هل السودان ضحيّة إرثهِ الكولونيالي؟

السفير جمال محمد إبراهيم

 

لعلّ ظاهرة الانقلابات العسكرية قد استشرت في أنحاء القارة الأفريقية منذ سنوات تحرّر بلدانها من ربقة الأنظمة الكولونيالية الاستعمارية الغربية، التي ظلّت تتحكّم في أقدارها لسنوات، وفي بعضها لعقود وأكثرها لقرون. ما كان خافياً على دارسي العلوم الإنسانية، من اجتماع وسياسة وأنثروبولوجيا اجتماعية وعلم النفس (جلّ هذه العلوم قد تطوّرت خلال القرون المتأخّرة) أنّ تلك التجربة قد وقف وراءها مفكرون قدّموا تبريراتٍ وأسانيدَ رسّختْ مفاهيم التفاوت أمراً طبيعياً بين البشر.

وبالتالي، ساعدت في استدامة التجربة الاستعمارية الكولونيالية وشرعنت تلك المفاهيم التي قامت عليها تلك التجربة.

كانت عبارة “عبء الرجل الأبيض” التي جاءت في قصيدة شاعر بريطانيا الاستعمارية الشهير، روديارد كيبلينع، هي الصياغة المُعبّرة عن التجربة الكولونيالية بكلِّ حمولاتها، من استعلاءٍ عنصري وإقرارٍ بالتفاوت بين البشر. لكن لو أجلنا النظر في الذي جرى، ويجري، في القارّة السمراء، من انقلابات عسكرية واضطرابات سياسية، لتبين أنّ من غير الحكمة أن تُحمّل تلك التجربة كلّ الأوزار، وكلّ تلك الإخفاقات التي تعيشها القارّة، ويعيشها السودان، الذي كان من بلدانها الأولى، التي استقلّت جنوبيّ صحرائها. أفصح كاتب سوداني حصيف (الباحث في التاريخ حمد النيل عبد القادر) عن التجربة الكولونيالية في السودان: “ثمّة علاقة بين الاستعمار من جهة، والقومية والدولة والسيادة من جهة أخرى. يصعب بناء دولة حديثة على قومية غير محدّدة المعالم، وبالتالي يأتي مفهوم السيادة والوطنية والإحساس بالوطن منقوصاً، لا يحسّ به الأفراد عندما يسلبه منهم المستعمر”. مع الإقـرار بسلبيات التجربة الكولونيالية في السودان، لربما تفسّر تلك العبارة ما حلَّ في السودان من دمار وإهـلاك للإنسان وللحرث وللزرع، بل ولكلّ مقومات الدولة، فهـل يقع وزر ذلك كلّه على المستعمر الكولونيالي القديم وحـده؟
ما وقع في السودان تاريخياً، ووقع أيضاً بدرجاتٍ متفاوتةٍ في بلدان أفريقية عديدة، وربما أيضاً، في بعض بلدان أميركا اللاتينية، وفي قليل من بلدان القارّة الآسـيوية، قد يدفعنـا إلى النظر بموضوعيةٍ لا تدين التجربة الكولونيالية في شمولها رغم مظلومياتها البائنة، ولعلّ عبارة المُفكّر علي مزروعي، في آخر أيامه، “الأفريقي عاجزٌ عن حكم نفسه”، لا تُبرّئ تجربة المستعـمر الكولونيالي، بل تستميلنا لاستصحاب إيجابياتها، لكنّها لا تدفعنا كذلك إلى دمغ قيادات المجموعات السكّانية في مجمل تلك البلدان بالعجز وإدمان فشلها في حكم بلدانها، التي كانت في أسـرِ التجربة الكولونياليـة الاسـتعمارية. ترى هل كان مزروعي صائباً في طرحه ما سمّاها الكولونيالية الحميدة؟… من وجهة نظر كاتب هذه السطور، ثمّة ما يُفسّر جُنوح المُفكّر الأفريقي المُميّز، علي مزروعي، في طرحه ذاك مسترغباً عودة الاستعمار من جديد إلى القارة الأفريقية. في الحقيقة، إنّ التجربة الكولونيالية الاستعمارية اعتمدت مبادئ جاءت من روح شـعار المصريين والسّومريين والإغـريق القدماء؛”فـرّق تَسُـد”، لتفريق الأعداء بغرض السيطرة عليهم. لقد قام أسلوب الحكم الكولونيالي منذ سنوات القرن التاسع عشر على ذلك الشعار الظالم في إدارة مستعمراته، من طريقٍ غير مباشرة، بالاستعانة بالقيادات المحلّية في تلك البلدان، فأضعف بذلك مقوّمات التلاقي والتمازج والتعاون بين مختلف الإثنيات من المجموعات السكّانية. شمل ذلك الأسلوب في إدارة المُستعمِرين عديداً من مُستعمَراتهم في القارّة السمراء، ولم يكن السودان استثناء.

