شرر كبير وخطير يتهدد السودان
تاريخ النشر: 2nd, April 2024 GMT
شرر كبير وخطير يتهدد السودان
د. الشفيع خضر سعيد
تناولنا في مقالنا السابق ظاهرة تكاثر وتوالد المبادرات والمنابر والتكتلات، والتي تتواجد بذات الملامح والشبه عند القوى المدنية السودانية، وعند قوى المجتمع الدولي والإقليمي المعنية بالأزمة والحرب في البلاد. وقلنا إنها ظاهرة سلبية تتعامل مع الحدث وكأننا لسنا في أجواء الحرب، وبتقاعس يصل حد الجريمة، حيث نسمع منها ضجيجا ولكن لا نرى طحنا، بينما شعب السودان يواجه الدمار والتقتيل.
وحاولنا تفسير هذه الظاهرة وسط القوى المدنية إما بتفشي الأنانية السياسية وتغليب المصلحة الخاصة وعدم المسؤولية عند بعض هذه القوى، أو العجز وقلة الحيلة في مجابهة تعقيدات الواقع وعدم القدرة على تقديم أطروحات وحلول عملية، أو ربما بعض هذه الكتل والمبادرات هي صناعة لدوائر غير سودانية، دولية أو إقليمية، وفي ذلك لطامة كبرى! أما بالنسبة لقوى المجتمع الدولي والإقليمي المعنية بأزمة الحرب، فاستبعدنا العجز وقلة الحيلة في تفسير الظاهرة، ولكن قلنا من الصعب رفض النظرية القائلة بأن بعض الأطراف الخارجية ربما لا ترغب في وقف حرب السودان سريعا وتريد استمرارها لبعض الوقت، وناقشنا ذلك بالتفصيل في مقال سابق. نواصل اليوم الحديث عن الظاهرة وسط القوى المدنية، ونترك القوى الخارجية إلى مقال قادم.
في العام 1989 أكمل السودان عامه الثالث والثلاثين. كان شابا غضا يحلم بالمستقبل الأفضل، عندما انقضت عليه فجأة كتيبة الإنقاذ لتشبعه في الثلاثين عاما التالية من سنوات عمره، ضربا ولكما وتقتيلا، حتى لم يبق من جسده شبر إلا ومسته طعنة سيف أو ضربة رمح. أحكم نظام الإنقاذ قبضته على البلاد بسلاح الطغيان والاستبداد والفساد والإفساد، وكانت النتيجة أن تغذت العصبيات و«تربربت» في مستنقع الشمولية الآسن، وحرّك حجر الطغيان وعنف الدولة دوائر العنف الأخرى، ليزداد خلل المعادلة المختلة اصلا، والتي جاءت ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 لتصححها. ولكن، الأمر المرعب حقا أن ظلت نخبنا السياسية المدنية والعسكرية تتجرع كاسات العجز وضعف الهمة، بينما ناقوس الخطر يواصل الدق وبصوت عال في كل البلاد، إلى أن وقعت الواقعة. السودان اليوم في أمس الحاجة إلى جبهة واسعة ومتماسكة ضد الحرب ومن أجل استعادة مسار الثورة وإنقاذ الوطن، ولكن لا يعقل أن تظل نخبه السياسية بهذا التشرذم والتشظي والذي لن يفشل في بناء هذه الجبهة وحسب، وإنما سيعمق التأزم والفشل.
السودان اليوم في أمس الحاجة إلى جبهة واسعة ومتماسكة ضد الحرب ومن أجل استعادة مسار الثورة وإنقاذ الوطن
وللأسف، هذه الحالة تكررت على مر تجارب فترات الانتقال في السودان، ولعبت دورا رئيسيا في إصابتها في مقتل، مثلما ظلت وقودا لدوران الحلقة الشريرة في البلاد. النخب السودانية دائما ما تتهم بأنها لا تستفيد ولا تتعلم من الأخطاء التي ترتكبها، بل وتكررها، واستمرار التشظي والانقسام الراهن يؤكد هذه الاتهامات. كما أنها متهمة بعمى البصر البصيرة لأنها لا ترى نظرات الشك وعدم الثقة التي يرمقها بها الشارع، مثلما لا ترى الساكنين في الضفة الأخرى، الأكثر تنظيما وتماسكا، والذين ضربت الثورة مصالحهم، يقبعون متربصين ومتحفزين لاستغلال أي سانحة لتصفية الثورة واستعادة فردوسهم المفقود. ولعلنا جميعا ندرك أن الوهم المتشبع بداء المكابرة ورفض الاعتراف بالأخطاء، ويستعذب إلصاق الأخطاء وإلقاء اللوم على الغير، تسبب في انهيار إمبراطوريات كبرى على مر التاريخ، بينما وحدها المنظومة التي تعترف بأخطائها هي التي تستطيع أن تحيا وتتجدد ولديها القدرة على الإصلاح الذاتي.
