الملازم أول (م) محمد صديق إبراهيم: لا يبالي على أي شق كان للوطن مصرعه (1-2)
تاريخ النشر: 2nd, June 2024 GMT
عبد الله علي إبراهيم
روعت طوائف كبيرة من السودانيين بمقتل الملازم أول (معاش) محمد صديق إبراهيم، على يد "الدعم السريع" يوم الـ18 من مايو الماضي، عند مصفاة الجيلي شمال الخرطوم. وصدم الناس الفيديو الذي بثته العناصر التي قتلته، محاطاً بهم ينال الصفع من يدهم. وكان الصفع لأنه لم يجب عن سؤالهم وعن كيف وجدهم ووقع في أسرهم.
وانتاب الروع لمقتل صديق من على ضفة القوات المسلحة التي ضحى بجانبها، ومن هم على ضفة "الدعم السريع"، أو بين ذلك قواماً بمن فيهم الإسلاميون. ومرد ذلك لأن سيرة الضابط مذ لمع اسمه في ثورة ديسمبر2018 تقاطعت مع هذه الطوائف جميعاً، فلا تملك أي منها إلا أن تواطئ طوراً من سيرته القصيرة الحافلة. فكان أيقونة الثورة على نظام "دولة الإنقاذ" وجيشها، بما في ذلك قوات "الدعم السريع"، واستشهد في صف الجيش ضد "الدعم السريع". فاستنفد المواقف جميعاً.
وسطع نجم صديق في ثالث يوم لاعتصام الحراك ضد حكم الرئيس المخلوع عمر حسن البشير (1989-2019) أمام القيادة العامة للجيش في الخرطوم في التاسع من أبريل (نيسان) 2019. فخرج في قلة من الضباط ليحول دون الاعتداء على المعتصمين ممن تربص بهم الجيش و"الدعم السريع"، لإنهاء حشدهم بأي سبيل. وتحقق لهم ذلك في ليلة من رمضان قبيل العيد (الثاني من يونيو 2019)، فأوسعوهم ترويعاً وقتلاً أمام بوابات القيادة العامة. ووقف صديق وسط الحشد المروع الذي عشم من اعتصامه أن يخرج من الجيش من يرجح كفة ميزان القوى لصالحه، ليكون الواحد الذي يشكل أغلبية. وناشد صديق في كلمته إخوانه من شباب القوات المسلحة أن يخرجوا لإعلاء كلمة الحق والوقوف إلى جانب الشعب. وعلت الهتافات من حوله إلى عنان السماء "سودانا فوق فوق سودانا فوق. استلمها أنت (أي خذ بزمام الأمر)" ليرد صديق بأنهم لم يخرجوا لاستلام السلطة، وإنما لحماية المعتصمين، وأن يظلوا في وقفتهم تلك حتى يسقط النظام. وجاء بالعبارة التي خلدته في ذاكرة الثورة "الرهيفة تنقد" من أدب الفروسية السودانية. أي أن النظام لو وجد وهناً فينا فلينفذ منه ويقضي علينا، ولكن هيهات.
وبالطبع، لم يسعد الجيش بـ"تمرد" صديق. ولم يحل انتصار الثورة في الـ19 من أبريل 2019 دون إحالته للتقاعد في فبراير (شباط) 2020، في كشف ضم ضباطاً آخرين وقفوا مع المعتصمين بصورة أو أخرى. وردت "لجان المقاومة" على ذلك الإجراء بحق صديق، بموكب "رد الجميل" الذي قدم مذكرة إلى مجلس السيادة بمطلب إصلاح القوات المسلحة وإعادة صديق ورفاقه إلى مواقعهم فيها. وبرر الجيش قراره بحق صديق ببيان قال فيه، إنه كان خالف قوانين الخدمة بالقوات المسلحة ولوائحها. وذكر له اعتداءه على أفراد من الشرطة بقسمها بحي الحاج يوسف الشعبي حيث يسكن. وكان صديق قد أمر سائق حافلة بأن يتوجه إلى قسم الشرطة ليفتح بلاغاً ضده لرفعه قيمة التذكرة دون مبرر. ولما لم تقبل منه الشرطة البلاغ، أو ماطلت، اشتبك معهم، فأخذوه إلى القيادة العامة بعدما اتضح لهم أنه أحد منسوبيها. وفي حديث لـ"الجزيرة" قال صديق إن الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان جنح لإعادته بعد أن أثار عليهم تضريج موكب "رد الجميل" بالدم الثائر، حتى قرر مجلس الأمن والدفاع فتح تحقيق في ملابساته. وأضاف أن دولة الإنقاذ العميقة التي لا تزال ذات سطوة هي التي تقف وراء إحالته إلى المعاش. وزاد أن البرهان اعتذر له عن الإجراء بحقه، لأنه لم ير كشف الإحالات إلا بعد صدوره. وعرض عليه العودة إلى الخدمة. فاستنكر محمد عليه ألا يعرف عن إحالته إلى المعاش، وهو الذي لا يقع شيء في الجيش دون علمه كقائد عام، ورفض العرض.
