شاطئ السلام
بقلم: د. إبراهيم عمر (صاروخ)
باحث في قضايا السلام والتنمية
*الجنوح للسلام...طريق لخلاص البشرية من ويلات الحروب...وعلاجا ناجعا للمآسي والآلام الإنسانية*
يعد البحث عن السلام والسعي نحو تحقيقه مطلبا إنسانيا خالصا لأنه مبدأ وصفة أخلاقية، وهذا المطلب ظل حلما يراود المفكرون والعقلاء، وأمنية دامت تخالج الفلاسفة والمصلحون والخيريون.
إنشغل الفلاسفة والمفكرون والمصلحون...الخ على مدى القرون السابقة بمسألة السلام وسبل تحقيقه بين البشر، فتتجلى ذلك الحلم في كتابات الأولين من الآباء مثل: المعلم الأول أفلاطون في كتابه (المدينة الفاضلة)، والمعلم الثاني الفارابي في كتابه عن (آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها)، وأوغسطنيوس في رائعته الخالدة (مدينة الله)، وقد كرسوا هؤلاء العظماء جهودهم لخدمة المصلحة العامة، من أجل تحقيق قيم العدالة، المساواة والإخاء...الخ.
لذا فإن المناضلين من أجل العدل والإنسانية هم أهل السلام وصانعوه.
إن كلمة السلام في اللغة العربية يعني الأمان والعافية والتسليم، وكما يعنى به السلامة في الدارين، أي تحية الإسلام في الدنيا: ألا وهي السلام عليكم ورحمة الله، وفي الآخرة تحية الملائكة للفائزين بالجنة:(دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ)سورة: يونس، الآية: 10.
وتعرف موسوعة ويكيبيديا العربية السلام بأنه غياب العنف أو الشر وحلول الخير والعدل.
أما في الاصطلاح فيراد به مجموعة من الأسس والإجراءات التي تفضي إلى التصالح، الإتفاق، رتق النسيج الاجتماعي، ردم الهوة والجفوة...الخ.
إذ فيما يعرفه العلماء والمختصون في مجالي العلوم الاجتماعية والعلاقات الدولية بأنه: غياب الخلاف والعنف بكافة أشكاله وإنهاء الحروب...الخ، مقابل سيادة حالة الهدوء والسكينة والعمل على إيجاد المصالح المشتركة، والتعاون المستمر والمتبادل في العلاقات بين الجماعات المختلفة، وكما يشير المختصون بأنه المحصلة النهائية للتفاعل ما بين النظام المدني الديمقراطي الحر والعدالة الاجتماعية.
ولقد أثبتت الدراسات في مجال علم النفس التطوري أن نزوع الإنسان إلى السلام، الاجتماع، والتعاون...الخ يعبر عن الميل الفطري الذي جبل الله عليه الإنسان.
وبالنظر إلى التسلسل الزمني لظهور الرسل بالديانات السماوية يجد المرء أن أولئك الرسل جميعا جاءوا للهداية والسلام ونشر قيم المحبة من المساواة والعدل والتسامح، والإصلاح لكافة النفوس...الخ.
مثلا: السلام في رسالة سيدنا المسيح عليه السلام هو تحقيق العدل وتحرير الإنسان من العبودية بكافة اشكالها، وذلك حينما اصطدمت رسالة السلام بمسألة السلامة الجسدية إختار التضحية بالسلامة الجسدية لتبقى سلامة الحياة في رسالة السلام، فوطئ الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور، فطوبى لصانعي السلام لأنهم الصالحون من عباد الله المخلصين يدعون إلى السلام، المحبة والتسامح، فينبغي على بقية العباد أن يتأسوا بالرسل والسلف الصالح والتابعون منهم.
إما فلسفة الإسلام في السلام، تكمن في أن الله تعالي يأمر الناس بالجنوح إلى السلام إذا ما دعا إليه أحد طرفي الخلاف أو الصراع...الخ، كما أنه يوجب على الطرف الذي دعي إليه بأن يقبل ذلك، وهناك الكثير من آيات الذكر الحكيم تبين ذلك منها قول الله سبحانه وتعالى: «وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» سورة الأنفال، الآية: 61، لذا فإن الجنوح إلى السلام يعد فريضة شرعية وواجب ديني، ﳌﺎ يترتب على ذلك من غايات وأهداف نبيلة تحقق للعباد مصالح دنيوية وأخروية، لهذا كان حتما ولزاما على الأمة الإسلامية؛ بل البشرية جمعاء أن يعملوا من أجل تحقيق السلام ونشر ثقافته.
