سودانايل:
2025-05-16@17:47:34 GMT

شاطئ السلام

تاريخ النشر: 6th, June 2024 GMT

شاطئ السلام
بقلم: د. إبراهيم عمر (صاروخ)
باحث في قضايا السلام والتنمية
*الجنوح للسلام...طريق لخلاص البشرية من ويلات الحروب...وعلاجا ناجعا للمآسي والآلام الإنسانية*
يعد البحث عن السلام والسعي نحو تحقيقه مطلبا إنسانيا خالصا لأنه مبدأ وصفة أخلاقية، وهذا المطلب ظل حلما يراود المفكرون والعقلاء، وأمنية دامت تخالج الفلاسفة والمصلحون والخيريون.

..الخ منذ فجر التاريخ الإنساني، باعتباره الطريق الأنجح لنجاة البشرية من ويلات الحروب ومآسيها، وعلاجا ناجعا لآلامها، بل هو السبيل الأمثل لتحقيق الأمن البشري للمجتمعات الإنسانية.
إنشغل الفلاسفة والمفكرون والمصلحون...الخ على مدى القرون السابقة بمسألة السلام وسبل تحقيقه بين البشر، فتتجلى ذلك الحلم في كتابات الأولين من الآباء مثل: المعلم الأول أفلاطون في كتابه (المدينة الفاضلة)، والمعلم الثاني الفارابي في كتابه عن (آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها)، وأوغسطنيوس في رائعته الخالدة (مدينة الله)، وقد كرسوا هؤلاء العظماء جهودهم لخدمة المصلحة العامة، من أجل تحقيق قيم العدالة، المساواة والإخاء...الخ.
لذا فإن المناضلين من أجل العدل والإنسانية هم أهل السلام وصانعوه.
إن كلمة السلام في اللغة العربية يعني الأمان والعافية والتسليم، وكما يعنى به السلامة في الدارين، أي تحية الإسلام في الدنيا: ألا وهي السلام عليكم ورحمة الله، وفي الآخرة تحية الملائكة للفائزين بالجنة:(دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ)سورة: يونس، الآية: 10.
وتعرف موسوعة ويكيبيديا العربية السلام بأنه غياب العنف أو الشر وحلول الخير والعدل.
أما في الاصطلاح فيراد به مجموعة من الأسس والإجراءات التي تفضي إلى التصالح، الإتفاق، رتق النسيج الاجتماعي، ردم الهوة والجفوة...الخ.
إذ فيما يعرفه العلماء والمختصون في مجالي العلوم الاجتماعية والعلاقات الدولية بأنه: غياب الخلاف والعنف بكافة أشكاله وإنهاء الحروب...الخ، مقابل سيادة حالة الهدوء والسكينة والعمل على إيجاد المصالح المشتركة، والتعاون المستمر والمتبادل في العلاقات بين الجماعات المختلفة، وكما يشير المختصون بأنه المحصلة النهائية للتفاعل ما بين النظام المدني الديمقراطي الحر والعدالة الاجتماعية.
ولقد أثبتت الدراسات في مجال علم النفس التطوري أن نزوع الإنسان إلى السلام، الاجتماع، والتعاون...الخ يعبر عن الميل الفطري الذي جبل الله عليه الإنسان.
وبالنظر إلى التسلسل الزمني لظهور الرسل بالديانات السماوية يجد المرء أن أولئك الرسل جميعا جاءوا للهداية والسلام ونشر قيم المحبة من المساواة والعدل والتسامح، والإصلاح لكافة النفوس...الخ.
مثلا: السلام في رسالة سيدنا المسيح عليه السلام هو تحقيق العدل وتحرير الإنسان من العبودية بكافة اشكالها، وذلك حينما اصطدمت رسالة السلام بمسألة السلامة الجسدية إختار التضحية بالسلامة الجسدية لتبقى سلامة الحياة في رسالة السلام، فوطئ الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور، فطوبى لصانعي السلام لأنهم الصالحون من عباد الله المخلصين يدعون إلى السلام، المحبة والتسامح، فينبغي على بقية العباد أن يتأسوا بالرسل والسلف الصالح والتابعون منهم.