هنالك حـرب شـعواء بين روسيا وأوكرانيـا، وفي السودان وسط القارة السمراء، حربٌ بين السودانيين أنفسهم، وبتحريضٍ من غـرباء مختبئيـن وراء حدود البلاد

بعد انقضاء سـنوات الحرب العـالمية الثانية، ثمّة سـؤالٌ برز إثر ارتفاع صوت المُستعمَرين، يطالبون المُستعمِرين منحَهم حقوق تقرير مصائرهم، فنالت معظم بلدان أفريقيا استقلالها في تلك السنوات الوسيطة من القرن العشرين، فهل جرت تلك التطوّرات بعد مراجعة مُعمّقة وتقييم حقيقي لمجمل التجارب الكولـونيالية الاستعمارية، التي رَسَخَتْ منذ سنوات القرن التاسع عشـر، وما تراجعت إلا تحت ضغوط حقبة ما عرف بالحرب الباردة؟… إذا ألقينا نظرة ثاقبةً، سنرى أنّ الميثاق الذي حوى مبادئ تأسيس هيئة الأمم المتّحدة، وقد كانت بداياته في توافق دول الحلفاء عليه منذ مؤتمر يالطا (1945)، الذي لم تأخذ صياغته سوى نحو شهر، ليكون المُرشد للسلام والأمن الدولييْن ويحمي العالم من الوقوع مرّة ثالثة في حرب عالمية تقع مستقبلاً.

هكذا، وإن انصبَّ التركيز في الميثاق الأممي على ضوابط تجنيب العالم ويلات أيّ حرب قد تقع مستقبلاً، لكنّه لم يتضمّن تدارساً عميقاً بشأن التجربة الكولونيالية ومآلاتها، وإمكانية استدامتها أو إنهائها، فيما بدأت تتضح معالم حقبة الحرب الباردة والتصارع بين قوتين عظميين تسيّدتا المشهد الدولي. غير أنّه وبعد وقت وجيز، بات جلياً أنّ هنالك حاجة للتوصّل إلى توافقٍ جديد يضمن السلام والأمن الدوليين، ولابُدَّ من أن يقوم على مبادي وقـيمٍ أكثر رسوخاً وأعمق تجذّراً. وما كان ذلك ممكناً إلا بالركون إلى أهل الفكر وعقلاء العالم، فـتمّ التوافـق مُجدّداً في عام 1947، على صياغة مواثيق جديدة، تستند أكثر ما تستند إلى القيم الإنسانية جمعاء، باستصحاب الأديان السماوية، من إسـلام ومسـيحـية ويهـوديـة، وعديداً من كريم المعتقدات والمذاهب الفلسفية، والفكر الإنساني الأشمـل. توافـق ممـثلو الأمم المتّحدة على لجنة ترأستها السـيدة إليانور روزفلت، قرينة الرئيس الأميركي الأسبق، وضمّت مشاركين من الشرق والغرب، ومن الأغنياء والفقراء، ومن الشمال والجنوب، جاؤوا ممثلـين بأكثر معايير الضمير البشـري السّويّ اعتماداً. عملت تلك اللجنة نحو عامين كاملين، فخرجت من جهود أعضائها أجمعين، وفي أكتوبر/ تشرين الأول 1948، شرعة حقوق البشـر، المعروفة بـ”الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”.