ولم يسمع أحد عن صديق منذ إحالته إلى المعاش واضطراب أحوال الثورة التي انتهت بالانقلاب على حكومتها الانتقالية في الـ25 من أكتوبر 2022، واندلاع الحرب بين القوات المسلحة وقوات "الدعم السريع" في الـ15 من أبريل 2023. ولكنه ظهر على فيديو بتاريخ الثاني من ديسمبر 2023 ليعلن من بلدته شندي في ولاية نهر النيل قراره الاستنفار إلى جانب القوات المسلحة، بعد أن فشل في العودة إليها من باب نفرة الضباط المعاشيين، التي نادت لها هي نفسها لتعزيز صفوفها. فقال إنه اتصل بعد اندلاع الحرب بالفرقة السابعة في القيادة العامة لاستيعابه ضابطاً في خدمة الحرب، فردوه لأن الأمر ما احتاج بعد، وسيستدعونه متى اتفق لهم ذلك. ثم لبى استدعاء نفرة الجيش لضباطه المعاشيين للعودة إلى الخدمة. فبلغ لوحدته التاسعة من سلاح المظلات بقاعدة وادي سيدنا، فانتظر 90 يوماً أبلغوه بعدها أن القيادة العامة لم توافق على إنزاله طابوراً في حين أذنوا لغيره بالعشرات. فانفعل وقال لرئيس شعبة في القيادة إن "على الوطن السلام إن كنتم تملكون صكوك الوطنية توزعونها بالاسم على الناس". وقال إن "الفات مات، ونحن ولاد الليلة"، فاعتبر نفسه منذ اليوم الثاني من ديسمبر 2024 مستنفراً ضمن قوات المقاومة الشعبية كرجل سوداني، قبل أن يكون ضابطاً.
وبدا أنه على خلاف مع الجيش في التزامه الدفاع عن مواقعه، والامتناع عن الهجوم على مواقع "الدعم السريع". وقال إما كان الجيش رجالاً مهاجمين أو "علي الطلاق" ستخرج القوى الوطنية من كل فج في البلد، إما رفعوا راية السودان أو سقطوا شهداء. وقال إن دعوة "لا للحرب" دعوة عاطلة، لأنه لم يتفق لها أين الحق في هذه الحرب، وأين الباطل. وأضاف أن حث أهلها للجيش على الجلوس إلى التفاوض لا يليق والأموال نهب "الدعم السريع" والنساء أسرى. وتوجه إلى البرهان بشيء من الإنذار، فقال إنه إن لم يغير خطته حتى الأول من يناير 2024 بالهجوم على "الدعم السريع"، (في مقابل خطة الدفاع المتبعة)، في كل منطقة بالسودان، سيكون هو أول من يخرج من شندي في الهجوم على مصفاة الجيلي، التي يحتلها "الدعم السريع". فهو جاهز. فإذا طلعت القوات المسلحة للهجوم في أول يناير كان معها، وإذا قعدت لن يكون من القاعدين. وسيأتي يوم أول يناير وسيرى الناس قراره "والله لو فضلت أنا بس محمد صديق، وأعوذ بالله من كلمة أنا، أطلع من شندي وأهاجم المصفاة". وعاد إلى عبارته الأثيرة "والرهيفة تنقد".
ليس صعباً تصور الإرباك الذي أحدثه مصرع صديق في خطاب الحرب القائمة. فعابر للضفاف مثله يزلزل سدنتها بين واقف مع الجيش أو واقف ضده، حتى لا نقول مع "الدعم السريع". فقل من الكتاب من ذكر له المأثرتين. فمن مع الجيش في ضفة الحرب ذكر له استشهاده بيد "الدعم السريع" في حين غض المناوئون للجيش حتى عن ذكر وقفته مع الثورة التي ينسبونها لأنفسهم، لأن ذكرها لا يستقيم مع مصرعه في ركب الجيش. وهناك من أطلق العنان يخيط المأثرتين معاً، مجازفاً كيفما اتفق.