إن المبادرات والكتل المدنية المتعددة والمتكاثرة يوميا، تتشابه أطروحاتها حد التطابق، مع اختلافات شكلية في اللغة والصياغات، وبعضها في المقدمات والفذلكة التاريخية. فكلها تنادي بوقف الحرب، وبحكم انتقالي مدني لا يشارك فيه العسكر، وبتفكيك نظام الإنقاذ، وبمراجعة وتقويم اتفاقات السلام، وبالعدالة والعدالة الانتقالية، وبإصلاح المنظومة العدلية، وبإصلاح المنظومة الأمنية وحل الميليشيات المسلحة وبناء الجيش المهني الواحد، وبإصلاح الخدمة المدنية، وبإصلاح الحكم المحلي، وبإعادة هيكلة النظام المصرفي وإنقاذ الاقتصاد، وبسياسة خارجية متوازنة، وبالتركيز على قضايا الشباب والمرأة، وبعملية دستورية تأسيسية، وكل ذلك وصولا إلى انتخابات حرة نزيهة،….الخ. الغائب عن كل هذه الأطروحات، الحراك الملموس ليجسدها كخيط رابط بين كل الكتل والمبادرات لتنتظم في منبر موحد أو تنسيقي، لأن بخلاف ذلك، ستظل كل هذه الأطروحات وكأنها مجرد إبراء للذمة أو تسجيل موقف للتاريخ.
ربما تحتاج هذه الكتل والمبادرات إلى ثلاث خطوات رئيسية لتحقيق الوحدة/التنسيق، أولها توحيد المشتركات في الأطروحات، وإدارة نقاش شفاف لتقليل ما بينها من اختلافات. وثانيها، استخلاص رؤية وخارطة طريق، بالتفاصيل وليس مجرد العموميات والشعارات، لمحتوى الحل الممكن لوقف الحرب. وثالثها، التوافق على منبر تنظيمي يضم هذه الكتل والمبادرات، وحدةً أو تنسيقا، يقوم على احترام الاستقلال السياسي والتنظيمي والفكري لكل أطرافه، ولا تغرق هذه الأطراف وتحبس نفسها في جدل عقائدي، أو في ترهات التخوين والنيل من الآخر الحليف، ولا ينحصر نشاطها في العمل الفوقي الصفوي المعزول عن المشاركة الشعبية الواسعة، بل وتتعاطى إيجابا مع ما تطرحه هذه القواعد الشعبية.
شرر كبير وخطير يتهدد بلادنا، ولكنا نضاعف من خطورته بالتشرذم والتشظي والمعادلات الصفرية.
وبصراحة، أى جهد مبذول اليوم لصالح فئة أو أي إنتماء آخر غير الوطن، هو جهد لا أخلاقي وخائن للوطن. ومن هنا تأتي دعوتنا لكسر كل الحواجز المضروبة بين هذه الكتل والمبادرات، لا نشوه مفهوم التحالف أو التنسيق بحديث عن الأوزان والثقل التاريخي، ولا نستخدم «الفيتو» بسبب مواقف سابقة، ولا نحول اختلاف الرأي إلى اتهامات مختلقة، ولا نغض الطرف عن الأخطاء، ولا نمكن أجهزة الاستخبارات ومبتذلي السياسة منا، بل نفكر ونتحرك بهدف أن نهزم الحرب ولا يسقط الوطن. ونحن نمد أيادينا لكل من يوافقنا الرأي، غض النظر عن موقعه الحالي، أو من أين أتى، مادام فتح ذهنه واسعا للمراجعات الكبرى، ومادامت بوصلة ضميره صارت تقوده ضد الحرب واحتراق الوطن.
الوسومالحرب السودان القوى المدنية السودانية الكتل المدنية د. الشفيع خضر سعيدالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الحرب السودان القوى المدنية السودانية القوى المدنیة
إقرأ أيضاً:
حرب وانتهاكات جسيمة: السودان.. واقع مظلم في يوم حقوق الإنسان
يبدو واقع السودان حقوق الإنسان في السودان من أسوأ الأزمات الإنسانية والحقوقية عالمياً، حيث أدت الحرب المستمرة إلى سلسلة من الانتهاكات الخطيرة.
