إدارة الدولة العراقيّة بين المثاليّة والواقعيّة!
تاريخ النشر: 9th, August 2024 GMT
تُعرّف الدولة وفقا للقانون الدوليّ العام بأنّها مجموعة أفراد مستقرون في إقليم معيّن، ويخضعون لسيطرة هيئة حاكمة ذات سيادة.
والهيئة الحاكمة يقصد بها القوى المالكة للسلطة سواء أكانت سلطات جاءت بطريقة إجباريّة أو ديمقراطيّة، وبالمحصّلة هي التي تمتلك زمام إدارة الأمور العامّة للدولة!
والهيئة الحاكمة تشمل السلطات التنفيذيّة والتشريعيّة، وهي القوّة السياسيّة أو العسكريّة التي بيدها الأمر بمقتضى الشرعيّة الديمقراطيّة، أو الوراثيّة، أو التسلّط!
وإدارة الدولة ليست "مُقامرة" يمكن أن تُبنى على الحظّ، بل هي عمليّة علميّة صارمة ومدروسة قائمة على الخطط العلميّة والإمكانيات المتاحة، وليس مجرّد "دعايات" صحفيّة وإعلاميّة عصيّة على التنفيذ!
ومنذ العام 2003 ونحن لا ندري ما شَكل الهيئة الحاكمة للعراق: هل هي بيروقراطيّة، أم ثيوقراطيّة (دينيّة)، أم حزبيّة، أم نخبويّة أو أيّ شيء آخر؟
منذ العام 2003 ونحن لا ندري ما شَكل الهيئة الحاكمة للعراق: هل هي بيروقراطيّة، أم ثيوقراطيّة (دينيّة)، أم حزبيّة، أم نخبويّة أو أيّ شيء آخر؟
ويفترض بإدارة الدولة أن تَعْرف دورها في بناء "دولة ومجتمع المستقبل" في ضوء التطوّرات الحديثة في المجالات السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة والعلوم والتكنلوجيا! والدول المتينة هي الدول التي تدرس آليّات إدارة البلاد في المستقبل، ولا تتعامل بسياسة الفعل ورَدّ الفعل وتترقّب الواردات النفطيّة فقط!
إنّ الجسم الإداريّ للدولة، الذي يضمّ الأجهزة المدنيّة والعسكريّة، هو قلب الدولة النابض، ولهذا يفترض العمل على تطويره والعناية به، ومكافحة الترهّل الإداريّ والبطالة المقنعة المنتشرة في غالبيّة المؤسّسات!
وقد أكّد رئيس حكومة بغداد محمد شياع السوداني بأنّ عدد الموظّفين يقرب من أربعة ملايين موظّف وفقا لجداول رسميّة؛ ما كفاءتهم؟ وأين إنتاجيّتهم؟! وبناء على كلام السوداني فإنّ الموظّفين يشكّلون عشرة في المئة من مجموع سكّان العراق! هذا فضلا عن أكثر من ربع مليون موظّف يتقاضون أكثر من راتبين، وبعضهم يتقاضون ستّة رواتب، ونحو 300 ألف موظّف لا يعملون في أيّ دائرة حكوميّة، وفقا لتأكيدات اللجنة الماليّة النيابيّة العراقيّة! فمَنّ المسؤول عن هذه الفوضى الوظيفيّة؟ وأين الدور الرقابي للحكومة؟
ثمّ إنّ اختيار الشخصيات الإداريّة من أهم عوامل نجاح إدارة الدولة، ولكن حينما يُقَدّم الرجل الحزبيّ، ليس لمؤهّلاته بل لحزبيّته، فهنا تبدأ مرحلة السقوط الشاقوليّ الذي لا يمكن تحديد مديات الخراب التي سيلحقها بالوطن والمواطن!
والعجيب أنّ غالبيّة المسؤولين الإداريّين الذين فشلوا في إدارة الوزارات والمؤسّسات يُعاد ترشيحهم لمناصب، ربّما أخطر وأكبر من المناصب السابقة، وهذا دليل على غياب التقييم الموضوعيّ، وإلا لو كان هنالك تقييم لأدائهم السابق لما أُعيد ترشيحهم لمناصب جديدة!
إدارة الدولة تعدّ من أخطر المهام ويفترض تسليمها لشخصيّات تمتلك عقولا جبّارة وقادرة على الإدارة والتقييم والعمل في المؤسّسات والميدان، وإلا فهذا تلاعب بمقدّرات الوطن والناس!
إنّ أبرز ما نلمسه اليوم هي حالة التناقض الصارخ بين ما تُعلنه الحكومات عبر وسائل إعلامها التي لا حصر لها، وبين الممارسات الواقعيّة لغالبيّة المسؤولين والأجهزة الرسميّة المدنيّة والعسكريّة!
