ماكرون يضع مصيره بيد لوبان
تاريخ النشر: 14th, September 2024 GMT
ترجمة: بدر بن خميس الظّفـري
إن الانتظار لمدة شهرين لاختيار رئيس وزراء جديد قد يكون أمرا معتادا بالنسبة للبلجيكيين أو الهولنديين أو الألمان أو الإيطاليين، الذين اعتادوا على المفاوضات الائتلافية المطولة، ولكن بالنسبة للفرنسيين فإن الانتظار لمدة خمسين يوماً أمر غير معتاد. لم يكن هذا هو المفترض أن يحدث في الجمهورية الخامسة، التي كان دستورها في عام 1958 يهدف إلى ضمان أغلبية برلمانية مستقرة لرئيس قوي، هو شارل ديجول.
لقد أمضى خليفته الحالي في قصر الإليزيه، إيمانويل ماكرون، الصيف كله مترددا بشأن طريقة للخروج من الفوضى التي أوجدها بنفسه عندما حل الجمعية الوطنية ودعا إلى انتخابات مبكرة في يونيو. ولا يبدو أن الخيار الذي اختاره أخيرا يوم الخميس سيقدم حلا مستقرا، إذ جلب ميشيل بارنييه لقيادة الحكومة، وهو المفوض الأوروبي السابق ووزير الخارجية ومفاوض خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والمحافظ الديجولي، ومتقاعد في سن 73 عاما.
بارنييه، الذي جاء حزبه (الجمهوريون) في المركز الرابع بفارق كبير عن الثالث، بحصوله على 47 مقعدا فقط من أصل 577 مقعدا برلمانيا، يعرف بأنه قادر على بناء التوافق وزعيم جدير بالثقة، وإن كان غير معروف إلى حد ما. ومع ذلك، فإن منصبه في الحكومة يعتمد بالكامل على دعم حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان. وهذا يمنحها دور ما يسمى بصانع الملوك، ما يسمح لها بإسقاط بارنييه، وربما ماكرون، من خلال دعم تصويت حجب الثقة كلما كان ذلك في صالحها.
عندما حل ماكرون البرلمان في يونيو، قال إنه يريد «توضيحًا» من الناخبين بعد صعود حزب الجبهة الوطنية إلى المركز الأول في انتخابات البرلمان الأوروبي. وبدلاً من ذلك، سلم الناخبون برلمانًا معلقًا، أصبحت الجبهة الشعبية الجديدة اليسارية، وهي تحالف من الاشتراكيين والخضر والشيوعيين واليساريين الراديكاليين، أكبر كتلة، لكنها بعيدة كثيرًا عن الأغلبية. أعلن اليسار النصر، وطالب ماكرون بتعيين مرشح من اختياره رئيسًا للوزراء.
في البداية أصرّ الرئيس على أن أحداً لم يفز. وبعد أسابيع من الإنكار اعترف بأن مجموعته الوسطية، التي احتلت المركز الثاني، قد خسرت. ومنذ ذلك الحين سعى إلى تجنب العواقب السياسية لتلك الهزيمة برفضه تعيين الموظفة المدنية غير المعروفة (لوسي كاستيتس)، التي اختارها حزب الجبهة الوطنية للعمال. وحاول بدلاً من ذلك بناء ائتلاف غير محتمل يمتد من المحافظين السائدين إلى اليسار المعتدل، مستبعدا ما يسميه المتطرفون حزب الجبهة الوطنية، وحزب فرنسا المتمردة اليساري المتشدد بقيادة جان لوك ميلينشون، من أجل الإبقاء على سياساته المؤيدة للأعمال التجارية.
إن القضية الأساسية هنا هي أن أي حزب لم يكن لديه الدافع لمساعدة الرئيس غير القادر على إنهاء ولايته الثانية بسلام. فلماذا نضحي بأعرافنا السياسية لإنقاذ رئاسة ماكرون الغارقة؟ من الأفضل لنا التمسك بالمواقف المتطرفة بدلا من التضحية بمصداقيتنا السياسية. وهذا صحيح في ضوء حقيقة مفادها أن الحكومة المقبلة سوف تحتاج إلى تنفيذ تخفيضات الإنفاق وزيادة الضرائب لمعالجة العجز الكبير في الميزانية الذي وضع فرنسا في خلاف مع الاتحاد الأوروبي.