إما فلسفة الإسلام في السلام، تكمن في أن الله تعالي يأمر الناس بالجنوح إلى السلام إذا ما دعا إليه أحد طرفي الخلاف أو الصراع...الخ، كما أنه يوجب على الطرف الذي دعي إليه بأن يقبل ذلك، وهناك الكثير من آيات الذكر الحكيم تبين ذلك منها قول الله سبحانه وتعالى: «وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» سورة الأنفال، الآية: 61، لذا فإن الجنوح إلى السلام يعد فريضة شرعية وواجب ديني، ﳌﺎ يترتب على ذلك من غايات وأهداف نبيلة تحقق للعباد مصالح دنيوية وأخروية، لهذا كان حتما ولزاما على الأمة الإسلامية؛ بل البشرية جمعاء أن يعملوا من أجل تحقيق السلام ونشر ثقافته.
ولعظمة السلام وأهمية نشره أكد النبي صلى الله عليه وسلم بالقول: (إن السلام اسم من اسماء الله تعالى جعله الله في الأرض فأفشوه بينكم)، لأن إفشاء السلام بين الناس يشيع الطمأنينة في النفوس والسكينة في القلوب، ويقوّي العلاقات البينية ويوثق عرى روابط الأخوة الإنسانية بين أفراد المجتمع بالإلفة، والمحبة...الخ.
فالمولى عز وجل عندما خلق البشر لم يخلقهم ليتعادوا أو ليتناحروا ويستعبدوا بعضهم بعضا، بل ليتعارفوا.. لقوله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم...)سورة الحجرات: الآية 13.
فالبشر في نظر الإسلام كلهم أمة واحدة متساوية فيما بينهم جميعا، ً لأن رسالته موجهة إليهم جمعيا، فالأسرة الإنسانية على اختلاف ألسنتها وألوانها...الخ، انبثقت من أصل واحد، وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: كلكم من آدم وآدم من تراب. وبالتالي يعد الاختلاف في الألسنة، والألوان والأعراق...الخ هي آية من آيات الله عز وجل، فالاختلاف بين الناس يعد أمرا طبيعيا وعاديا؛ وينبغي أن تؤدي تلك التباينات والاختلافات بين الناس إلى التآلف بالمحبة، والمودة...الخ، وأن تشيع بينهم روح الإخاء والتسامح...الخ، لا إلى التناحر، والعنف، والاقتتال...الخ.
كما أن الإسلام يحافظ على السلام، وذلك بتحريم التجرؤ لأي كائن من كان على دماء المسلمين بالقتل، أو الإعتداء بالتعرض لأموالهم سلبا ونهبا أو التحدث والطعن في أعراضهم.
لذا جاء الخطاب الإلهي موجها للجميع يأمرهم بالدخول إلى عالم السلم والأمان دون استثناء، لقوله:(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِى ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً)سورة البقرة، الآية: 208، فإن إيمان المؤمنين يوجب عليهم بأن يكونوا متصالحين غير متعاديين، متحابين غير متباغضين، مجتمعين غير متفرقين بينهم.
فالرابحون هم أهل الإيمان الصَّادق، والعمل الصَّالح، والتواصي والتَّناصح بالحقِّ والصَّبر عليه، وهم المتعاونون على البرِّ والتَّقوى، ذلك كما في قوله تعالى:(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) سورة المائدة: الآية 2، فأي بر أو خير أينما حل وتحقق المنفعة والمصلحة للأمة، فالمسلم مأمور باتباعه دون أن يكون في نفسه أي من البغضاء والحسد والعداوة...الخ أو أن يحول دون تحقيقه.
