لو لم يصدر كتاب “عبد الخالق محجوب: الوعي وأزهار القناديل” لحسن محمود الريح عن انقلاب ١٩ يوليو وذيوله لما افتقده أحد
تاريخ النشر: 31st, July 2024 GMT
عبد الله علي إبراهيم
.17 فبراير 2021
(نشر حسن محمود الريح مقالة عن انقلاب 19 يوليو. وكنت علقت على كتابه "عبد الخالق محجوب: الوعي وأزهار القناديل" طعنت في تأهيله لكتابة التاريخ إلا مكاء وتصدية. فغالط الكتاب حتى عنوانه كما سنرى)
لو لم يصدر كتاب “عبد الخالق محجوب: الوعي وأزهار القناديل” لحسن محمود الريح عن انقلاب ١٩ يوليو وذيوله لما افتقده أحد.
فليس حتى هو مما نقول عنه الكتاب من عنوانه. فقارئ عنوان الكتاب يظن أن للكاتب رأياً حسناً في أستاذنا عبد الخالق محجوب كرجل حمل الوعي إلى الناس فأزهرت القناديل وسطهم. ولكن للكاتب رأي غير ما في العنوان. فعبد الخالق، ولو ملك الوعي كما يصفه الكاتب، فوعيه كاسد السوق. فلم يتحسب بوعيه الموصوف لانقلاب، في قول الكاتب، خرج أنصاره القلة “أزهار القناديل أفتكر” بشعارات حمراء صارخة لتفتك بهم جموع شعب مسلم تقليدي تقوده طائفية إسلامية وصوفية متجذرة في نسيجه الاجتماعي. فمن القول المرسل اعتقاد الكاتب أن أستاذنا صاحب وعي معدي بينما رأيه أن عقيدته نفسها لا مكان لها من الإعراب في السودان وأزهاره سفهاء أحلام.
ومن الجانب الآخر، فالكاتب صريح الاعتقاد في أن عبد الخالق متآمر خائن أمانة. فلم يخطط للانقلاب حتى ساعة الصفر مع الضباط الشيوعيين فحسب، بل أخفى ذلك عن مؤسسة الحزب. ولما قام الانقلاب استدعى هاشم العطا، قائد الانقلاب، إلى اجتماع لمركزية الحزب لتسأله عن تكتيكه الانقلابي الذي أربك حساباتهم في حضور عبد الخالق الذي خطط للانقلاب أول مرة. فلو امتلك أستاذنا الشجاعة لكفى هاشم هذه المؤاخذة واعترف بجرمه. ومن جهة ثالثة، فعبد الخالق إما أهبل أو مخبر. ففي رواية جاء بها المؤلف قالت إنه “فت” كل شيء عن الانقلاب في لقائه مع نميري بعد اعتقاله. ف”عبد الخالق وضح كل شيء. تفاصيل التفاصيل وأسماء المشاركين . . . وبناء عليه في ناس كتار كانوا ما معتقلين تم اعتقالهم”. ولا أعرف كيف يستقيم هذا مع رجل وصفه المؤلف بالوعي تراه يبيع أزهار قناديله في سوق محاكمات الشجرة
والكتاب كتابة بإهمال من وجهين. فالمؤلف غير معنى بالتحقق من المعلومات التي يأتي بها. فتتعايش الروايات عنده وإن شط بها الخلاف. فقال إن عبد الخالق توجه إلى بيته بأم درمان بعد تهريبه قبل الانقلاب من معتقله في سلاح الذخيرة يحمله الشوق إلى زوجته وولديه. ولما بَلّ الشوق مضى ليختبئ في بيت أب شيبة، قائد الحرس الجمهوري وعضو مجلس انقلاب ١٩ يوليو لاحقاً، في نطاق القصر الجمهوري. ولم ينس الراوي تعطر عبد الخالق ربما برائحة الشبرويشي المفضلة لديه. وهذه الرواية على خلاف اللوحة التي رسمها المؤلف للبيوت التي غشاها عبد الخالق لتأمين نفسه بعد تحريره من الاعتقال. فقال إنه بعد التحرير جاء به أب شيبة إلى بيته بالقصر، ثم انتقل إلى بيت كمال رمضان المحامي، ثم إلى بيت ميرغني محجوب. والتقى بأسرته الصغيرة في بيت محمد النعيم مهيد بحي الجامعة ببري. ولم يتفضل المؤلف لمجرد الإشارة لهذا العوج في المعلومات المتضاربة في كتابه.
