ثلاثة أيام حاسمة في تاريخ الشرق الأوسط الحديث أو – بتعبير أدق – الشرق الأوسط الذي رسمه وهندسه وشكله الاستعمار الأوروبي وفق مصالح قواه المتنافسة على النفوذ والثروة والقوة .
اليوم الأول: هو 23 يوليو/تموز 1798 لحظة دخول نابليون بونابرت القاهرة مُعلنًا نهاية آخر حصون المناعة الذاتية التي وفّرت لهذا الإقليم الحماية والأمان ستة قرون أو يزيد، فقد وصلت المملوكية – العثمانية إلى اضمحلال ظاهر ليس له علاج، بدأت بهزيمة وأسْر لويس التاسع في المنصورة عند منتصف القرن الثالث عشر، وانتهت الهزيمة أمام نابليون عند فاتحة القرن التاسع عشر.صحيح أن غزوة نابليون قد أخفقت، لكنها كشفت لأوروبا عمق الاضمحلال والوهن الذي وصلت إليه قوى المناعة الذاتية المملوكية – العثمانية، ومن ثم انفتحت شهية أوروبا لاسترداد ما كانت قد فقدته في الحروب الصليبية، وكانت ذروة هذا الاسترداد يوم دخلوا القدس الشريف في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1917م.
فخّ استنزاف اليوم الثاني: لحظة صدور وعد بلفور من البريطانيين بتمكين اليهود من وطن قومي لهم في فلسطين في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1917م، أي في أسبوع واحد صدر الوعد وسقطت القدس، هذا الوعد هو القاعدة الأساس التي نهض عليها الشرق الأوسط في أكثر من مائة عام.قرن أو يزيد من تدفق الهجرة اليهودية، ثم قيام الدولة، ثم توالي هزائم العرب، ثم تحول إسرائيل إلى ما يشبه إمبراطورية إقليمية هي صلب الإقليم، بما أنها من تمنح جواز المرور للأنظمة، وتشفع لها عند الإمبراطورية الأم (أميركا). باتت مسالَمة إسرائيل وكسب رضاها، جوهر السياسة الخارجية للدول العربية، بما يعني التصفية الضمنية أو الصريحة للحق الفلسطيني إلى الأبد، لقد صار الإقليم هرمًا رأسه وقمته إسرائيل، وقاعدته وأرضيته الأنظمة العربية.
اليوم الثالث: 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أشرقت شمسه ولم تغرب بعد، أطول يوم في تاريخ إسرائيل، بل أطول يوم في تاريخ اليهود منذ التدمير الأول للهيكل على يد البابليين 586 قبل الميلاد، ثم التدمير الثاني على يد الرومان 70 ميلادية، فلم يحدث في تاريخ الصهيونية ولم يحدث في تاريخ اليهود أن وقعوا في فخّ استنزاف حربي متواصل على مدار الساعة ثمانية أشهر متواصلة، ومازال الاستنزاف المذل المهين يتواصل دون توقف من خصم، هم والعالم كله معهم يحاصرونه، ويمنعون عنه أسباب الحياة منذ ما يقرب من عشرين عامًا، وبعد ما ظنوا أن الحصار قد أنهك غزة، وأوهن المقاومة، وصفى القضية فوجئوا – على حين بغتة – أن غزة تقاومهم، وأن المقاومة تحاصرهم، وأن القضية تحيا ضد كل مشاريع التصفية، وتكسر حصارها، وتحلّق في آفاق العالم، وتحاصر أعداءها في كل شبر مأهول من الكرة الأرضية. ابتكار معاني المقاومةمثلما كان تاريخ وعد بلفور في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني1917 نقطة ابتداء صعود الموجة الصهيونية، فإن أطول يوم في تاريخ الإقليم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، هو التاريخ المضاد تمامًا، هو نقطة توقف الموجة الصهيونية بعد أن بلغت ذروة تجبرها وتكبرها، هو نقطة بداية صعود معاكس تمامًا، صعود الحق الفلسطيني، صعود من نقطة الصفر، صعود من أرضية خذلان عربي رسمي كامل شامل، صعود بأيدٍ فلسطينية تعيد ابتكار معاني المقاومة، والتحرُّر الوطني والثورة الشريفة.
إنّ ما قدمته المقاومة الفلسطينية في الثمانية أشهر ليس فقط روح الاستشهاد، فلطالما قدّم الفلسطينيون شهداء على مدى ثوراتهم التي لم تتوقف طوال قرن من الزمان، لكن الذي قدمه ويقدّمه الفلسطينيون على مدى ثمانية أشهر ولا يزالون هو ثورة ثقافية كبرى عميقة هزت أركان ثقافة القوة والطغيان والرأسمالية والأوليجارك الذين يحكمون العالم، وذروته عواصم الحضارة الغربية التي كمنت حتى تعفنت، ثم ترنخت، ثم فاحت روائحها الرديئة في كل مكان، أطول يوم في تاريخ العالم أطلق أعظم ثورة للضمير في التاريخ الحديث، أيقظت ضمير الإنسانية حيث وجدت إنسانية وحيث وجد ضمير.