بات الميثاق الأممي عرضة للاستخفاف والتجاهل، لعجزه عن احتواء الصراعات والنزاعات والحروب، ثم صار أمراً يثير الشفقة لا السخرية. قدرات البشر في التعقل والـرشد محدودة، وقد يطاولها الباطل من تحتها أو من فوقها، وقد يتطلّب أمر المُستجدّات أن يلحق بالميثاق الأممي تعديل أو إضافات. من تداعيات قصر النظر التاريخي تلك الحروب، التي تدور رحاها في عقود الألفية الثالـثة الماثلة. في تخوم آسيا وأوربا، هنالك حـرب شـعواء بين روسيا وأوكرانيـا، وفي السودان وسط القارة السمراء، حربٌ بين السودانيين أنفسهم، وبتحريضٍ من غـرباء مختبئيـن وراء حدود البلاد، ما جعل تلك الحـرب أشبه بالحرب الأهلية الإقليمية في حزام السودان القديم. أمّا في قطاع غزّة فإنّ بني صهيون يسـومون الفلسطينيين دماراً شاملاً، بل هو “هولوكوست” مضاعف عشر مرات من ذلك الذي أذاقه النازي هتلر لليهود.

طوى الاستعمار صفحاته تاركاً معظم بلدان القارّة الأفريقية ترزح تحت عبء ثقيل لملفّ من قبائل متنافرة وإثنياتٍ وطوائفَ مُوزّعة بين بلدان عديدة

من ويلات الكولونيالية في اتّباعها أساليب حكمٍ بإدارة محلّية غير مباشـرة أنْ طوت صفحات استعمارها خلال سنوات الحرب الباردة، تاركة معظم بلدان القارّة الأفريقية ترزح تحت عبء ثقيل لملف من قبائل متنافرة، وإثنيات وطوائف موزّعة بين بلدان أفريقية عديدة، رُسِمَتْ حدودها بمطامع وتوافقات سـياسية جزافية بين قوى استعمارية غريبة على القارة. السودان ليس استثناء. لك أن تنظر لترى سودان القرن العشرين بعد استقلاله وقد واجه إرثاً كولونيالياً مأزوماً لن يكتب للسودانيين، مهما أوتوا من مقدّرات، تجاوز تداعياته السالبة. غادر المُستعمِرُ وقد خلّف وراءه للسودان مشكلةً حدوديةً مع مصر، في مثلث حلايب وشلاتين، وأزمة حدودية ثانية في منطقة الفشقة مع إثيوبيا، وأزمة ثالثة مع ليبيا وتشاد، حول مثلث المسارا الحدودي، ورابعة حول مثلث أليمي عند الحدود مع كينيا، وترك مثلثا آخر خامدا مع الكونغو، تتقاسمه قبيلة الزاندي، حيث ثلثان هنا وثلث هناك. بعد استقلال جنوب السودان ارتحلت الأزمتان الحدوديتان الأخيرتان من السودان إلى دولة جنوب السودان. من أقدار السودان، أن تشتعل حروبه الداخلية لأسباب تتصّل بهذا الإرث الثقيل من المشكلات الحدودية، في شرقه وغربه وجنوبه. أمّا شماله فبقي سليماً بحكم التواصل الأعمق بين مصر، وإن ظلّ الخلاف قائماً حول حلايب وشلاتين ولم يُحسم بعد، إذ نرى شكوى الســودان في أضابير الأمم المتحدة، تجدّد كلّ دورة منذ عام 1958.

