السلطان العاقل والعقل الجاهل
تاريخ النشر: 6th, June 2024 GMT
بقلم : هادي جلو مرعي ..
إستعصى على السلطان فهم الطريقة التي يفكر فيها قومه، فكلما إنجز عملا لصالحهم سخروا منه، وشتموه، وحركوا السفهاء من بينهم ليثيروا غبار الفتنة في وجهه حتى ظن أنه يحكم قوما مجانين لاشفاء لهم، وقد ذهبت عقولهم الى الأبد. فكلما شق نهرا قالوا: ماذا يفعل هذا المجنون، فضحكوا، وإذا رصف طريقا قالوا: يعبد الطريق ويتركنا نعاني من الحرمان، ثم يتحدثون عن بناء الإنسان، وضربوا مثلا في الصين التي قرر حكامها أن يقيموا سورا عظيما حول بلادها يقيهم هجمات الأعداء، وتفاخروا به، وصار من عجائب الدنيا، ولكن الأعداء الذين فشلوا في تجاوز السور إلتجأوا الى طريقة أخرى، وقاموا بشراء الحراس الذين فتحوا لهم الأبواب، فتنبهوا الى خطأهم حين إعتنوا بالسور، ونسوا قبل ذلك الإعتناء بالحارس الذي يحمي السور، وعلى قاعدة بناء الإنسان قبل الأوطان، ولكن ذلك وحده لايكفي أيضا وسط الفوضى الكونية التي يعيشها العالم.
العراق مثلا.
في هذا البلد دخل الإنجليز عام 1917 وحكموا بعد مئات من السنين كان العراق فيها تحت سطوة العثمانيين، وكان الجوع والمرض والخراب والحرمان يطبع حياة الناس، وكان الولاة العثمانيون لايعترفون بوجود بشر، وكان همهم تحصيل الضرائب، ونهب ماإستطاعوا وما وجدوا فيه قيمة، وحين إنتهى زمنهم تحول العراق الى محمية بريطانية فتحت أعين العراقيين على التحديث، ولكن ذلك لم يكف فقد ركزوا على مصالحهم أكثر بالرغم من قيامهم بإنشاء النوادي الترفيهية والموانئ والمدارس الحديثة، وبعض الطرق ومد السكك الحديدية، وتركوا بعض التحديث والعمران، وسمحوا بقيام الدولة الملكية التي قامت بوضع أسس دولة أنشأت ماسمي مجلس الإعمار الذي أخذ على عاتقه القيام بتحديث الدولة، ولكن الإنسان العراقي كان آخر هموم السلطان، ثم أسقطت الملكية، ودخل العراق في دوامة الصراع بين المكونات العرقية والدينية، ومن إنقلاب الى إنقلاب حتى صار العسكر يحكمون، ولم يكن من أمل، حتى إذا جاءت ثورة تموز، ومضت الأيام، وحكم صدام، وغنت مائدة نزهت:
حياك يابو حلا يابهجة الأيام
دخل العراق في دوامة الحرب والموت والديون والعذابات والتهجير، وصارت ثقافة الناس تمجيد الحاكم، والتضحية في سبيله، وبين ضحية، وبين مؤمن بذلك النظام غابت مشاريع التنمية، وبعدها كانت حرب الكويت، ولعبة الحصار القاتل، فصار أطفال بغداد يدخلون مستشفى الإسكان غرب العاصمة، ويغادرونه في توابيت وضعت على سيارات التاكسي تجوب شارع 14 رمضان، والفنانة العربية العظيمة (رغدة) تشيعهم الى المقابر، وصرنا نغني في ساحات الكليات والجامعات: فلتسقط أمريكا فلتسقط، ونضع العلم المنجم مرسوما على الأرض، وندوسه بأقدامنا فرحين، بينما الحصار جعلنا نتشارك الطحين مع جلود الأفاعي والفئران الصغيرة الميتة، وكنا نأكل بيتزا مطحونة دون أن نشعر، حتى إذا جاءت الأمبراطورية السادسة وإحتلت العراق بنفسها في العام 2003 وسلمته الى الفوضى عاش الناس تجربة مختلفة قاسية مريرة بين فوضى الحكم، والتنافس على السلطان، وسرقة الأموال العامة، والدخول في دوامة الحرب الطائفية، وتدخلات الخارج، ودخول المشاريع التي لاجدوى منها للعراقيين كانت الآمال تتضائل، وكنا نتوارث عن آبائنا وأجدادنا عقد الحرمان والتهميش والتمييز بين قومية وأخرى، وطائفة وأخرى، وحتى اللهجات المحلية التي يراها البعض معيبة فكأننا مجموعات من القبائل نزحت الى أرض الرافدين، وتوطنت فيها، ولاتربطها بها صلة، ولاعلاقة لها بسومر وآشور كأنما بدوي يتغنى بعمران قديم عقل ناقته الى جواره، ثم سكن فيه، ثم صار وريثا لتلك الحضارة البعيدة.
