مفاتيح النجاح في الابتكارات التكنولوجية
تاريخ النشر: 24th, September 2024 GMT
عندما يأتي الحديث عن الشركات الابتكارية الناجحة فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان تلك الصورة المثالية للشركات التي تمتلك مختبرات التطوير العملاقة وعددا كبيرا من المهندسين والفنيين وعددا مماثلا من الروبوتات الذكية، والأنظمة المتطورة التي تغذي الإدارة واتخاذ القرار، وهذه الصورة النمطية والسائدة للنجاح العلمي هي سبب إحجام الكثيرين من المبتكرين الناشئين عن الولوج لعالم الأعمال، والتوسع فـي الابتكارات وخوض تجربة ريادة الأعمال العلمية، فالمكون الأساسي للتفوق فـي عالم الابتكارات مختلف تماما عن مفهومنا التقليدي، إذن ماذا تحتاج شركات الابتكار العلمية الناشئة لتصل إلى الأداء التنافسي؟ وهل يمكن أن يكون مفهوم النجاح فـي الابتكار نسبيا؟
فـي البدء يجب أن نتوقف عند أهم منطلقات الحديث عن مقومات النجاح لشركات الابتكار العلمية، وهي المهارات الاجتماعية فـي فهم التفوق العلمي خارج المحيط الأكاديمي، وهي مهارة ليست سهلة المنال، حيث إن معظم الانتصارات التشغيلية العظيمة فـي التجارب التطويرية، وكذلك التحسينات الرائعة التي يحققها الفريق التقني إنما تحدث داخل المختبرات ووحدات البحث والتطوير، ولكن المستثمرين فـي ريادة الأعمال العلمية والتكنولوجية يبحثون عن منتجات منافسة من حيث التكلفة والكفاءة، وأما الرحلة من التصميم إلى التصنيع فهي ليست ضمن سلم أولوياتهم، فهي رحلة شاقة ومعقدة وتكتنفها الكثير من عدم الوضوح، فمخاطر تقادم التكنولوجيا هي دائما حاضرة، وعملية اتخاذ القرار تتطلب السرعة والكفاءة، ولذلك تواجه شركات الابتكار فـي المجالات الصناعية الجديدة نسبيا تحديات مصيرية ومستمرة حتى بعد الوصول للمنتج النهائي، فهناك تحديات أخرى تتعلق بالمحافظة على الحصة السوقية، وضمان استمرار التميز والتنافسية، وكيفـية البناء على النجاحات الأولى لبناء استدامة السمعة العلمية، وقبل هذا وذاك فإن التحدي الأزلي هو الإلمام بتعريف النجاح العلمي، وإدراك أبعاد ومؤشرات هذا التفوق للإمساك بزمام الجوانب التي يمكن السيطرة عليها وتوجيهها، والتخطيط السليم بشأن المحاور التي لا يمكن التنبؤ بها.
وهذا يقودنا إلى حقيقة أن الدراسة الأكاديمية لم تلتفت بشكلٍ كافٍ إلى أهمية تعليم مهارات اتخاذ القرار كوسيلة للنجاح فـي الحقول العلمية، وغيرها من المجالات المعرفـية الأخرى، ومع ذلك، فإن العديد من شركات الابتكار اليوم تسعى إلى بناء القيادات العلمية المؤهلة بمهارات اتخاذ القرار، وتساندها الشركات الاستشارية عبر تصميم الأنظمة الإلكترونية فائقة الأداء فـي جمع وتحليل البيانات، واستشراف المستقبل ، ولكن شركات الابتكار بطبيعتها المتميزة قد لا يفـيدها هذا الكم الهائل من البرامج والتطبيقات والأنظمة ، فالقرارات الصائبة فـي عالم ريادة الأعمال العلمية تحتاج إلى ما هو أبعد من سيناريوهات الخيارات الاستراتيجية، وهو محور تنظيم الابتكار وإعادة اكتشاف النجاح فـي كل مرة، ويتطلب ذلك تقمص عدة أدوار، إذ ليس على القادة فقط القيام بالتخطيط والتفكير ثم اتخاذ القرار، وإنما يجب عليهم تحقيق التوازن بين المتطلبات الإدارية والعلمية، إذ عليهم وضع قبعة المبتكرين والتفكير بطريقتهم العلمية الصرفة، وفـي المقابل على الفنيين والتقنيين أن يضعوا قبعة القادة وتفهم مواقفهم وقراراتهم، ويعد هذا التوازن أمرا حيويًا لإعادة فهم واكتشاف مكامن القوة التي بها يتم صناعة النجاح، وبذلك يمكن عبور حالات اتخاذ القرارات الكبرى بأقل درجة من المقاومة، وهنا يمكن للشركة الابتكارية أن تجد المتسع من الوقت لبناء السمعة الخارجية وتحقيق التنافسية، فأهم أسباب تخلف الشركات عن تحقيق التميز هو انشغالها فـي تمكين عملية التوافق الداخلي بين وجهات النظر العلمية والقرارات الإدارية والاستثمارية، والتي دائماً ما تكون محل نقاش دائم.
