أُشفِقُ عِندَ اِتِّقادِ فِكرَتِهِ
عَلَيهِ مِنها أَخافُ يَشتَعِلُ
 هذا بيت للمتنبي جاء في المكان الخطأ، ولعله ظل يبحث عن مكانه ولما يزل، والعجب أنه لم يدخل ذاكرة الثقافة، فلم يقتحم ذاكرة الاقتباسات رغم عظمة شأنه مفرداً، والسبب هو أن النسق الشعري قتله لأنه ورد في سياق المديح وسط جمل شعرية (غير شاعرية) وغير مشتعلة فأطفأته ولنقف على جملته الشعرية التي ورد فيها: 
يَكادُ مِن طاعَةِ الحِمامِ لَهُ
يَقتُلُ مَن مادَنا لَهُ أَجَلُ
يَكادُ مِن صِحَّةِ العَزيمَةِ ما
يَفعَلُ قَبل الفِعالِ يَنفَعِلُ
تُعرَفُ في عَينِهِ حَقائِقُهُ
كَأَنَّهُ بِالذَكاءِ مُكتَحِلُ
أُُشفق عِندَ اِتِّقادِ فِكرَتِهِ
عَلَيهِ مِنها أَخافُ يَشتَعِلُ
أَغَرُّ، أَعداؤُهُ إِذا سَلِموا
بِالهَرَبِ اِستَكبَروا الَّذي فَعَلوا
 وهذا مديح يحمل الرغبة بالتزلف للمدوح وغاية غاياته الحصول على أعطيةٍ متوقعة كلما بلغ المديح أعلى درجاته، وهي درجة في الكذب وليست في صناعة الحقيقة، غير أن البيت مفرداً ومعزولاً عن سياقة سيكون نوعاً من العدالة المنهجية من باب انتشال النفيس من الخسيس كما في تعبيرات أسلافنا، على أن هذه الجملة الشعرية حاصرت البيت وقتلته وحرمته حقه في سياق الاستشهاد والاقتباس، وكان حقه أن يكون مادةً للتفكر والتبصر بحال الفكرة حين تشتعل في رأس المفكر، وهنا تأتي لحظة المتنبي من حيث لم يقصد.


 وفي هذه الحال، سنقرأ البيت على أنه تصوير عميق لحال قلق الكتابة، حيث يشتعل الذهن ويتوقد بنار الفكرة العنيدة (حسب السياب)، وهي حال من المعاناة تمر على كل مشتغل (مشتعلٍ) بالأفكار لدرجة أن يحترق فيها ويشتط عقله وهواجسه معها وتحرمه الراحة، ويدخل في قلق كأن الريح تحته (حسب المتنبي نفسه).
 والقلق الكتابي يأتي من متعة الكتابة بما أن المتعة الحقيقية في الفكر هي أن تقرأ بينما الشقاء أن تكتب، والأشقى من الشقاء ألا تكتب بمعنى أن تكون الفكرة في رأسك فلا تكتبها، وهذا هو الشقاء الذي سيلازمك من حيث تخاف أن تنساها كما تسد أفقك عن التفكر بغيرها فلا أنت ارتحت ولا أنت كتبت، فقط تشحن ذهنك بالفكرة غير المتجسدة نصاً، وهنا ستربكك الفكرة وتشعل الوجع في ذهنك، ويصبح ذهنك معلقاً في الفضاء بين أن تقول أو لا تقول، تكتب أو لا تكتب، وهذه أسوأ لحظة يمر بها الكاتب/الكاتبة، كأن تقول للعصفور لا تغرد، أو للسمكة لا تسبحي، وتظل سائحاً في الفضاء، أو كما يقول أبو الطيب: (عَلَيهِ مِنها أَخافُ يَشتَعِلُ).

أخبار ذات صلة د. عبدالله الغذامي يكتب: الألفاظ أجساد وجمالها في ملابسها د. عبدالله الغذامي يكتب: مرآة المتنبي

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: عبدالله الغذامي الغذامي

إقرأ أيضاً:

نورهان خفاجي تكتب: صنعاء بلا أجنحة

قبل نحو عامين أو أكثر جمعني لقاء مع الدكتور محمد عبدالقادر رئيس هيئة الطيران المدني اليمني، حينها كان في رحلة علاجية بالقاهرة، ولم ينشر للأسف هذا اللقاء؛ اليوم، حيث يتم الإعلان عن تدمير آخر طائرة يمنية مدنية على مهبط مطار صنعاء.. يحضرني تفاصيل هذا اللقاء وما تناوله عن أوضاع اليمن الشقيق بشكل عام وعن أجواء – قطاع الطيران - اليمن بشكل خاص.

