قراءة في شِعر محمد إبراهيم أبي سِنَّة لقضيّة فلسطين
تاريخ النشر: 4th, June 2024 GMT
* إلى شادية أبو غزالة – أسطورة الشهيدة:
"سَمعتُ صوتَها/ يجيءُ من مَنابعِ الأنهارْ/ يُذيعُ سِرَّ هذه الأشجارْ/ تُحيطُه النُّجومُ والأحلامْ/ الوَردةُ الحمراءٌ فوقَ الشّامْ/ تَمُدُّ نحوَ قُبَّةِ الحُسَينِ في العِراقْ/ أوراقَها الخصيبةَ الجَناحْ/ تُرِيقُ شَوقَها على البِطاحْ/ وتُسقِطُ الأمطارْ/ على جِبالِ النّارْ"
هكذا استهلّ شاعرُنا الكبير الذي فاز منذ أيّامٍ بجائزة النِّيل في الآداب عن قصيدتَه "إلى شادية أبو غزالة، شهيدة المقاومة الفلسطينية" التي صدرَت ضمن ديوانه "الصراخ في الآبار القديمة" عام 1973م، ولعلّها من بواكير قصائده التي تغنّى فيها بالجهاد الفلسطينيّ، فلقد استُشهِدَت (شادية) أواخر عام 1968 وهي تُعِدُّ قنبلةً كان يُفترَض أن تنفجر في تل أبيب.
والوردة الحمراء فوق ذلك غيمةٌ محمَّلةٌ بالسلام، تُسقِط الأمطار على جبال النار التي اندلعَت في ربوع الوطن، وما أمطارُها هذه إلا أشواقها للبِطاح العربية الممتدّة من تحتها، فهي تُريقُ هذه الأشواق في رحلة صعودها وقد فاضَت رُوحُ الشهيدة إلى بارئها. وهي فوق هذا وردةٌ إنسانيةُ صائتةٌ، كأنها تكتنز في ذاتها علاماتِ الحياة العربية، وتختزن كُنهَ أرضها، فصوتها يأتي من منابع الأنهار ويعرف سِرّ الأشجار ويذيعه، وتكتنفه نجوم السماء وأحلام البشَر. لقد صاغ شاعرُنا هنا وحدةَ وجودٍ بين كيان الشهيدة ومظاهر الحياة في أرضها العربية. ولا يلبث أن يمضي فيقول: "لم تحترق أعوامُها العشرونْ/ مِن أجلِ فارسِ وسيمْ/ يُقيمُ عندَ بابِها ويَرتقي أشعّةَ القَمَرْ/ إذا أتى المساءْ/ يبُثُّها لواعِجَ الغَرامْ"، فهو يرثي تلك التي قضَت في ريعان شبابها، مُفردًا إيّاها بين بنات جنسها، فهي لم تكن تنتظر حبيبًا فارسَ أحلامٍ يكلِّل شبابها بالاكتمال ويمثِّل لقاؤه بها ذروةَ كينونتها، وإنما كانت تحرق عُمرها في سبيل قضيّة بلادها واستعادة أرضها المغتصَبة، إلى أن يقول في الختام: "وأزهرَت أعوامُها العشرون في الدِّماءْ. حديقةً حمراءْ. وتمَّ حُبُّها إلى الأبَدْ. فقد تحقَّقَ اللِّقاءْ."
فالموت الذي يَختم قصص الحُبِّ لا محالةَ قد ختمَ قصة حُبِّها لوطنها بتمامٍ استثنائيٍّ، حوّلَها إلى حديقةٍ حمراء. واختار الشاعر أن يتجاوب الختام مع البدء في إيحاءات اللون، فكأنّه بعد أن استهلّ القصيدة بحديثٍ تأمُّليٍّ عن الوردة الحمراء/ الشهيدة بعد أن صعدَت إلى السماء، يعود بعدسة المَشهد ليستعرض الفارقَ في حياتها، وصولًا إلى لحظة التحوُّل، كأننا إزاء أسطورةٍ من الأساطير التي حشَدَها أوفـيد في كتابه "التحوُّلات"، وإن كانت أسطورةً واقعيةً عربيةً، فالفتاة اليانعةُ الإنسانيةِ قد تحوَّلَت بقوّة ما في كيانها من حيويّةٍ وخِصبٍ وجَمالٍ إلى حديقةٍ حمراء.
