لا يخفى على المراقب أن الكثير من الأدبيات الأميركية والأوروبية باتت تتحدّث بصورة متزايدة عن تراجع الغرب، بل اتخذ بعضها عناوين مثيرة من قبيل موت الغرب، ونهاية الغرب، وانتحار الغرب، وسقوط الغرب وما شابه ذلك.
سبق للفيلسوف والمفكر الألماني شبنجلر في أربعينيات القرن الماضي أن نشر كتابه الشهير "انحطاط الغرب"، ولكن ذلك كان بمثابة منبّه عام مما عساه يعتري هذا الغرب من خطر السقوط الذي يعرض لكل الحضارات، والأمم أكثر من كونه توصيفًا لواقع فعلي للغرب الأوروبي والأميركي الذي كان في صدارة عنفوانه تقريبًا.
ومع ما أصاب الغرب من إنهاك بسبب حربَيه الطاحنتين، فقد حافظ على حيويته الفكرية والسياسية وقوته العسكرية، خاصة أن مخزون الطاقة التي يمتلكها الغرب الأوروبي قد انتقل إلى الضفة الشمالية الأطلسية من دون منازع جدّي (أميركا).
الغرب في مواجهة "الآخرين"بيدَ أن ما يكتب اليوم وينشر عن سقوطه، يتجاوز نطاق الإشارات والتنبيهات التي أثارها شبنجلر من قبل، بقدر ما يتوقف عند المعطيات والتوازنات، فقد بات الغرب الأوروبي والأطلسي يواجه اليوم منافسة جيدة من قوى كبرى، ليس بالضرورة لأنه فقد عنفوانه وقدرته على الابتكار، ولكن لصعود قوى أخرى تسعى لكسر الاحتكار العلمي والتقني وانتزاعه من بين يديه، قوى باتت تنافسه على صعيد التسلح والجيوش في ظل عالم يتّجه نحو مزيد من التنوع والتعدد، من الصينيين والروس والهنود إلى البرازيليين والأتراك والإيرانيين وغيرهم، وذلك في إطار معادلة سبق أن أسماها فريد زكريا "الغرب والآخرون" The West and the Rest.
ولا نعلم إن كان من سوء حظ العرب والمسلمين أو من حسنه أن توالت عليهم موجات العدوانية الغربية واحدة تلو الأخرى، كلّما دفعوا منها حلقة جاءتهم أخرى، فإذا بموعودات التحرير التي دوّنها رجال الأنوار تستحيل في أرضهم إلى احتلال مقيت، وإذا بالديمقراطية الموعودة تستحيل وطأة ثقيلة من الاستبداد السياسي المدعومة أميركيًا وغربيًا.
ولعل الوجهين الأكثر كثافة اليوم لتلك الهوة السحيقة التي تفصل بين دعاوى الحداثة الغربية في الحرية والتحرير وبين تجسّداتها العملية في منطقتنا العربية هما مشروع الاحتلال الصهيوني لفلسطين وما يلقاه من أشكال الدعم الخفي والمعلن من القوى الغربية، وفي مقدمة ذلك الولايات المتحدة الأميركية، ثم ما رآه العراقيون وشعوب المنطقة من مظاهر الترويع والعنف خلال الاحتلال الأميركي للعراق وقبله لأفغانستان.
في وقت كانت أصوات بعض المنظّرين الغربيين والأميركان تتعالى مؤكدة انتصار القيم الثقافية الغربية واكتساحها الضارب لكل مناحي المعمورة، كانت مظاهر العنف في العراق تزداد شراسة على شراستها، وتزداد معها عوامل النقمة والشكوك بين مختلف شعوب العالم في مدى جدية وصدقية القيم الثقافية والسياسية التي تبشر بها العواصم الغربية، حتى لكأن أول مهمات الآلة العسكرية الأميركية التشكيك في عالمية القيم الليبرالية الأميركية وتفكيك دعاواها التحرريّة.