فضلاً عن ذلك، فإن أغلب الساسة يركزون بالفعل على الانتخابات المقبلة، والانتخابات البلدية في عام 2026، وقبل كل شيء الانتخابات الرئاسية في عام 2027، أو ربما قبل ذلك. وقد أدى تأخير ماكرون المطول في تسمية رئيس وزراء إلى تأجيج التكهنات بأنه قد يضطر إلى الاستقالة قبل نهاية ولايته، وهو أمر نفاها موظفو الإليزيه. وكان رئيس وزرائه السابق، إدوارد فيليب، أول من خرج من القائمة هذا الأسبوع، وأعلن ترشحه للرئاسة، متى ما جرت الانتخابات.
في ظل حيرة ماكرون بين تعيين رئيس وزراء من يسار الوسط الذي كان سيلغي إصلاحاته في نظام التقاعد، وتعيين رئيس وزراء من يمين الوسط ربما لا ينجو من اقتراح حجب الثقة، اختار ماكرون أن يضع نفسه بين أيدي اليمين والحزب الوطني. وهو يأمل أن يحافظ هذا على إرثه من السياسات الاقتصادية التي اجتذبت استثمارات أجنبية قياسية وخفضت البطالة، لكنها أغضبت النقابات العمالية والعديد من الفرنسيين العاديين.
إن حزب الجمهوريين المحافظين، وهو ما تبقى من الحزب الديجولي القوي في الماضي بعد زعيمه إريك سيوتي، ومجموعة صغيرة من الحلفاء الذين تعاونوا مع حزب التجمع الوطني في يونيو، قد سعوا إلى تأكيد استقلال حزبهم. واستبعد مرشح الحزب الجمهوري للرئاسة لوران فوكييه في البداية الدخول في ائتلاف أو الخدمة في الحكومة تحت قيادة ماكرون. ويبقى أن نرى ما إذا كان الجمهوريون سينضمون إلى إدارة بارنييه، كما دعا إلى ذلك الرئيس السابق نيكولا ساركوزي.
إن الاشتراكيين والخضر والشيوعيين متمسكون حتى الآن بتحالفهم مع حزب اليسار الفرنسي، ليس بسبب حبهم لميلينشون سريع الغضب، بل لأنهم خائفون من فقدان قواعد قوتهم في مجلس المدينة إذا انفصلوا الآن. لذا فمن المرجح أن يصوتوا جميعًا ضد بارنييه ويبقوا في المعارضة بقوة.
لا يزال الحزب الاشتراكي يتعافى من تجربة الاقتراب من الانهيار بعد أن تبنى الرئيس السابق فرانسوا هولاند نظرية اقتصاد الموارد الجانبيّة وإصلاح سوق العمل، فهجرهم الناخبون. وكان آخر مرشحيْـن للرئاسة، بينو هامون وآنا هيدالغو، قد حصلا على 6.4% و1.8% من الأصوات على التوالي. وقليلون هم الذين يرغبون في العودة إلى هذا الطريق.
على النقيض من إيطاليا، لا يوجد في فرنسا تقليد لحكومة «تكنوقراط» تتألف من كبار الموظفين الحكوميين غير المنتمين إلى أي حزب، أو محافظي البنوك المركزية أو كبار رجال الدولة مثل ماريو مونتي أو ماريو دراجي، الذين يقومون بعمل غير مقبول يتمثل في سَن إصلاحات ضرورية لكنها مرفوضة من قبل الشعب قبل الاستسلام للسياسيين المنتخبين. ويرى البعض أن بارنييه هو هذا النوع من الشخصيات، على الرغم من أنه سياسي محترف ظل مخلصًا للحركة الديغولية حتى عندما أصبحت أكثر بعدا عن أوروبا. إن مفاوض خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي نجح في بناء إجماع الدول السبع والعشرين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي طوال المفاوضات المتوترة مع المملكة المتحدة والحفاظ على ذلك الإجماع، يحظى باحترام أوسع نطاقا بين الطبقة السياسية وبين الناخبين. لكن ماكرون لم يلجأ إليه إلا كملاذ أخير بعد المحاولة مع بديلين آخرين رفيعي المستوى.
وعلى يسار الوسط، يبدو أن برنار كازنوف، وزير الداخلية الاشتراكي السابق ورئيس الوزراء في عهد هولاند، المعروف ببروده تحت الضغط ولباقته القانونية، كان متشددا للغاية في تغيير السياسات. فقد انتقد إصلاح نظام التقاعد الذي اقترحه ماكرون والذي أثار جدلا شرسا، بعد رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاما، وقانون الهجرة الذي أبطله المجلس الدستوري في ذلك الوقت، والذي سعى إلى التمييز ضد الأجانب في استحقاقات الرعاية الاجتماعية.