وخلال ذلك جاءت القصيدةُ في بحر الرَّجَز الذي تتّسم تفعيلاتُه بتقاطُرها السريع كأنّها رصاصاتٌ في ميدان قتالٍ، توقظُ الغافلين على هذا الحدَث الإنسانيِّ الفريد وتنبههم إلى أنّ الحياةَ الحَقّةَ في غير ما يتصوّرون. وهناك سِمةٌ تسِم الشطر الأكبر من شِعر أبي سنّة، هي قِصَر السطر الشِّعري وتتابع القوافي، وهي التي اعتبرها الدكتور عبد القادر القطّ في مقدمته للأعمال الكاملة لشاعرنا سِمةً تَحُولُ بين شِعره وتحقيقِ ترابُط الصُّورة عضويًّا، لكنني أراها هنا قد أسهمَت في خلق حالة التأمُّل المتورّط عاطفيًّا في الحُزن على الشهيدة، فكأنّ السطر الشِّعري ينقطع رغم إرادة الشاعر لأنّ صوتَه الشِّعري تخنقه العَبَرات فلا يستطيع أن يُكمِل إلا إن التقطَ أنفاسَه.
* المحاربون - لمصر في مواجهة الصهاينة:
في قصائده التي تتغنّى بانتصار مصر على دولة الاحتلال، لا ينسى أبو سِنّة أبدًا امتداده العربيّ وقوميّته المتغلغلة في كيانه. وفي (المحاربون) من ديوانه "أجراس المساء" الصادر عام 1975م، والتي بناها هي الأخرى على تفعيلة الرَّجَز الموقِظَة، يستهلّ الشاعر القصيدة بأنسَنة معنىً مجرَّدٍ هو ساعة الانتقام، أو بإضفاء الحياة عليها: "تقدَّمي وأمسِكي العَلَمْ/ يا ساعةَ انتقامِنا، وأفرِخِي الدقائقَ المُدجَّجَةْ/ بالسَّيفِ والعدالةِ القويَّةِ الجَناحْ". فها هنا تتناسلُ ساعة الانتقام لتتمخّض عن دقائق مفعَمةٍ بسَبَبي النَّصر المستحَقّ: السَّيف والعدالة، فكأنّ وحداتِ الزمن نفسَها جنودٌ في جيش التحرير الذي رفعَ العَلمَ في أرض سيناء. وحين ينتقل إلى الجنود الحقيقيين، يُماهي بينهم وبين الأرض المصريّة في قوله: "وهاهُمُ الجُنودْ/ أقدامُهمْ سُهولُ مِصرْ/ وخُوذَةُ الرُّؤوسِ قِمَّةُ الجَبَلْ" خالقًا صورةً تنطق بالاعتزاز والإكبار، كما تُحيلُ المتلقّي إلى ما يرتبط بسُهول مصر من خِصبٍ، وما يرتبط بجبالِها في الوعي الدينيِّ الجَمعيّ من قداسة.