الدعوة الناصحة للسودانيين هي في إعمالهم النظر مليّاً في تاريخ بلادهم، وفي تاريخ وجغرافيا القارّة السمراء ككلّ، حتّى يُتاح لهم إدراك أبعاد الإرث الثقيل الذي خلّفه الاستعمار الكولونيالي فيها، والالتفـات إلى نعمة التنوّع، إن كتب لهم التشارك الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لاستثمارها. وليس من المفيد إلقاء اللوم بكامله على تلك التجارب الاستعمارية المريرة أو تحميل أوزار الفشل والحروب الماثلة لأطراف أخرى، ولكن لهم أن يستكشفوا أبعاد ذلك التنوّع الذي حظي به السودان، ليروا نعمة الأخوّة الإنسانية فيما بينهم، ويلتفتوا بصادق النيات لطيّ جراحات الماضي المُثقل بالصراعات والخلافات والمنافسات، وأن تتلاقى العقـول قبل الأيدي، لتخططّ وتبني إطارا لأمّة، في بلـدٍ هو أوّل من نال استقلاله جنوب حزام الصحراء الأفريقية، وهو من المؤسّسين لمنظمة الوحدة الأفريقية، ومن صاغوا مواثيقها، وقد صارت الآن منظـّمة الإتحاد الأفريقي. للسودان دور لن يتولّاه غيره من بلدان القارة، فهو الصدر ولا ينبغي أن يتذيّل دول القارة السّمراء، وهو الثري بموارده ولا ينبغي أن يكون أفقـرها، وهو الناجح بعبقرية موقعه لا أن يكون أكثرها إدماناً للانقلابات وللفشل السياسي.جمال محمد إبراهيم
كاتب سوداني وسفير سابق

الوسومافريقيا الانقالابات العسكرية في السودان الحرب السودان المستعمر جمال محمد إبراهيم

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: افريقيا الحرب السودان المستعمر جمال محمد إبراهيم

إقرأ أيضاً:

الزبير باشا رحمة وإمبراطورية الرقّ

masarebart2019@gmail.com

زياد مبارك | كاتب وناشر سوداني

الزبير باشا رحمة، الشخصية الأكثر إثارة للجدل في تاريخ السودان، لصلته بالرقّ الذي تعرّضت له الشعوب السودانية، وأدى لشروخ عميقة في تحوّل الدولة السودانية للقومية، ولعدم قبول التعدّد الاثني والثقافي في فترة ما بعد الاستعمار الممتدة إلى اليوم، وللجوء المفكرين في طروحاتهم المتعلقة بمناقشة أزمات الهوية والحكم والسلطة في السودان إلى مسألة الرقّ، أمثال د. أبكر آدم إسماعيل في (جدلية المركز والهامش)، الذي وصل به الأمر لتتبع الرقّ منذ صدر الإسلام، ومروراً بالنظام الاجتماعي العباسي الذي أُدغمت فيه جموع الموالي من الروم والفرس والأكراد والنوبة والأحباش... إلخ. وإلى الحد الذي يربط فيه المفكر د. النور حمد إشكالات الدولة الحديثة بالرعوية والمدنية على أساس قبلي، كما كان يفعل ابن خلدون قبل قرون!

هذا المنهج التحليلي للحالة السودانية استدعاه التقسيم الذي أفرزته سنوات الرقّ في السودان –كأرض وُضع نظامها المدني بعد احتلال الخديوي محمد علي باشا وأبنائه لها لجلب العبيد– التي أشاعت في الثقافة العامّة أن الناس، باختلاف قبائلهم: إمّا مُسترِقون أو مُسترَقون، (بكسر الراء، وفتحها). ونشأت الحركات التي تتسمى بالتحرير، ولا تعني تحرير الأرض والاستقلال بها عن الدولة، ولكن تحرير إنسانها من التصنيف السالف، وإشراكه في النظام الاجتماعي كفاعل، ولا يعدّ اقتسام السلطة والثروة إلا مظهراً لهذا الترفيع.

وفي ذات الآن الذي لا يجادل فيه أحد؛ في استخدام الزبير باشا رحمة للعبيد في جيش البازنقر الذي كوّنه، يحتدُّ الجدل حول دوره في ممارسة تجارة الرقيق. وانقسم الناس والمؤرخون إلى فسطاطي التأكيد أو الإنكار.