هانحن نعود الى لغة قديمة بالية، ونطرح الإسئلة السخيفة المتوارثة فإذا رأينا جسرا يعلوا ويزين مدينتنا قلنا، مالهذا الحاكم يبني جسرا، وينسى بناء الإنسان؟ وإذا رأينا طريقا يعبد بالإسفلت قلنا، مالهذا الحاكم يرصف الطرق، ويتجاهل الإنسان، وإذا رأيناه يفتتح محطة للكهرباء، أو مشروعا للصرف الصحي، أو مشروع ماء، أو ملعبا،أو نفقا قلنا وأين بناء الإنسان؟
ياعمي إتقوا الله.. الإنسان المحكوم بالعقديات والموروثات الإجتماعية، وقد غلب عنده الطبع على التطبع، وعاش لقرون محطما وورث ابناءه وأحفاده الخوف والرعب والضياع تريده أن يبتنى من قبل حكومة محاصرة، وأن تترك هذه الحكومة الإعمار والبناء وتتجاهل إن أول سبل بناء الإنسان أن يشعر بالطمأنينة. أن تجتهد ليجد عملا، وطريقا يمر منه الى المدرسة والجامعة والعمل، وجسرا يعبر منه الى المشفى. وبنية تحتية ليشعر أنه محترم. بناء الإنسان ليس بالكلام المعسول، بل بالخدمات والعمل، وفي كل ذلك نحن مقصرون. ماتقوم به الحكومة الأن تم تجاهله طوال عشرين عاما مرت، فلاتبيعوا أكاذيبكم برؤوسنا وأنتم تبحثون عن مكاسب مالية وسلطوية.. قولوا الحقيقة: إن فلانا فضح فشلكم فصرتم تحاولون إسقاطه… هادي جلومرعي
المصدر: شبكة انباء العراق
كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات بناء الإنسان
إقرأ أيضاً:
ظفار أرض اللبان والتباشير.. ولكن!
خالد بن سعد الشنفري
هبَّة جديدة من هبات ظفار حدثت في كل وسائل التواصل الاجتماعي ولم تهدأ بعد.. وذلك حول استبدال اللبان وشجرته كهوية وشعار للمُحافظة واستبداله بوسم وشكل التباشير.
كواحد من أبناء هذه المُحافظة تابعت كل ذلك دون أن أدلي برأيي حوله؛ فقد كنت متوقفًا عن الكتابة لظروف خاصة، إضافة إلى أنني منشغل حاليًا بإعداد كتابي الجديد "ظفار.. ذاكرة زمان ومكان" الذي سيصدر قريبًا؛ لذا آثرت التروي حتى تهدأ النفوس فقد كفى ووفى الناشطون في وسائل التواصل وأصحاب الأقلام.. غير أن الكثير من الزملاء ومن قرائي ألحوا عليَّ بالكتابة عن هذا الموضوع المهم.
وإحقاقًا للحقيقة والتاريخ نقول إنَّ وسم "التباشير" لا يقل أهمية عن وسم "شجرة اللبان"؛ فكلاهما تاريخيًا من صميم إرث ظفار وقد سبق لي أن نشرت مقالًا في جريدة الرؤية الغراء، بتاريخ 4 ديسمبر 2021، عن التباشير واللبان بعنوان "التباشير والزاوية واللبان" كموروثات تاريخية ظفاريّة، وسأقوم بتذييل مقالي هذا برابط المقال القديم لمن أحب الاطلاع عليه، وسأضمنه كذلك كتابي الجديد المعزم نشره في فترة خريف هذا العام بإذن الله.
اللبان والتباشير كلاهما ارتبطا بظفار تاريخيا ولازالا إلى اليوم.
والتباشير هي من علامات ومميزات المعمار الظفاري القديم على أسطح بيوتها ومساجدها وزواياها وحتى أضرحة أوليائها والصالحين، ولا زالت شامخة إلى اليوم ولا تخطئها عين أي زائر للمحافظة، وهي مع منظرها الصوري الجمالي هذا كانت أيضًا قرينة اللبان وتستخدم لوضع مجامر بخور اللبان الكبيرة عليها وحرقه في الأجواء ترحيبا بالزائرين وفي المناسبات كما أن مجامر اللبان والبخور الظفارية يوجد على أعلاها شكل التباشير وهذا دليل الارتباط التاريخي بين الإثنين شكليا وعمليا أيضا.