وعلى يمين الوسط، يبدو أن زافييه بيرتراند، رئيس منطقة هوت دو فرانس الشمالية، الذي كان وزيراً للصحة والشؤون الاجتماعية في عهد ساركوزي، قد رُفض من جانب حزب التجمع الوطني، الذي ينظر إليه باعتباره منافساً معادياً في مناطقه الشمالية.
ربما نجح ماكرون في إنقاذ إصلاح نظام التقاعد من خلال تعيين بارنييه، لكنه وضع بقاءه السياسي في أيدي لوبان، التي تستطيع إظهار حنكتها السياسية من خلال الامتناع عن التصويت للسماح بتمرير ميزانية صعبة، ثم سحب البساط من تحت أقدام الحكومة عندما تكون الظروف أكثر ملاءمة لترشحها للرئاسة.
إنّ بارنييه يعدّ بمثابة الورقة الأخيرة التي يستخدمها ماكرون للحفاظ على إرثه، على أمل أن يحدث شيء ما بين الآن وعام 2027 لإنقاذ الوسط السياسي الفرنسي. ولكن لا ينبغي لنا أن نعول على ذلك.
بول تايلور هو باحث كبير مؤقت في مركز السياسة الأوروبية.
عن الجارديان البريطانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الاتحاد الأوروبی رئیس وزراء رئیس ا
إقرأ أيضاً:
كيف أصبحت المقاومة البديل الذي لا يُهزم؟
أمام الهزائم العسكرية والسياسية للأنظمة العربية، كانت الشعوب العربية تفرز أدواتها في المواجهة. فمنذ ثلاثينيات القرن العشرين تحولت القضية الفلسطينية من رخاوة الأنظمة إلى صلابة التنظيمات.
ففي المواجهة لم تسقط الزعامات والأيديولوجيات فقط، بل سقطت أيضا الجيوش النظامية ومعها سقط دورها في التحرير. وخلف عجز الأنظمة كانت تتراءى حماسة الشعوب. وخلف ضعف الجيوش كانت تبرز جسارة القوى الضاربة.
فكأن التنظيمات السياسية والأيديولوجية قد جاءت لملء الفراغ. فقد أحيت نكبة 1948 في الأمة مفهوم الجهاد. وحررت هزيمة 1967 المبادرة الشعبية وأيقظت مفهوم التحرير. وفجرت معاهدة كامب ديفيد 1978 حركات المقاومة مع بداية الثمانينيات. وعلى طول تاريخ القضية الفلسطينية، كانت تتعايش أطروحتان: واحدة للمقاومة، وأخرى للسلام.
النكبةلقد وجدت الجامعة العربية نفسها بعد بضع سنوات من تأسيسها أمام أصعب اختبار لها: القضية الفلسطينية. لم يكن تأسيسها من أجل تحرير فلسطين، بل كان محاولة بريطانية لتجاوز ضغائن الخديعة البريطانية للشريف حسين.
فكان ميلاد الجامعة تعويضا عن دولة الوحدة بوجهيها القومي والإسلامي. ومن ثم لم تكن فلسطين على جدول أعمال تلك المنظمة الإقليمية الناشئة. ولا شك في أن عجز المنظمة وأنظمتها على معالجة المسألة منذ بواكيرها قد دفع نحو تدويل القضية. فكان قرار التقسيم نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 حجر الأساس للكيان الغاصب. لتندلع بعده إحدى أعتى المواجهات.
قررت الحكومات العربية في اجتماع "العالية" 1947 أن تكوّن فصيلا شبابيا حسن التدريب والأداء. وتولت جامعة الدول العربية تأسيس "جيش الإنقاذ" بقيادة فوزي القاوقجي. ولكن الضغط البريطاني كان كفيلا بإسقاط ذلك المشروع. وهو المصير نفسه الذي لقيته لجنتهم العسكرية بقيادة "طه الهاشمي" واللواء إسماعيل صفوت باشا.
إعلانوحتى النجاحات التي حققتها تلك الجيوش في الجولات الأولى للصراع ذهبت أدراج الرياح بفعل المناورات الغربية (الهدنة الأولى والثانية). فكانت نكبة 1948 فاتحة الهزائم العربية. إذ لم تكن الحكومات العربية في حجم القضية.