وذلك لأن الزبير باشا لم يكن تاجراً وحسب بحيث يُحسم الأمر بمعرفة أصناف بضاعته. ولكنه بدأ تاجراً مغامراً بجنوب السودان، وأضحى قائداً عسكرياً بارعاً في التخطيط، ولا يُهزم في معركة، واحتلّ أرض دارفور الشاسعة التي عجز جيش الخديوية عن احتلالها، وتوغل في الداخل التشادي ليربك ترسيم القوتين البريطانية والفرنسية لحدود نفوذهما، وهزم حملة عسكرية تتبع لحكمدار الخرطوم فكافأته الحكومة برتبة عسكرية والتشريف بلقب البك وأقطعته مديرية بحر الغزال التي شُكلت خصيصاً له، وأمدّته بأُرط الجهادية والباشبوزق والمدافع الحديثة في حروبه على قبائل كردفان ودارفور، وتناولت الصحافة الأوروبية شخصه كأكبر تاجر للرقيق في أفريقيا، ونُفي إلى مصر لتغرب شمسه في القاهرة لسنوات طويلة، ويُسمح له بالرجوع في أيامه الأخيرة، ليُدفن في موطنه. فهو أثار الجدل في حياته، وما زال الجدل حوله قائماً.

فهل مارس الزبير باشا تجارة الرقيق؟
____________________________

الإجابة المباشرة على وجهين: ما قاله بنفسه في حواريه مع المؤرخ اللبناني نعوم شقير بالقاهرة، وما قاله للصحفية البريطانية فلورا شو بجبل طارق: إنه ليس بتاجر رقيق، وأن ما يُنشر عنه بالصحافة الأوروبية كذب محض. هذا كلامه، والإجابة الأكثر مباشرة هي سيرته نفسها، التي ذكرها بنفسه للمذكورين والمعروفة عنه، أما شهادة المرء لنفسه فمجروحة بلا خلاف.

ولكن قبل أن أقطع برأي في مسألة دوره في استرقاق أبناء القبائل السودانية، تجدر الإشارة لشخصية الزبير من حيث الوطنية، والأهداف التي تحكم تصويبه لبنادق فرقته المسلّحة. وذلك للاعتقاد الشائع بأن الزبير انتهى دوره الحربي والسياسي بعد نفيه إلى القاهرة، بأمر الخديوي إسماعيل، وأخذ الأمر كدلالة على أنه شخصية وطنية، لذا تمّ إقصاؤه عن المشهد والفاعلية.

غير أن الزبير باشا ظل مؤثراً في القاهرة إلى حد بعيد، أكثر مما يتاح لأي منفي آخر في ذلك العصر. ولم يكن الهدف من نفيه اغتيال شخصه كمؤثر في الوضع السوداني، بل هو ورقة استخدمتها القوى الاستعمارية كثيراً. بحيث لا يمكن مقارنته بما حدث لأحمد عرابي بعد عودته من منفاه في الهند لينطوي أمام التقريع الذي استقبله به الشعب المصري، بعد أن كانت ثورته ثورة وطنية عظيمة ومنتصرة للجنود المصريين الذين يعاملهم عناصر القيادة في الجيش من الشراكسة والأتراك ومرتزقة شرق أوروبا معاملة الفلاحين، قد لا تكون المقارنة بين الزبير باشا وأحمد عرابي ضرورية، أمام الجولات التي حدثت في ميادين الحرب والسياسة، للزبير في منفاه، وهي:

