إذا اعتاد الفتى خوض المنايا فأهون ما يمر به الوحول
قال المتخصص في التاريخ الأوروبي بجامعة ميسوري جوناثان سبيربر، خلال أيام ثورة 2019، إنه بدا له السودان حالة استثنائية. فبينما يرتكب العالم طريق الحكم الأوتوقراطي على أيامنا نجدهم يسيرون عكس التيار يرفعون للديمقراطية راية. وهذا ما قد يزكي بقوة ما تعقده دوائر عالمية وإقليمية على صفوة السودانيين أن ينهضوا لإنهاء الحرب بحل سوداني- سوداني.


تعلق قلب السودان بالديمقراطية عبر نضال مدني وللمرة الثالثة بثورة 2019 في وقت تغشاها الدواهي حتى في بلاد نذرت نفسها لنشرها على العالمين، فأميركا نفسها ممحونة في ديمقراطيتها التي تبدو في مهب الريح. وليست هذه المحنة بسبب مخاطرة دونالد ترمب فيها كما قد يتبادر إلى الذهن. وهذا ما لفت الانتباه إليه المؤرخ والمحرر في صحيفة “واشنطن بوست” روبرت كاغان في كتاب عنوانه “الانتفاضة: كيف يمزق عداء الليبرالية أميركا إرباً”. ففي رأي كاغان أنه على زعم أميركا الليبرالية إلا أنه خالط هذه الليبرالية، التي تكثر الكتابات عنها، أبداً تيار غير ليبرالي لا تتناوله الأقلام بكثرة ما تتناول التيار الليبرالي. وقال إن من وراء هذا التيار تقاليد ونظرات وعقائد على خصومة مستقيمة مع النظام الليبرالي العلماني الذي اتفق عليه لأميركا في دستورها في 1787. ويقف هذا التيار غير الليبرالي من فوق أرضية مسيحية وبيضاء. فالأميركيون الحقيقيون عندهم هم الـ75 مليون الذين صوتوا لترمب في الانتخابات الأخيرة وما عداهم باطل وقبض ريح. وقال كاغان إن كثيرين من حملة هذه الفكرة ينسون أن من جاؤوا من جدودهم لأميركا مثل الكاثوليك والإيرلنديون كانوا في عداد غير الأميركيين في يوم غير هذا. وفي قول منظرين لهذا التيار إن أميركا ليست تجربة ثورية بسبب الثورة الأميركية وإعلان الاستقلال (1776) بل لأنهم ورثة ثورة الإنجيل التي بدأت بتكوين إسرائيل في الأزل. ففصل الدين عن الدولة عندهم هراء.
وشغل الناس عن مكمن هذا التقليد غير الليبرالي تلاحق التطورات السياسة والاجتماعية منذ الحرب العالمية الثانية التي مكنت الليبرالية مثل حق الإجهاض (1973) وإنهاء التفرقة العنصرية في المدارس (1954) وغيرها. ولم يستسلم التقليد غير الليبرالي وقاتل بالظفر والناب ضد تلك المكاسب الليبرالية فيما عرف بالحروب الثقافية الأميركية. ففي حين ألغت المحكمة العليا التفرقة العنصرية في المدارس في 1965 تمرد حتى الكونغرس عليها، ودعا الولايات ألا تمتثل لقرار المحكمة، وأن تبقي التفرقة على حالها. بل نشر الكونغرس ما عرف بـ”البيان الجنوبي” الذي استنكر تغول المحكمة العليا على سلطات الكونغرس والولايات بالتشريع في ما لا اختصاص لها فيه.
والمشاهد أن هذا التيار يكسب في ظرفنا الحالي أرضاً بعد أرض. فصابر طويلاً حتى جاء بقضاة للمحكمة العليا في رئاسة ترمب غلبوا وألغوا الحكم به المعروف بـ”رو ضد ويد” الذي أذن للنساء بالإجهاض. ومنعاً للمبالغة في دور ترمب في هذه الانعطافة غير الليبرالية القائمة صح أن نعرف أنه لم يكن في ماضيه من خصوم حق الإجهاض، ولكن واتته الريح فاعتلاها.
وبدا من فكر صفوة السودانيين وأدائها أنها ربما دون مهمة استنقاذ وطنها بنفسها. فما اندلعت الحرب حتى اختلت أطرافها بعضها بعضاً بعيداً من ميدانها تصفي ثأراتها التاريخية. فأخرج الإسلاميون في أول أسبوع للحرب قوائم لخصومهم في قوى “الحرية والتغيير” ممن تتهمهم بتخريب الوطن وخيانته. ولم تتأخر “قحت” فأذاعت أن الإسلاميين، الفلول، هم من أشعلوا الحرب وجروا الجيش إليها وأنفه راغم. ولم يكترثوا لحقيقة أنهم بمثل ذلك الحكم جعلوا قوات “الدعم السريع” في طرف الحرب العادلة أرادوا أو لم يريدوا. فتقاطعت هذه الصفوة وتدابرت حتى صارت الحرب، التي يريد المشفقون على السودان أن تتناصر صفوتها لحل سوداني- سوداني، سانحة لكل طرف ليقضي على خصمه قضاء مبرماً.
وعلى رغم مطلب “قحت” بوقف الحرب فإنها تتمسك بإزالة الفلول من وجه البسيطة. فيخلص كاتب في خبرة فتحي الضو إلى أن حربنا عبثية خلافاً لحروب سماها “نظيفة” صدقت فيها كلمة كارل فون كلاوزفتير الشهيرة من أن الحرب هي السياسة بوسائل أخرى. فحربنا، خلافاً لذلك، لا منطق لها “لا أسباب لها، ولا دوافع، ولا ذرائع”. ولكنه سرعان ما وجد فتحي لها سبباً بغير “جهد خارق” كما قال. وهي أنها حرب الفلول الإسلاميين لاستعادة “فردوس الدولة المفقود”. وعليه فهو هو لا يرى حلاً سودانياً- سودانياً مما تزكيه دوائر كثيرة. فحله في الاستمرار في الحرب حتى نرى جثة الفلول طافية عند مصب النهر. فلن يهدأ السودان، في رأيه، إلا بـ”التعامل المناسب مع هذه الفئة الباغية”. وهو الحرب ضدهم حتى يفيقوا صاغرين من وهم استعادة دولتهم.