وينضح الكتاب بالخطأ في معلومات مفردة. فقال إن جوزيف قرنق، الوزير بحكومة نميري ما يزال وقتها بعد فساد ما بينها والحزب الشيوعي، كان معتقلاً حتى أفرج عنه الانقلاب بينما كان جوزيف وقتها بالمستشفى يرعى مع زوجته ابناً مريضاً. وقال إن فاطمة أحمد إبراهيم لم تحضر اجتماع اللجنة المركزية للحزب مساء ١٩ يوليو لأنها كانت في بكاء والدها. ولا أعرف تحديداً متى توفى والدها، ولكنها كانت نهار الانقلاب ومساءه بدارها في بري المحس مع زوجها الشفيع أحمد الشيخ. وروى غازي سليمان كيف ذهب إليهما بعد أن بعثه هاشم العطا إلى الشفيع ليكتب له بيان الانقلاب. وقال المؤلف إن خالد الكد هرب بعد الانقلاب إلى بلدة القرير بالشمالية واختبأ بين أهله. وتزوج منهم فاطمة التي كانت تخدمه وهو في العزلة. ومعلوم أن مخبأ خالد كان في بيت عمه الدينكاوي بقرية البار شرقي كورتي. كما قال إن أحمد فؤاد وأحمد حمروش، اللذين بعث بهما السادات ليتحسسا انقلاب السودان، كانا ممن ضمهم الحزب الشيوعي المصري (حستو) مع عبد الخالق. والحقيقة إن الذي ضمهما هو الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) المصرية. ف (حستو) هي الحروف الأولى للحركة السودانية للتحرر الوطني التي نشأت في السودان في ١٩٤٦ بزعامة الدكتور عبد الوهاب زين العابدين عبد التام. وجاء المؤلف بصورتين لم يحسن تعريف من بهما. فجاء بصورة لابن الداخلة عطبرة محمد عثمان خلف الله عمر “كرن” وقال إنها لمحمد إبراهيم نقد. وسمى من كان في صورة مع الشفيع أحمد الشيخ، رئيس اتحاد العمال، عبد الرحمن عبد الرحيم من الوسيلة، من مؤسسي الحزب الشيوعي، بينما هو الحاج عبد الرحمن نائب سكرتير اتحاد العمال.
وللمؤلف في الإنشاء جمل ملغزة مثل قوله” اتهم الشيوعي الأبروفي البارز د. عبد القادر الرفاعي العركي حمد النيل”. فلم يفصل بين “عبد القادر الرفاعي” و”العركي حمد النيل” بشيء ليعرف القارئ أن الرفاعي اتهم العركي وليس أن العركي هو جد الرفاعي. وهذا كثير.
وننظر في المرة القادمة في ضعف نهج المؤلف حتى في فتح يومية التحري في التفتيش عمن قام بانقلاب ١٩ يوليو التي رجعت بنا إلى نهج “يومية التحري” الماسخ. وكان المأمول أن نترحل عنها إلى نهج التحليل التاريخي الذي يوطن الانقلاب في التدافع السياسي والاجتماعي منذ الأربعينات.
IbrahimA@missouri.edu
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: عبد الخالق محجوب إلى بیت
إقرأ أيضاً:
قراءة فى كتاب رئيس الوزراء: القول الأنيس فى خطاب ادريس
(1) فى آخر لقطة من خطابه اليوم (1 يونيو 2025م) ، أخذ دكتور كامل ادريس رئيس الوزراء بيده اليسرى ما اعطاه بيده اليمنى ، فالرجل الذى دعانا – طيلة 12ق – إلى المدارسة والحوار انهى خطابه بالقول (هذه خطتي) و (هذه الآليات) ولوح بكتابه (مستقبل السودان) ، هذه الإشارة وإن بدت شكلية ، فانها فى حقيقة الأمر أبعد من ذلك ، وما لم يفصح عنه بالقول فهو مدون فى كتابه ذاك.. وما تم دعوتنا للنقاش حوله هو محسوم سلفاً..
وخطاب دكتور كامل ادريس هو أول خطاب رسمي تضمن مقتطفاً بلغة أجنبية (انجليزية وفرنسية) ، وهذا استدعاء آخر لدور أكبر للمجتمع الدولي ومنظماته ولا ارى غضاضة فى ذلك ، لكن الخطابات الرسمية لها سمت معين ومتعارف عليه ، وهناك وسائل متعددة لإبلاغ الرسائل للآخرين..
هذه قراءات ما وراء النصوص المسموعة والمقروءة..
وقبل أن نسترسل أكثر فى هذا التحليل نتوقف على نقاط عامة:
– اتسم الخطاب بلغة بسيطة خالية من التنميق أو التنطع..
– خاطبت المؤسسات المعنية دون تجاوز أو تغافل (وكان حريصاً) فيما يبدو فى الإشارة للجميع ، من مجلس السيادة الانتقالي والاجهزة العسكرية وحتى المستنفرين والمنفقين ، وليته خص الاجهزة التنفيذية بالتحية (الوزراء والولاة ).