(1) استعانة الخديوي إسماعيل باشا بالزبير باشا، لمرافقة ابنه حسن باشا قائد حملة النجدة المتوجهة –والزبير صديق لحسن جمعتهما محبة الخيول وتوسط له عند أبيه لإرجاعه إلى السودان- لدعم الجيش العثماني المتراجع أمام الروس والقوات السلافية في البلقان، في الحرب التركية الروسية. وشارك في معركة صارى نصوحلر -في صربيا بعد عبور البر البلغاري- التي واجهت فيها الحملة المصرية والجيش العثماني، الصرب والروس بقيادة البرنس ألكسندر ولي عهد القيصر الروسي، وفتحت أبواب المدينة وراء استحكامات الدفاع، بتخطيط من الزبير باشا نفذه بوحدته من الجنود البازنقر المكوّنة من 4000 جندي. وانتهت جولاته في البلقان بعد تعرضّه للمرض بسبب مناخ الثلوج الأوروبية، فتم إجلاؤه وهو في طريقه إلى حامية بلفنة البلغارية -لفكّ الحصار عن الغازي عثمان باشا صاحب المعارك الشهيرة في البلقان- فلم يشهد معركتها، وعبر مرفأ فارنة على البحر الأسود إلى مشفى بالعاصمة العثمانية إستانبول، يطل على البسفور، ليكافئه السلطان العثماني برتبة الفريق وتكريمه بالنيشان المجيدي، وكان حينها لواء بالجيش المصري وحاصلاً على النيشان المجيدي من الرتبة الثانية.

(2) عندما نشبت الثورة المهدية في السودانية، نوقش اقتراح بعث الزبير باشا إلى السودان، باعتبار أنه القائد الوحيد الذي تتوفر فيه القدرة على إخماد الثورة بعد انتصاراتها وتمددها الصاعق. إشكالان أديا لعدم تنفيذ هذا البعث: خلاف الزبير مع غردون بسبب إعدام غردون لابنه سليمان بواسطة المرتزق الإيطالي روميل جيسي، ومصادرته لكل أموال الزبير وعقاراته بعد محاكمة غيابية. والإشكال الثاني هو اعتراض الدوائر المؤثرة في بريطانيا على استخدام أشهر تاجر للرقيق في السيطرة على ثورة المهدية بالسودان، لأن المناخ العالمي بعد مؤتمر بروكسل لمنع تجارة الرقيق، لم يكن يسمح بذلك. ونوقش هذا الاقتراح في القاهرة مع الزبير باشا.

ثم؛ ألا يدفعنا ذلك للنظر في المفارقة بين الموقف من الزبير، واستخدام محمد أبو السعود النخّاس الشهير، وصهر العقاد صاحب الوكالة الأكبر بجنوب السودان، في المواجهة الأولى مع المهدي بالجزيرة أبا، حيث عيّنه الحكمدار محمد رؤوف باشا على رأس الحملة لإخماد ثورة المهدي في مهدها، ثم اُستعين به في معركة شيكان تحت إمرة هكس باشا. ولكن أبا السعود غير معروف مثل الزبير الذي فتح الطريق للوكالات لتنقل بضائعها في مساحات آمنة، لم تكن لتطرق مع قطاع الطرق الذين ينهبون القوافل لولا أن حسم الزبير هذه العصابات، بحسم القبائل التي ينتمون إليها رأساً. واكتفى المارّون بإبراز تصاريح الزبير باشا ليمرّوا بسلام إلى زرائب الخرطوم المعروفة بالديوم. ومنها إلى الأسواق العالمية.

(3) مع تمدّد سطوة عثمان دقنة في شرق السودان، صدرت الأوامر للزبير باشا في القاهرة بالتوجه مع فرقته لدعم المجهود الحربي الاستعماري في شرق السودان، بالتوغل عبر ميناء سواكن إلى طوكر لفتح الطريق إلى بربر، ومنها فتح الطريق إلى الخرطوم. ولكنه رجع من السويس بعد أن اكتشف أنه سيعمل تحت إمرة القائد الإنجليزي الجنرال فالنتاين بيكر، الشقيق الأصغر لصمويل بيكر، وهو ما رفضه بصورة قاطعة، فغادر جيشه إلى شرق السودان ليمنى بهزيمة ساحقة في معركة كسر المربع الإنجليزي الشهيرة.