أما أوهن ما تكون الصفوة فهي حين تواقع سياستها وحربها ودولتها على أوضاع بلاد أخرى طلباً للحكمة من المقارنة. فالصفوة في حالة تشرد في طلب المقارنة الذي ينتظر منه المرء كشفاً ينتفع منه فطانة في الإحاطة بأحواله لإحسان إدارتها وتدبير المخارج منه. فيتوقع المرء، وقد تدامجت الجريمة مع السياسة في حربنا، أن تطلب الصفوة العلم بما ألم بنا من أميركا اللاتينية. فتغلبت فيها العصابات الإجرامية، التي ترعرعت في محاضن الأحزاب فيها، على السياسة ونازعت في الدولة حتى قضت عليها في مثل هايتي وصارت إلى سدتها.
وحفلت أخبار أميركا اللاتينية في الأسابيع الماضية بوقائع عن شوكة العصابات فيها وانعكاساتها على نظمها الديمقراطية مما صح الاطلاع عليه لصفوة تمتحن الحرب دولتها أن تكون أو لا تكون متى غلبت “الدعم السريع” فيها.
* أعلنت عصابة “عصبة الخليج”، التي تسيطر على 11 بلدية من بلديات كولومبيا الـ32 في شمال غربي البلاد، الإضراب في مناطق نفوذها منذ صباح الخامس إلى التاسع من مايو (أيار) الجاري؛ احتجاجاً على ترحيل الحكومة لدايرو أنطونيو يوساقا، زعيمها، إلى الولايات المتحدة لمحاكمته. وهو إضراب “تحت السلاح” بمعنى أن العصبة هي التي حملت الناس عليه حملاً. فأمرت الناس بالبقاء في بيوتهم وإلا قتلوا، وأغلقت المحلات التجارية، وقفلت الطرق، وقطعت المواصلات.
وترتب على ذلك نقص في الثمرات: في الطعام والغاز. وعانت المستشفيات نقصاً في العاملين بها. ووقعت خلال الإضراب 309 حوادث عنف، وإغلاق 26 شارعاً، وإتلاف 118 عربة. وقال أحدهم إن “عصبة الخليج” تريهم أنها من يملك الشوكة للإرعاب، وأنها السلطة لا الحكومة. وبالفعل وقفت الدولة مكتوفة الأيدي لم تسعف المواطنين في أيام رعبهم.
* ووقفنا بالتقارير الواردة عن انتخابات المكسيك الوشيكة على مدى سلطان كارتيلات المخدرات، وثيقة الصلة بالدوائر السياسة أبداً، على زمامها. فتريد العصابات من الانتخابات وضع الساسة من أصدقائها في الوظيفة السياسة المحلية والقومية. فحولت الانتخابات إلى ميدان حربي بمعنى الكلمة. فأخذت في ترويع حملات غير أصدقائها الانتخابية، واغتيال بعضهم. فقتلت 24 مرشحاً، واضطر 200 منهم للانسحاب من الانتخابات هلعاً، وطلب 400 منهم الحماية من الدولة.
وعرضت التقارير لضروب الحماية لمرشح مناهض للكارتيلات فركب خلال حملاته الانتخابية سيارة واقية من الرصاص، وحوله حراس مفتولو العضلات، وتتبعه ناقلة عليها جند من الحرس الوطني. حتى إنه قال غير مصدق إن كانت تلك هيئة من يريد أن يترشح ليمثل المواطنين في مجلس الشيوخ. فحياة مثله في خطر في كل دقيقة. واضطر هذا المرشح للابتعاد عن عائلته غير الحديث إليهم بالتليفون:
– بابا، لقد صليت من أجلك (طفله البالغ سبع سنوات)
– 30 يوماً وتعود لنا (طفله ذو التسع سنوات مبتسماً أمام كاميرا الهاتف) أتمنى أن تفوز في الانتخابات. وقال المرشح: ما دل أولادي. وتهدج صوته وأخذ شربة كبيرة من الماء.
* وصح من قال إن عصابات الجريمة المنظمة تضع الديمقراطية في أميركا اللاتينية على جرف هار. وبدا من الناس الاستعداد بالتضحية بقدر منها من أجل الأمان. فحصل دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور، في استفتاء في الـ22 من أبريل (نيسان) الماضي على تفويض باستخدام أدوات ربما ليست ديمقراطية في حرفها لملاحقة العصابات التي ضرجت البلد بالعنف في السنوات الأخيرة.
ومن ذلك أن الاستفتاء فوضه لاستخدام الجيش في ضبط الأمن الداخلي. وتجري المقارنة هنا بينه وبين نايب بوكيلي، رئيس السلفادور، الذي أسرف في تدابير الأمن في مواجهة هذه العصابات ليخرج كثيراً من أعراف الديمقراطية. وكانت حملته إلى الرئاسة ثمرة غضبة مضرية شعبية على تفشي الجريمة المروعة، وفساد الأحزاب التقليدية، وركاكتها.
ونجح بوكيلي في خفض الجريمة بصورة ملموسة بإجراءات غليظة لم يعتبر فيها حد الديمقراطية. بل واستعان بعصابات بشعة في حلف سري ليصل للغاية. وسمى نفسه المستبد الرائق. ولذا قيل عن نوبوا، الذي لم يسلم من نقد من منظمات مدنية لما رأوا منه خرقاً لحقوق الإنسان، إنه لا يزال يترسم الديمقراطية. وزكوا نموذجه الذي يقدمه للمنطقة بضبط العصابات بغير التضحية بقيم الديمقراطية في حربه لها.
يقال تبتلي الأشياء الرديئة الناس الجيدين. والحرب في السودان هي رداءة وقعت على شعب استثناء طلب الديمقراطية وهي على شفا حفرة حتى في مظانها الأولى. وخاض المنايا لها ولكن صفوته لم تقم بالهين من الأمر وهو خوض الوحول للغاية. ومع أنه لا يأس من أن تفيق صفوته للحل السوداني-سوداني الذي يعلقه على عاتقهم حسنو الظن فيهم إلا أننا نحتاج إلى العالم لا نزال لوقف الحرب بسبل لم تقع له بعد. وتلك قصة أخرى.

