لجريدة عمان:
2025-12-14@14:49:23 GMT

صورة من قريب لمصنع خيري شلبي

تاريخ النشر: 7th, September 2024 GMT

صورة من قريب لمصنع خيري شلبي

تميز كتَّاب جيل "الستينيات" في مصر بغزارة الإنتاج، فقد تتلمذوا على يد نجيب محفوظ، الذي كانت موهبته العظيمة تتدفق كشلال، وفهم كلٌّ منهم أنه لكي يكون كاتبا عظيما فهو يحتاج إلى مراكمة بناء كبير، ولم يخرج عن هذه القناعة سوى إبراهيم أصلان، بينما كان الأكثر غزارة بينهم هو خيري شلبي، حيث امتلك أعمالا يفوق حجم كتاب واحد منها كل أعمال أصلان مجتمعة.

بدا أصلان أشبه بحرفي ماهر يعمل لشهور حتى ينهي قطعة فنية رائعة صغيرة، بينما كان خيري شلبي أشبه بمصنع للصناعات الثقيلة، مصنع لا تتوقف ماكيناته عن الدوران، على مدار اليوم، والشهر، والسنة.

عمل خيري شلبي، الذي رحل في 9 سبتمبر 2011، بالصحافة، وكتب بانتظام بورتريهات أدبية في مجلة "الإذاعة والتلفزيون"، تحمل بصمته الخاصة التي تفوق في جمالها لوحات الفن التشكيلي، لأدباء وشخصيات عامة وصعاليك، عرفهم أو قرأ عنهم، كما كتب مقالات متعددة في كثير من الصحف العربية، ومع هذا لم يعقه الانشغال بالرزق، عن الكتابة الأدبية، فقدم لنا روائعه الروائية مثل "وكالة عطية"، و"صالح هيصة"، و"زهرة الخشخاش"، و"صحراء المماليك" و"إسطاسية"، وكذلك أعماله القصصية التي لا تقل جمالا عنها مثل "صاحب السعادة اللص"، و"سارق الفرح"، و"أسباب للكي بالنار"، و"الدساس"، و"قداس الشيخ رضوان"، وقد صور في تلك الأعمال روح الشخصية المصرية، وفيها مزيج عجيب من الإيمان بالغيب، والاتكال على الخالق، والفهلوة، والإفتاء في كل شيء، والارتباط بالمكان، واجتياز الصعاب لاصطياد لقمة العيش. كتب خيري شلبي في كثير من القضايا، من عصابة تتاجر بالأعضاء البشرية، إلى وكالة تأوي الأعيان والصعاليك، إلى العلاقة المشدودة بين المسلمين والمسيحيين، إلى الباشوات أصحاب العزب، إلى الحشاشين.

اعتبرتُ خيري شلبي، في عملي الصحفي في نهاية التسعينيات وبدايات الألفية الجديدة، مصدرا مهما وقويا، فقد كان حاضرا على الدوام ولا يرفض الحديث في أي موضوع. أهاتفه وأطرح عليه فكرة التحقيق، وأسمع صوت قرقرة "النارجيلة" على الناحية الأخرى، ثم يبدأ الحديث مباشرة بتدفق، لم يكن يتوقف، حتى وإن طلبت منه إعادة كلمة أو جملة، كان يبدو لي كأنما فتح خزان الكلام ولا يمكن إيقافه إلا بعد أن يفرغ تماما.

وكان بينه وبين كتَّاب جيله مناوشات صغيرة، كالمناوشات التي تحدث بين أي مجموعة تنتمي إلى مدرسة معينة أو جيل واحد. كان مثلا، في فترة من الفترات، متضايقا من الروائي جمال الغيطاني رئيس تحرير جريدة "أخبار الأدب" التي أعمل بها، وحاول الغيطاني أكثر من مرة أن يوقع بيننا بخفة دم، كان يقول لي مثلا إن خيري شلبي لا يحبك أبدا، فأضحك وأقول له ما معناه إني أعرف ما يحاول فعله، وإن خدعته لا تنطلي عليَّ، فيضحك بدوره بقوة ممسكا قلبه كعادته. ويوما ما طلبتُ خيري شلبي على الهاتف لأستطلع رأيه في تحقيق صحفي وانتظر كالعادة حتى فرغت من كلامي، وقال لي: "أنا باخد ألف دولار في التحقيق"، وفهمت طبعا أن هناك مشكلة بينهما كالعادة، وحين حكيت للغيطاني انفجر بشكل تلقائي في الضحك..