فما بين العجز الذاتي والارتهان للقرار البريطاني والخيانة الصريحة، كانت الحكومات العربية تُسقط من حسابها أي مواجهة جدية للأطماع الصهيونية في فلسطين، وتتنصل من مسؤولياتها القومية والإسلامية.
فقد خضعت أغلب الحكومات العربية لإرادة الغزاة. وظلت "تستجدي الحلول من القوى الإمبريالية التي كانت ولا تزال تشكل رأس حربة في أزمة القضية الفلسطينية".
ففلسطين لم تكن "المحرك الرئيسي لسياسات الدول العربية، بل كان الدافع وما يزال هو تأمين الأنظمة الحاكمة في الدول الوطنية في مرحلة ما بعد الاستعمار". وتلك الحسابات كانت السبب المباشر في تأخير الاستجابة لداعي الجهاد في فلسطين.
التنظيمات الشعبية ونقد الدولةأمام عجز الأنظمة العربية كانت التنظيمات قبل النكبة وبعدها تدخل على خط الصراع. فكتب ميشال عفلق سنة 1946 يقول: "لا ينتظر العرب ظهور المعجزة: فلسطين لا تنقذها الحكومات بل العمل الشعبي". وساد اعتقاد لدى حسن البنا أن الأنظمة العربية ليست جادة في مقاومة الاحتلال.
وأكد كامل الشريف "أنه لا خير يرجى في هذه الحكومات". فالعوائق أو "المصائب" أو "العبث" الذي يجد ترجمته في فساد أنظمة الحكم القائمة، وهيمنة الاستبداد السياسي، واختلاف الدول العربية فيما بينها… كل تلك العوامل في تضافرها كانت "كافية لإيقاع الهزيمة".
وقد كان نقد الموقف العربي الرسمي من القضية الفلسطينية مقدمة لسحب القضية من الأنظمة ووضعها بين أيادي الفعاليات الشعبية المدنية والعسكرية. ففي فلسطين بادرت "الهيئة العربية العليا" برئاسة الحاج أمين الحسيني بتشكيل قوات "الجهاد المقدس" بقيادة عبدالقادر الحسيني.
وخلال الأشهر الخمسة الأولى للحرب تمكنت تلك القوات من تكبيد العصابات الصهيونية خسائر فادحة. ولكن مع دخول جيوش الدول العربية فلسطين 15 مايو/ أيار 1948 "ظهرت سياسة إقصاء الفلسطينيين عن ميادين المعركة ومنع الأموال والأسلحة عنهم".
وقد جاء تقرير عبدالقادر الحسيني للجامعة العربية في أبريل/ نيسان 1948 يقطر مرارة وأسى بسبب خذلان لجنتها العسكرية التي ماطلت في إمداده بالمال والسلاح. وفي ذلك التقرير حمّل الجامعة مسؤولية ضياع فلسطين. ليستشهد بعدها بيومين في معركة القسطل.
أما عربيا فقد زحف المتطوعون العرب نحو فلسطين. وبرزت في الأثناء كتائب الإخوان المسلمين كقوة وازنة في الصراع. فرغم تضييق السلطات، نجحت طلائع الإخوان في التسلل إلى داخل فلسطين، حيث تمكنت قوة من المتطوعين بقيادة أحمد عبدالعزيز من الوصول إلى خان يونس. والتحقت بهم قوة أخرى من شرق الأردن بقيادة عبداللطيف أبوقورة. ثم حلت قوة أخرى من سوريا بقيادة زعيم الإخوان مصطفى السباعي.
وفي غزة استقرّت قوة البكباشي عبدالجواد طبالة. وعلى أرض فلسطين أدارت تلك الطلائع معارك ضارية ضد العصابات الصهيونية. وقد علق هيكل على تلك الاشتباكات بالقول: "لقد أثبت بعضهم نفسه تحت نيران القتال". وهكذا فقد كانت الجماهير العربية خلال النكبة متقدمة على حكامها.
إعلان النكسةلقد أجهزت قوات الاحتلال في صباح الخامس من يونيو/ حزيران على القوات الجوية المصرية بضربة خاطفة. فدمرت مئات الطائرات المصرية في قواعدها. وضربت المطارات وعطلت قواعد الصواريخ أرض-جو.