ولعظمة السلام وأهمية نشره أكد النبي صلى الله عليه وسلم بالقول: (إن السلام اسم من اسماء الله تعالى جعله الله في الأرض فأفشوه بينكم)، لأن إفشاء السلام بين الناس يشيع الطمأنينة في النفوس والسكينة في القلوب، ويقوّي العلاقات البينية ويوثق عرى روابط الأخوة الإنسانية بين أفراد المجتمع بالإلفة، والمحبة...الخ.
فالمولى عز وجل عندما خلق البشر لم يخلقهم ليتعادوا أو ليتناحروا ويستعبدوا بعضهم بعضا، بل ليتعارفوا.. لقوله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم...)سورة الحجرات: الآية 13.
فالبشر في نظر الإسلام كلهم أمة واحدة متساوية فيما بينهم جميعا، ً لأن رسالته موجهة إليهم جمعيا، فالأسرة الإنسانية على اختلاف ألسنتها وألوانها...الخ، انبثقت من أصل واحد، وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: كلكم من آدم وآدم من تراب. وبالتالي يعد الاختلاف في الألسنة، والألوان والأعراق...الخ هي آية من آيات الله عز وجل، فالاختلاف بين الناس يعد أمرا طبيعيا وعاديا؛ وينبغي أن تؤدي تلك التباينات والاختلافات بين الناس إلى التآلف بالمحبة، والمودة...الخ، وأن تشيع بينهم روح الإخاء والتسامح...الخ، لا إلى التناحر، والعنف، والاقتتال...الخ.
كما أن الإسلام يحافظ على السلام، وذلك بتحريم التجرؤ لأي كائن من كان على دماء المسلمين بالقتل، أو الإعتداء بالتعرض لأموالهم سلبا ونهبا أو التحدث والطعن في أعراضهم.
لذا جاء الخطاب الإلهي موجها للجميع يأمرهم بالدخول إلى عالم السلم والأمان دون استثناء، لقوله:(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِى ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً)سورة البقرة، الآية: 208، فإن إيمان المؤمنين يوجب عليهم بأن يكونوا متصالحين غير متعاديين، متحابين غير متباغضين، مجتمعين غير متفرقين بينهم.
فالرابحون هم أهل الإيمان الصَّادق، والعمل الصَّالح، والتواصي والتَّناصح بالحقِّ والصَّبر عليه، وهم المتعاونون على البرِّ والتَّقوى، ذلك كما في قوله تعالى:(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) سورة المائدة: الآية 2، فأي بر أو خير أينما حل وتحقق المنفعة والمصلحة للأمة، فالمسلم مأمور باتباعه دون أن يكون في نفسه أي من البغضاء والحسد والعداوة...الخ أو أن يحول دون تحقيقه.
لقد صالح النبي عليه الصلاة والسلام أهل الخيبر بين الانصار والمهاجرين من المؤمنين والمسلمين من جهه وأهل يثرب من الفصائل اليهودية وغيرهم من جهة أخرى، وذلك بموجب توقيع ميثاقا للسلام عرفت حينها بميثاق صحيفة المدينة كأول دوستور مدني يحقق الأمن والسلام والاستقرار لجميع الطوائف بالمدينة، حيث جاءت من ضمن بنودها الإقرار بمبدأ العيش المشترك والتعاون بين الجميع، كما الزم الاتفاقية كافة الأطراف على إتاحة الحريات وكفل الحقوق والواجبات مع ضرورة احترام الآخر.
وتأكيدا لهذا المبدأ إبتدر الرسول الكريم في خُطْبتِهِ يوْم النَّحر بِمنىً في حجَّةِ الودَاعِ بالقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلا لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلا بِالتَّقْوَى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، أَلا هَلْ بَلَّغْتُ؟ قَالُوا: بَلَى يارَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم قَالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قَالُوا: «يَوْمٌ حَرَامٌ»، قَالَ: «فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟» قَالُوا: «بَلَدٌ حَرَامٌ» ، قَالَ: «فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟» قَالُوا: «شَهْرٌ حَرَامٌ»، قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هَذَا، في شَهْرِكُمْ هَذَا» فَأَعَادَهَا مِرَارًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَـقَالَ:«اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟». قَالُوا: بلى رسول الله صلى عليه وعلى آله وسلم، قال: فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ».