IbrahimA@missouri.edu
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: القوات المسلحة القیادة العامة الدعم السریع
إقرأ أيضاً:
حرب المسيّرات تغيّر قواعد اللعبة في السودان… «الدعم السريع» يوسّع سيطرته من الجو
دخل الصراع المستمر في السودان مرحلة جديدة وغاية في التعقيد، بعد أن حولت قوات الدعم السريع المواجهات على الأرض إلى حرب جوية مسيّرة، عبر تنفيذ سلسلة من الهجمات الدقيقة بالطائرات بدون طيار على مواقع استراتيجية في بورتسودان والخرطوم وكوستي ومروي وأم درمان، ما يعيد رسم معادلة النزاع ويهدد بإطالة أمد الحرب لسنوات.
ووفقًا لتقرير نشره موقع “سودان تربيون”، نفذت قوات الدعم السريع 17 هجومًا مسيّرًا استهدفت خلالها قواعد عسكرية، مطارات، منشآت للطاقة ومستودعات وقود، في إطار تصعيد يُفهم على أنه محاولة لفرض واقع عسكري جديد يضعها على قدم المساواة مع الجيش السوداني في السيطرة على الأجواء.
وصرّح مصدر في الدعم السريع للموقع ذاته، أن أبرز الأهداف شملت قاعدة وادي سيدنا الجوية شمال العاصمة، والتي تعرضت لهجوم في مايو الماضي، إضافة إلى منشآت استراتيجية في عطبرة وكوستي ومروي.
في المقابل، رد الجيش السوداني باستعادة السيطرة على مدينة الصالحة جنوب أم درمان نهاية مايو، وضبط ترسانة من الطائرات المسيّرة الحديثة وأجهزة تشويش، ما يشير إلى حجم وتعقيد المواجهة التقنية بين الطرفين.
ويصف خبراء عسكريون هذه المرحلة بأنها نقطة تحول حاسمة في مسار النزاع. وقال العميد المتقاعد في سلاح الجو السوداني، عادل عبد اللطيف، في حديثه لـ”سودان تربيون”، إن الطائرات المستخدمة من قبل الدعم السريع تنتمي إلى فئة MALE (متوسطة الارتفاع وطويلة التحليق)، ويمكنها البقاء في الجو نحو 30 ساعة وتنفيذ مهام استخباراتية وقتالية عالية الدقة.
كما كشفت تقديرات حكومية أن الدعم السريع استخدم طائرات صينية من طراز FH-95، وهي مسيّرات متعددة المهام قادرة على شن هجمات دقيقة من مسافات بعيدة.
وأشار عبد اللطيف إلى أن الجيش فقد السيطرة المطلقة على المجال الجوي، مؤكداً أن قوات الدعم السريع “كسرت احتكار سلاح الجو للمجال الجوي”، في تطور يصفه بالمفصلي في توازن القوى.
في هذا السياق، اعتبر عبد اللطيف أن الجيش لا يزال يستخدم الطائرات المسيّرة بصورة تكتيكية محدودة لدعم القوات البرية، مثل الهجمات الأخيرة على مطار نيالا، فيما تعتمد قوات الدعم السريع على المسيرات في ضربات استراتيجية موسّعة، تهدف إلى تقويض البنية التحتية الحيوية للجيش.
من جانبهم، يرى مراقبون سياسيون أن التصعيد الجوي يحمل رسالة ضغط مباشرة إلى رئيس مجلس السيادة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، لدفعه إلى الجلوس على طاولة المفاوضات.
لكن دبلوماسيًا غربيًا نبه لـ”سودان تربيون” إلى أن “الطرف المنتصر غالباً ما يفتقر إلى الحافز لتقديم تنازلات”، رغم إقراره بتغير اللهجة التفاوضية لدى قادة الجيش والدعم السريع مؤخراً، إذ “يشعر كل طرف أنه يمتلك زمام المبادرة”.
وأكد الدبلوماسي أن تحول الحرب إلى الجو يُدخل السودان في مرحلة بالغة الحساسية، خاصة مع وجود تدخلات إقليمية ودولية تعمّق تعقيدات النزاع.
ويرى خبراء أن تحقيق نصر حاسم لأي من الطرفين بات صعبًا، بسبب الخسائر البشرية والتقنية الفادحة، خصوصاً في القوات الجوية، التي تتطلب زمنًا طويلاً وموارد ضخمة لتعويضها.
وتشير هذه التطورات إلى أن الحرب في السودان لم تعد محصورة بالأرض، بل باتت تتحرك في فضاء أكثر تعقيدًا وخطورة، ما يزيد من مأساة المدنيين ويُبعد احتمالات الحل السياسي في المدى القريب.