وينتقل أخيرًا إلى المقصود من عنوان القصيدة، لنكتشف أنه لا يَقصُر معنى المُحارِبين على الجُنود في الجيش، فيقول: "فها هُمُ المُحارِبونْ/ يُحارِبُ التاريخُ في القُيودْ/ يُحاربُ الشَّهيدْ/ تحاربُ الأنهارُ والشَّجَرْ/ يُحارِبُ القَمَرْ"، بل إنه يُبعِد فيقول: "تُحاربُ الكتُبْ/ تحارِبُ السُّحُبْ/ يُحاربُ الربيعُ والخَريفْ"، مُقِرًّا حالةً عامّةً من إعلان الحَربِ مِن قِبَل كُلّ موجودٍ مادّيٍّ أو معنويٍّ يمُتُّ بصِلةٍ إلى الأرض العربية، إلى أن يقول في الختام: "كَي نُطلِقَ الحَمامَ في الزيتونِ والعِنَبْ/ كَي يَخرَسَ الكذِبْ/ يُحارِبُ العرَبْ". هكذا كان أملُه في حَرب رمضان/ تَشرينَ أن تكون هي المعركة الفاصلة النهائيّة التي تَمحَقُ الكيان الصهيونيَّ الذي يجسِّدُ زُبدةَ كَذِبِ العالَم، كما كان ذلك أملَ معظم الجماهير العربية، لكن شاء اللهُ أمرًا آخَر.
* في وجهِ غِربانِ الحُدود – المبتدأ مصر والمنتهى فلسطين:
في هذه القصيدة من الديوان نفسِه، والتي بناها على البحر الكامل (مُتَفاعِلُنْ مُتَفاعِلُنْ) ذي النَّبرة التي لا تخلو من خَطابيّةٍ، يبدأ برُسوخ القدم المصرية في المواجَهة مع الصهاينة، رامزًا إلى هذا الرُّسوخ بالنِّيل والرِّجال، تؤازرُهم موجوداتُ السماء من عليائها، فيقول: "قابلتُ نَهرَ النيلِ يَجري في الصباحْ/ فوقَ الطريقِ إلى السوَيسْ/ تهتزُّ صحراءُ الأمَلْ/ الشمسُ تُشرقُ في المَغاربِ، والهِلالْ/ قَوسٌ يُنَوِّرُ وجهَ جُنديٍّ صغيرْ/ العُشبُ يَنبُتُ تحتَ أغصان الرِّجالْ/ شَجَرُ الرِّجالِ على التِّلالْ". هكذا يرسمُ لوحةً (سرياليّةً) يتماهى فيها الرجالُ والشجَر، مُكسبًا الرِّجال بذلك رُسوخ الشجَر وتجذُّره في أرض مصر.
وكما فعل في "المحاربون"، نزلَ بالأعداء إلى دَرك الموجودات غير البشَرية، لكنه هنا استدعى الغِربان وما يرتبط بها في وعينا من كونها نُذُر شُؤمٍ كَريهةَ الحضور: "كان الغُزاةُ من اليهودْ/ باقينَ كالغِربانِ في الأفُقِ البعيدْ/ باقين كالنُّصُب الكئيبةِ، كالهَوَانْ". أي أنه نزل بهم درجةً أخرى فجعلهم جَماداتٍ "نُصُبًا كئيبةً" كشواهد القُبور.
وفي هذه القصيدة تحديدًا معادلٌ موضوعيٌّ لتأجُّج العاطفة الوطنيّة والعُروبيّة وامتزاجها بالغضَب الرهيب والرغبة في الثأر، فنراه يقول: "البَرقُ يُشرقُ في عيون رجالِنا، في أعيُنِ الجُندِ الغِضابْ/ رقصَت ملايينُ الحِرابْ/ في أعيُنِ الجُندِ الغِضابْ" ويقول: "كانوا هناكَ، وجندُنا يَحشُون من نارِ القُلوبْ/ أحشاءَ مِدفَعِهم، ...إلخ"
وفي الفقرة الأخيرة من القصيدة يصِل تيار الغضَب الشِّعري إلى فلسطين فيقول: "أسرَى غَرامِكِ يا فِلَسطِينُ الأسيرةْ/ لم يَحملوا لَكِ عِقدَ فُلّْ/ في مَوعِدِ العِشقِ العظيمْ/ حملوا زُهورَ النارِ في القلبِ الكَليمْ/ جعلوا غرامَكِ قُنبُلةْ/ قبُلاتُهم فوقَ البنادقِ والسيوفْ/ تَروي لواعِجَ ذلك الحُبِّ العنيفْ/ فَلْتُشرِقي مِن بينِ أطواقِ القُيودْ/ وَلْتَصمُدي في وجهِ غِربانِ الحُدودْ". فمفرداتُ علاقة الحُبّ المألوفةُ هنا تكتسِبُ بُعدًا ناريًّا ثأريًّا عنيفًا، فالزهور زهورُ النار، والغرام قنبلة، والقبلات على صفائح الأسلحة. ولعلّ هذا الوعيَ بأنّ معركة مصر مع الصهاينة لا يمكن أن تكتمل دون تحرير فلسطين يكاد يُفرِد شاعرَنا من بين أبناء جِيلِه من شعراء مصر الذين تغنَّوا بانتصارها في حرب رمضان، فلقد كان أحدَّهم نظرةً إلى هذا العُمق الفلسطينيّ للثأر المصريّ من الصهاينة.