يطرح ما سبق السؤال ما إذا كان الزبير باشا شخصية وطنية، أم قائداً عسكرياً استخدمته القوى الاستعمارية في ذلك العصر. والحاجة للنظر والتوقف عند السؤال ما يُساق بجانب سيرته من أنه حُورب وأُبعد لمبادئه الإسلامية، وسعي القوى الاستعمارية لإبعاده من جنوب السودان بالعمق الأفريقي الوثني، ليتسنى لها التبشير بالمسيحية وتنصير السكان المحليين. السُكان الذين صعد الزبير على صيدهم وقنصهم، وتشييد إمبراطورية من التجارة بهم بيعاً وشراءً!

وكتب بعض الباحثين كتابات متهافتة تغبش الحقائق، وما ذلك إلا ليؤطروا شخصية الزبير باشا في إطارات افتراضية لا تصمد أمام البحث بلغة تماثل لغة التمنّي وأحلام اليقظة، لا المناهج البحثية المضبوطة؛ مثل دراسة د. أحمد عبد الله محمد آدم، المنشورة في مجلة الجزيرة للعلوم التربوية والإنسانية المحكّمة، مجلد 7، عدد 2، 2010.

ومن عبارات البحث العاطفية المطلقة في الهواء، كأي عبارات مرسلة بلا قيمة: (إن وجود الزبير في بحر الغزال مثّل بداية دخول الإسلام واللغة العربية وثقافتهما إليها)، والغريب أن الزبير انطلق من المنطقة الوثنية ليسقط سلطنة الفور الإسلامية، دون أن يذكر الباحث جهود الزبير لنشر الإسلام والعربية في بحر الغزال، إلا أن كان دخول الزبير أرضاً ما؛ هو دخول الإسلام ذاته!

ودون أن يذكر هدف الزبير من إسقاط سلطنة الفور، وهو فتح الطريق البرّي أمام قوافل الرقيق لأول مرة بعد أن كان الطريق الوحيد المتاح أمام التجار الجلّابة هو الإبحار في النيل الأبيض من الخرطوم إلى مشرع الرقّ بالجنوب، وبالعكس.

والعبارة: (محاولات الزبير لإزالة الفوارق الاجتماعية بين سكان شمال وجنوب السودان عبر المصاهرة التي كان يشجع جنوده وقادته عليها، وهو الأمر الذي قاد في النهاية لنشر الإسلام في تلك المنطقة). وفي أبحاث كهذه سيجد القارئ ذكر الإسلام كل عدة أسطر، كأن الزبير عاش كمحدّث أو فقيه أو داعية من دعاة الإسلام! غير أن الهراء السابق لا يمكن حمله على محمل الجدّ؛ لأن الزبير كوّن جيشه بمصاهرة السلطان تكما ملك النيام نيام (الزاندي)، وزواجه من ابنته رانبوه، ومن ثم اشترى منه 500 من أبناء الزاندي كانوا نواة جيشه الذي بلغ تعداده 12000 جندي مدرّب، ومسلّح ببنادق الرمنتغون الحديثة.

ويكفي في البحث المعنوّن بـ (الزبير باشا رحمة وافتراءات تجارة الرقيق)، لجوئه لتفنيد مزاعم عمل الزبير باشا في تجارة الرقيق –حسب تعبيره– إلى كلام الزبير عن نفسه ليستشهد به في تفنيد المزاعم المزعومة! هذا الخطأ المنهجي والمنطقي لوحده يكفي لطرح البحث ليُقرأ كما تُقرأ مجلات ماجد وميكي!

فهل كان الزبير باشا رحمة تاجراً للرقيق؟
_______________________________

بالتأكيد هو تاجر رقيق، وبنى إمبراطورية تجارية وعسكرية من ثرائه الفاحش العائد من تجارة الرقيق. ألم يقل في حواراته إنه كوّن رأس ماله الابتدائي، أوائل أيامه في الجنوب، بشراكته مع الجلّاب المصري أبو عموري؟ فيم كان يعمل أبو عموري؟ بالتأكيد ليس في نشر الإسلام واللغة العربية وثقافتهما!