وقد غضب مني مرة بسبب مقال هاجمتُ فيه وزير الثقافة آنذاك فاروق حسني في جريدة "المصري اليوم" لأنه أعلن منح جائزة الدولة التقديرية العام المقبل والذي سيليه له ولإبراهيم أصلان على التوالي، انتقدت ذلك القرار، لأنه برغم أحقية الاسمين يغفل أسماء أخرى مهمة مثل محمد البساطي ومجيد طوبيا وصنع الله إبراهيم وغيرهم، كما أنه يعني أن تصويت الأعضاء على الجوائز هو تصويت شكلي، وأن من يتحكم في المنح والمنع هو الوزير. اعتبر خيري شلبي أنني أنغص عليه "عيشته"، وأنني أستهدف تفويت الجائزة عليه، وأن هناك من يسلطني، وكان يقصد طبعا الغيطاني، بحكم علاقة الأبوة بيني وبينه، لكن الموقف مرَّ كما مر غيره، وفاز الاثنان، أي خيري شلبي وإبراهيم أصلان بالجائزة في عامين متتالين.

وقد عمل خيري شلبي رئيسا لتحرير مجلة "الشعر" المصري، ورغم أنه استخدم العامية في أعماله إلا أنه وقف بالمرصاد لشعر العامية في المجلة، حيث منع نشره إلا باستثناءات لصالح نجوم في وزن عبد الرحمن الأبنودي.

واليوم وأنا أستعيده أستعيد قوته الهائلة التي مكنته من التغلب على الصعاب، فلم تكن الأرض ممهدة أمامه، وكان يمكن للحياة القاسية التي عاشها أن تحكم عليه بهجر الكتابة أو حتى عدم التفكير فيها من الأصل. يحكي: تزوج أبي ثلاث زيجات فشلت تباعا بسبب عدم الإنجاب، وفي أواخر عمره تزوج صبية عمرها 12 عاما. أنجبت له 17 ابنا وبنتا، وكان عليه، وهو بحكم السن أقرب للموت، أن يبدأ الحياة من جديد، وكان همه كبيرا، فلم يكن راتبه يكفي حتى طعام هذه الكتيبة من الأولاد، وأصبح واضحا أن من يود مواصلة التعليم فعليه أن يعتمد على نفسه، وأنا واجهت هذه الحقيقة في الصف الأول الابتدائي واشتغلت مع عمال التراحيل في التاسعة من عمري، وكنت أحمل زوادتي على ظهري وأسافر إلى بلاد بعيدة للبحث عن عمل.

ومن يقرأ سيرة خيري شلبي أو يطالع حواراته في الأرشيف سيتعجب من صبر هذا الإنسان العظيم. لقد حول الظروف الصعبة إلى أماكن يهبط فيها وحي الكتابة عليه، فمثلا عاش خيري وقتا من عمره في المقابر، وحين أصبحت أموره أفضل وعاش في مسكن يليق به، كان يعود إلى المقابر ليستقبل الإلهام. إصرار خيري شلبي ودأبه وإرادته وقوة موهبته وتفجرها كالشلال جعلته يتمسك بالحلم. حلم الكتابة، فصار واحدا من الكتَّاب العلامات في مصر والعالم العربي.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: خیری شلبی

إقرأ أيضاً:

فلنغير العيون التي ترى الواقع

كل مرة تخرج أحاديثنا مأزومة وقلقة وموتورة، مشحونة عن سبق إصرار وترصد بالسخط والتذمر، نرفض أن نخلع عنا عباءة التشاؤم، أينما نُولي نتقصّى أثر الحكايات شديدة السُمية، تلك الغارقة في البؤس والسوداوية. 