* وحدَنا والمغول – عن الانتفاضة الأولى:
في ديوانه "رمادُ الأسئلةِ الخضراء" الصادر عام 1990م، يستهلّ شاعرنا قصيدته من منتصف الأحداث، فيزرعنا في قلب موقف المقاوِمين الذين يبدون مقطوعي الصِّلة بمُحيطِهم الخانع المستسلِم، وهو موقفٌ يبدو حسبَ موازين القوى المنطقيّة مستحيلًا: "وَحدَنا والمغولْ/ نتفجّر في ذروةِ المستحيلْ/ نتقابلُ جسمًا لقُنبلةٍ فوقَ هذي البلادِ التي سوف تَبقَى لأطفالِنا، سوف تبقى لأحلامنا وطنًا لا يَزولْ". وفي تحديد العلاقة المكانية بين المقاوِمين وبلادهم بأنهم "فوقَ هذي البلاد" معنىً لطيفٌ قد يفوتُنا لأوّل وهلةٍ في غمرةِ انسياقِنا وراءَ الهَمَّ العَرُوضيِّ، إذ نتصوّر أوّلًا أنّ الأَولَى أن يقول "في هذي البلاد" ولكنه قد عَدَلَ إلى "فوقَ" ليستقيم له وزنُ (فاعِلُنْ فاعِلُنْ) في البحر المتدارَك الذي اختاره لقصيدته. وهذا المعنى اللطيفُ هو أنّ المقاومةَ بحُكم كونِها بحَقٍّ "ذروةَ المستحيل" تبدو كأنها حدَثٌ مفارقٌ للواقع، محلِّقٌ فعلًا "فوقَ" البلادِ، لا "فيها"، فهي حُلمٌ لا يكاد يصدِّقُ عينيه من يَراه. ولعلّ هذا المعنى يتجاوبُ كذلك والاختيار العَروضيّ، فقد انصرفَ شاعرُنا هنا عن النسخة الأخَفِّ من البحر المتدارَك - وهي الخبَب "فَعِلُنْ فَعِلُنْ"، وهي المُغريةُ باصطناعها هنا إمعانًا في الاقتراب من النّثريّة وإيغالًا في الواقع – ومال إلى النسخة الأثقل "فاعِلُنْ فاعِلُنْ" التي تسبَح في بُعدٍ خاصٍّ بها بين نثريّة الخَبَب وشاعريّة الأوزانِ الأخرى، فكأنّها هي الأخرى مُعادلٌ لهذا الحُلم المستحيل، فحَدَثُ الانتفاضة لا يَجري حَقًّا في البلاد، بل فوقها!