لقد صالح النبي عليه الصلاة والسلام أهل الخيبر بين الانصار والمهاجرين من المؤمنين والمسلمين من جهه وأهل يثرب من الفصائل اليهودية وغيرهم من جهة أخرى، وذلك بموجب توقيع ميثاقا للسلام عرفت حينها بميثاق صحيفة المدينة كأول دوستور مدني يحقق الأمن والسلام والاستقرار لجميع الطوائف بالمدينة، حيث جاءت من ضمن بنودها الإقرار بمبدأ العيش المشترك والتعاون بين الجميع، كما الزم الاتفاقية كافة الأطراف على إتاحة الحريات وكفل الحقوق والواجبات مع ضرورة احترام الآخر.
وتأكيدا لهذا المبدأ إبتدر الرسول الكريم في خُطْبتِهِ يوْم النَّحر بِمنىً في حجَّةِ الودَاعِ بالقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلا لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلا بِالتَّقْوَى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، أَلا هَلْ بَلَّغْتُ؟ قَالُوا: بَلَى يارَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم قَالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قَالُوا: «يَوْمٌ حَرَامٌ»، قَالَ: «فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟» قَالُوا: «بَلَدٌ حَرَامٌ» ، قَالَ: «فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟» قَالُوا: «شَهْرٌ حَرَامٌ»، قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هَذَا، في شَهْرِكُمْ هَذَا» فَأَعَادَهَا مِرَارًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَـقَالَ:«اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟». قَالُوا: بلى رسول الله صلى عليه وعلى آله وسلم، قال: فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ».
لقد عجز كافة أَسَاطِينُ البشرية من الفلاسفة ومفكرو الإنسانية والباحثين...الخ أن يجدوا حلولا ناجعة للمشكلات المستعصية والأزمات المستفحلة الذي ظل يواجه الأمم والشعوب عبر الأزمان والدهور، بحيث لم يستطع الإنسان أن يخلق حضارة السلام، مما استدعى الحال إلى بروز العديد من المراكز والمعاهد المتخصصة في مجال درسات وأبحاث السلام والنزاع التي تعنى بدراسة أسباب الحرب والصراع والعمل على حلها وتلافي حدوثها مستقبلا.
إن حالة اللاطمأنينة الذي يعيشه المجتمعات الإنسانية اليوم من (الفوضى، التوتر، والاضطرابات...الخ، إنما هي حالة تدعو الى شديد الأسى والشفقة وعظيم الحزن والألم، ذلك لما يتعرض له الجنس البشري من (العنف، القتل والانتهاكات لحقوقه الإنسانية المشروعة...الخ) بين الحين والآخر في معظم بقاع العالم على الصعيدين الإقليمي والدولي نتيجة لتفاقم الأزمات والكوارث التي تركت أثرا كبيرا على حياة الملايين من البشر على ظهر هذا الكوكب مخلفا واقعا مأساويا يسود فيها القلق والتوتر.
في هذا الصدد كشف معالي الشيخ الدكتور/ عبدالرحمن السديس رئيس الشؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف في محاضرته عن المشكلات الاجتماعية وأهمية علاجها على ضوء الكتاب والسنة بأن أسباب المشكلات والأزمات الذي يعيشها المجتمعات البشرية والإسلامية على وجه الخصوص، إنما يعود إلى بعد الناس عن الدين وعدم الالتزام بهدى النبي صلى الله عليه.