ومثلما جاء في الأثر أن الشمس احتبست عن المغيب حتى يواصل يوشع بن نون قتاله ثم ينتصر، ثم يجمع غنائمه قبل غروب شمس الجمعة – يوم القتال – وقبل أن يدخل ليل السبت، حيث الشريعة اليهودية تحرم فيه القتال، فكذلك يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023م، مازال ممدودًا موصولًا تتجدد فيه الأرواح وتشتد فيه العزائم، ويصمد فيه الأبطال، وتمتد فيه مواكب الشهداء بعشرات الألوف، وتنكسر أنوفُ الصهاينة، وأنوف رعاتهم وحلفائهم وضامنيهم في أميركا والغرب وتابعيهم في الإقليم.
روح ملهمةوسوف يظلّ تاريخ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023م، واحدًا من أكبر فتوح التاريخ ليس فقط بالمعنى العسكري أو السياسي، لكن بالمعنى الفلسفي أي فلسفة التاريخ ذاته، كيف يتحرك وكيف يتوقف وكيف يغير وجهته، وكيف يختار طريقه، وكيف يصبغ فترة معينة بلون ما، هذا يوم تاريخي بهذا، وصانع للتاريخ بهذا المعنى، صنع لحظة ذهول مدهشة ومستغربة ومحل تعجب في لحظاته الأولى عندما انقضّت النسور على أهداف كانت تبدو في أذهان العالم كله منيعة أشد المناعة، وحصينة أشد الحصانة فإذا بها أوهى من بيوت العنكبوت، ومازالت لحظات الذهول والدهشة تتوالى على مدار الساعة لما يقرب من 250 يومًا.
روح الجسارة الفلسطينية ملهمة للناس وللتاريخ معًا، يُذكر أن جنرالات نابليون أثناء غزو إيطاليا، أشاروا عليه بمزيد من التدبر قبل الاقتحام، فقال لهم: نقتحم ثم نتدبر، وثبت أنه كان على صواب. ثم القائد إبراهيم نجل محمد علي باشا، وهو من أعظم رجال الحرب في النصف الأول من القرن التاسع عشر، حدث في إحدى الغزوات الكبرى أن تتطاير مع الهواء شرر من نار فاحترقت كل معسكراته بما فيها الذخائر والأطعمة، سأله مساعدوه: ماذا خسرنا؟ أجاب: خسرنا كل شيء، ثم سألوه: ماذا بقي لنا؟ أجاب: بقيت سيوفنا وعزائمنا، وقاتل قبل أن تأتيه الأمداد من القاهرة وانتصر نصرًا مُبينا، إنها روح الاقتحام التي وهنت في نفوس العرب منذ فقدوا الحماية المملوكية، ثم العثمانية، ووقعوا تحت هيمنة التغلب الأوروبي، ثم الأميركي .
مثلما هيمن تاريخ اقتحام نابليون القاهرة 23 يوليو/تموز 1798م، على المنطقة قرنين من الزمان، ومثلما وضع وعد بلفور 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917م أسس الشرق الأوسط لمائة عام، فإن السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023م هو بوصلة الإقليم لمائة عام مقبلة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات أکتوبر تشرین الأول تشرین الثانی الشرق الأوسط
إقرأ أيضاً:
غرامة إنتل تعود للواجهة.. فصل جديد في أطول معارك الاحتكار الأوروبية
بعد أكثر من 15 عامًا من الجدل القانوني، عادت قضية الاحتكار التي تلاحق شركة إنتل منذ عام 2009 إلى دائرة الضوء من جديد، بعدما أفادت وكالة رويترز بأن الشركة الأميركية العملاقة ستضطر لدفع غرامة كبيرة مرتبطة بممارسات منافية للمنافسة تعود إلى أوائل الألفية.
وبرغم أن إنتل نجحت في تقليص جزء من المبلغ، فإن الحكم الأخير يؤكد أن الصراع القانوني بين الشركة والمفوضية الأوروبية لم ينتهِ بعد.
بداية القصة: سوق مشتعل وحرب معالجاتفي عام 2009، كانت سوق الحوسبة المحمولة تمر بنمو سريع، وكانت أجهزة الكمبيوتر المحمولة الصغيرة، أو ما كان يُعرف حينها بـ"النتبوك"، تسيطر على اهتمام المستهلكين.
وسط تلك المنافسة المحمومة بين الشركات المصنعة للمعالجات، اتهم الاتحاد الأوروبي شركة إنتل بارتكاب انتهاكات واضحة لقوانين مكافحة الاحتكار.