وبعد أن يستعرض سريعًا طرفَي المعادلة الماثلة فوق أرض فلسطين ("نحن/ وحدَنا" في مقابل "المغول"/ الصهاينة)، يصل في الختام إلى يقينٍ بأنّ كلّ ما تقاسمَه المغولُ معنا من مواردِ هذه الأرض بحُكم وجودهم الكريه الذي فرضَه الأمرُ الواقعُ، سيَخلُصُ لنا وحدَنا في النهاية، فيقول: "سوف نَبقَى هنا وحدنا ويمُرُّ المغولْ/ من ثُقوبِ الخُرافةِ حتى السقوطِ بعارِ الوُحولْ/ من بقايا أساطيرِهم للأُفُولْ/ وَحدَنا للبلادِ التي سوفَ تبقَى لنا/ وحدَهم للرَّحيلْ". في هذه اللهجة المتيقِّنة يستعين بمفرداتٍ للأعداء من شأنها أن تستدعيَ في أذهاننا معاني سالبةً، فهم يمرُّون من ثُقوب (الخرافة)، ومن بقايا (أساطيرِهم)، ما يتجاوبُ وقولَه في (المحاربون): "كَي يَخرَسَ الكَذِبْ"، فرؤيةُ شاعرنا للوجود الصهيونيّ كانت دائمًا تتمثّل في أنه ليس إلا تجسيدًا للكذب قائمًا على الخرافة والأساطير، ومآلُ هذا الكذِب هو الخَرَسُ في (المحاربون)، وهو السقوط بعار الوُحول، والأفول، والرحيل في "وحدَنا والمغول".
والخلاصةُ بعد هذا المرور العَجِل بأربعٍ من قصائد شاعرنا كُتِبَت في مراحل مختلفةٍ من رحلته الشعرية الطويلة، أنّ الهمَّ الفلسطينيَّ كان دائمًا حاضرًا في وعيه، ماثلًا في وجدانه، يعاوِدُه بقوّةٍ وعُنفٍ بين الفينة والفينة. وقد جاء شِعرُه فيه محتشدًا بالمعادِلات الموضوعيّة للغضَب والرغبة في الثأر، مفعَمًا بالاعتزاز بكلّ شهيدٍ أورى الكرامةَ العربية في مواجهة الأعداء. ويبدو لي أنّ هذا الاستعراض السريع لذلك الموضوع في شِعره يفتح الباب لمقارنة تمثُّلات الهَمِّ الفلسطينيّ في شِعره مع تمثّلاتِه في شِعر مُجايِلِيه من شعرائنا الكبار، وهي مقارَنةٌ لابُدّ واعدةٌ بكثيرٍ من الفهم لما يمكن أن يكون قد غاب عنّا من عوالمِهم الشِّعرية.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي تقارير الشعرية أدب ثقافة شعر سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فاع ل ن التی ت
إقرأ أيضاً:
من كشف إيلي كوهين.. .؟ قراءة تحليلية في وثائق الماضي وثرثرة الحاضر
رغم مرور عقود على سقوط الجاسوس الإسرائيلي الأشهر إيلي كوهين في دمشق، لا تزال قضيته تطفو على السطح بين الحين والآخر، محمّلة بروايات متضاربة، وأسرار دفينة، وتساؤلات لا تنتهي.
فلماذا الآن؟ ولماذا كل هذه الضجّة المصاحبة للإعلان الإسرائيلي الأخير عن استعادة ملفه الكامل؟
ومن الذي كشف إيلي كوهين فعليًا؟ هل كانت دمشق؟ أم موسكو؟ أم أن الحقيقة تقف في القاهرة، حيث يكمن جزء مهم من القصة التي لم تُروَ بعد؟
الصورة التي تفضح من القاهرة إلى دمشق
من بين عشرات الصور المرتبطة بكوهين، هناك صورة واحدة تُعد الأخطر، لأنها تحمل دليلًا نادرًا على أن المخابرات العامة المصرية هي التي اكتشفت أمره، لا الأمن السوري كما ادّعت دمشق لاحقًا.
في هذه الصورة النادرة، يظهر إيلي كوهين (أسفل السهم) خلال استقبال رسمي للرئيس العراقي عبد السلام عارف في دمشق، ويقف بجانبه كل من: أمين الحافظ (رئيس سوريا آنذاك)، ميشيل عفلق، وصلاح البيطار.