مذكرا بأن العلاج الناجع لهذه المشكلات إنما يكون في السير على هدى الرسول الكريم وعلى ضوء الكتاب والسنة(التحلي بالآداب الحسنة، واحترام الإنسان والإنسانية، الإقرار بالتعددية والتنوع والاختلاف داخل المجتمعات البشرية، الاعتراف ،...إلخ) والذي لا ياتي إلا بصفاء القلوب وسلامة الصدور من الغل والحسد والكراهية...الخ واخلاص النوايا لله.
وعلى صعيد مواز يعزي معهد الاقتصاد والسلام التي تتخذ من استراليا مقرا له ومن خلال التقرير الذي أصدره عام 2021م أسباب تلك الحالات والتي وصفها بأنها مهددة للسلم والأمن الدوليين إلى:- استمرار الصراعات الداخلية والخارجية المستمدة من عدم شرعية الحكومات، عسكرة الدولة (تدخل الجيش في الحياة السياسية)، عدم احترام سيادة حكم القانون، الانقسامات الاجتماعية القائمة على أساس(طائفي، ديني، حزبي وعرقي،....الخ، عدم المساواة بين أبناء الشعب في الحقوق والواجبات، تصاعد لغة البغضاء والكراهية وانعدام لغة الحوار، والشفافية...الخ.
وللخروج من هذا المأزق عدد الأستاذ/ محمود درويش الكاتب والروائي في كتابه عن صناعة السلام مجموعة من القيم والمبادئ الداله على إنهاء الخلافات والأزمات، منها:- *عدم اللجوء إلى العنف كوسيلة لحل الخلافات والمشاكل *احترام مبدأ سيادة حكم القانون *التخلص من السم الداخلي المكون من الحقد والكراهية *ترك العصبية والجهوية *التخلي عن الأنا * تطبيق مبدأ المساواة بين الشعوب بعضها البعض *محاسبة النفس *رد المظالم وطلب العفو *قبول الآخر ...الخ.
هذا بالإضافة إلى ما تقدم ذكره حتى يستطيع الإنسان من التخلص مما يعانيه من ويلات الحروبات( العنف، القتل، الاقتتال، الجروح...الخ)، والاضطرابات للوصول إلى شاطئ السلام يتطلب الأمر إلى:
ضرورة إلتزام الإنسان بالافعال والأقوال على هدى الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام والصالحين...الخ، بالتحلي بالأخلاق الحميدة والقيم الفاضلة، الإقرار بالتعدد والتنوع الديني، الثقافي، العرقي والإثني...الخ، إحترام حقوق الإنسان، تعزيز قيم الحوار بين الثقافات والحضارات المختلفة، ترسيخ قيم التعايش السلمي بين المكونات المختلفة، مواجهة خطاب الكراهية والحد منها، إشاعة ثقافة السلام والتسامح بين الأمم والشعوب...الخ .
الأمر الذي لا يتأتى إلا بتربية الإنسان على القيم الروحية والمادية أي التوازن فيما بين متطلبات الروح: (الحاجة للحرية، العدالة، الانتماء والهوية...الخ) واحتياجات الجسد المادية(الطعام، الملبس، المسكن والصحة...الخ)، وذلك من أجل ترسيخ الاطمئنان في النفوس والسكينة في القلوب المفضية إلى الإستقرار الداخلي: طمأنينة الروح وراحة البال(السلام الداخلي)، الذي هو أساس السلام العائلي، الاجتماعي والعالمي. وللوصول إلى ذلك الهدف المراد تحقيقه ينبغي على المرء: الالتزام بأمور دينه والولاء لعقيدته، وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وعليه أن يكافح من أجل تحقيق الغايات النبيلة والقيم السامية من(الحرية، العدل، السلام، الديموقراطية...الخ).
فالله السلام وأرسل الرسل للسلام وأمر الناس إلى الدخول في السلم كافة، فهل من سلام ؟!!!