لقد عجز كافة أَسَاطِينُ البشرية من الفلاسفة ومفكرو الإنسانية والباحثين...الخ أن يجدوا حلولا ناجعة للمشكلات المستعصية والأزمات المستفحلة الذي ظل يواجه الأمم والشعوب عبر الأزمان والدهور، بحيث لم يستطع الإنسان أن يخلق حضارة السلام، مما استدعى الحال إلى بروز العديد من المراكز والمعاهد المتخصصة في مجال درسات وأبحاث السلام والنزاع التي تعنى بدراسة أسباب الحرب والصراع والعمل على حلها وتلافي حدوثها مستقبلا.
إن حالة اللاطمأنينة الذي يعيشه المجتمعات الإنسانية اليوم من (الفوضى، التوتر، والاضطرابات...الخ، إنما هي حالة تدعو الى شديد الأسى والشفقة وعظيم الحزن والألم، ذلك لما يتعرض له الجنس البشري من (العنف، القتل والانتهاكات لحقوقه الإنسانية المشروعة...الخ) بين الحين والآخر في معظم بقاع العالم على الصعيدين الإقليمي والدولي نتيجة لتفاقم الأزمات والكوارث التي تركت أثرا كبيرا على حياة الملايين من البشر على ظهر هذا الكوكب مخلفا واقعا مأساويا يسود فيها القلق والتوتر.
في هذا الصدد كشف معالي الشيخ الدكتور/ عبدالرحمن السديس رئيس الشؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف في محاضرته عن المشكلات الاجتماعية وأهمية علاجها على ضوء الكتاب والسنة بأن أسباب المشكلات والأزمات الذي يعيشها المجتمعات البشرية والإسلامية على وجه الخصوص، إنما يعود إلى بعد الناس عن الدين وعدم الالتزام بهدى النبي صلى الله عليه.
مذكرا بأن العلاج الناجع لهذه المشكلات إنما يكون في السير على هدى الرسول الكريم وعلى ضوء الكتاب والسنة(التحلي بالآداب الحسنة، واحترام الإنسان والإنسانية، الإقرار بالتعددية والتنوع والاختلاف داخل المجتمعات البشرية، الاعتراف ،...إلخ) والذي لا ياتي إلا بصفاء القلوب وسلامة الصدور من الغل والحسد والكراهية...الخ واخلاص النوايا لله.
وعلى صعيد مواز يعزي معهد الاقتصاد والسلام التي تتخذ من استراليا مقرا له ومن خلال التقرير الذي أصدره عام 2021م أسباب تلك الحالات والتي وصفها بأنها مهددة للسلم والأمن الدوليين إلى:- استمرار الصراعات الداخلية والخارجية المستمدة من عدم شرعية الحكومات، عسكرة الدولة (تدخل الجيش في الحياة السياسية)، عدم احترام سيادة حكم القانون، الانقسامات الاجتماعية القائمة على أساس(طائفي، ديني، حزبي وعرقي،....الخ، عدم المساواة بين أبناء الشعب في الحقوق والواجبات، تصاعد لغة البغضاء والكراهية وانعدام لغة الحوار، والشفافية...الخ.
وللخروج من هذا المأزق عدد الأستاذ/ محمود درويش الكاتب والروائي في كتابه عن صناعة السلام مجموعة من القيم والمبادئ الداله على إنهاء الخلافات والأزمات، منها:- *عدم اللجوء إلى العنف كوسيلة لحل الخلافات والمشاكل *احترام مبدأ سيادة حكم القانون *التخلص من السم الداخلي المكون من الحقد والكراهية *ترك العصبية والجهوية *التخلي عن الأنا * تطبيق مبدأ المساواة بين الشعوب بعضها البعض *محاسبة النفس *رد المظالم وطلب العفو *قبول الآخر ...الخ.
هذا بالإضافة إلى ما تقدم ذكره حتى يستطيع الإنسان من التخلص مما يعانيه من ويلات الحروبات( العنف، القتل، الاقتتال، الجروح...الخ)، والاضطرابات للوصول إلى شاطئ السلام يتطلب الأمر إلى:
ضرورة إلتزام الإنسان بالافعال والأقوال على هدى الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام والصالحين...الخ، بالتحلي بالأخلاق الحميدة والقيم الفاضلة، الإقرار بالتعدد والتنوع الديني، الثقافي، العرقي والإثني...الخ، إحترام حقوق الإنسان، تعزيز قيم الحوار بين الثقافات والحضارات المختلفة، ترسيخ قيم التعايش السلمي بين المكونات المختلفة، مواجهة خطاب الكراهية والحد منها، إشاعة ثقافة السلام والتسامح بين الأمم والشعوب...الخ .