وقد التُقطت الصورة أثناء زيارتهم للفريق علي علي عامر، رئيس هيئة أركان القيادة العربية الموحدة، ونُشرت في مجلة "الجندي" السورية بتاريخ 10 سبتمبر 1963.
بعد نشر الصورة، لفتت ملامح كوهين انتباه أحد ضباط المخابرات العامة المصرية أثناء فحص الصور الواردة من دمشق، ليجري على الفور تنسيق أمني بين القاهرة ودمشق للتحقق من هويته، ما أدى لاحقًا إلى القبض عليه.
من الإسكندرية إلى الأرجنتين.. .إلى دمشق.. .!
كان إيلي كوهين يهوديًا مصريًا من مواليد الإسكندرية، ومتهمًا غير مباشر في فضيحة «لافون» التي أحبطتها المخابرات المصرية في خمسينيات القرن الماضي، ورغم عدم إدراجه ضمن قائمة المتهمين، إلا أن عيون الأمن ظلت ترصده.
بعد خروجه من مصر، تم زرعه في الأرجنتين كسوري مهاجر، تمهيدًا لإرساله إلى سوريا، حيث اخترق مفاصل النظام السوري حتى أصبح مستشارًا مقربًا من دوائر القرار.
دمشق.. لماذا تجاهلت رواية القاهرة؟
الرواية الرسمية السورية ظلت تزعم أن الرئيس أمين الحافظ شكّ في كوهين لأنه «ارتبك عند قراءة الفاتحة»، وهي رواية أثارت سخرية الصحافة المصرية آنذاك، التي عقّبت: «إيلي كوهين يعرف عن الإسلام أكثر من أمين الحافظ».
الحساسية السياسية بين القاهرة ودمشق بعد فشل الوحدة، دفعت النظام السوري إلى تجاهل دور القاهرة، خشية أن يُنسب الفضل إلى المخابرات المصرية، في ظل تنافس محموم على قيادة المشروع القومي العربي.
الكتب الإسرائيلية تؤيد الرواية المصرية
في كتاب «جاسوس من إسرائيل» للصحفيين الإسرائيليين بن بورات ويوري دان، وردت إشارة إلى أن إسرائيل قررت إرسال كوهين إلى سوريا فقط بعد الانفصال عن مصر، خوفًا من اكتشاف أمره من قِبَل العيون المصرية النشطة، وهو ما يعزز فرضية تورط المخابرات المصرية في كشفه.
كما يشير كتاب «وحيدًا في دمشق» للكاتب الإسرائيلي شموئيل شيغف، إلى أن أحد المتهمين في قضية «لافون»، ويدعى روبرت داسا، أفاد بأن المخابرات المصرية سألت عن كوهين بعد اعتقاله في سوريا، مما يُعزز فرضية وجود ملف سابق عنه في أرشيف القاهرة.
رأفت الهجان، أمين هويدي، و«كيبوراك يعقوبيان»
عدة روايات أخرى تتقاطع مع خيوط القصة.
إحداها تشير إلى أن رفعت الجمال (رأفت الهجان) تعرف على كوهين حين رآه في دمشق، فأبلغ قيادته نظرًا لسابق معرفته به في الإسكندرية.
رواية أخرى تتحدث عن دور مبكر للواء أمين هويدي، رئيس المخابرات العامة آنذاك، دون تفاصيل دقيقة.،
أما الرواية الأكثر إثارة، فتشير إلى الجاسوس المصري الأرمني كيبوراك يعقوبيان، الذي زرعته مصر في إسرائيل عبر البرازيل بنفس تكنيك زرع كوهين في سوريا عبر الأرجنتين، ما يدل على براعة المخابرات المصرية وفهمها العميق لأساليب الاستخبارات الإسرائيلية.
السوفييت أم المصريون.. .؟
الرواية السوفيتية تدعي أن تقنياتهم المتطورة في رصد الإشارات اللاسلكية كشفت بثًا مشبوهًا في دمشق، ما قاد الأمن السوري إلى الشك في أحد «المربعات» التي يقيم فيها كوهين.، رواية أخرى تقول إن السفارة الهندية في سوريا اشتكت من التشويش على أجهزتها، ما دفع السوريين للتحقيق في المنطقة، بمساعدة خبراء سوفييت.