كمبالا– التغيير: فتح الرحمن حمودة
كتب شاب قبل أيام قليلة منشوراً قصيراً على حسابه بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” لم يضع فيه كلمات منمقة ولم يحاول إخفاء غضبه، بل قدم نفسه ببساطة قائلاً: (أنا واحد من أبناء ثورة ديسمبر وعلى استعداد أن أحرق “لستك”، كما أنني مستعد آخذ رصاصة في نصف رأسي إذا وجدت شخص واحد مستعد أن يموت من أجل الحرية، السلام والعدالة).. ولم يكن الشاب يتوقع أن يتسبب ذلك المنشور في تعرضه إلى مخاطر ومضايقة من قبل جهاز المخابرات والخلية الأمنية التابعة للجيش السوداني.
فبعد ساعات من المنشور كانت قد اعتقلته السلطات بمدينة الأبيض في شمال كردفان- غربي وسط السودان، فقط لأنه عبر عن رفضه للحرب المستمرة حاليا ودعا لإيقافها واستكمال شعارات ثورتهم.
وتعتبر هذه الحادثة مثالاً بسيطاً على اتساع الفجوة بين واقع الحقوق والحريات في السودان وما يحلم به المدنيون فحرب 15 أبريل 2023م دفعت بحالة حقوق الإنسان إلى أسوأ مستوياتها خاصة مع موجة الانتهاكات الأخيرة بمدينة الفاشر وبعض مناطق كردفان، حيث بات التعبير عن الرأي نفسه مخاطرة قد تكلف صاحبها حريته وربما حياته.
وبالتزامن مع اليوم العالمي لحقوق الإنسان ودخول حرب السودان عامها الثالث دون أي بوادر سلام مستدام، حذرت وكالات أممية في وقت سابق، من حجم الأزمة وشدتها، وحثت المجتمع الدولي على اتخاذ إجراءات فورية لمنع المزيد من الدمار في البلاد التي انتقلت فيها رقعة العمليات العسكرية إلى مسرح كردفان.
أسوأ الأزمات الإنسانية والحقوقية
وفي ظل هذا الوضع، تقول وئام جودة وهي ناشطة ومدافعة عن حقوق الإنسان، إن الوضع بات من أسوأ الأزمات الإنسانية والحقوقية عالمياً، حيث أدت الحرب المستمرة إلى سلسلة من الانتهاكات الخطيرة.
وأضافت لـ(التغيير)، أن آثار هذه الانتهاكات على المدنيين كارثية إذ تسفر عن قتلى وجرحى وخسائر بشرية واسعة، إلى جانب ارتفاع معدلات الفقر والجوع وتفشي الأمراض بسبب غياب الرعاية الصحية، كما تؤدي إلى تفكك الأسر وضياع فرص الأطفال، مع تزايد مخاطر التجنيد القسري، إضافة إلى تدهور الصحة النفسية للمجتمعات.
فيما تقول الحقوقية حنان حسن، إن وضع حقوق الإنسان في السودان كان هشاً قبل اندلاع الحرب ولكنه انهار بصورة كارثية بعد اندلاع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
وأضافت لـ(التغيير)، أن هذه الانتهاكات ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خاصة في دارفور وكردفان، وسط تحذيرات من موجة جديدة من الفظائع خصوصا في إقليم كردفان.
وتشير التقارير المحلية والأممية إلى انتشار واسع لعمليات القتل الجماعي والعنف الجنسي المنظم والتهجير القسري واستهداف المستشفيات والمدارس ومخيمات النازحين، كما تظهر البيانات أن أكثر من 30 مليون شخص بحاجة للمساعدات الإنسانية، وأن 14 مليون نازح تضرروا بشكل مباشر ما يجعل السودان من أكبر بؤرة الأزمات الإنسانية عالمياً.
وأشارت حنان إلى أنه بحسب التقارير- فإن أبرز الانتهاكات تشمل الإعدامات الميدانية واستخدام العنف الجنسي كسلاح حرب والهجمات على المرافق الصحية والتعليمية.
وأكدت أن تأثير هذه الانتهاكات على المدنيين كارثي إذ تتزايد الوفيات والإعاقات مع غياب الرعاية الصحية وتنتشر الصدمات النفسية نتيجة الاغتصاب الجماعي، إضافة إلى انهيار الخدمات وتفكك المجتمعات بفعل التهجير والنهب والعنف العرقي مما ينذر بدوامة صراع مستمر.
وكان المتحدث باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية يانس لاركيه، ذكر أن اثنين من كل ثلاثة أشخاص يحتاجون إلى المساعدة في السودان، أي 30 مليون شخص، فضلا عن نزوح أكثر من 12 مليون شخص ومعاناة 25 مليوناً من الجوع الحاد واحتياج 40 في المائة من السكان لمساعدات صحية عاجلة.