مشهد أجمله أنور عبدالملك في قوله: "كانت القوات المصرية المسلحة قد ضُربت بشكل خطير، واحتلت سيناء، وشلت قناة السويس، ومُحي سلاح الطيران عمليا كوحدة مقاتلة، وتفجرت أعمال الخيانة والإجرام والتآمر، وانتشرت في كل مكان". كل ذلك في سويعات معدودات. وبإخراج القوات الجوية المصرية من الخدمة، فقد تركت بقية القوات في العراء من دون أي غطاء جوي.
وجاء قرار الانسحاب غير المدروس من سيناء ليزيد من الكلفة البشرية للهزيمة. ومع انهيار الدرع الواقي الذي كان يحمي عمق الأمة، فقد أصبح عمق الجغرافيا العربية – فضلا عن أطرافه- مهددا. فزحفت قوات العدو نحو سيناء بعد أن دمرت بقية القوات المسلحة المصرية.
واندفعت نحو الضفة الغربية فاحتلتها واستولت على القدس الشرقية بعد أن انهارت الدفاعات الأردنية في اليوم التالي. وكذلك فعلت في قطاع غزة. أما القوات التي اتجهت نحو سوريا فقد "تمكنت من احتلال مرتفعات الجولان دون مواجهة أي مقاومة تتناسب مع القوات العسكرية الضاربة المحتشدة هناك".
ولم تضع الحرب أوزارها إلا بعد أن أحكمت قوات الاحتلال سيطرتها على مساحات جديدة. وحسبنا من القراءات لتلك الكارثة المدمرة وصف هشام شرابي للهزيمة بـ "أيام حزيران السوداء". فكيف انعكست الهزيمة على الاختيارات النضالية للفلسطينيين؟
مثلت هزيمة 1967 منعطفا إستراتيجيا في الوعي السياسي الفلسطيني. وكان من نتائج الهزيمة "ظهور المقاومة الفلسطينية المسلحة وتعاظمها، وبروز الهوية الوطنية الفلسطينية التي قررت أن تأخذ زمام المبادرة بعد أن تبين لها مدى الضعف العربي". فقد قضت الهزيمة على إيمان الفلسطينيين بالحكومات "التقدمية" التي كانت معقد الآمال. "وأثبتت فشل الأنظمة العربية وعجزها عن تحرير فلسطين".
وينقل يزيد صايغ عن خليل الوزير أنه كان يرفض "الاعتماد على الدول العربية وجيوشها". وهكذا فقد ساعدت تلك البيئة على الاعتراف بالحركة الوطنية الفلسطينية كلاعب أساسي في الشرق الأوسط.
ويحسب للحركة أنها نجحت في "فرض نفسها كمعبرة عن الطموحات الوطنية للشعب العربي الفلسطيني". وهو ما أسهم في تشكيل الرؤى السياسية والميدانية للمنظمة. ففي المستوى الأيديولوجي قلبت حركة فتح ذلك الشعار الذي لطالما تغنى به القوميون العرب "الوحدة طريق فلسطين" إلى شعار "فلسطين طريق الوحدة". شعار ستتأسس عليه الكثير من التحولات التكتيكية والإستراتيجية. ومنذ أن استعادت منظمة التحرير المبادرة، اختارت الاستقلال السياسي والتنظيمي عن الجامعة العربية وأنظمتها.
وأما ميدانيا فقد بدأ مفهوم العمل الفدائي يتبلور كبديل من الحروب النظامية. وعلى تلك القاعدة كانت انطلاقة الثورة الفلسطينية مطلع 1965. وساد إجماع لدى أغلب الفصائل الفلسطينية مفاده أن تحرير الأرض لا يكون إلا عبر الكفاح المسلح. وهو المضمون المركزي الذي تبناه "الميثاق الوطني الفلسطيني".
وتفجرت سجالات سياسية حول نظرية التحرر الوطني من خلال دراسة النظريات الثورية وتجارب الشعوب المستعمرة. وهو ما أنتج مجموعة من الأدبيات دارت أغلبها حول حرب الشعب، وحرب التحرير الشعبية وغيرها.
وفي ضوء تلك الأدبيات جرى تأسيس عدة قواعد للعمل الفدائي في أغلب دول الطوق. وكانت ملحمة الكرامة 1968 ترجمة عملية لتلك التوجهات الجديدة. وهو ما زاد في ترسيخ النهج المقاوم حتى أصبح "الكفاح المسلح مصدر الشرعية السياسية ورمز الهوية الوطنية، والمادة الجديدة للمجتمع الفلسطيني المتخيل".