عبد الله علي إبراهيم

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: هذا التیار

إقرأ أيضاً:

عائلة كابيلا.. بين الثورة والاستبداد بالكونغو الديمقراطية

لعب لوران ديزيريه كابيلا دورا بارزا في تاريخ جمهورية الكونغو الديمقراطية -التي كانت تعرف سابقا باسم زائير- باعتباره أحد أشرس المعارضين للرئيس موبوتو سيسي سيكو الذي حكم البلاد بأسلوب استبدادي منذ استيلائه على السلطة عام 1965 وحتى 1997.

كان موبوتو يسيطر على ثروات البلاد من مناجم الذهب والفضة والمعادن النفيسة، وأطلق على بلاده اسم "زائير" مؤسسا لنظام استبدادي استغل خلاله موارد الدولة لخدمة حكمه وثرائه الشخصي، في حين ظل معظم الشعب يعيش في فقر مدقع.

بدأ كابيلا نشاطه السياسي منذ أوائل الستينيات رافعا شعارات تتعلق بالعدالة الاجتماعية والديمقراطية، وجذب خلفه قطاعات واسعة من الشعب الغاضب من حكم موبوتو الذي وصف بالفاسد.

لكنه لم يخض حربا مسلحة منظمة ضده إلا في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، خاصة بعد تدهور الأوضاع في المنطقة إثر حرب رواندا (1994) التي أدت إلى نزوح ملايين اللاجئين إلى شرق الكونغو، مما زاد تعقيد الصراعات الإقليمية والداخلية.