وخلال الأيام العشرة الماضية حصرا وقعت العديد من الحوادث التي تؤكّد حالة التناقض والتراخي في إدارة الدولة، حيث حذّرت لجنة الأمن والدفاع النيابيّة من عودة التصعيد بين المليشيات المسلّحة والولايات المتّحدة خلال المرحلة المقبلة في العراق، بينما تقف الحكومة موقف المتفرّج وفي أفضل الأحوال تدين وتستنكر أيّ خرق للسيادة العراقيّة!
ومن التناقضات العجيبة إعلان منصّات حوثيّة يوم الأحد الماضي مقتل العميد حسين مستور الشعبل، في قصف أمريكيّ في منطقة جرف الصخر بمحافظة بابل الجنوبيّة! ولا ندري ما المهمّة التي جعلت الشعبل يتواجد فيها على الأراضي العراقيّة!
وبالتوازي، كشف مؤشّر الأداء البيئيّ حلول العراق في المراتب الأخيرة في قائمة "الدول الأكثر والأقلّ نظافة"، حيث حلّ العراق في المرتبة (172) من أصل (180) دولة عالميّا، وفي المرتبة الأخيرة عربيّا!
يفترض أن تكون حماية سيادة العراق وسلامة المواطنين وصحّتهم وأفكارهم من أولى أوّليّات الإدارة، ولكن يبدو أنّ الصراع على السلطة، واستمرار تنوّع مصادر القرار، من أكبر عوائق الإصلاح والإعمار!
ونقل موقع "إنتل نيوز" الإنجليزي، عن مسؤولين عراقيّين أنّ أكثر من مليون عامل أجنبيّ، معظمهم بدون تصاريح قانونيّة، يعملون في العراق، مما يثير مخاوف اقتصاديّة كبيرة!
وتقول صحيفة "ذي نيشن" الباكستانية، إنّ مجلس الشيوخ ناقش مسألة اختفاء 50 ألف زائر باكستانيّ في العراق حتّى الآن! وقالت تقارير أخرى بأنّهم التحقوا ببعض المليشيات، فيما نفت الخارجيّة العراقيّة تلك "المزاعم"!
وأخيرا الفشل الرياضيّ الواضح، رغم الدعم الماليّ الكبير، حيث وَدّع المنتخب العراقيّ لكرة القدم أولمبياد باريس 2024، بعد أداء هزيل ومحرج أمام الفريقين الأرجنتينيّ والمغربيّ!
وما ذكرناه جزء من عشرات التناقضات الإداريّة المتعلّقة بآليّات تطبيق القوانين والتعايش السلميّ وقانون الأحوال الشخصيّة، وغالبيّتها ترجع أسباب تناميها إلى غياب القواعد العلميّة التي يفترض أن تؤسّس عليها أنظمة إدارة الدولة، وكذلك نتيجة تسنّم "الضعفاء" علميّا وفكريّا لمناصب أكبر من حجمهم!
يفترض أن تكون حماية سيادة العراق وسلامة المواطنين وصحّتهم وأفكارهم من أولى أوّليّات الإدارة، ولكن يبدو أنّ الصراع على السلطة، واستمرار تنوّع مصادر القرار، من أكبر عوائق الإصلاح والإعمار!
صدقا، الإداريّ الفاسد لا يقود مؤسّسات البلاد إلا لمزيد من الخراب والفساد، والإدارات العامّة التي لا تحافظ على سيادة البلاد وسكّانها وأموالها وثرواتها لا تستحق البقاء في سدّة الحكم!
x.
com/dr_jasemj67
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه العراق العراق الفساد الادارة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة رياضة رياضة سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة إدارة الدولة ة العراقی ة ة التی
إقرأ أيضاً:
العراق ما بعد 2003.. دولة تتعثّر وسياسة تتكرّر
منذ 2003، يعيش العراق تجربة سياسية فريدة في العالم العربي؛ نظام ديمقراطي تعددي، لكنه هشّ، قائم على المحاصصة لا على الكفاءة، وعلى التوازنات الطائفية أكثر من الرؤية الوطنية. فهل يستطيع العراق اليوم أن يتحرر من عبء هذا التأسيس المعطوب، ويعيد تعريف السياسة بوصفها أداة للبناء لا للصراع؟
السياسة في العراق لا تعاني من فراغ، بل من فائض في الخطابات ونقص فادح في النتائج. البرلمان يعج بالتحالفات، لكن القوانين المصيرية تبقى معلّقة.. الحكومات تتشكل بشق الأنفس، ثم تمضي أغلب فترتها في النجاة من الانهيار. وفي ظل هذا الواقع، يُترك المواطن أسيرا لأزمات متراكمة؛ كهرباء مفقودة، تعليم متراجع، وفساد ينهش مفاصل الدولة.