لكن تبقى الحقيقة الكبرى، أن من حدّد الجاسوس بدقة، كان على الأرجح ضابطًا مصريًا يقظًا، يملك ذاكرة أرشيفية حادة، سواء كان العميد رفعت الجمال، أو اللواء أمين هويدي، أو أحد ضباط المتابعة في غرفة مظلمة بجهاز المخابرات العامة بالقاهرة.، ،
من الحاخام إلى الجاسوس.. .كوهين كما لم يُرَ من قبل،
إيلي كوهين، الذي توقّع له حاخام حارته بالإسكندرية أن يكون رجل دين، اختار طريقًا مختلفًا.
خدم في وحدة 131 التابعة للمخابرات العسكرية الإسرائيلية، ثم وحدة 188، قبل أن ينضم إلى وحدة «سيزاريا» التابعة للموساد، وهي المسؤولة عن الاغتيالات والعمليات القذرة.
وحين أُعدم في دمشق، حاولت إسرائيل سرقة جثمانه من مقابر الغوطة، لكنها فشلت.
ثم استعادت لاحقًا ساعته الشخصية، وأخيرًا أعلنت استعادة ملفه الاستخباري الكامل، في رسالة واضحة:« لن نترك رفاتكم، ولا مقتنياتكم، ولا حتى ملفاتكم».
حين لا تمنع السلطة يد الأمن
يظل تاريخ جهاز المخابرات العامة المصرية ناصع البياض، خصوصًا قبل نكسة 1967 وبعد تصحيح المسار. لم يتهاون الجهاز في كشف العملاء، حتى حين كانوا من أهل القربى، أو من داخل القصر الجمهوري.
نذكر تلك الواقعة الشهيرة حين تم القبض على طبيب العلاج الطبيعي للرئيس السادات، الدكتور علي العطفي. وعندما حاول ابنه التدخل قائلاً للعميد محمد نسيم:« سوف أتصل بالرئيس السادات ليمنعكم من القبض على والدي.. .!»
ردّ نسيم بكل حزم: «والله لو منعني السادات من القبض على والدك، لذهبت لأقبض على السادات نفسه.. .!».
كما كشفت المخابرات عن تهريب وثائق تخص بناء دشم حظائر الطائرات، تورّط فيها بهجت يوسف حمدان، ابن أخت أحد كبار رجال الدولة، عثمان أحمد عثمان، دون تردد أو تهاون.
ولا ننسى قصة تدخل الرئيس الأمريكي جيمي كارتر للعفو عن عميلة الموساد هبة سليم وخطيبها الضابط فاروق عبد الحميد الفقي، أحد أبناء عائلة الفقي الثرية، حين كانت هبة تنتظر تنفيذ حكم الإعدام.
فردّ السادات بعفوية على كارتر قائلاً: «لقد تم تنفيذ الحكم فجر اليوم»، ثم اتصل بمصلحة السجون لتنفيذ الحكم فورًا.
لقد كان ذلك زمنًا يُحتذى به، حين كان الوطن فوق الجميع، وحين كانت العيون الساهرة لا تنام، وكان جهاز المخابرات يعرف أن لا كرامة تُسترد بوثائق، بل بحفظ الأسرار والدفاع عن الأرض والعرض، بلا صفقة ولا ضجيج. [email protected]
اقرأ أيضاًالمستشار أحمد مناع: تعديلات قوانين انتخابات مجلسي النواب والشيوخ أحيلت إلى اللجنة المختصة
المركز الدولي ينشر دراسة رائدة بعنوان «الشهادة الشفوية بين التوثيق التاريخي والإثبات القانوني والتجريم»
القصبي يوضح أهم ملامح تعديلات قوانين انتخابات مجلسي النواب والشيوخ