الأمر الذي لا يتأتى إلا بتربية الإنسان على القيم الروحية والمادية أي التوازن فيما بين متطلبات الروح: (الحاجة للحرية، العدالة، الانتماء والهوية...الخ) واحتياجات الجسد المادية(الطعام، الملبس، المسكن والصحة...الخ)، وذلك من أجل ترسيخ الاطمئنان في النفوس والسكينة في القلوب المفضية إلى الإستقرار الداخلي: طمأنينة الروح وراحة البال(السلام الداخلي)، الذي هو أساس السلام العائلي، الاجتماعي والعالمي. وللوصول إلى ذلك الهدف المراد تحقيقه ينبغي على المرء: الالتزام بأمور دينه والولاء لعقيدته، وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وعليه أن يكافح من أجل تحقيق الغايات النبيلة والقيم السامية من(الحرية، العدل، السلام، الديموقراطية...الخ).
فالله السلام وأرسل الرسل للسلام وأمر الناس إلى الدخول في السلم كافة، فهل من سلام ؟!!!
E-mail: ibrahimsarokh@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: صلى الله علیه إلى السلام من أجل
إقرأ أيضاً:
أمين البحوث الإسلاميَّة: الإيمان والعِلم طريقان متكاملان
ألقى الأستاذ الدكتور محمد الجندي، الأمين العام لـ مجمع البحوث الإسلامية، كلمةً خلال افتتاح فعاليَّات الأسبوع الثاني عشر للدعوة الإسلاميَّة، الذي تعقده اللجنة العُليا للدعوة في جامعة (بنها) تحت عنوان: (الإيمان أولًا)، برعايةٍ كريمةٍ مِنْ فضيلة الإمام الأكبر أ.د. أحمد الطيِّب، شيخ الأزهر الشريف، وبحضور: فضيلة أ.د. محمد الضويني، وكيل الأزهر، وأ.د. ناصر الجيزاوي، رئيس جامعة بنها، وأ.د. جيهان عبدالهادي، نائب رئيس جامعة بنها، ود. حسن يحيى، الأمين العام المساعد للجنة العُليا لشئون الدعوة بالمجمع، ووفد من المنطقة الأزهريَّة ومديري منطقة الوعظ بالقليوبيَّة.
وفي كلمته قال الدكتور محمد الجندي: إنَّ الإيمان أولًا؛ لأنه الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والفطرة السليمة لا تحتاج إلى دليلٍ معقَّد؛ بل إلى قلبٍ نقيٍّ صادقٍ يبحث عن الحقيقة، مضيفًا أنَّ كل إنسان يُولَد على الفطرة طاهرًا نقيًّا، ثم تعبث به مؤثِّرات البيئة والواقع، فتكدِّر صفاءه، وتزحزحه عن بساط النور الذي وُلِدَ عليه.
وأكَّد الدكتور الجندي أنَّ الإيمان حقٌّ ظاهر، لا يُصنع ولا يُكتسب؛ لأنه مغروس في أعماق الإنسان، بينما الإنكار طارئ زائل، موضِّحًا أنَّ الإيمان والعِلم طريقان متكاملان لا متعارضان، فالعِلم دليل على الإيمان، والدِّين لا يُقصِي العِلم، والعلم لا يُلغي الدِّين؛ فكلاهما يكشفان عن جمال الخلق ودقَّة النظام الكوني الذي يدلُّ على وجود الخالق سبحانه وتعالى، وأنَّ الإشكال الحقيقي ليس بين الدِّين والعِلم؛ وإنما بين الجهل بالدِّين وسوء فَهم العِلم.
وأشار الأمين العام لمجمع البحوث الإسلاميَّة إلى أنَّ المنكِرين للإيمان يزعمون أن الكون بلا خالق، وأنَّ المادَّة أزليَّة، وأنَّ الإنسان مجرَّد كتلة ماديَّة تخضع لقوانين الطبيعة، غير أنَّ علماء التجريب أنفسهم انتهوا إلى ضرورة الإيمان بوجود الخالق، ومنهم عالِم الطبيعة البيولوجيَّة (فرانك ألن)، الذي قرَّر أنَّ نشأة العالَم لا يمكن أن تكون مصادفة، بعد أن تأمَّل تركيب البروتينات المعقَّدة التي يبلغ عدد ذرَّاتها في الجزيء الواحد 40 ألف ذرَّة منتظمة بدقَّة مدهشة، تدلُّ على إرادة خالقة، لا على صدفة عمياء.