القوى السياسية، رغم تغير الأسماء، لا تزال تدور في فلك الحسابات الضيقة، حيث تُقدّم الولاءات الطائفية والحزبية على أي مشروع جامع. والمفارقة أن الشارع العراقي، رغم التضحيات الكبرى، لم يُترجم حضوره في الساحات إلى حضور مؤسسي حقيقي في مراكز القرار
ما يفاقم المأزق أن القوى السياسية، رغم تغير الأسماء، لا تزال تدور في فلك الحسابات الضيقة، حيث تُقدّم الولاءات الطائفية والحزبية على أي مشروع جامع. والمفارقة أن الشارع العراقي، رغم التضحيات الكبرى، لم يُترجم حضوره في الساحات إلى حضور مؤسسي حقيقي في مراكز القرار.
لكن الفرصة لم تُهدر بعد، فالعراق يمتلك كل مقوّمات الدولة القوية موقع استراتيجي؛ ثروات ضخمة، وطاقات بشرية لافتة. المطلوب فقط هو قرار شجاع بكسر منطق المحاصصة، وبناء مؤسسات تحكمها الكفاءة، لا الهوية الفرعية. فلا ديمقراطية تنجح بلا دولة، ولا دولة تنهض بلا سياسة رشيدة.
التحول السياسي في العراق لا يتطلب معجزة، بل مراجعة صادقة تبدأ من داخل الطبقة السياسية نفسها. فالنظام الديمقراطي لا يكتفي بمجرد وجود الانتخابات، بل يتطلب مؤسسات قادرة على الرقابة، وبيئة قانونية تُحاسب الفاسد وتحمي الكفوء. التجربة العراقية أثبتت أن الديمقراطية الشكلية، عندما تُفرّغ من مضمونها، تتحول إلى غطاء للشللية والمصالح الضيقة.
ولعل أبرز التحديات التي تواجه العراق اليوم هي أزمة الثقة، ليس فقط بين المواطن والحكومة، بل بين القوى السياسية نفسها. كل طرف يشكّ في نوايا الآخر، والكل يفاوض من موقع القلق، لا من موقع الشراكة. وفي ظل هذا المناخ، تُفرغ الدولة من مضمونها، وتتحول إلى ساحة صراع مستمر على النفوذ، بدل أن تكون إطارا ضامنا للاستقرار والنمو.
لا يمكن الحديث عن إصلاح سياسي دون معالجة ملف الفساد، لقد تحوّل الفساد في العراق من سلوك فردي إلى منظومة متكاملة، تحمي نفسها وتعيد إنتاج نفوذها داخل مؤسسات الدولة
من هنا، فإن أي إصلاح سياسي حقيقي يجب أن يبدأ بإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع. لا يمكن بناء وطن مستقر دون إشراك فعلي للمواطنين في صنع القرار، ودون ترسيخ ثقافة المواطنة فوق أي انتماء آخر. كما أن النخب السياسية مطالبة بأن تغادر منطق إدارة التوازنات إلى منطق بناء الدولة، ومن عقلية الترضيات إلى منطق التخطيط والإنجاز.
ولا يمكن الحديث عن إصلاح سياسي دون معالجة ملف الفساد، لقد تحوّل الفساد في العراق من سلوك فردي إلى منظومة متكاملة، تحمي نفسها وتعيد إنتاج نفوذها داخل مؤسسات الدولة. مواجهة الفساد تتطلب استقلالا فعليا للقضاء، وإرادة سياسية لا تتردد أمام الأسماء الكبيرة أو الحسابات الحزبية.
أما على الصعيد الإقليمي، فإن استقرار العراق ليس مصلحة داخلية فحسب، بل ضرورة عربية ودولية. عراق قوي يعني توازنا في المنطقة، ومصدر استقرار لا ساحة صراع. وهذا لن يتحقق إلا إذا استطاع العراق أن يُنهي حالة التبعية في قراره السياسي، ويستعيد زمام المبادرة كدولة ذات سيادة كاملة.
إن أراد العراق أن يستعيد دوره العربي والإقليمي، فعليه أولا أن يصالح الداخل مع نفسه، ويؤسس لعقد سياسي جديد، يخرج من عباءة ما بعد 2003، ويتجه نحو ما بعد الجمود. فهل يملك صانع القرار في بغداد هذه الشجاعة؟ أم أن السياسة ستظل مرهونة بعقلية الغنيمة لا الدولة؟