في الأماكن التي ننشُد لقاءت متخففة من صداع الحياة، نُصر على تصفح سجل النكبات من «الجِلدة للجِلدة»، فلا نترك هنّة ولا زلة ولا انتهاكًا لمسؤول إلا استعرضناه، ولا معاناة لمريض نعرفه أو سمعنا عنه إلا تذكرنا تفاصيلها، ولا هالِكِ تحت الأرض اندرس أثره ونُسي اسمه إلا بعثناه من مرقده، ولا مصيبة لم تحلُ بأحد بعد إلا وتنبأنا بكارثيتها. 

ولأننا اعتدنا افتتاح صباحاتنا باجترار المآسي، بات حتى من لا يعرف معنىً للمعاناة، يستمتع بالخوض في هذا الاتجاه فيتحدث عما يسميه بـ«الوضع العام» -ماذا يقصد مثله بالوضع العام؟- يتباكى على حال أبناء الفقراء الباحثين عن عمل، وتأثير أوضاعهم المادية على سلوكهم الاجتماعي، وصعوبة امتلاك فئة الشباب للسكن، وأثره على استقرارهم الأُسري، وما يكابده قاطني الجبال والصحراء وأعالي البحار! 

نتعمد أن نُسقط عن حواراتنا، ونحن نلوك هذه القصص الرتيبة، جزئية أنه كما يعيش وسط أي مجتمع فقراء ومعوزون، هناك أيضًا أثرياء وميسورون، وكما توجد قضايا حقيقية تستعصي على الحلول الجذرية، نُصِبت جهات وأشخاص، مهمتهم البحث عن مخارج مستدامة لهذه القضايا، والمساعدة على طي سجلاتها للأبد. 

يغيب عن أذهاننا أنه لا مُتسع من الوقت للمُضي أكثر في هذا المسار الزلِق، وأن سُنة الحياة هي «التفاوت» ومفهوم السعادة لا يشير قطعًا إلى الغِنى أو السُلطة أو الوجاهة، إنما يمكن أن يُفهم منه أيضًا «العيش بقناعة» و«الرضى بما نملك». 

السعادة مساحة نحن من يصنعها «كيفما تأتى ذلك»، عندما نستوعب أننا نعيش لمرة واحدة فقط، والحياة بكل مُنغصاتها جميلة، تستحق أن نحيا تفاصيلها بمحبة وهي لن تتوقف عند تذمر أحد. 

أليس من باب الشفقة بأنفسنا وعجزنا عن تغيير الواقع، أن نرى بقلوبنا وبصائرنا وليس بعيوننا فقط؟ أن خارج الصندوق توجد عوالم جميلة ومضيئة؟ ، أنه وبرغم التجارب الفاشلة والأزمات ما زلنا نحتكم على أحبة جميلين يحبوننا ولم يغيرهم الزمن؟ يعيش بين ظهرانينا شرفاء، يعملون بإخلاص ليل نهار، أقوياء إذا ضعُف غيرهم أمام بريق السلطة وقوة النفوذ؟ 

النقطة الأخيرة 

يقول الروائي والفيلسوف اليوناني نيكوس كازنتزاكس: «طالما أننا لا نستطيع أن نغير الواقع، فلنغير العيون التي ترى الواقع». 

عُمر العبري كاتب عُماني 

مقالات مشابهة

  • سعد الصغير باكيًا: حسبي الله ونعم الوكيل في اللى مجاش عزاء أحمد صلاح وكان فاضي
  • فلنغير العيون التي ترى الواقع
  • إليكم 23 صورة من ملف إبستين وترامب وبيل كلينتون وبيل غيتس التي كُشف عنها الجمعة
  • مصدر يكشف لـCNN عن لقاء قريب بين مبعوث ترامب وزيلينسكي مع قادة أوروبيين
  • دعاء صلاة العشاء المستجاب.. كلمات تجلب لك خيري الدنيا والآخرة
  • فيليبي لويس: محمد صلاح سيستعيد بريقه قريبًا
  • الأمير الوليد بن طلال يستحوذ على نادي الهلال قريبًا
  • اللجنة العليا للتكليف: أخبار جيدة قريبًا لخريجي العلاج الطبيعي
  • منة شلبي تبحث عن كنوز «نورماندي»
  • مصطفى كامل يستعد لطرح أغنية جديدة بعنوان “هما كده”.. قريبًا