– وفق فى تحديد التحديات الراهنة من الأمن الوطنى وهيبة الدولة والعدالة وتوفير الخدمات الاساسية المواطن وتعظيم الانتاج..الخ
والخطاب فى عمومه جيد ووثيقة مهمة وإن شابها بعض النقص..
(2)
ثلاث نقاط مهمة غابت فى خطاب رئيس الوزراء دكتور كامل ادريس ..
واولها : توصيف دقيق وتعريف لمهام حكومته (المدنية – الانتقالية) ، وبما ان كتابه تضمن كثيراً من التفاصيل ، فمن نافلة القول الإشارة إلى رد الأمر للشعب ، من خلال انتخابات شفافة ونزيهة ، ويتطلب ذلك سلسلة ترتيبات قانونية ومؤسساتية وادارية ، وهذه النقطة تحديداً هى (الميس) التى يتلاقى فيها د.كامل ادريس مع القوى السياسية ، ولذلك لابد من تضمينها بوضوح ووفق مدى زمني .. إن الحديث عن الانتخابات قضية جوهرية ومهمة لا يمكن الغفلة عنها.. وهى التعبير الحقيقي عن مفهوم (الانتقال الديمقراطي)..
وثانيها : الاهتمام بالدور المؤسساتي والمهني ، فقد التمست من خلال متابعة الخطاب إفتقاره الى (سمات احترافية) توفرها مرجعيات الخدمة المدنية ، ومثلاً :
– افتقر الخطاب كلياً الإشارة إلى مؤسسات المجتمع المدني والأهلى والشرائح الاجتماعية (الشباب والطلاب والنساء والجمعيات الطوعية والانسانية) ، وهذه نقطة ذات وقع فى بعض المجتمعات..
– التماسك فى عرض القضايا ، والانتقال من فقرة إلى اخرى بسلاسة ، لدرجة إستخدام رئيس الوزراء يديه لإكمال الشرح..
– لم ألتمس تعبيرات ومشاعر خلال الخطاب ، مع أن طريقة عرضه تبدو كأنها إرتجالية ، لكن نبرات صوته ظلت ذاتها وملامح وجهه..
وهكذا..
ولذلك ليس ضرورياً أن تكون صاحب رؤية متكاملة أو صاحب قلم مجيد لتكون كاتباً لخطابات رسمية..
وثالث النقاط : هو إعتماد الكفاءة فى الإختبار ، وهى بالتأكيد أساس العدالة ، لقد تم (تشويه) لمفهوم الكفاءات عندما دفعت بعض القوى السياسية – بعد التغيير فى 2019م بعض كوادرها إلى قيادة العمل التنفيذي تحت غطاء (كفاءات وطنية) وكانت الحصيلة كارثية..
ولا أظن انها بعيدة عن ذهن رئيس الوزراء ، لكن بعض القول ينسى آخر..
(3)
ترى كيف ستكون اجندة اليوم الأول ل(دولة رئيس الوزراء ) ؟ هذا هو المقياس العملى لتلك الاقوال المنثورة والاحاديث المبثوثة والكتب الانيقة..
ودعونا هنا – نسوق – بعض المقترحات:
أولا: ارجو ان تبتعد فى هذه الأيام عن أى حديث عن تشكيل الحكومة والوزارات ، وان تنغمس كلياً فى قضايا الخدمات (الصحة ، و الكهرباء ، والمياه والتعليم..).. هذه ستعطيك صورة مختلفة عما يدور بخلدك.. ويمكنك بعد ذلك النظر فى خياراتك والمقترحات المقدمة لك ..
وثانياً: النظر فى مؤسسات العدالة وانفاذ القانون ، واكمال بقية المؤسسات وعلى راسها المحكمة الدستورية ومجلس القضاء العالى ، وتحرير هذه المؤسسات من حالة الجمود إلى الفاعلية..
وثالثاً: الوقوف ميدانياً على التحديات الوطنية الراهنة فى قضايا الوطن ، وتسجيل زيارة ميدانية تبدأ من ميناء بورتسودان ومن هناك إلى عطبرة والخرطوم (القيادة العامة وبعض المواقع العسكرية) والعودة مروراً بجبل اولياء إلى مدنى ، للوقوف على التضحيات التى قدمها هذا الشعب ، وشبابه ، وما يتطلب الأمر من الهمة الوطنية..
– ثم بعد ذلك الاجتماع مع وزراء الانتاج ووضع التدابير اللازمة للنهوض..
تلك نقاط عاجلة ومؤانسة فى خطاب رئيس الوزراء..
د.ابراهيم الصديق على
1 يونيو 2025م