خلال الفترة الماضية كثر الحديث عن البودكاست في شبكات التواصل الاجتماعي، ودوره في تكوين رأي عام محدود في الشبكات الرقمية، ورصد حديث متكرر في المجتمعات بأن البودكاست بديلا للإذاعة، رغم يقين كثير من الأشخاص أن هناك اختلافا كبيرا بين البودكاست (إذاعة تحت الطلب) والإذاعة من حيث خصوصية المحتوى؛ فمثلا البودكاست متخصص بموضوع معيّن ويناقش ظاهرة أو قضية محدّدة، فيما الإذاعة هي محتوى متنوّع من البرامج، وكذلك من حيث جمهور الإذاعتين مختلف أو جزء من الآخر كتوصيف أكثر دقة، وذلك أن جمهور البودكاست هو جزء من الجمهور الكلي للإذاعة الحالية، لكن هل يمكن أن يكوّن جمهور الإذاعة تحت الطلب رأيا عاما في شبكات التواصل الاجتماعي؟
في رأيي الإجابة لا، لكن ربما يكون مساهما في تكوين الرأي العام الكلي أو الرأي العام الرقمي في منصات الإعلام الحديثة؛ لعدة منطلقات من بينها أن جمهور البودكاست متخصص أو مهتم بموضوع النقاش لا يمثّل الجمهور الكلي للمجتمع، وبما أن البودكاست يناقش موضوعا محدّدا من المتوقّع أن يطرح الموضوع من جانب واحد، وهذا سلبياته أن يغلب على النقاش والتفاعل مع الجانب الإنساني، وهذا الجانب بالتحديد يواجه تحديا في عقلانية الطرح والاختيار والنقل وفقا لنظرية الاقتصاد السلوكي التي ترى أن الناس غير عقلانيين في اختياراتهم بسبب تأثرهم بعوامل غالبيتها عاطفية وإنسانية.
ما يميّز البودكاست عن الإذاعة هو سهولة إنتاجه، فلا يتطلب استوديو أو تحضيرات مكلفة من حيث الإعداد والتنسيق والإنتاج، وكذلك غير مرتبط البودكاست بجمهور محلي؛ لعدم ارتباطه بموجة إذاعية معيّنة، لكن بإمكان البودكاست أن يصل لجميع مستخدمي التقنيات الحديثة حول العالم، ما يتوجّس منه البعض أن يكون البودكاست وسيلة لتمرير معلومات خاطئة أو غير صحيحة مما يتسبب في تأجيج الرأي العام وإثارته سلبا، أو يتم استخدامه للإساءة لشخصيات معينة أو التقزيم من حجم الجهود الوطنية؛ لذلك من الجيد فرض شروط محدّدة للحصول على ترخيص لإجراء البودكاست ورصد ما يتضمنه من معلومات وأطروحات ونقاشات للتعامل معها لحظيا في حال عدم دقتها حتى لا تنتشر بين الجمهور وتكوّن رأيا عاما مبنيا على معلومات مضللة أو غير دقيقة. وكون أن الرأي العام -يعبّر عن اتجاهات الناس إزاء قضية ما في المجتمع المحلي، وهو مجموعة من الآراء الفردية مستندا إلى جمهور معيّن حسب اتجاهاته وتوجهاته وميوله تجاه الجدل المثار عن موضوع معيّن-؛ فإنه من المرجح أن يؤثر محتوى البودكاست على اتجاهات الجمهور خاصة عند إثارة الموضوعات المرتبطة بالجانب الإنساني والعاطفي، إلا أن للبودكاست جوانب إيجابية تتمثّل في استخدام مقدّم البودكاست لنبرة صوت غالبا تجذب المستمع بطريقة تثير اهتمامه وتحرّك فضوله لمعرفة تفاصيل موضوع النقاش.
ما أرجوه هو الانتباه لما يطرح ويناقش من موضوعات وقضايا في البودكاست؛ لضمان عدم تأجيج الرأي العام الإلكتروني أو الرقمي بسبب دغدغة عواطف الناس ومشاعرهم تجاه بعض الأحداث التي ما تزال تفاصيلها غير واضحة للجمهور، لأن البودكاست يركّز على الأحاديث والأطروحات وليس على الأشخاص، لكنه في الآونة الأخيرة بدأ في التراجع في ظل تنامي شبكات التواصل الاجتماعي وتنوعها، وهذا يمثّل تهديدا للبودكاست في عمل استمراره أو تأثيره على الرأي العام رغم عدم حداثة ظهوره التي أوضحت المصادر بأنه حظي برواج خلال الفترة من 2004-2008م، وفي رأيي من المهم من توظيف فوائده في العملية التعليمية مثلا عبر توفير أسلوب مفيد وشائق ومبسّط لاكتساب المعلومات الجديدة دون الحاجة إلى التقيّد بجدول زمني محدد، وكذلك يتيح للمتعلمين استكشاف موضوعات جديدة تسهم في توسيع آفاقهم المعرفية، أو تكوين مجتمعات ذات اهتمامات مشتركة يشجّعها على التفاعل مع موضوعات محدّدة، لذلك من الضروري الاستفادة من الفرص التي يوفرها البودكاست مع عدم الإغفال عن دوره في تحريك الرأي العام الرقمي على أقل تقدير وإن كان في غالبية الأحيان يكوّن اتجاه عام ذات بعد إنساني وعاطفي بهدف جذب المستمعين ومشاعرهم.