الانكشاف الأخلاقيإن الاختبار الأكبر لمدى جدية أي قيم سياسية وثقافية يتعلق بمدى التزام الحاملين لها والمبشّرين بها في سلوكهم وسياساتهم في فترات العُسرة والحروب، وفي مقدمة ذلك قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وقد شهد العالم كيف أدارت بعض الديمقراطيات الغربية آلتها الحربية ضد العراق بأساليب الخداع ومخاتلة مواطنيها ومخادعة الرأي العام، وكيف تحولت أم "الديمقراطيات الليبرالية" إلى آلة ضخمة من الرقابة الأمنية والأكاذيب المفضوحة التي تسوّغ شنّ الحرب والعدوان وانتهاك الحريات وحقوق الإنسان.
ففي الوقت الذي كانت الآلة الإعلامية والسياسية الأميركية تغلّف أهدافها التوسعية والاستحواذية في العراق عبر تلفيق التهم وفبركة الأدلّة أو الادّعاء بجلب الديمقراطية وحقوق الإنسان، كانت الإجراءات الأمنية والرقابية المقيدة للحريات وخصوصيات الأفراد تزداد توسعًا في الداخل الأميركي نفسه خلال حقبة المحافظين الجدد. أي أن هذا النموذج السياسي والثقافي الذي يراد تصديره للعالم والذي شُنت الحروب باسمه لـم يستطع أن يصمد حتى في موطنه الأصلي فضلًا عن صموده خارج حدوده القومية.
صحيح أن هذه الهوّة السحيقة بين القيم السياسية والثقافية الغربية، التي تبرز على نحو ما، في الشعارات وحرم الجامعات وفي بطون الكتب، مقارنة بما نراه واقعًا على صعيد الممارسات على الأرض، ليست أمرًا جديدًا أو طارئًا. فقد ولدت الحداثة الغربية منذ بواكيرها مسكونة بهذا التوتر المستمر بين مطالب التحرر وآليات الهيمنة والإخضاع في الداخل وبصورة أوضح في الخارج.
ولسنا نضيف جديدًا في تبيان هذه الهوة السحيقة التي تفصل بين الجانبين، فقد سبق للفيلسوف الألماني هابرماس أن فصل القول فيما أسماه بالهوة السحيقة التي باتت تفصل بين مبشّرات المشروع الثقافي الأنواري في التقدم والتحرير والعقلنة، وبين مشروع التحديث الغربي على نحو ما هو قائم على أرض الواقع وما لازمه ويلازمه من مظاهر التشوه والانحراف، وهو ما أسماه الفيلسوف الفرنسي بول ريكور التفاوت بين طوباويات الحداثة ومحصول الحداثة.
المركز الغربي المهيمن لا يحتمل عالمًا ديمقراطيًا وليبراليًا على شاكلته في كل مكان، لأن ذلك يفضي إلى محو الحدود الفاصلة بين المركز والأطراف، أي انتفاء مبررات التمايز أصلًا وغياب ثنائية "نحن" الديمقراطيون مقابل "هم" غير الديمقراطيين
ماذا يعني موت الغرب؟
كانت ولادة الغرب الحديث واكتسابه طابع العالمية يوم شيوع الحلم الليبرالي الغربي في التقدم والتحرير، كما أن نهايته أو موته ستكون بموت هذه الأحلام والأوهام التي صنعها وروّجها عن نفسه وصدّرها لغيره في مختلف مناحي المعمورة الكونية، وحينما نتحدث عن نهاية أو موت الغرب هنا لا نعني بذلك نهاية ماديّة موضعية جغرافية قد تواضع أهلها والعالم على تسميتها بالغرب، بل نعني بذلك على وجه الدقة نهاية ادعاءاته الكونية بعد إرجاعه إلى نسبيته التاريخية ومحدوديته الثقافية، شأنه في ذلك شأن الظواهر التاريخية الكبرى التي تولد وتحيا ثم تموت، مع تقدير قيمة ما يمتلك منها صلاحية كونية عابرة للثقافات ويحمل قابلية الاستمرار.
لا شك أن الحضارة الغربية الحديثة عظيمة في منجزاتها وملهمة في مُثُلها، وقد تركت وستترك بصماتها في مختلف قارّات العالم لآماد طويلة من الزمن، ولكنها تظلّ في نهاية المطاف حضارة مهمّة من بين حضارات أخرى، ولن ترتقي إلى أن تكون الصوت الباطنيّ والنهائي للتاريخ، فكما كانت مسبوقة بمنجزات كثيرة لحضارات أخرى، فستتلوها ضرورةً منجزات وتأثيرات حضارية لاحقة لها.
