى الدولة العثمانية. غير أن القوى الاستعمارية الغربية التي واكبت نشوء الكيانات العربية الحديثة على أنقاض وأشلاء الدولة العثمانية المنهارة، كانت قد وطّدت أركان وجودها مع القوى الإقطاعية التقليدية وكبلتها بسلسلة معقدة من الاتفاقيات العلنية والسرية المحمية بالقواعد العسكرية، لم تستطيع الفكاك منها الى الآن رغم عصف المتغيرات.
وقد رسمت نتائج الحرب العالمية الثانية مضامين التحالفات المقبلة المعبأة بالإيديولوجيات الطبقية المتناقضة، وكان من الطبيعي أن تتطلع الشعوب النامية المثقلة بالترسبات التاريخية المتراكمة والتي تَرسِفُ تحت أشكال من النير الاستعماري المتعدد الأوجه، إلى الاتحاد السوفيتي وسلطة البروليتاريا الثورية المناهضة للرأسمالية العالمية، وهو ما حدث لمعظم شعوب القارات الثلاثة التي حققت استقلالها الوطني تحت واقع موازين القوى الذي فرضه الاتحاد السوفييتي طيلة سبعة عقود. بينما لم تجرِ الأمور في المنطقة العربية بهذا الاتجاه؛ حيث اصطفت الحكومات العربية الرجعية، ولا تزال، في خندق الإمبريالية وخاضت معارك آيديولوجية، فكرية وسياسية وعسكرية في خدمة أهدافها وأجندتها الخاصة، وهي مسألة معروفة تاريخيًا. وقد أشار محمد حسنين هيكل إلى الدور العربي في تدمير الاتحاد السوفييتي؛ حيث بذل الغرب جهودًا جبارة في التضليل والترويج للخطر السوفيتي تحت عناوين مختلفة، ولاعتبارات مفهومة تُمكِّن من طمس الحقائق الحسية الملموسة رغم عنف الشواهد الماضية والراهنة، ودون تبرير الخطأ المبدئي الذي وقع فيه الاتحاد السوفيتي حيال قرار تقسيم فلسطين الذي يعزوه البعض لنفوذ الحركة الصهيونية في بنية الدولة السوفيتية، والتي استخدمت أحد مبادئها المتعلقة بحق تقرير المصير بخلاف مفهومه وشروطه وخارج مضمونة التقدمي بشكل انتقائي ولغايات محددة، ناهيك عن التقديرات الخاطئة للبيروقراطية الروسية التي عبَّر عنها الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين بالقول "زرعنا خازوقًا لخوزقة الأنظمة الإقطاعية" بحسب نايف حواتمة الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.
وفي السياق ذاته، يذكر خالد بكداش الأمين العام للحزب الشيوعي السوري أن "المندوب السوفيتي استنفد جهده في التنسيق مع الوفود العربية من أجل صياغة مشروع متكامل قبيل صدور القرار، إلذا أنهم لم يتجاوبوا معه؛ حيث كانوا يراهنون على الموقف البريطاني وأن الأنظمة العربية التي رفضت قرار التقسيم ليس لأنها ضده؛ بل لكي تفسح المجال أمام إسرائيل لاحتلال أراضٍ أوسع من تلك التي ينص عليها القرار نفسه".
وبعيدًا عن تلك الحيثيات والنوايا، فإن مجريات الأحداث اللاحقة تزكي الى حد كبير هذا الاستنتاج؛ اذ إن الأوساط الرجعية التي استغلت الخطأ الروسي كما لم تستغل غيره، ولم تمتد مواقفها القومية المتشددة نحو القوى الكولنيالية (الاستعمارية) الغربية التي تحتل أجزاءً من الأراضي العربية، إضافة لدورها الرئيسي في إنشاء الكيان الصهيوني؛ الأمر الذي أبقى العلاقات لسنوات بين المد والجزر. ويمكن اعتبار أن التأسيس الفعلي للعلاقات العربية السوفيتية المعاصرة بدأ أثناء العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على مصر سنة 1956؛ حيث قدم الاتحاد السوفيتي حينها لمصر أسلحة متطورة عبر تشيكوسلوفاكيا عُرفت بصفقة الأسلحة التشيكية، والتي كسرت بموجبها الاحتكار الغربي للسلاح. وبصرف النظر عن ملابسات تلك المرحلة، فإن التاريخ يحفظ لموسكو سابقًا ولاحقًا مواقفها في المحافل الدولية لنصرة القضايا العربية العادلة وفي تسليح الجيشين المصري والسوري بعد نكسة يونيو سنة 1967، الذي مكنهما من خوض معركة 6 أكتوبر المجيدة سنة 1973.