ومن يتأمل في الخريطة ويحدّد المنطقة التي عمل فيها في بداياته مع أبي عموري، يلاحظ أن الزبير باشا توغل بعيداً عن وكالات الجلابة في اتجاهه إلى بحر الغزال، ليشيد مدينته ديم الزبير على الحدود الجنوبية الغربية للسودان، كأكبر سوق للعاج والرقيق والجلود والصمغ وغير ذلك، مما اضطره لعقد التحالفات مع الرزيقات لفتح الطريق البري، ولما قطعوا طريقه طاردهم في كردفان إلى أن وصل دارفور وأسقط عاصمتها الفاشر بعد حروب انتهت بمعركة منواشي. ودعمته الحكومة الخديوية بجيش على رأسه حكمدار السودان إسماعيل باشا أيوب. لأن الدولة الخديوية كانت ترتزق بهذه التجارة، بل هي السبب الذي لأجله احتلت السودان. وسمحت لأكثر من 5000 جلّاب من المصريين والمغاربة والأوربيين والأمريكيين بممارسة أنشطتهم، فانتشرت بالجنوب وكالات النخّاسين وزرائب العبيد.

إذن لماذا ظلّ الزبير باشا ينكر:
عمله في تجارة الرقيق بحواراته؟
___________________________

من الطبيعي أن ينكر، فحتى الحكومة المصرية كانت تنكر بينما تشجع أصحاب الوكالات في الخفاء، فبعد مؤتمر بروكسل بدأت الدول الاستعمارية باحتلال الدول الأفريقية تحت دعوى مكافحة تجارة الرقيق، وطاردت النخّاسين لتحرير العبيد من أيديهم، واستخدمتهم لصالحها سُخرة كما فعل غردون في جنوب السودان. لذا من الطبيعي أن ينكر بعد خروجه من مجاهل أفريقيا إلى أنوار الصحافة العالمية، ومن الطبيعي أن يقول في حواره مع فلورا شو إن مكافحة الرقيق غير ممكنة طالما كانت أسواق إستانبول والقاهرة تطلبانه.

وإذا كان الخديوي محمد على باشا قد أرسل ابنه إسماعيل باشا لاحتلال السودان وجلب الذهب والعبيد، فقد قال الزبير باشا لنعوم شقير ما وثّقه في تاريخه: (لمّا حضر إسماعيل باشا الى السودان فاتحاً استقبله أعياننا بالترحاب وعاهدوه على الولاء، وفي جملتهم المرحوم أبي رحمة وأخوه الفيل، فحفظوا العهد إلى أن توفاهم الله وقمنا نحن فسرنا على مثالهم في الطاعة والولاء وما زلنا كذلك). ويصرّح في رسائله لإبراهيم سلطان دارفور: (أمّا بعد، فنحن عبيد أفندينا وليّ النعم خديوي مصر المعظّم...). ويشارك ابنه ميسرة في إسقاط حاميات المهدية، لتنجح حملة كتشنر التي ابتدأ منها الاستعمار الإنجليزي للسودان.

فالجدال حول الزبير باشا رحمة ودوره في تجارة الرقيق محسوم بموقعه في ذلك العصر، بجانب الغزاة، ومراكز الجلّابة الاقتصادية، ووكالات الزرائب، ومسعّري الحروب، ومطايا الاستعمار.  

مقالات مشابهة

  • ???? لا بديل للعلمانية إلا التقسيم !
  • الوصفة السرية لخداع «كيرف» إجادة!
  • إدارتا هيروشيما وناغازاكي تحتجان على اختبار حالة الرؤوس الحربية النووية الأمريكية
  • رواندا جديدة في السودان !
  • الزبير باشا رحمة وإمبراطورية الرقّ
  • إرثه باق في أنفيلد.. كلوب يودع ليفربول بكلمات مؤثرة
  • لمصلحة من تجاهل الصراع في السودان؟!
  • في إشكالية الديمقراطية الكويتية
  • بينها بلدان عربيان.. 20 دولة شبابها أكثر تعاسة من مسنّيها
  • الفقرة (3)!!