ولفت فضيلته إلى أنَّ العالِم (روبرت بيج) أثبت في مقاله (اختبار شامل) أنَّ اختبار صحَّة أيِّ فرض يستلزم التسليم المبدئي بصحَّته، مبيِّنًا أنَّ وجود الله لا يُختبَر بالأدوات الماديَّة؛ لأنَّ الإله لا ينتمي لعالَم الحسِّ، لكنَّ الإنسان إذا توجَّه بقلبه وعقله إلى الله بصدق انكشف له وجه الحقيقة وغمره نور الإيمان.
وتابع أنَّ العالِم الفيلسوف (ميريت ستانلي) أكَّد أنَّ الإيمان سابق والإنكار لاحق، وأنَّ العلماء عندما يدرسون ظواهر الكون فإنهم لا يفعلون أكثر من ملاحظة آثار قدرة الله في خَلْقه، مشدِّدًا على أنَّ العلوم الماديَّة مهما بلغت فلن تستطيع أن تنفي وجود الله؛ بل تشهد له في كلِّ ذرَّة من ذرَّات الكون، مستشهدًا بقوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}، وقوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا}.
الفطرة دليل أصيل على الإيمانوأردف الدكتور محمد الجندي أنَّ الفطرة دليلٌ أصيلٌ على الإيمان؛ إذْ يلجأ الإنسان إلى خالقه في أوقات الشدَّة، سواء أكان مؤمنًا أم منكِرًا، مصداقًا لقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا}، مشيرًا إلى أنَّ هذا النِّداء الفطري هو أصدق برهان على أنَّ الإيمان مغروس في النفْس البشريَّة منذ البدء.
وبيَّن الدكتور الجندي أنَّ المعرفة إذا انقطعت عن الفطرة أصابها ما يُشبه هشاشة العظام؛ فلا تقوم بها عقيدة ولا تُبنَى عليها رؤية، لافتًا إلى أنَّ النصوص الشرعيَّة دلَّت على وجود هذا المكوِّن الفطري؛ كما في قوله تعالى: {فِطْرَة اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، وقوله سبحانه: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً}، وحديث النبي ﷺ: «ما مِن مولود إلا يُولَد على الفطرة»، وأنَّ هذه الفطرة قد يعرض لها أحيانًا ما يشوهها، فيلزم حينها النظر والاستدلال، واستخدام الأدلة كافة التي تسوق صاحب النزعة المادية إلى القناعة الحسية والعقلية بوجود الله تعالى.
كما أشار إلى أنَّ دلالة الفطرة على وجود الله -تعالى- تتجلَّى في عدة مستويات؛ أولها: المبادئ العقليَّة الأوليَّة التي تقرِّر أنَّ لكل مسبب سببًا ولكل حادث محدثًا، وثانيها: النزعة الأخلاقيَّة التي تحمل الإنسان على إدراك قيمة العدل والخير كقيم مطلقة لا نسبيَّة، وثالثها: الجانب الغريزي الذي يوجِّه المخلوقات فطريًّا لما ينفعها؛ كغريزة الأمومة وحبِّ البقاء، ورابعها: الشعور بالغائيَّة الذي يدفع الإنسان إلى التساؤل عن الغاية مِن وجوده ومصيره، وهو تساؤل لا يجد جوابه إلَّا بالإيمان بخالق حكيم.
وأوضح الدكتور محمد الجندي أنَّ الإنسان يولد مفطورًا على الإيمان بالله؛ كما شهد على نفْسه في الميثاق الأول بقوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}، وهي شهادة باقية في أصل الخَلْق، وقد أكَّد ابن كثير أن الله استخرج ذريَّة بني آدم من أصلابهم شاهدين على ربوبيَّته، مضيفًا أنَّ هذه الحقيقة النقليَّة والعقلية صارت اليوم حقيقة عِلميَّة بعد أن أثبت عِلم الوراثة انتقال الصِّفات عبر الأجيال؛ ممَّا يدلُّ على وجود البشر في صُلْب آدم -عليه السلام- منذ الخَلْق الأول.
واختتم الأمين العام لمجمع البحوث الإسلاميَّة كلمته بتأكيد أنَّ الدِّين –بمقتضى العقل والنَّقل والعِلم– حقيقةٌ فطريَّةٌ مغروسةٌ في النَّفْس الإنسانيَّة، ومسجَّلة في الجينات البشريَّة، وأنَّ كل مظاهر الكون والعقل والعِلم تصدح في النهاية بعبارة واحدة: «الإيمان أولًا».