E-mail: ibrahimsarokh@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: صلى الله علیه إلى السلام من أجل

إقرأ أيضاً:

معنى الظلم في دعاء سيدنا يونس .. الإفتاء توضح

أجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد إليها عبر موقعها الرسمي مضمونه: "ما معنى الظلم في دعاء سيدنا ذي النون يونس عليه السلام حينما قال: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾؟ وهل هذا الدعاء له فضل؟". 

لترد دار الإفتاء موضحة: أن معنى الظلم في دعاء سيدنا يونس عليه السلام، محمول على معانٍ تليق بمقام النبوة العظيم.

ومن هذه المعاني: أنه حمَّل نفسه أكثر مما تطيق، أو أنه تصرف بغير إذن ربه، أو أنه تَرَكَ الأولى والأفضل، أو أنه من جملة تسبيح الله سبحانه وتعالى وذكره له، وهذا الذكر من جملة الدعاء المستجاب الذي له فضلٌ عظيمٌ؛ فمن دعا به طالبًا النجاة من شيءٍ نجاه الله تعالى.

لماذا لا يستجيب الله دعائي؟.. الإفتاء تحذر من 3 أفعال شائعةأدعية الحج من مغادرة المنزل إلى الوصول للأماكن المقدسة.. احفظها الآن

ولا يصح أن يُفهم أنه من معاني الظلم المذمومة، فالأنبياء معصومون عن الذنوب كبائرها وصغائرها.

الظلم: هو التعدي عن الحق إلى الباطل، وقيل: هو التصرف في ملك الغير ومجاوزة الحد، واستعمال القرآن الكريم لهذا اللفظ يفيد أن له أنواعًا كثيرة كلها مذمومة.

ولا مراء في أن الظلم بأيِّ نوع من أنواعه أو شكلٍ من أشكاله لا يمكن تصور صدوره ونسبته إلى أحد السادة الأنبياء والرسل العظام جميعًا عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام؛ لأن الظلم بكل معانيه يعد ذنبًا، وهم معصومون عن الذنوب كبائرها وصغائرها، بل حتى عن المكروهات، كما قرره علماء الأمة. ينظر: "حاشية البيجوري على جوهرة التوحيد" (ص: 200-201، ط. دار السلام).

وأما ما ورد من نسبة سيدنا يونس عليه السلام الظلم إلى نفسه فيما حكاه على لسانه القرآنُ الكريم: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87] فليس المراد منه أي معنى من المعاني المذمومة، بل هذا محمول على معان تليق بمقام النبوة العظيم.

- ومن هذه المعاني: أنه عليه السلام حمَّل نفسه فوق ما ينبغي أن تتحمل وأرهقها، أو أنه تصرف تصرفًا ما بخروجه عن قومه بغير إذن ربه.

قال الشيخ أحمد ابن عجيبة في "البحر المديد" (3/ 493، ط. الدكتور حسن عباس زكي) في قوله: ﴿إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أي: [لنفسي بخروجي عن قومي قبل أن تأذن لي، أو من الظالمين لأنفسهم بتعريضها للهلكة] اهـ.

وقال الإمام ابن جزي في "التسهيل" (2/ 28، ط. دار الأرقم): [والظلم الذي اعترف به كونه لم يصبر على قومه وخرج عنهم] اهـ.

وقال الإمام الماوردي في "تفسيره" (3/ 467، ط. دار الكتب العلمية): [يعني لنفسي في الخروج من غير أن تأذن لي، ولم يكن ذلك عقوبة من الله؛ لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا، وإنما كان تأديبًا، وقد يُؤَدَّبُ من لا يستحق العقاب] اهـ.

- ومنها أيضا: أنه من جملة تسبيح الله سبحانه وتعالى.

قال الإمام البغوي في "معالم التنزيل في تفسير القرآن" (4/ 47، ط. دار إحياء التراث العربي): [وقيل: فلولا أنه كان من المسبحين في بطن الحوت؛ قال سعيد بن جبير: يعني قوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87]] اهـ.

- ومنها: أنه ترك الأفضل والأولى، فاعتبر نفسه ظالمًا؛ قال الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب" (22/ 179-181، ط. دار إحياء التراث العربي): [قوله: ﴿إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، والظلم من أسماء الذم؛ لقوله تعالى: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 18]... لا شك أنه كان تاركًا للأفضل مع القدرة على تحصيل الأفضل فكان ذلك ظلمًا] اهـ.

وجاء في "غرائب القرآن ورغائب الفرقان" للنيسابوري (1/ 388، ط. دار الكتب العلمية): [الظلم فيه محمول على ترك الأولى؛ كما في حق آدم: ﴿رَبَّنَا ظَلَمۡنَآ أَنفُسَنَا﴾ [الأعراف: 23] لا على الكفر والفسق] اهـ.