صحيح أنّ الغرب الحديث بما حقّقه من امتلاك ناصية العلم والتكنولوجيا، وبما يختزنه من منظومة قيمية ورمزية ذات ادعاءات عالمية قد أشاع الكثير من مكاسبه وثمراته في مختلف قارات العالم، بقدر ما أورث نفسه وأورث الآخرين الكثير من ندوبه وأمراضه، ومن مظاهر ذلك النظرة الإجرائية والمادية للكون، وما تولّد عنها من إفساد للكوكب وتخريب للبيئة وشنّ الحروب، إلى التوسع في أدوات القتل والفتك، إلى النزعة الفردانية المتطرفة وطغيان التوجهات العدمية وغيرها. فلا أحد يكاد يسلم اليوم من هذه الظواهر إن قليلًا أو كثيرًا.
فالعالم بكل تنوّعاته وتعقيداته لا يمكن أن يتغرّب على المنوال الأوروبي والأميركي، ليس لأنه يرفض أن يكون كذلك، بل لأن الغرب الحديث نفسه لا يقبل أن يفكّك المسافات الثقافية والأخلاقية والمادية التي تفصل بينه وبين الآخرين. فشرط من شروط وجود ما يسمى بالغرب واستمراريته هو تأكيد هذه الثنائيّة الحادّة، أي التّشديد على تميّزه عن الغير ورسم حدوده القاطعة مع الآخرين.
فالعالم مثلًا لا يمكن أن يتحول ديمقراطيًا ليبراليًا على الطريقة الأميركية أو البريطانية ليس لأنه يرفض قبول القيم الديمقراطية كما تزعم الكثير من الأدبيات الليبرالية الغربية، بل لأن المركز الغربي نفسه المتحكم والمهيمن لا يحتمل عالمًا ديمقراطيًا وليبراليًا على شاكلته في كل مكان، لأن ذلك يفضي ضرورة إلى تعميم فوائد الليبرالية من رفاه مادي وحرية سياسية لتشمل الجميع، مع ما يتولد عن ذلك من محو الحدود الفاصلة بين الأصل والفرع، وبين المركز والأطراف من جهة، وبين ديمقراطية الغرب وديمقراطيات العالم الواسعة من جهة أخرى، أي انتفاء مبررات التمايز أصلًا وغياب ثنائية "نحن" الديمقراطيون، مقابل "هم" غير الديمقراطيين.
هذا الأمر شبيه من بعض الوجوه بوضعية إسرائيل التي لا تستطيع أن تعيش طويلًا في محيط عربي ديمقراطي من حولها، لأنّ ذلك ينزع عنها نظرية الاستثناء وطابعها "الخارق" للجغرافيا والتاريخ، وهذا ما يفسّر مقاومتها للتوجهات الديمقراطية في المنطقة.
من الواضح اليوم أن الغرب الليبرالي يريد تحررية سياسية واقتصادية في اتجاه واحد فقط، يريد تحررية ليبرالية "مكيفة" وتابعة، يرى بموجبها صورته في مرآته العاكسة ويثبت من خلالها تفوق الحل الليبرالي وليس أكثر من ذلك، فهو يريد ديمقراطية النخب أو الأوليغارش بدل ديمقراطية الشعب و"العامة" التي يمكن أن تغير مجرى هذه الديمقراطية وتطبعها بطابع الشعوب ومطالبها وأولوياتها وأوجاعها، أي هو يريد ديمقراطية مشروطة بأن تبقى في دوائر النخب "المهذبة" و"المؤهلة" ثقافيًا وسياسيًا بما لا يمسّ مصالحه الهَيمَنيّة، وهو يرغب إلى جانب ذلك في ليبرالية اقتصادية تفتح أمامه الأسواق وتداول الرساميل، ولكنه في ذات الوقت لا يقبل نزع القيود على حركة البشر والمنتجات الزراعية لدول الجنوب مثلًا، وهذا ما يؤكد أن مقولات التجارة الحرة والعولمة الاقتصادية هي في الكثير من الأحيان مجرد غطاء لسيطرة القوي على الضعيف، وتثبيت نظام الهيمنة الدولي لا غير.
