ما بعد الحرب في السودان.. اليابان نموذجًا
تاريخ النشر: 31st, March 2024 GMT
بعد نهاية هذه الحرب سوف يتفاجأ كثير من السودانيين بأن بلادهم دُمّرت بصورة شبه كاملة، وتعرضت المصانع والمتاحف والجامعات والمعالم الأثرية للنهب والتجريف، وأن الاقتصاد – تحديدًا – يعاني في غمرات الموت، وكل شيء، تقريبًا، على حافة الهاوية، ما يعني – وذاك هو الطوق الوحيد للنجاة – العمل بهمّة؛ لإعادة بناء الدولة على أسس حديثة ومتينة، واستلهام تجارب مشابهة خرجت من تحت ركام المآسي.
وفقًا لإحصائية وزارة المالية، فقد بلغت الخسائر الاقتصادية جراء الحرب 26 مليار دولار، وهي إحصائية أولية غير دقيقة، أضاف إليها عضو مجلس السيادة الفريق إبراهيم جابر أرقامًا صادمة، عندما ذكر أنّ المؤسسات العامة والحكومية تعرضت لدمار قد تفوق إعادة إعماره 150 مليار دولار- يا للهول- فتلك الخسائر قابلة للزيادة، وهي فاتورة مبدئية لنحو عام واحد فقط من القتال!
هذه الأرقام، لم تشمل – بطبيعة الحال – الأضرار التي لحقت بالقطاع الخاص، وبالسواد الأعظم من الناس العاديين، ضحايا الحرب، الذين فقدوا بيوتهم ومقتنياتهم وأهلهم ومصادر رزقهم، لكن الفاجعة الكبرى – مما يصعب رتقه – هي النسيج الاجتماعي الممزق، الذي سيعاني منه جيل آخر، على الأقل، ومأزق الهويات القاتلة، مما تولد عن جدلية صراع المركز والهامش، التي عبَرَت موائد النخبة السياسية والعسكرية، إلى الجنود البسطاء الذين باتوا يلوحون بمطالب اقتسام السلطة والثروة فوق أفواه البنادق، ويتحدثون عن المظالم التاريخية.
الإوزّ الطائرولعل من المؤسف القول؛ إن الحرب نقلت السودان نقلة خطيرة، من رصيف الدول النامية إلى غرفة الإنعاش، وأصبح اليوم كما لو أنه رجل أفريقيا المريض، دون مبالغة في الوصف، بعد أن كان مرشحًا ليكون سلّة غذاء العالم، وهي ردة لا نظير لها في التجارب المعاصرة، مما يتطلب كضرورة حاسمة، ثورة إصلاحيّة عميقة الجذور، أسوة بالتي حدثت في اليابان، إذ إن العالم كله يمضي للأمام، بخطى وئيدة، أو على طريقة نظرية الإوزّ الطائر، وهي التي تقوم بتصوير عملية النمو الاقتصادي في دول شرق آسيا، وتأتي اليابان في مقدمة ذلك السرب.
ولعلّ الاقتصادي الياباني «أكاماتسو كانامي» عندما وضع تلك النظرية في العام 1937م اعتمد على طريقة أسراب الإوزّ، التي تشير إلى أن الدول الناهضة – وتمثل السرب اللاحق – تميل إلى الصناعات الأقل تقدمًا، مقارنة بالدول التي تفوقها في التطور الاقتصادي، وعرض تجربة بلاده التاريخية في التحول المذهل من استيراد النسيج من بريطانيا إلى إنتاجه وتصديره بعد ذلك، وصولًا إلى تركيز رأس المال والانعطافة "الحداثوية"، حدّ أن العالم اليوم، شديد الإعجاب بالتجربة اليابانية، كما لو أنها دولة في كوكب مغاير.
قد يكون من المفيد للسودانيين النظر في تجربة اليابان، ليس لما انتهت إليه من ثورة صناعية، ولكن من البداية المُدهشة والخروج السريع مِن عُنق الزجاجة، وذلك بالضرورة يتطلب تحطيم ما تبقى من جهاز الدولة البيروقراطي، والأفكار السياسية البالية للنظام القديم.
التجربة اليابانيةبالعودة للعام الأخير من الحرب العالمية الثانية، وبينما الأنفاس مُتصاعدة، نفّذ الحلفاء هجومًا جويًا بقنابل حارقة، قضت والتهمت نحو 67 مدينة يابانية، ثم تلا ذلك إلقاء أميركا قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناغازاكي لتستسلم طوكيو أخيرًا، وتنتهي الحرب بدمار هائل في كل أجزاء اليابان تقريبًا، ونتج عن ذلك نهاية القبضة الإمبراطورية، ودمار الاقتصاد والحياة القديمة كلها، حتى ظنّ الجميع أن اليابان لن تقوم لها قائمة بعد ذلك اليوم الأسود.
لكن العقل الياباني لم ينهزم، وقد أخذ رئيس الوزراء حينذاك يوشيدا المهمة على عاتقه بقدر من الجدية، وحول النقمة إلى نعمة؛ تحقيقًا لما عرف بعد ذلك بالمعجزة اليابانية، والتي حدثت في أقل من عشرين عامًا، تحت شعار: (فوكوكو كيوهيي)، والتي تعني تنمية القوة الاقتصادية والعسكرية للبلد، في محاولة جادّة للحاق بالركب الغربي الصناعي، والسير فوق جُملة مشروعات إصلاحية، استهدفت القوانين أولًا، ومن ثم التعليم والإنتاج الزراعي، وقبل كل شيء بناء شخصية الفرد على نموذج "غامان"، الذي يعتنقه الياباني منذ الصغر، وهو مجموعة إستراتيجيات تهدف للتعامل مع الأحداث الخارجة عن السيطرة، حد أن الأفراد يطورون في أنفسهم قدرةً خارقة على تحمل أشياء غير متوقعة أو سيئة، ومن العسير اجتيازها بنجاح، مثل: الزلازل والمصاعب الأخرى الحياتية.