التحقيقات أثبتت في ذلك الوقت أن إنتل مارست ضغطًا غير قانوني على المصنعين، عبر خصومات سرية تهدف إلى تهميش منافستها الأبرز AMD.
ولم تتوقف المخالفات عند هذا الحد؛ فقد قدمت الشركة مدفوعات مباشرة لشركات مثل إتش بي وأيسر ولينوفو بين عامي 2002 و2006 بهدف إبطاء أو إيقاف إنتاج أجهزة تعمل بمعالجات AMD، وهي ممارسات صُنفت ضمن "القيود الصريحة" التي تضرب المنافسة في صميمها.
غرامة أولى تُلغى.. وغرامة ثانية تصمدعندما فرض الاتحاد الأوروبي الغرامة الأولى في 2009، بلغ حجمها 1.06 مليار يورو، وهي واحدة من أكبر الغرامات في تاريخ قضايا الاحتكار الأوروبية، لكن رحلة القضية داخل أروقة القضاء الأوروبي كانت طويلة ومعقدة. ففي عام 2017، طالبت أعلى محكمة أوروبية بإعادة تقييم القضية، معتبرة أن التحليل الاقتصادي للضرر الذي لحق بالمنافسين لم يكن كافيًا.
وفي تطور مهم عام 2022، ألغت ثاني أعلى محكمة في أوروبا الحكم المتعلق بالخصومات الخفية، وهو ما أيدته محكمة العدل الأوروبية العام الماضي، ليتم إسقاط هذه الغرامة الضخمة بالكامل.
لكن الغرامة الثانية المتعلقة بالقيود الصريحة كانت أكثر صلابة من الأولى. فقد ثبتت المحاكم الأوروبية هذا الجزء من القضية في عام 2023، ما دفع المفوضية إلى فرض غرامة جديدة قيمتها 376 مليون يورو. إنتل لم تستسلم وقدمت طعنًا جديدًا، لكنها لم تنجح سوى في تقليص المبلغ إلى 237 مليون يورو فقط.
لماذا استمرت القضية كل هذه السنوات؟السبب بسيط ومعقد في آنٍ واحد: قضايا الاحتكار في أوروبا تخضع لمراجعات دقيقة للغاية، وتشمل تقييمات اقتصادية وتحقيقات فنية وشكاوى من المنافسين ومرافعات قانونية طويلة. كما أن الشركات العملاقة مثل إنتل تمتلك القدرة على الطعن في كل قرار تقريبًا، ما يطيل مدة النزاع لسنوات قد تمتد لأكثر من عقد كما يحدث الآن.
هذه القضية تحديدًا كانت فريدة بسبب طبيعتها، إذ تضمنت شقين مختلفين:
الأول يتعلق بمنح خصومات سرية للمصنعين بشرط عدم استخدام معالجات AMD، والثاني يتعلق بمدفوعات مباشرة لإيقاف خطوط كاملة من الأجهزة. الأول سقط لعدم كفاية الأدلة الاقتصادية، أما الثاني فظل قائمًا باعتباره ممارسة واضحة تخالف قوانين المنافسة.
بالرغم من أن الحكم الأخير يلزم إنتل بدفع غرامة جديدة، إلا أن الطريق لم يُغلق تمامًا. فلا تزال أمام الشركة والمفوضية الأوروبية فرصة للجوء إلى محكمة العدل الأوروبية، ولكن فقط للطعن في الجوانب القانونية، وليس في تقييم الوقائع نفسها.
بمعنى آخر، القضية تبدو وكأنها وصلت إلى محطتها قبل الأخيرة، لكنها ليست النهاية الكاملة بعد. فإنتل لم تحصل على البراءة الكاملة، والمفوضية لم تحقق انتصارًا مطلقًا. وبين هذا وذاك، تستمر واحدة من أطول معارك الاحتكار في تاريخ التكنولوجيا.
معركة تتجاوز الغراماتهذه القضية ليست مجرد أرقام وغرامات، بل درس مهم في كيفية تعامل الاتحاد الأوروبي مع عمالقة التكنولوجيا. فالاتحاد يسعى دائمًا إلى ضمان سوق تنافسية عادلة، خصوصًا في القطاعات التي تحدد مستقبل الاقتصاد الرقمي.
واليوم، ورغم مرور أكثر من 20 عامًا على بداية الأحداث، ما زالت آثار تلك الممارسات تُذكر الجميع بأن القرارات التي تتخذها الشركات الكبرى قد تظل تطاردها لعقود.
إنتل ربحت بعض الجولات وخسرت أخرى، والغرامة انخفضت لكنها لم تُلغَ. القضية التي بدأت بممارسات تعود إلى 2002 انتهت الآن بحكم جديد، ربما يكتب الفصل قبل الأخير في هذه الملحمة القانونية.