ما يسقط وما لا يسقطبيد أنه يتوجب الانتباه إلى أن الحديث عن نهاية الغرب أو موته لا يعني "إلقاء الرضيع مع المياه الملوثة" على ما يقول المثل الإنجليزي، بقدر ما يعني إرجاعه إلى حجمه الطبيعي ونسبيته التاريخية والجغرافية والثقافية. فالكثير من القيم والتطلعات التي نادى بها الغرب – وما زال ينادي بها – هي قيم إنسانية جميلة وملهمة ساهمت فيها مختلف الحضارات الكبرى بدرجات متفاوتة، وقد أضحت ملكًا للإنسانية أكثر منها ملكًا لجنس معين أو أمّة محددة. فمن لا يريد مثلًا حكمًا مقيدًا بالدستور وسلطان القانون؟ ومن لا يريد احترام حرية الإنسان وكرامته؟ ومن لا يريد قيم المساواة بين البشر بغض النظر عن انتماءاتهم الاجتماعية أو الإثنية والدينية؟ ومن لا يرغب في وجود مجتمعات حرّة ومتسامحة ومتعددة؟
هذه قيم كونية جميلة ومن حق الشعوب، بل من واجبها استلهامها سواء من داخل ثقافتها الذاتية أو بأخذ ما يرد عليها من الحداثية الغربية.
الخلاصة هنا أننا نحن أبناء هذا العصر قُّدِّر علينا طوعًا وكرهًا أن نحمل في دواخلنا الكثير من مظاهر وقيم هذا الغرب الحديث وشخوصه، فنلبس ملابسه ونستعمل الكثير من مصنوعاته، بل نتكلّم في الكثير من الأحيان لغاته ونقرأ بلسانه، وقد نتذوق قليلًا أو كثيرًا من فنونه وآدابه، ولكن قدرنا أيضًا وقدر شعوب العالم من حولنا أن تحرر وعيها الفردي والجمعي ومختزنات شعورها من سطوة الأوهام. هذا الأمر يعد شرطًا لازمًا من شروط الحضور الحي والفاعل في هذا العالم، أي أن هذا التحرر النفسي والثقافي هو شرط للتحرر الاجتماعي والسياسي ودخول مغامرة التاريخ.
ستظلّ تأثيرات الغرب حاضرة وفاعلة في شعوب العالم على اختلاف ألسنتها وألوانها وعقائدها، ولكن ذلك لن يجعل من هذه الشعوب مجرد صفحة بيضاء ينطبع فيها ما يرد من الآخرين، لأن ذلك يتعارض مع واقع تعددية العالم، كما يتصادم مع مصالح هذه الشعوب ومطامحها الكبرى. بل إن الكثير من الأمم، ولا سيما تلك التي تمتلك خبرة تاريخية مديدة ومختزنات رمزية عميقة، كما هو حال المسلمين والصينيين والهنود، باتت ساعية في سبيل إعادة صهر الكثير من المؤسسات "والقيم" الموصوفة بالغربية داخل نسيجها الذاتي والحضاري، وإعادة بنائها بحسب حاجياتها وسُلم أولوياتها.
لنا أن نبشّر أنفسنا والعالم بنهاية هيمنة الغرب، ليس لأننا نكرهه أو نجهله، بل لأننا بلغنا درجة كافية من الرشد، ورصيدًا مهمًا من الخبرة، ما يجعلنا نميّز بين الحقائق والأوهام، والمصالح والمفاسد.
وربما يكون أبناؤنا أكثر امتلاكًا لناصية الوعي التاريخي، ويشهدون موت ظاهرة كبرى اصطلح على تسميتها بالغرب، لا يزيد عمرها عن 4 قرون
على طريق العودةإنّ الظاهرة الماثلة للعيان اليوم هي تسارع عودة الشعوب إلى منابعها الرمزية والثقافية، خلافًا لرؤية هايدغر الذي اعتبر ما أسماه بـ"أَوْرَبة الكوكب" بالمعنى الوجودي للكلمة قدرًا محتومًا للعالم، وما يقصده بالأَوْرَبة هنا هو صعود النظرة المادية الإجرائية للكون والطبيعة ودَهْرنة الوعي الإنساني تناسبًا مع انتشار العلوم والمعارف التجريبية.