ولا يتوقف التحدي عند عملية اتخاذ القرارات، ولكنه يتعدى ذلك ليصل إلى الثقافة المؤسسية، والبعد الاجتماعي للعملية الابتكارية، إذ يكتسب الاستثمار فـي الابتكارات التكنولوجية صبغة أكثر خطورة مقارنةً بالاستثمار فـي القطاعات الاقتصادية والتجارية الأخرى، ولذلك فإن مفهوم النجاح لا يعني التعريف ذاته لدى جميع فرق العمل، أو لنقل لدى المستويات المتباينة لفرق العمل، وغالباً ما يلجأ القادة إلى تصنيف المؤشرات إلى فئتين إحداها تقنية والأخرى استثمارية، وهذا فـي حد ذاته أحد أسباب تعميق التحدي، وإذا نظرنا إلى تجارب الشركات الابتكارية العملاقة سنجدها على النقيض تماما، فجميع الشركات الناجحة تنتهج مسارات تكاملية فـي تنظيم العملية الابتكارية من حيث الموارد والعمليات والثقافة المؤسسية، فلا توجد لديهم خطوط فاصلة بين الفرق التطويرية وبين مستويات القيادة واتخاذ القرار، كما سعت هذه الشركات إلى تجسير المسافات بين المستويين بتوظيف هذه الفروقات وليس بالقضاء عليها نهائيا، إذ أمكنهم توجيه الفضول العلمي المحض إلى سلوكيات إبداعية موجهة، وتشجيع الفهم والإدراك بأهمية تحقيق العوائد المالية من الابتكار من أجل استدامة سلسلة القيمة فـي الابتكار، وغيرها من المفاهيم التي تتطلب الوعي العقلاني بعيداً عن المثالية المفرطة.
إن نجاح الشركات العلمية لا يكمن فـي تفوقها العلمي التخصصي، ولكنه ينبع بشكل أساسي من قدرتها على تنظيم الابتكار التكنولوجي، وتحويله من مجرد ضربة عبقرية عَرَضية إلى ممارسة والتزام بالمحافظة على الصدارة العلمية والتكنولوجية، ويتطلب ذلك توجيه الموارد للاستثمار نحو تطوير قدرة جميع فرق العمل على الابتكار والتحسين المستمر للعمليات، والسعي إلى توليد نتائج أسرع وأفضل باستخدام الموارد المتاحة ذاتها، وانتهاج مسارات فـي المحافظة على التميز، وذلك بالبحث عن المشكلات المحتملة ووضع الحلول الاستباقية لها وليس الانتظار لحين وقوعها والتعاطي معها، والتركيز على تحويل نقاط الضعف إلى مصادر القوة والميزة التنافسية، وجميع هذه العوامل بحاجة على توثيق ونشر المعرفة المكتسبة من حل التحديات السابقة، وإتاحة هذه المعرفة عبر تأسيس ممارسات وثقافة «الاكتشاف الديناميكي» لعوامل النجاح، لأن مفهوم ومعايير التفوق فـي الابتكارات العلمية هي فـي الأصل ذات طبيعة ديناميكية، فمع التحولات السريعة للتكنولوجيا وعالم الأعمال لا يمكن وضع مؤشرات جامدة للنجاح، ولكن فـي المقابل يجب البحث عن فهم معاصر وعملي، ثم إعادة تعريف هذا النجاح حسب متطلبات عالم الأعمال، وبالتوافق مع المستجدات العلمية والتقنية، مع مراعاة الانفتاح على نجاحات الآخرين والتعلم منها، واكتساب مهارات اجتماعية وثقافة عصرية عن النجاح فـي الابتكارات التكنولوجية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فـی الابتکارات شرکات الابتکار فـی الابتکار اتخاذ القرار
إقرأ أيضاً:
البُعد الأخلاقي في مسيرة الابتكار الإنساني (1- 3)
عبيدلي العبيدلي **
يلِجُ الإنسان في عصر الثورة الرقمية والتقدم العلمي المُتسارع؛ كي يجد نفسه أمام ظواهر غير مسبوقة في الميادين التي ولدتها هذه الثورة، التي يتقدمها الابتكار، الذي أصبح اليوم الأكثر تأثيرًا في حياة هذا انسان. لقد تطور الابتكار كي يتحول إلى المحرك الأساسي لتطور المجتمعات والاقتصادات، بل وأداة رئيسية لمواجهة التحديات الكبرى مثل التغير المناخي، والصحة العامة، والتعليم، والفقر.
ومع ذلك، فإن هذا الزخم الابتكاري يضع أمام الإنسانية مسؤوليات أخلاقية متزايدة، وغير مسبوقة؛ إذ لم يعد يكفي أن يكون الابتكار جديدًا، أو فعالًا، أو مربحًا فحسب، بل يجب أن يكون أيضًا مسؤولًا، يحترم كرامة الإنسان وحقوقه، ويخدم الصالح العام دون الإضرار بالفرد أو المجتمع أو البيئة.