لغويًا.. التباشير حسب المجامع اللغوية تعني البُشرى وأوائل الأشياء أو باكورتها؛ فيقال تباشير الخريف وتباشير الصباح، مثلما يُقال تباشير الرطب في محافظات عُماننا الحبيبة، وتباشير موسم الفتوح في ظفار الذي كان يترقبه أبناء ظفار بعد انتهاء فترة الخريف، وتهدأ زمجرة أمواج بحره العاتية، ويستقبلون السفن التجارية الخشبية القديمة إلى ظفار مُحمَّلة بمختلف البضائع وتحمل في ذهابها منتوجات ظفار من لبان وقطن وفلفل أحمر وجلود وسمن بلدي وأسماك سيسان مرباط المجففة (الصافي) والصفيلح وغيرها.
ومن المفارقات وأنا أكتب هذا المقال تتلبد كتل السحب الكثيفة سماء الشريط الساحلي لظفار وتحجب شمس هذا الأيام الحارة، فنحن في "نجم الكليل" أشد نجوم ظفار حرارة ورطوبة على الإطلاق، ما قبل موسم الخريف؛ وكأنها استجابة القدر للوحات شعار التباشير الذي زُيِّنت به صلالة وشوارعها وأبت إلّا أن تشاركهم وتُبشِّر بالخريف قبل حلوله فلكيًا بعد شهر من الآن؛ جعلها الله سحب غيث ماطر يروي الأرض وينبت الزرع ويدر الضرع والمرعى ليتواصل مع التوقيت الفلكي له في الثالث والعشرين من يوليو القادم.
أما اللبان، فهي شجرة مميزة تحمل ثمرتها اللبان وسط أحشاء سيقانها ويحسبها الظفاريون مباركة عليهم، وهذا لم يكن ينطبق على ظفار وعمان فقط بل كانت كذلك لشعوب وحضارات قديمة منذ آلاف السنين وكانت مصدر رزق رئيس وثراء لظفار حتى حيكت حولنا أساطير وحكايات قديمة لديهم بأننا البلاد السعيدة وأرض العمالقة، ويحلو للبعض اليوم وصفه بالنفط الأبيض لتلك الحقب الزمنية ولا زال يقوم بهذا الدور مع الفارق طبعًا وإلى وقتنا الراهن، ويحرص كل من يزور ظفار في خريفها أو أي من مواسمها المعتدلة عموما على اقتنائه وأصبح حاليًا يدخل في صناعة العطور الراقية ومستحضرات التجميل والحلوى العمانية وحتى الدواء.
محافظة ظفار من المناطق القليلة جدًا على مستوى العالم بنمو هذه الشجرة ومن أفضله جودة وشهرة على الإطلاق، وقد ارتبط تاريخيًا اسمها به على مستوى العالم، بعكس التباشير التي تشترك معنا مناطق عديدة في العالم العربي فيها، ولا مقارنة بينهما تاريخيًا، فبيمنا تمتد شهرة اللبان الظفاري الذي كانت سمهرم شرقًا والمغسيل غربًا أهم موانئ تصديره للعالم قبل أكثر من 3 آلاف عام نجد بالمقابل أن مدينة البليد عاصمة ظفار القديمة قبل 700 عام تخلو مبانيها من التباشير وهذا دليل على دخوله إلى معمارنا بعد هذا التاريخ.
وإذا ذكر أمامك اسم مصر تستحضر مباشرة الأهرامات، واسم الصين سورها العظيم، وباريس برج إيفل، واليمن ناطحات سحابها، والإسكندرية منارتها، وكذلك ظفار أول ما يتبادر للذهن عند ذكر اسمها هو اللبان وخريفها، لا تباشيرها.
وإذا جاز لنا من اقتراح بهذا الصدد؛ فنتمنى أن يقتصر شعار التباشير على موسم خريف هذا العام فقط، خصوصًا وأنه قد تم نشر لوحاته على معظم شوارعنا الرئيسية، ونعتبره تباشير خريف هذا العام، أما اللبان وشجرته فيجب أن تظل الشعار والهوية للمحافظة؛ كي لا يُقال عننا- ومع الأسف الشديد لقول ذلك- "أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير".
كنَّا نتمنى أن تنتشر شجرة اللبان في كل شوارعنا وعلى دوراتها وكل جوانبها جنباً إلى جنب، كما نعمل لنخلة النارجيل بدل أن نخرجها من المشهد والصورة لتنزوي؛ فأول ما يهُم الزائر لنا في المحافظة هو النخلة ومشلاها وكذا شجرة اللبان ولبانها وبخورها.
مبارك علينا جميعا تباشير خريف هذه السنة المبكر وكل عام وأنتم في خريف وتباشير وعبق لبان.
رابط مختصر