قاد كابيلا حركة مسلحة ضمن تحالف أوسع يسمى "تحالف قوى التحرير الديمقراطي" بدعم من رواندا وأوغندا، والتي كانت تسعى إلى إطاحة موبوتو بسبب مخاوف أمنية وسياسية.

إعلان

في عام 1997 نجح هذا التحالف في الإطاحة بموبوتو الذي فر إلى توغو ثم إلى المغرب حيث توفي بعد فترة قصيرة من المرض.

أعاد كابيلا تسمية البلاد بجمهورية الكونغو الديمقراطية وتولى رئاستها.

لكن حكم كابيلا لم يكن خاليا من الجدل، إذ اتُهم بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان شملت إعدامات خارج نطاق القضاء، وقمع المعارضين، بالإضافة إلى إلغاء بعض المواد الدستورية التي تحمي الحريات السياسية.

كما أثار تعيين ابنه جوزيف كابيلا نائبا للرئيس انتقادات محلية ودولية، حيث اعتبرها البعض مقدمة لترسيخ حكم العائلة.

في 16 يناير/كانون الثاني 2001 اغتيل كابيلا على يد الكولونيل كايمبي نائب وزير الدفاع، والذي كان قد أقيل مع عدد من الضباط بسبب خلافات داخل الجيش تتعلق بسير الحرب الأهلية والصراعات المسلحة في شرق البلاد، خصوصا في المناطق الغنية بالموارد الطبيعية.

بعد اغتيال والده تولى جوزيف كابيلا حكم البلاد لأكثر من عقدين، مع تعزيز السلطة المركزية ومحاولات إصلاح محدودة، لكنه واجه انتقادات واسعة بسبب قضايا الفساد، واتهامات بانتهاكات حقوق الإنسان، واحتكار السلطة، خصوصا مع تأجيل الانتخابات وتسليم الحكم.

في يناير/كانون الثاني 2019 أعلن جوزيف كابيلا تنحيه عن الرئاسة بعد ضغوط شعبية ودولية متزايدة، وتسليم السلطة سلميا إلى الرئيس المنتخب الجديد، في خطوة نادرة بتاريخ البلاد.

رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية السابق جوزيف كابيلا الذي ورث الحكم بعد اغتيال والده (رويترز)

ورغم خروجه من السلطة فإن جوزيف كابيلا لم يتوقف عن السعي للعودة إلى المشهد السياسي، حيث يقوم بتحركات ومشاورات داخل البلاد وخارجها لتعزيز نفوذه، خصوصا من خلال حزب الاتحاد من أجل الديمقراطية والسلام، في ظل أجواء سياسية متوترة ومستقبل غير واضح لمسار الديمقراطية في الكونغو.

إعلان

ويبقى تأثير لوران ديزيريه كابيلا وابنه جوزيف واضحا في تاريخ جمهورية الكونغو الديمقراطية، فقد شكلا حقبة معقدة تجمع بين مقاومة الاستبداد القديم ومحاولات إعادة بناء الدولة، لكن حكمهما تخللته صراعات داخلية وانتهاكات أثرت على استقرار البلاد وتطورها الديمقراطي، ويبقى تقييم إرثهما موضوع نقاش مستمر داخل البلاد وخارجها.

مقالات مشابهة

  • رئيس الوزراء السوداني الجديد في مهمة صعبة.. كيف يواجه أصدقاء البرهان؟
  • «الحل السلمي وتعاون اقتصادي».. أبرز ما جاء في الاتصال الهاتفي بين الرئيسين ترامب وبوتين بشأن الحرب في أوكرانيا
  • الجيش السوداني يرد على اتهامات قتل المدنيين في «الحمادي»
  • عائلة كابيلا.. بين الثورة والاستبداد بالكونغو الديمقراطية
  • الكونغو الديمقراطية.. حركة أم 23 المتمردة تهجر مئات المدنيين إلى رواندا
  • ‏رويترز نقلا عن مسؤول إسرائيلي كبير: لا يوجد تقدم يُذكر في محادثات غزة التي تتضمن إنهاء الحرب
  • غسان حسن محمد.. شاعر التهويدة التي لم تُنِم. والوليد الذي لم تمنحه الحياة فرصة البكاء
  • إغلاق سوق سوداني بسبب تساقط ثمار المانجو على رؤوس المواطنين
  • أوربان يدعو أوروبا للحاق بالنهج الأميركي في أوكرانيا: "الحل في التفاوض مع موسكو لا في العقوبات"
  • عائلات الأسرى الإسرائيليين .. نتنياهو هو “ملاك الموت” الذي يقبض أرواح الأسرى