قبل نحو عامين، كان بالكاد قد عادت صناعة الطيران المدني العالمية يبزغ نجمها من جديد، محاولةٍ نفض غبار أزمة الجائحة الوبائية التي كبلت العالم كله، حينها كان اليمن في هدنة وجيزة من الحرب، يخطط خلالها بأمل خافت في تأهيل مطار صنعاء بكلفة قدرتها السلطات حينها بنحو أكثر من 15 مليون دولار، كان مازال هناك طائرات، أربعة للخطوط اليمنية وكانت تنتظر انضمام الخامسة وطائرة تابعة لشركة السعيدة، كانا ينفذان إلى خارج صنعاء، ربما ليس لعالمِ بعيد ولكن كانا على الأقل يذهبان في فسحة إلى دول الجوار: ' القاهرة وعمان والأردن والخرطوم وجيبوتي وأحيانا بومبي بالهند'.. اليوم بإعلان تدمير آخر الطائرات، باتت صنعاء بلا طائرات.. بلا أجنحة ترفرف في السماء'.

في أوان الجائحة، كتبت عن اليمن، وقولت: إنه إذا كانت دول العالم تتأفف وتعاني نزيف الخسائر بالمليارات، لإغلاق حدودها الجوية لعدة أشهر بسبب الوباء، فما بالك باليمن الشقيق وهو يصارع وحيدا منذ 7 سنوات - حتى عام 2022 تاريخ اللقاء - ؛ بعدما أغلقت الأجواء على سكانه .. سنوات متواصلة من الغلق لم تأخذ خلالها طائرات صنعاء فسحة للسماء. المشهد يصور الحال، إن مطارات اليمن لم تطأ مدارجها طائرة منذ سنوات؛ أبراج المراقبة الجوية لم تُفتح شاشات راداراتها أيضا منذ سنوات؛ صالات الركاب مسدلة نوافذها.. 7 سنوات من العزلة والحرب ازدادت اليوم إلى عشرة وعادت صنعاء بلا طائرات.

في وجود الطائرات حتى شهور قريبة، قبل أن يلتهم جميعها القصف، كان المواطنون اليمنيون الراغبون في الخروج من البلاد وغالبيتهم طلاب أو مرضى أو بعض رجال الأعمال الراغبين في الاستثمار، يخرجون في طريق يستغرق قرابة الـ 20 ساعة بالتحديد 18 ساعة، يمرون بين عشرات نقاط التفتيش حتى يستطيعون الوصول لأحد المطارات التي مازالت تعمل وكان على الأغلب مطاري عدن وسيئون، بديلا عن مطار العاصمة صنعاء الذي كان أيضًا قد دمرت قدراته بالكامل. 

يحكي رئيس هيئة الطيران المدني اليمني، عن الحال، أنه في الطريق بين المطارات كانت تسقط بعض حالات المرضى صريعة، الطلاب يتعرضون للنهب والسرقة والتعدي وأيضًا رجال الأعمال، لا أحد يُستثني من النهب، كان هذا هو الحال في وجود الطائرات!.

يقول إنه في وجود الطائرات المُصرح لها الهبوط على أرض مطار صنعاء، رغم القصف وقلة الإمكانيات، كان المهندسون اليمنيون يبذلون كامل جهدهم في صيانة التجهيزات الفنية والملاحية الموجودة بالمطار حتى لا تنقطع الخدمة، في ظل حرمانهم من تجديدها أو استبدالها بسبب الحصار المفروض على البلاد، ذاك الحصار الذي منع إدخال شحنة مساعدات وتجهيزات ملاحية جديدة للمطار، ولجأت صنعاء حينها إلى جيبوتي قبل ثلاث سنوات لتخزين هذه المساعدات حتى تأذن ساعة فك هذا الحصار.

اليوم تضاف ثلاث سنواتٍ جديدة منذ تاريخ هذا اللقاء، ويزداد معه تضييق الخناق على صنعاء، خاصة بعد الاستهداف الأخير على  المطار من قبل الاحتلال لآخر طائرة مدنية كانت تستعد لنقل فوجٍ من الحجاج، أربعة صواريخ إسرائيلية استهدفت طائرة صنعاء وتناثرت أجنحتها في ساحة المطار، وتناثر معه آمال عودة التشغيل القريب لهذا المطار، خاصة بعد أن وصلت كلفة إصلاح التدمير إلى 500 مليون دولار بدلا من 15 مليون دولار قبل ثلاثة أعوام، وتم إعلان وقف العمليات بالمطار لأجل غير مسمى!
 

طباعة شارك أخر طائرة يمنية مطار صنعاء صناعة الطيران اليمن نورهان خفاجي

مقالات مشابهة

  • د.حماد عبدالله يكتب: مصر "قميص " ناقص "كم" !!
  • التقنيات الجديدة شريك ذكي يثري تجربة الكتابة
  • كاتبة بين النازحين: نحن سكان غزة نمحى من التاريخ على الهواء
  • التغذية والنوم بين الحقيقة والمعلومات المغلوطة: دعونا نصحح الأفكار المسبقة
  • نورهان خفاجي تكتب: صنعاء بلا أجنحة
  • د.حماد عبدالله يكتب: " كوميديا " المحليات !!
  • اشتعال مواجهات قبلية جديدة في شبوة
  • مصرع شخص بعد اشتعال سيارته على طريق مصر السويس الصحراوي
  • إبراهيم عثمان يكتب: شركاء الوجع والتضامن!
  • د. عبدالله الغذامي يكتب: ماذا لو كنت مخطئاً