فحاصل ما ذُكر: أن معنى الظلم الذي نسبه سيدنا يونس عليه السلام إلى نفسه كما في الآية المذكورة أنه شق على نفسه ولم يرفق بها في سبيل طاعة الله، وأهل الكمال يعاملون أنفسهم كما يعاملون نفوس الخلق، فهم مطالبون بالرفق عليها، كرفقهم على سائر نفوس الخلق، أو هو فعل خلاف الأولى مطلقًا، أو هو خروجه عن قومه بغير إذن ربه.

ولا يصح أن يُفهم على نحوٍ فيه انتقاص من مقامه الرفيع؛ إذ المقرر عند علماء المسلمين أنه يجب تأويل مثل هذه الألفاظ التي يوهم ظاهرها خلاف الواجب عقلًا فتُحمل على معنًى لائق بمقام النبوة العظيم؛ كما قال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (4/ 13، ط. دار ابن عفان): [ولك في التأويل السعة بكل ما يليق بأهل النبوة ولا ينبو عنه ظاهر الآيات] اهـ.

هذا وقد ورد في السنة النبوية الحثُّ على هذا الدعاء والتضرع به إلى الله تعالى، وبيان فضله العظيم؛ فمن دعا الله تعالى به نال الإجابة كما نالها يونس عليه السلام.

فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ:لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ» رواه الترمذي في "سننه"، وأحمد في "مسنده"، والحاكم في "مستدركه على الصحيحين".

قال الإمام المناوي في "التيسير بشرح الجامع الصغير" (2/ 6، ط. مكتبة الإمام الشافعي): [(إلا استجاب الله له) لما كانت مسبوقة بالعجز والانكسار ملحوقة بهما صارت مقبولة] اهـ.

وقال الإمام القشيري في "لطائف الإشارات" (2/ 520، ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب): [ثم قال: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ﴾؛ يعني: كلُّ من قال من المؤمنين -إذا أصابه غمٌّ، أو استقبله أمر مهم- مثلما قال ذو النون نجيناه كما نجينا ذا النون] اهـ.

وبناءً على ما سبق وفي السؤال: فمعنى الظلم في دعاء سيدنا يونس عليه السلام، محمول على أنه حمَّل نفسه أكثر مما تطيق، أو أنه تصرف بغير إذن ربه، أو أنه تَرَكَ الأولى والأفضل، أو أنه من جملة تسبيح الله سبحانه وتعالى وذكره له، وهذا الذكر من جملة الدعاء المستجاب الذي له فضلٌ عظيمٌ؛ فمن دعا به طالبًا النجاة من شيءٍ نجاه الله تعالى، ولا يصح أن يُفهم أنه من معاني الظلم المذمومة، فالأنبياء معصومون عن الذنوب كبائرها وصغائرها.

طباعة شارك معنى الظلم في دعاء سيدنا يونس دعاء سيدنا يونس الظلم

مقالات مشابهة

  • ادعوا الله فـي كـل وقـت وحـين.. فأبواب الخالـق لا تغلق
  • خطيب الجامع الأزهر يكشف عن سلوك يرفع شأن الإنسان في الدنيا والآخرة
  • أهم حدث في الساحة حاليا هو العدوان الذي يتعرض له السودان من تحالف دولي يدمر في بنيته التحتية
  • لماذا يوم الجمعة خير يوم طلعت عليه الشمس؟
  • أمين الفتوى: التدين الحقيقي ليس بمظاهر العبادات والطاعات فقط
  • من قائمة الإرهاب إلى طاولة السلام.. الشرع ولقاء الرياض الذي غيّر المعادلة
  • أذكار الصباح اليوم الخميس 15 مايو 2025.. «بسم الله الذي لا يضرُّ مع اسمه شيء»
  • ما الذي قد تفعله إيران بـسلاح حزب الله؟ تقريرٌ يكشف
  • السعودية رمز السلام
  • معنى الظلم في دعاء سيدنا يونس .. الإفتاء توضح