راشد بن عبدالله الشيذاني باحث ومحلل اقتصادي
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الرأی العام
إقرأ أيضاً:
«لِنَتَسِعْ بَعْضُنَا بَعْضًا… ونُعَلِّم قلوبنا فنّ احترام الرأي الآخر»
في كل مجتمع حيّ، يظل الاختلاف علامة صحة لا علامة خلاف، ودليل نضج لا دليل صدام. فالآراء المتعددة مثل الألوان، لا يكتمل الجمال إلا بتجاورها، ولا تكتمل الصورة إلا بتكاملها.
ومع ذلك، لا تزال بعض العقول – للأسف – تنظر إلى الرأي المخالف على أنه غزوٌ لفكرتها، أو تهديدٌ لهيبتها، أو مساسٌ بمكانتها، بينما الحقيقة أن الاختلاف لا يجرح إلا القلب الضيق، ولا يزعج إلا العقل المغلق، أما الصدور الواسعة فتتعامل مع التنوع باعتباره غنى للفكر ومساحة للتعلم.
إننا اليوم في حاجة إلى أن ننقل ثقافة احترام الاختلاف من كونها شعارات مثالية، إلى كونها ممارسة يومية في بيوتنا، ومساجدنا، ومؤسساتنا، ومدارسنا، ووسائل إعلامنا. لأن المجتمعات لا تُبنى بالاتفاق الكامل، وإنما تُبنى بإدارة الاختلاف إدارة راقية.
■ القرآن الكريم… مدرسة الاحترام قبل الحوار
حين نفتح كتاب الله تعالى، نجد قيمة احترام الرأي والحوار الحضاري راسخة منذ أول يوم.
يقول سبحانه وتعالى:
﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.
لم يقل: "جادلهم بالعنف"، ولم يقل: "بالغلظة"، بل قال: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ… أي بأفضل وأرقى ما يمكن.
وهذا دليل عظيم على أن الحوار لا بد أن يكون قائمًا على الأدب قبل الفكرة، وعلى الهدوء قبل الحدة، وعلى الفهم قبل الرد. فكيف إذا كان القرآن يأمرنا بذلك مع المخالف في العقيدة؟ فكيف بمن يخالفنا في الرأي داخل الوطن الواحد والبيت الواحد؟
والله سبحانه يعلّمنا كذلك أدب الاختلاف في قوله:
﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾،
وهذا إقرار صريح بحق الآخرين في عرض ما لديهم، وحقنا في مناقشته دون تسفيه أو تجريح.
■ السنّة النبوية… قمة الأخلاق في إدارة الاختلاف
لقد قدّم النبي ﷺ نموذجًا راقيًا في احترام الرأي حتى مع أصحابه وهم في قمة الخلاف.
ولنا في موقفه يوم غزوة بدر خير شاهد، حين قال للصحابة:
"أشيروا عليّ أيها الناس"،
فأخذ برأي الحباب بن المنذر، وهو رأيٌ عسكري يخالف رأي النبي الأول، ومع ذلك قبله النبي بكل صدر رحب.
هذا هو الأدب النبوي… وهذا هو احترام العقول.
وفي حديث آخر قال ﷺ:
«رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتضى»،
والسماحة خلق لا يولد إلا من صدر واسع يقبل الآخر ولا يتضايق من اختلافه.
بل إن النبي ﷺ علّمنا ألا نُقصي المخالف ما دام لا يخالف الثوابت، فقال:
«إنما بُعثتم مُيسرين ولم تُبعثوا مُعسرين».
■ أدب الاختلاف… مسؤولية مجتمع كامل
إن احترام الرأي الآخر ليس وظيفة المثقفين وحدهم، ولا واجب الدعاة وحدهم، بل هو مسؤولية مجتمع بأكمله.
فالأب في بيته حين يفرض رأيه بالقوة يخسر الحوار مع أبنائه، والمعلم حين يسخر من رأي تلميذه يخسر احترامه، والمسؤول حين يضيق بالنقد يخسر ثقة الناس.
والحقيقة أن قوتنا لا تُبنى من خلال الصوت الأعلى، بل من خلال القدرة على الاستماع، ولا من خلال الإقصاء، بل من خلال الاحتواء.
فنحن أمة جعلها الله أمة وسطًا، والوسطية ليست رأيًا واحدًا جامدًا، بل فضاء واسع يتسع للجميع.
■ لماذا نخاف من الاختلاف؟
نخاف لأننا لم نتربَّ على ثقافة السؤال.
نخاف لأننا نتصور أن اختلاف الآخر يعني ضعف موقفنا.
نخاف لأننا نخلط بين الرأي والفكرة… وبين الشخص والفكرة.
بينما الحقيقة أن الفكرة التي لا تتحمل النقد هي فكرة لم تُبنَ جيدًا من البداية.
إن المجتمعات التي تتسع قلوب أفرادها للآراء المختلفة هي المجتمعات التي تطور نفسها، وتتعلم من بعضها، وتبني جسورًا لا جدرانًا.
■ فلنتسع لبعضنا… ولنربِّي في قلوبنا أدب الاختلاف
علينا أن نؤمن بأن الاستماع للآخر لا يعني التراجع، وأن قبول اختلافه لا يعني التنازل، وأن احترام رأيه لا يعني الانسحاب.
بل يعني أننا نملك وعيًا وإيمانًا بأن الحقيقة أكبر منّا جميعًا.
وفي الختام…
إن احترام الرأي الآخر ليس مجرد خُلق، بل هو مشروع حضاري يعيد للمجتمع توازنه، وللإنسان قيمته، وللنقاش روحه.
فدعونا نتسع لبعضنا، ونسمع لبعضنا، ونقترب من بعضنا…
فالوطن لا يبنيه رأي واحد… وإنما تبنيه قلوب تتسع للجميع.