ولا يضير تلك الظاهرة أخذها طابعًا اندفاعيًا ومتطرفًا في كثير من الأحيان، كما هو شأن الجماعات العنيفة في العالم الإسلامي وحركات التعصب اليميني الهندوسي والمسيحي وغيرها. فظاهرة التطرف الإسلامي مثلًا يجب ألا تحجب عنا المشهد الأكبر في أرض الإسلام الممتدة، وهي ظاهرة اليقظة الإسلامية الآخذة في إعادة تشكيل الخارطة الثقافية والسياسية في المنطقة العربية والإسلامية، وهي ظاهرة يتعاظم حضورها في قلب المدن والحواضر الكبرى وبين القطاعات الحديثة والمتعلمة التي كان يفترض فيها بحسب الأدبيات التحديثية أن تكون طليعة تغريب المنطقة وعَلْمنتها.
تصور أن دول العالم ليست إلا عجينة طيّعة أو صفحات بيضاء يمكن أن يكتب عليها الرجل الغربي كل ما يريد هو، وهم كبير وسام في ذات الوقت، فالحضارات الكبرى لا تموت، ولكنها تمر بقوة وضعف، تخبو طموحاتها أحيانًا وتصعد أخرى. الحضارات الكبرى تستقبل من الغير وتتكيف مع المحيط، ولكنها على الجهة الأخرى ترفض وتقاوم وتعيد بناء الخيارات والاتجاهات والأفكار. لقد تأثر الصينيون واليابانيون والهنود والمسلمون العرب والفرس والأتراك بالحداثة فكرًا وواقعًا، ولكنهم يبحثون بأشكال مختلفة عن إعادة تكييفها والتحكم فيها لصالحهم. فالشعور بالكبرياء وحتى بالعظمة لدى ورثة هذه الحضارات الكبرى ظل يسكن عقول وقلوب أبنائها وبناتها، وحتى حينما ضعفت وغلبت على أمرها بالقوة الصلبة، ظلت المشاعر والتقاليد والأفكار متجذرة وهامدة مثل النار تحت الرماد.
ولنا أخيرًا أن نبشّر أنفسنا والعالم بنهاية هيمنة هذا الغرب، ليس لأننا نكرهه أو نجهله، بل ربما لأننا قد بلغنا درجة كافية من الرشد، وامتلكنا رصيدًا مهمًا من الخبرة والتجربة، ما يجعلنا نـميز بين الحقائق والأوهام، وبين المصالح والمفاسد. وربما سيكون أبناؤنا وأحفادنا أكثر قدرة منا على امتلاك ناصية الوعي التاريخي وأمكن منا على التحرر من الأوهام المريضة، ربما يكونون شهودًا أحياء على موت ظاهرة كبرى اصطلح على تسميتها بالغرب، لا يزيد عمرها عن أربعة قرون أو خمسة على الأكثر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات وحقوق الإنسان الغرب الحدیث الکثیر من من مظاهر تفصل بین یمکن أن
إقرأ أيضاً:
رغم كونها الدولة الأكثر زيارة في العالم.. كيف نجت فرنسا من الاحتجاجات ضد السياحة التي عصفت بجيرانها؟
استقبلت فرنسا أكثر من 100 مليون شخص في عام 2024، لكن الاحتجاجات السياحية كانت قليلة ومتباعدة. اعلان
في اليونان، يرسم السكان المحليون رسومات الجرافيتي على الجدران. وفي إيطاليا والبرتغال وإسبانيا، لجأوا إلى استخدام مسدسات المياه والاحتجاجات الجماهيرية للتعبير عن غضبهم بسبب العدد الكبير من المهاجرين.
في حين بدأت المشاعر المعادية للسياحة تتصاعد في جميع أنحاء أوروبا، إلا أن دولة واحدة تتجلى بوضوح في صمتها النسبي. إنها الدولة الأكثر زيارة في العالم: فرنسا.
على الرغم من أنها تستقبل حوالي 100 مليون مسافر سنويًا، إلا أن فرنسا نادرًا ما تتصدر عناوين الصحف بسبب الاحتجاجات ضد السياحة - وهو ما يتناقض تمامًا مع جيرانها الذين يعبّرون عن إحباطهم المتزايد إزاء المدن المزدحمة وارتفاع الإيجارات وسوء السلوك.
لا يوجد ما يمنع فرنسا من مواجهة ردود الفعل السلبية ضد السياح، كما أن المخاوف من هكذا ردات فعل ليست بلا مبرر. غير أن الالتزام بالسياحة المستدامة، إلى جانب البنية التحتية المتينة واستراتيجية توزيع الزوار على مختلف المناطق والمواسم، جميعها عوامل مؤثرة في الحد من هذه المخاطر.
فرنسا اتخذت نهجًا طويل الأمد
على عكس العديد من الدول التي تسعى جاهدة الآن لكبح جماح السياحة الجماعية، بدأت فرنسا في تمهيد الطريق منذ سنوات.
جعلت وكالة تنمية السياحة في فرنسا (أتو فرانس) الاستدامة ركيزةً أساسيةً لاستراتيجيتها. وبموجب خارطة طريق مدتها عشر سنوات - "خطة فرنسا للوجهة" - خصصت الحكومة 1.9 مليار يورو في عام 2021 لتشجيع السفر الأكثر مراعاةً للبيئة ومسؤولية.
وهذا يعني الدفع باتجاه السفر بالسكك الحديدية بدلاً من الرحلات الجوية القصيرة، والاستثمار في المدن متوسطة الحجم، وتشجيع الزوار على تجاوز المدن المعتادة، مثل باريس ونيس.
وعززت فرنسا جهودها هذا العام، مع تعهد جديد بالاستثمار في سياحة أكثر مراعاةً للبيئة وشمولاً وذكاءً رقمياً. ويأمل قادة السياحة أن يؤدي هذا الاستثمار إلى إقامات أطول، وحشود أقل، وتجارب أكثر فائدة.
تقول فيرونيكا ديكواترو، رئيسة قسم الأعمال التجارية بين المستهلكين والتوريد في أوميو، وهو محرك بحث سفر أوروبي: "لقد استثمرت السلطات الفرنسية في السفر المستدام لسنوات".
وتضيف: "ينصب التركيز الآن على تحسين جودة التجارب السياحية، وتوزيع أعداد الزوار على مدار العام لمكافحة السياحة المفرطة، والتركيز على ممارسات السياحة البيئية والرقمية والاجتماعية والشاملة".
قوة القطارات
تمتلك فرنسا واحدة من أوسع شبكات السكك الحديدية في أوروبا - 28,000 كيلومتر من المسارات، بما في ذلك 2,800 كيلومتر من خطوط السكك الحديدية عالية السرعة.
تقول ديكواترو: "تُعدّ فرنسا من بين أكثر الدول سهولةً في الوصول للسياحة بالسكك الحديدية".
وتوضح أن المدن التي لا يتجاوز عدد سكانها 20,000 نسمة لديها محطات قطار. وبفضل قطارها عالي السرعة، يُمكنك الوصول من باريس إلى مرسيليا في ثلاث ساعات.
هذا النوع من الوصول يُعيد تشكيل أنماط السياحة، ويُعيد تشكيل السياسات أيضًا.
في عام 2023، حظرت فرنسا رسميًا الرحلات الجوية الداخلية على بعض المسارات التي يُمكن قطعها في أقل من ساعتين ونصف بالقطار. ورغم أن تأثيرها على المناخ غير واضح، إلا أن هذه الخطوة عززت السفر بالقطار، ومن المُرجح أنها شجعت الرحلات إلى مناطق ربما كانت غائبة عن الأنظار.
Related حتى الحبس له فاتورة.. فرنسا تدرس إلزام السجناء بدفع تكاليف احتجازهم والعائلات المتضرر الأكبرارتفاع قياسي منذ عقدين.. المستشفيات العامة في فرنسا تسجل خسائر بنحو 3 مليارات يوروجنوب فرنسا يواجه أضخم حرائق الغابات منذ نصف قرن وسط تحذيرات من تدهور الأحوال الجويةالسياح مُشتتون عمدًا
بينما تمتاز إسبانيا بساحل كوستا برافا، وتشتهر إيطاليا بمدينة البندقية، تجمع فرنسا كل هذه المزايا معًا، وهذا ما يميزها.
تقول مارين برات، مصممة فعاليات السفر والأعمال في "لوار سيكريتس": "يتوزع السياح في فرنسا. إنهم لا يقصدون مكانًا واحدًا فقط، بل يسافرون إلى عدة مناطق".
وتضيف برات: "يزداد عدد الناس الذين يرغبون في السفر بعيدًا عن الطرق التقليدية. إنهم يرغبون في رؤية مناطق مختلفة - ليس فقط المناطق الكلاسيكية، مثل باريس ونورماندي وجنوب فرنسا. الآن، يمكنهم أن يروا على إنستغرام أنه يُمكنهم السفر على بُعد ساعة ونصف من باريس واكتشاف القرى الساحرة وفنون الطهي والمدن النابضة بالحياة بسهولة".
ميزة ثقافية
يأتي إرث فرنسا في استضافة الغرباء ثماره اليوم. إذ تقول برات: "لطالما كانت فرنسا ملتقى للثقافات لقرون. من الطبيعي أن يزور فرنسا الناس من جميع أنحاء العالم... إنه جزء كبير من اقتصادنا".
هذا التاريخ الطويل من الاستضافة، إلى جانب بنية تحتية سياحية قوية، من المرجح أن يكون قد ساهم في حماية فرنسا من بعض المشاكل التي تشهدها أماكن أخرى.
وكما تشير برات، فقد ازداد عدد الوافدين من أسواق جديدة مثل الهند وجنوب شرق آسيا وأستراليا وأفريقيا في السنوات الأخيرة، فهم يجدون المزيد من الأنشطة خارج المدن الكبرى وينجذبون إليها أيضًا.
وتضيف: "نحاول الترويج لمزيد من التجارب المحلية. نحن منخرطون بشكل كبير في منطقتنا. نريد الترويج لمزيد من صانعي النبيذ العضوي أو الحيوي، والمزيد من الأطعمة المحلية والعضوية، والأشخاص الذين يعملون بهذه الطريقة".
وتقول فيرونيكا ديكواترو إن بيانات شركتها تدعم ذلك.
وتضيف: "كثيرًا ما يختار المسافرون باريس كوجهة أولى لهم." ولكن من هناك، كما تقول، يتوسعون، مضيفةً أن مرسيليا وستراسبورغ تنموان بسرعة، بفضل تحسن الاتصالات ووجود المزيد من التجارب التي يمكن للمسافرين تجربتها عند وصولهم إلى هناك.
هل يُمكن للتنظيم أن يُجنّب فرنسا الانتقام؟
لم تنجُ فرنسا من الاحتكاكات إذ إن الإضرابات المتكررة، في قطاع السكك الحديدية والطيران وغيرها، لا تزال جزءًا من يوميات الدولة الأوروبية. كما يُمكن أن يُشكّل الازدحام والتحديث العمراني مشاكلَ مُلحّة.
في غضون ذلك، جذبت دورة الألعاب الأولمبية العام الماضي اهتمامًا كبيرًا إلى مدينة الأضواء، لدرجة أن أكثر من 50 مليون شخص زاروها في عام 2024 وحده.
في وقتٍ سابق من هذا الصيف، بدأ سكان مونمارتر يُدقّون ناقوس الخطر بشأن تزايد حشود السياح. قال أحد السكان لوكالة "رويترز": "يأتي الناس لثلاث ساعات، يستمتعون، يشترون قبعةً أو كريبًا، ثم يغادرون، كما لو كانوا في مدينة ملاهي". بينما تأمل السلطات أن يُساعد التنظيم في درء الأسوأ
في حين أن تأجير أماكن الإقامة قصيرة الأجل قد تسبب في أزمات سكنية في مدن مثل لشبونة وبرشلونة، إلا أن السلطات في فرنسا كانت أسرع في التحرّك.
بموجب قانون صدر العام الماضي - قانون "لوي لو مور" - يمكن للحكومات المحلية وضع حد أقصى لإيجارات العطلات، وخفض عدد ليالي استئجار المساكن (من 120 إلى 90 ليلة)، وتغريم مُلّاك العقارات الذين يتجاهلون القواعد.
سواءً أكان الأمر يتعلق بقوانين تُنظّم الإيجارات قصيرة الأجل أو خطة رئيسية لنمو أكثر استدامة، يبدو أن نظام السياحة الفرنسي صامد. في عصر السياحة المفرطة، قد يكون السلاح السري للبلاد هو أنها خططت لهذه اللحظة منذ البداية.
انتقل إلى اختصارات الوصول شارك هذا المقال محادثة