والحقيقة أن الأداء الفصائلي بعد الهزيمة لم يقطع الصلة تماما مع الأنظمة الراديكالية. فغالبا ما كانت التصورات الثورية تأخذ بعين الاعتبار الظروف التي تمر بها الأنظمة. ولكن رياح يونيو/ حزيران بقدر ما أذكت نار الاستنزاف، فقد هيأت للعبور.
إعلان حرب العبورلقد عرفت مصر بعد وفاة عبدالناصر تحولات سياسية مهمة. فالمناخات الراديكالية في مصر والعالم العربي بدأت في الضمور لصالح اتجاه عربي ميّال إلى "الاعتدال" في مقاربة الصراع. وكانت القناعة الحاصلة لدى السادات أن "تدمير الدولة اليهودية هدف غير قابل للتحقيق". وفي تلك السياقات لم تكن حرب العبور إلا عملية جراحية القصد منها الإعداد لمسرح التسوية.
مثلت حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 أول انتصار مصري على قوات الاحتلال بعد ثلاثة حروب متتالية. فقد بدأ الهجوم المصري ظهيرة السادس من أكتوبر/ تشرين الأول على مواقع العدو في سيناء قصد تحييدها وحرمانها من أي قدرة على الرد أو الحركة قبل تحقيق العبور إلى شرق القناة. فكان "وقع المفاجأة بنوعيها الإستراتيجية والتكتيكية قد تحقق إلى نهايته".
ومنذ ليلة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عبرت من الجيش المصري نحو شرق القناة خمس فرق مشاة ومئات من الدبابات وعدد من كتائب الصواريخ وأسلحة إسناد أخرى.
استبشر الفلسطينيون بتلك التطورات الميدانية. واعتبرت منظمة التحرير الفلسطينية أن إعلان الحرب على دولة الكيان كان "فرصة عظيمة أمام الفدائيين الفلسطينيين لتصعيد فاعليتهم القتالية".
ولكن العبور لم يعقبه تطوير للهجوم المصري مثلما خُطّط له. فقد جرى الالتفاف على الانتصار المذهل للمصريين بداية الحرب. ومن خلال "الثغرة" التي أحدثها جيش الاحتلال في جدار المواجهة، بدأ في إحراز تفوق ملموس غرب القناة.
وكشفت تلك الأيام الصعبة عن انعدام التناغم بين المؤسسات. فقد أربك تدخل السادات في إدارة المعركة حسابات العسكر. وحكم على حرب العبور ألا تتجاوز خط العبور.
لقد آل النصر إلى لهاث لا ينقطع وراء سراب "السلام". وانتهى تحطيم جدار بارليف 1973 إلى هدم "جدار الكراهية الحديدي" 1977، مثلما كان يتوهّم السادات. فعوض البناء على "العبور" اندفع العرب نحو التسوية.
وقد أدرك كيسنجر مبكرا أن الإجراءات العسكرية التي اتخذها المصريون سوف "تؤدي آجلا أو عاجلا إلى مفاوضات سياسية". والحق أن مآلات العبور لم تكن مثل مآلات النكبتين. فهي لم تدفع إلى السطح بقوى جديدة تتناقض رأسا مع تصورات الأنظمة العربية للقضية.
بل إن كامب ديفيد قد فتحت الباب على مصراعيه نحو التسوية. فهي لم تكن إلا بداية الهرولة العربية نحو الصلح والاعتراف والتفاوض مع دولة الاحتلال.
وهنا تقول حقائق التاريخ إن منظمة التحرير الفلسطينية قد أضحت متماهية مع الرسمية العربية. وإن عرفات لم يكن مختلفا عن السادات. فكلاهما كان ينشد "التسوية". وإن اختلفت التكتيكات والإستراتيجيات.
لقد ظلت الهوة تتسع بين الأنظمة العربية وشعوبها في التعامل مع القضية الفلسطينية. فكلما وهنت الأنظمة قامت الشعوب تنشد التحرير من خلال المقاومة. فمن نكبة 1948 ولدت القوى الشعبية القومية والإسلامية. ومن نكسة 1967 صلب عود منظمة التحرير الفلسطينية.
ولكن حرب العبور كانت فاتحة للتسوية المعممة. تسوية ستستمر مفاعيلها من كامب ديفيد 1977 حتى أوسلو 1993، مرورا بقصر الصنوبر بالجزائر 1989. وردا على مشاريع التسوية كان أسلوب آخر من المقاومة ينضج على مهل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline