لجريدة عمان:
2025-10-13@02:46:36 GMT

الترجمان الخائن الخوّان

تاريخ النشر: 28th, May 2024 GMT

أشرتُ في بعضٍ من مقالاتي السابقة إلى وجوب تخصيص بعض الإشارات إلى حركة الترجمة وأثرها في الواقع العربي، وهو أمرٌ أخطّط له منذ زمن، ولكن قبل أن أفتح هذا الباب صادفتني منذ زمن ليس بالبعيد ترجمةٌ للأستاذ القدير ذي اللسانيين الشعريين محمّد قوبعة الذي طالما انبهرتُ بدروسه في المرحلة الثالثة في التسعينيات من القرن الماضي في الترجمة جيئةً وذهابا، أي نقلا وتعريبا.

فقد نبّهني أستاذنا الفاضل محمّد الهادي الطرابلسي إلى أن محمّد قوبعة قد أقدم على تعريب كتابٍ على درجة من الأهميّة وهو كتاب لامارتين «حياة محمّد»، وأنّ مُراجعًا يقلّ بدرجات عن قُدرة المترجم واستطاعته قد حذف أجزاء من الترجمة وأعمل فيها معول الفقيه الذائد عن صُورة نبيّنا الكريم، لا عينَ المُراجع العالم العارف المُدرك.

فسألته ولمَ هذه المُراجعة، والمترجم أقدر وأعرف، والمُراجع ظاهرة صوتيّة لا صلة له باللّغة الفرنسيّة إلاّ شكلا لا يبلغ درجة الأكل، فأجابني بأنّ مؤسّسة البابطين مشكورة قد انتبهت إلى أنّ كتابا مهمّا أنجزه لامارتين عن رسولنا الكريم، ولم يلتفت إليه العرب نقلا، فاختارت المترجم والمُراجع على حسن تدبيرٍ، والسؤال هل من العلميّ أن ننتقي من الترجمة ما نراه صائبًا وأن نُسقِط ما لا يتوافق مع معتقداتنا؟ لقد احتوى كتاب لامارتين «حياة محمّد» موقفًا أصليًّا وإيجابيًّا من شخصيّة الرسول عليه الصلاة والسلام، وجعله من أهمّ الشخصيّات الكونيّة، غير أنّ هذا الموقف الرئيس لم يمنع الرجل، وله تمام الحريّة في ذلك من استعمال بعض المعلومات التاريخيّة المغلوطة في شأن الحديث عن حياة محمّد الإنسان والسياسيّ وصاحب الدعوة. وقد قدّم الأستاذ محمّد الهادي الطرابلسي في هذا الشأن دراسةً قيّمة حول الترجمة أوّلا في تحقّقها على الوجه الأسلم، وحول ترجمة كتاب لامارتين وما أفسده المُراجع وخرّبه بإعمال آلة الحذف. من ضمن المحذوف من الترجمة الأصليّة نقلا عن الكتاب المصادر بعض الأخبار التي يُمكن أن تُسيء إلى الرسول الكريم، وهي أخبارٌ مأخوذة من مراجع ضعيفة واهنة لم يُفصح عنها لامارتين، فكان الأحرى والأجدر تثبيت هذه الأقوال والتعامل مع التعريب بشكل أمين علميّ، ومناقشة هذه المعلومات التي يُمكن أن تسقط علميّا بيسر وبساطة، متى نتعلّم أنّ الحذف والمنع والإغضاء والحظر ليست هي الحلول في مواجهة المشاكل، وإنّما التصدّي والمواجهة وقرع الحجّة بالحجّة وإسقاطُ الرأي بالرأي هي الحلول الحقيقيّة. ففي النهاية ما هي الصُورة التي يُمكن أن يُخرَج عليها العربيّ، غير رافض الحوار، منكِر الأفكار، لا يريد إلاّ الصُورة التي رسمها عن نفسه. إنّ صورة النبيّ محمّد لن تهتزّ ولن تتأثّر في إيراد هذه الأخبار، بل العكس تماما، وعيُنا وثقتنا في أنفسنا في عرْضها دون خجل ومناقشتها دون وجل.