الالتزام الأخلاقي يحتم في هذه اللحظة المفصلية دعم روسيا الاتحادية في مواجهة الإرهاب الإمبريالي الصهيوني، والإقلاع عن المناورات التكتيكية الانتهازية لاستدرار عطفها عندما نتعرض للنكبات وتضييق الخيارات. ويبقى السؤال الذي لا بُد من طرحه بعد سقوط كافة المسوغات والمحاذير السابقة وحصاد السنين العجاف: ماذا استفادت الأمة العربية من انهيار الاتحاد السوفيتي؟
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
تصعيد جمركي يلوح بالأفق.. ترامب يضغط وأوروبا تتمسك بالحوار
تزايدت مؤشرات التوتر في العلاقات التجارية بين واشنطن وبروكسل، وسط تلويح أمريكي برسوم جمركية مشددة يقابله تأكيد أوروبي على التمسك بخيار الحوار، وبينما يواصل الرئيس دونالد ترامب، تصعيد لهجته تجاه الاتحاد الأوروبي، تسعى المفوضية الأوروبية إلى الحفاظ على قنوات التفاوض مفتوحة، أملاً في تفادي مواجهة تجارية شاملة تهدد استقرار الأسواق العالمية.
وأكد مفوض التجارة في الاتحاد الأوروبي، ماروش شيفتشوفيتش، أن المفوضية لا تزال “ملتزمة بالكامل بالتوصل إلى اتفاق تجاري مع واشنطن”، موضحاً في منشور عبر منصة “إكس” أنه أجرى “مكالمات جيدة” مع وزير التجارة الأمريكي هوارد لوتنيك والممثل التجاري الأمريكي جيميسون جرير، وأن التواصل مع الجانب الأمريكي سيبقى مستمراً خلال الفترة المقبلة.
وتأتي التحركات الأوروبية عقب إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الأحد، تمديد المهلة النهائية لفرض رسوم جمركية بنسبة 50% على السلع الأوروبية حتى التاسع من يوليو، بعد مكالمة هاتفية مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين.
وأوضح ترامب، في تصريحات سابقة يوم الجمعة، أن “المحادثات التجارية مع بروكسل لا تحقق أي تقدم”، ملوّحاً بفرض تعريفة جمركية مباشرة على جميع واردات الاتحاد الأوروبي اعتباراً من الأول من يونيو.
ولم تكن الأسواق العالمية بمنأى عن هذه التصريحات، إذ تسببت تقلبات ترامب ومواقفه المتغيرة في حالة من الاضطراب وعدم اليقين، انعكست على أداء البورصات وعلى ثقة المستثمرين، إلى جانب إثارة مخاوف واسعة لدى العديد من الشركات، سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة، من التداعيات المحتملة لأي تصعيد تجاري.
ويتمسك الاتحاد الأوروبي بموقف تفاوضي يركز على حماية المصالح الاقتصادية المشتركة، محذراً من أن دخول الطرفين في حرب رسوم متبادلة سيضر بقطاعات صناعية وتجارية حساسة على جانبي الأطلسي.
وتعكس التطورات الأخيرة هشاشة العلاقات الاقتصادية بين القوتين التجاريتين، في ظل تباين واضح في الرؤى. وبينما يرى ترامب أن الضغط عبر الرسوم الجمركية أداة فعالة لدفع بروكسل نحو تنازلات، تواصل المفوضية الأوروبية السعي إلى حل تفاوضي يحفظ توازن المصالح ويجنّب الأسواق المزيد من الاضطراب.
هذا ومرت العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بفصول متقلبة خلال العقد الأخير، لكنها دخلت مرحلة أكثر توتراً منذ تولي الرئيس دونالد ترامب الحكم مجدداً في يناير 2025، وعودته إلى نهجه “الحمائي” الذي يرفع شعار “أمريكا أولاً”.
وكان الرئيس ترامب بدأ خلال ولايته السابقة (2017–2021) بفرض رسوم جمركية على واردات أوروبية، لا سيما على الصلب والألمنيوم، ما قوبل بردود أوروبية مماثلة. تلك الإجراءات فتحت باب حرب تجارية محدودة أثرت على قطاعات اقتصادية حيوية، من صناعة السيارات إلى المنتجات الزراعية.
ورغم محاولة الإدارات السابقة تهدئة التوتر عبر مفاوضات طويلة الأمد، لم تُتوصل إلى اتفاق تجاري شامل يُنظم العلاقات الاقتصادية بين الطرفين، ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، تجددت الخلافات القديمة، وبرزت ملفات شائكة مثل دعم الاتحاد الأوروبي للشركات الخضراء، والوصول إلى الأسواق الرقمية، والقيود التنظيمية والبيئية التي تعتبرها واشنطن عائقاً أمام التجارة الحرة.
ويرى الاتحاد الأوروبي أن أي اتفاق تجاري ينبغي أن يستند إلى قواعد منظمة التجارة العالمية، مع احترام للمعايير البيئية والاجتماعية، بينما تضغط واشنطن لتقليل الفجوة التجارية وتعزيز صادراتها الزراعية والصناعية.
وفي هذا السياق، يأتي تلويح ترامب بفرض رسوم جمركية بنسبة 50% على الواردات الأوروبية كورقة ضغط جديدة، ضمن سياسة تستهدف تحسين الميزان التجاري الأمريكي، بينما تسعى بروكسل لاحتواء التصعيد وتفادي دوامة من الإجراءات الانتقامية التي قد تضر بالنمو الاقتصادي العالمي.