تفكيك القبضة المركزية
بالمقابل يحتاج أهل السودان بعد أن تضع الحرب أوزارها، إلى مرحلة مهمة، وهي مرحلة التعافي الاجتماعي والسياسي، ومن بعد ذلك التوافق على دستور جديد، يتضمن حلًا ناجعًا للإشكالية الأهم المنحصرة في الصراع على السُلطة، وهي قضية تتطلب تفكيك قبضة المركز لصالح الأقاليم، باعتماد النموذج الفدرالي بدرجة أكبر، مع أحقية كل إقليم بالتمتع بثرواته وحقوقه السياسية، والتنسيق مع المركز في بعض القضايا السيادية فقط، دون أن تكون ثمة حاجة للهجرات نحو العاصمة.
والمشكلة الأخرى، تتعلق بوضع حد للأيادي الخارجية التي تعبث بموارد السودانيين، إذ إن أكثرَ ما أضرّ بالاستقرار خلال العقود السابقة، القابليةُ السودانيّة للتدخلات الأجنبية، وازدهار أسواق العمالة السياسية للخارج، وهو ما أملته الوضعية الجغرافية للسودان تقريبًا، وضعف الوازع الوطني، لا سيما أنه، كما أشار الدكتور عزمي بشارة في كتابه: "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته"، "كلما زاد الوزن الجيوستراتيجي للدولة، زاد تأثير العوامل الخارجية السلبية"، وهو مأزقنا الراهن بالضبط، ويمكن للقوى الوطنية تدارك استقلالية القرار، في خضم مكابدتهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ربما ليس بالضرورة تقفّي أثر المعجزة اليابانية وقع الحافر بالحافر، فللسودان خصوصيته وتفرده حتى في الفجائع، بينما اليابان دولة استثنائية في هذا العالم، لكنها أيضًا أقرب تجربة لما يمكن للمرء أن يفعله بُعيد الهزيمة والدمار، فالحكمة ضالة المؤمن، حيثما وجدها، فهو أحق أن يأخذ بها، وأمام الشعب السوداني فرصة أخيرة، تنشد التسامي فوق الجراح، ثم التوجّه إلى العمل.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ حريات بعد ذلک
إقرأ أيضاً:
عودة «1150» مواطن سوداني من مصر ضمن مشروع العودة الطوعية
وصل الي محطة السد العالي باسوان فجر اليوم عدد 1150 مواطن سوداني ضمن مشروع العودة الطوعية المجانية للسودانيين من مصر في مرحلته الثانية علي متن قطار العودة الطوعية رقم 39.
القاهرة _ التغيير
في ظل استمرار الحرب في السودان، يواجه اللاجئون السودانيون في مختلف الدول، وخاصةً مصر، تحديات متزايدة تهدد استقرارهم وسلامتهم، ومع مرور الوقت، باتت خياراتهم محدودة بين نوعين من العودة إلى وطنهم الممزق: عودة طوعية يفرضها ضيق الحال، وعودة قسرية تقودها حملات اعتقال وترحيل مفاجئة..
وفور وصول العائدين اقلتهم البصات السفرية الي وادي حلفا لمواصلة الرحلة إلى وجهتها بكل من الميناء البري الخرطوم والميناء البري عطبرة.
وستتواصل الرحلات تباعا خلال الاسابيع القادمة حتي اكمال تفويج كل المواطنين المسجلين في قوائم العودة.
يذكر آن المشروع الذي تموله وتنفذه منظومة الصناعات الدفاعية السودانية قد انطلق في شهر ابريل الماضي في مرحلته الأولى بالبصات السفرية من القاهرة، فيما انطلقت مرحلته الثانية بالقطارات من محطة رمسيس وبلغ عدد الذين تم تفويجهم ما يزيد علي المائه وستون ألف مواطن.
و شملت شرائح مختلفة ضمت أسر منسوبي القوات النظامية ومنسوبي المؤسسات الحكومية و المعلمين فيما شكل المواطنون العائدون لمدنهم ومناطقهم بولايات السودان المختلفة اكثر من 70% من العائدين.
غادر الكثير من السودانيين البلاد في بداية الحرب بأموال محدودة، أملاً في العودة السريعة. لكن مع طول أمد الصراع، تآكلت مدخراتهم، وباتوا عاجزين عن تحمل تكاليف المعيشة المرتفعة خاصة في ظل انخفاض قيمة الجنيه السوداني.
في دول مثل مصر، أصبحت إيجارات المنازل، وتكاليف الرعاية الصحية، ومصروفات الحياة اليومية عبئًا لا يطاق.
يجد هؤلاء أنفسهم في وضع لا يُحسدون عليه، حيث لا يملكون تصاريح عمل رسمية، مما يضطرهم إلى العمل في وظائف غير مستقرة بأجور زهيدة.
هذا الوضع دفع الآلاف من الأسر والشباب إلى اتخاذ قرار مؤلم بالعودة إلى السودان، على الرغم من المخاطر الأمنية، اعتقاداً منهم أن العودة إلى مناطق هادئة نسبياً قد تكون أفضل من مواجهة الفقر والجوع في الغربة.
الوسوم1150 مواطن سوداني اسوان السودانيين بمصر محطة السد العالي مشروع العودة الطوعية المجانية