ويستنكر محمد الهادي الطرابلسي في دراسته هذا الحذف ويردّ إلى عامل مذهبي ساذج وعامل ذاتي جاهل، فهنالك محذوفات علّة حذفها ما احتوته من أخطاء، وهو لعمري أمرٌ يرغب فيه كلّ دارسٍ أو مترجمٍ أن يجد أخطاء تاريخيّة بيّنة، قابلة للمجادلة والمُطارحة والتفنيد أيضا، من ذلك ما ذهب إليه لامارتين من ردّ أصل القرآن إلى الإنجيل عند ملاقاة رسولنا الكريم لجرجس الراهب وحديثه معه، الأمر الذي جعل لامارتين يتحدّث عن إحياء برة الإنجيل، في قوله: «يتّفق جميع المؤرّخين العرب في رواية هذا اللقاء الأوّل، و في خبر لقاءات أخرى حدثت بعد ذلك بين الفتى العربيّ وراهب الدير النصرانيّ بالشام. وهذا هو منطلق أفكار الذي سيكون نبيّ جزيرة العرب، ومنطلق بعثته. وما من شكّ في أنّ القرآن قد كان « في فكره» إنباتًا لتلك البذرة، بذرة الإنجيل، وقد ألقتها ريح الصحراء -عند هبوبها- في روحه».

فكان جديرًا بالمراجع أو المترجم أن يُسْقِط هذه الفكرة دون إسقاط الفقرة وحذفها. وهنالك محذوفات صنّفها صاحبُ الدراسة على أنّها تمّت لحرج ديني في إيرادها -في اعتقاد المُراجع طبعا- لأنّا إن أخذنا على سبيل المثال بعض المناسك التي حافظ عليها الإسلام، فذلك ليس راجعا إلى مهادنة الأقوام الحالّة ولا إلى مسايرة الموجود، بل هو راجع في الأساس إلى أنّ الرسالة المحمّديّة قد جاءت تتمّة للرسائل السماويّة التي سبقتها، وليست قطيعةً معها، وعلى ذلك فلا حرج من القول أنّ الإسلام بَقّى بعض العادات أو المناسك القديمة، وقد عقد ابن حبيب في كتاب «المحبّر» منذ القرن الثالث للهجرة فصلا عنونه بالمآثر التي بقّى عليها الإسلام من الجاهليّة، وعرض إلى بعض مناسك الحجّ وغيرها، فهل عندما يقول لامارتين، وهو معجبٌ برسولنا هذا الكلام نحذفه؟ فقد تعرّض بعد حديثه عن تأسيس الكعبة، فقال متعرّضا إلى مناسك الحجّ: «وهي شعائر سوف يجد محمد نفسه مدفوعا إلى الحفاظ عليها مع تعديل روحها بما يناسب ما جاء به من إصلاح». لكن -وفقا لدراسة الطرابلسي- هنالك ما أغفل عنه المراجع الحاذف وهو يُشكّل خطرا في كلام لامارتين، ولم يُحذَف!، والأهمّ من كلّ ذلك -باعتباري ضدّ الحذف والقصّ- لم يُناقَش، ولم يعرض فيه لا المترجم ولا المراجع فِكَرا للتوضيح والبيان. خلاصة الأمر، جاء الشاعر والكاتب والروائي والمؤرّخ الفرنسي الأشهر (1790- 1869) وعمل على كتابة كتاب حول سيرة نبيّنا الكريم وفد هذا الكتاب عام 1854، وقد وسم هذا التأليف -حسب عبارته بأنّه تأليف في سيرة أعظم خلق اللّه، وهو في خُطّته مقدّمة لموسوعة عن تركيا التي أُعجب بها ذاك الزمان، وهي آنذاك الإمبراطوريّة الإسلاميّة، وقد بلغ من موسوعته ثمانية أجزاء تأليفا، وكان كتاب «حياة محمّد» أوّل أجزائها، فهل بعد ذلك يحقُّ لنا نحنُ العرب المسلمين أن نجتثّ ممّا كتبه ما نريد، تلك والله قسمة ضيزى! يبقى الترجمان دوما خائنًا خوّانًا.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

إهداء كتاب «الإعلام في دولة الإمارات – مرآة أصحاب الهمم» إلى مركز سالم بن حم الثقافي تقديرًا لدعمه للمبادرات الثقافية

 

أهدى الدكتور هلال بن محمد بن راشد العزيزي كتابه الجديد «الإعلام في دولة الإمارات العربية المتحدة – مرآة أصحاب الهمم» إلى مركز سالم بن حم الثقافي، وذلك خلال لقاء جمعه بالشيخ مسلم بن حم العامري، رئيس مجلس إدارة المركز.

ويأتي هذا الإهداء تعبيرًا عن التقدير والعرفان لما يقدّمه المركز من جهود ودعم متواصل للمبادرات الثقافية والفكرية، ومواكبته لاهتمام دولة الإمارات بفئة أصحاب الهمم وتسليط الضوء على دور الإعلام في تمكينهم ودمجهم في المجتمع.

ويستعرض الكتاب الجهود الإعلامية الوطنية في التعامل مع قضايا أصحاب الهمم، وأبرز النماذج المشرّفة التي ساهمت في إيصال صوتهم وتعزيز صورتهم الإيجابية في المجتمع.

وأشاد الشيخ مسلم بن حم العامري بجهود الدكتور هلال العزيزي، مؤكدًا أن دعم فئة أصحاب الهمم مسؤولية مجتمعية وثقافية، وأن الإعلام شريك أساسي في إبراز قصص نجاحهم ودورهم في التنمية الوطنية.

كما أضاف بن حم:إن دولة الإمارات، بقيادة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة «حفظه الله»، تولي فئة أصحاب الهمم اهتمامًا بالغًا ورعاية خاصة تجسد قيم الإنسانية والتمكين، من خلال سياسات ومبادرات نوعية تهدف إلى دمجهم الكامل في المجتمع، وتوفير الفرص المتكافئة لهم في مجالات التعليم والعمل والإبداع.

وأكد الدكتور العزيزي أن دعم مركز سالم بن حم الثقافي شكّل حافزًا كبيرًا لإتمام هذا العمل العلمي والإعلامي، معربًا عن امتنانه للمركز على رعايته الدائمة للمبادرات الثقافية والفكرية في الدولة.


مقالات مشابهة

  • كتاب الحياة يُخالف الجغرافيا والتاريخ!
  • مؤلفة كتاب "صائد الدبابات" تحيي سيرة بطل أكتوبر في ندوة معرض دمنهور للكتاب
  • يستقطب الزوار من مختلف الدول.. «كتاب الرياض».. منصة عالمية للحوار الثقافي
  • في آخر ظهور له.. الشيخ أحمد عمر هاشم: "كتاب إمام المحدثين دعوة للسلام"
  • صدور كتاب «إعادة بناء المأساة» للدكتور أحمد جمال عيد
  • الجامع الأزهر يعقد المجلس الحديثي اليوم ويتناول قراءة كتاب عمدة الأحكام
  • الإذاعي محمود عمر هاشم ينشر كتابًا عن عمه الإمام الراحل أحمد عمر هاشم
  • جابر يوجّه كتابًا لوزارة العدل حول ضرورة التقيّد بقانون المحاسبة العمومية
  • ضبط مالك مطبعة بحوزته 3 آلاف كتاب روائي وأدبي بدون تصريح 
  • إهداء كتاب «الإعلام في دولة الإمارات – مرآة أصحاب الهمم» إلى مركز سالم بن حم الثقافي تقديرًا لدعمه للمبادرات الثقافية