تعزيز العدالة والمساءلة
ويرى محمد السيسي وهو محامٍ ومدافع عن حقوق الإنسان، أن الوضع في السودان مؤسف نتيجة عقود من الحكم العسكري وتاريخ طويل من النزاعات المسلحة التي حصدت الآلاف من الضحايا، ويبرز الحق في الحياة بوصفه أكثر الحقوق تعرضاً للانتهاك من خلال القتل المباشر والنزوح القسري وحرمان السكان من الخدمات الأساسية مثل العلاج والدواء، إضافة إلى تعطل التعليم وما يسببه ذلك من اتساع دائرة الجهل، كما تتعمق الأزمة عبر القيود المفروضة على حرية الرأي والتعبير والممارسات التمييزية المبنية على الانتماءات القبلية أو الإثنية.
وأكد السيسي في حديثه لـ(التغيير)، أن خطورة هذه الانتهاكات تتطلب من المدافعين عن حقوق الإنسان والمنظمات الحقوقية تكثيف جهود الرصد والتوثيق لضمان عدم الإفلات من العقاب ومحاسبة الجناة والضغط من أجل احترام القوانين والمواثيق الدولية. ويرى أن تعزيز العدالة والمساءلة هو الطريق الوحيد لوقف هذه الانتهاكات ووضع أساس حقيقي لحقوق الإنسان في السودان.
كذلك، يرى الناشط الحقوقي أبو هريرة محمد في حديثه لـ(التغيير)، أن تقييم وضع حقوق الإنسان في السودان بالتزامن مع اليوم العالمي له، أن الصراع ما زال مستمراً ومتوسعاً وواحد من تجلياته أن هناك عنف ضد المدنيين بشكل واسع، ويكفي الإشارة إلى أنه حتى الآن قتل ما لا يقل عن 150 ألف مدني وهذا حسب الإحصاءات المحدودة جدا، إلى جانب وجود إحصائيات تؤشر إلى أرقام أكبر، بالإضافة إلى أزمة نزوح جماعي حيث بلغ عدد اللاجئين خارج السودان 12 مليون نسمة حسب تقديرات “أوتشا”.
وأضاف أبو هريرة، أن من تجليات هذه الأزمة هو النزوح القسري لسكان بعض المناطق التي تشهد عمليات عسكرية، إلى جانب أن هناك انتهاكات جسيمة ترتكب من أطراف الحرب من بينها جرائم الاغتصابات والتعذيب والقتل الجماعي للمدنيين، وانتهاكات ضد القانون الدولي الإنساني بما في ذلك تدمير البنية التحتية للخدمات، إلى جانب تضرر الحريات العامة حيث لا توجد أي صحف ورقية في السودان، إضافة إلى استهداف الصحفيين استهدافاً ممنهجاً على هويتهم الصحفية وهذه كلها آليات لإسقاط الصحافة الحرة.
تراجع كبير
وأحدثت الحرب انهياراً خدمياً في السودان من بينها أنه لا توجد خدمات مصرفية، وبحسب منظمة اليونسيف أن هناك 19 مليون طفل خارج المدارس، بجانب ظهور التداعيات النفسية وسط المدنيين من الفقدان والاختفاء القسري وغيرها من التداعيات التي أحدثتها الحرب مما أدى الى تفاقم وضع حقوق الإنسان في السودان إلى الأسوأ.
وقال الحقوقي عثمان صالح، إن هناك تراجعاً كبيراً نشهده فيما يخص حقوق الإنسان خاصة في دول العالم الثالث التي ما زالت تعاني من مسألة الانتهاكات التي ظلت مستمرة بصورة خاصة في السودان منذ انقلاب الحركة الإسلامية 1989م وحتى الآن مما جعل سجل البلاد غير نظيف بسبب الانتهاكات.
وأشار في حديثه لـ(التغيير)، إلى أن هناك منع فيما يخص وصول المساعدات الإنسانية للمتضررين من الحرب في مناطق الصراع وغيرها من المناطق الأخرى من قبل الأطراف المتقاتلة التي أيضاً استخدمت سلاح التجويع في الحرب، بجانب أن هناك الكثير من الشواهد التي أكدت استخدام الأسلحة المحرمة دولياً والأسلحة الكيميائية بالتحديد منها استخدام غاز “الكلور”.
وأضاف عثمان أنه خلال الحرب فإن سجل البلاد في انتهاكات حقوق الإنسان هو الأسوأ حيث هناك العديد من المنظمات الدولية والوطنية ما زالت تعمل وتوثق لهذه الانتهاكات، وأكد أنه يجب ألا يفلت من العقاب جميع الأطراف المتورطة لأنه لا توجد محاكمات ما لم يكن هناك رصد وتوثيق جيد بمهنية واحترافية لاستخدامه في المحاكمات أو المناصرة أو غيره.