ويعرف الابتكار، في إطاره الاقتصادي، بأنه "مجموع الخطوات العلمية والفنية والتجارية والمالية اللازمة لنجاح تطوير وتسويق منتجات، أو خدمات، أو عمليات جديدة، أو محسنة، والاستخدام التجاري لها". ويعد الابتكار المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي والتنمية التكنولوجية، إذ يرفع من إنتاجية عناصر الإنتاج، ويعزز القدرة التنافسية، ويقود إلى تنويع مصادر الدخل وتحسين جودة الحياة.
هنا، ينبغي تحاشي رؤية العلاقة بين الابتكار والأخلاق، بوصف كونها، علاقة تنافر أو صراع؛ بل علاقة تكامل وتفاعل. فكل ابتكار يحمل في طياته بُعدا أخلاقيًا، سواء في نوايا المبتكرين، أو في طريقة تطبيقه، أو في نتائجه على الناس والمجتمعات. من هنا، يبرز مفهوم "الابتكار الأخلاقي" الذي يضع القيم الإنسانية في صلب العملية الابتكارية، ويشجع على تطوير حلول تقنية وإبداعية تراعي العدالة، والشفافية، والاستدامة، والاحترام المتبادل.
وشهدنا عبر التاريخ أمثلة عديدة على ابتكارات غيرت وجه العالم، لكنها في بعض الأحيان أثارت تساؤلات أخلاقية عميقة، مثل الذكاء الاصطناعي، وتعديل الجينات، وتقنيات المراقبة الرقمية. وفي المقابل، هناك ابتكارات التزمت بقيم أخلاقية راسخة، فحققت نجاحًا واسعًا وقبولًا مجتمعيًا، مثل تطوير اللقاحات مع احترام حقوق المرضى، أو تطبيقات التكنولوجيا المساعدة لذوي الاحتياجات الخاصة، أو منصات التعليم المفتوح التي تتيح المعرفة للجميع دون تمييز.
إن دمج الأخلاق في الابتكار لم يعد ترفًا أو خيارًا ثانويًا، بل احول إلى ضرورة لضمان أن يكون التقدم في خدمة الإنسان، وأن تظل التكنولوجيا وسيلة لتحقيق الرفاهية الشاملة، لا مصدرًا للمخاطر أو الانقسامات.
البُعد الأخلاقي في الابتكار هو حزمة الاعتبارات والقيم التي يجب أن يلتزم بها الإنسان عند تطوير أفكار أو منتجات أو خدمات جديدة، بحيث لا تقتصر نتائج الابتكار على المنفعة أو الربح فقط، بل تمتد لتشمل احترام كرامة الإنسان، وحماية حقوقه، وتعزيز العدالة، وضمان عدم الإضرار بالمجتمع أو البيئة.
من هنا يضع الابتكار الأخلاقي، على كل ابتكار مسؤولية تقييم كل منتج، ليس من حيث جدواه التقنية أو الاقتصادية فحسب، بل أيضًا من حيث أثره على الأفراد والمجتمع والبيئة، ومدى توافقه مع القيم الإنسانية الأساسية مثل الشفافية، والإنصاف، والاستدامة، والمسؤولية الاجتماعية.
البُعد الأخلاقي في الابتكار
ولضمان مراعاة البُعد الأخلاقي في الابتكار، يمكن اتباع الخطوات التالية:
• تحديد المبادئ الأخلاقية الأساسية: لا بد أن ينطلق الإنسان من قيم واضحة مثل احترام الكرامة الإنسانية، والعدالة المجتمعية، والخصوصية، وعدم الإيذاء، والاستدامة، والشفافية، والمساءلة.
• تحليل الآثار الأخلاقية للابتكار: قبل تنفيذ أي ابتكار، ينبغي تقييم الفوائد والأضرار المحتملة على جميع أصحاب المصلحة (المستخدمين، المجتمع، البيئة)، مع الحرص على عدم انتهاك الحقوق، أو التسبب في تمييز أو استغلال.
• إشراك أصحاب المصلحة: من المهم التشاور مع الأطراف المتأثرة بالابتكار (عملاء، موظفون، جهات تنظيمية، مجتمع محلي) للحصول على وجهات نظرهم ودمجها في عملية اتخاذ القرار، مما يُعزِّز الشفافية والثقة 136.
• الامتثال للأطر القانونية والتنظيمية: يجب التأكد من أن الابتكار يتوافق مع القوانين المحلية والدولية، خاصة تلك المتعلقة بحماية البيانات، والملكية الفكرية، وحقوق الإنسان.
• التوازن بين المخاطر والمسؤولية: على المبتكر أن يوازن بين السعي لتحقيق التقدم، أو جني الأرباح، من جهة، وبين المسؤولية تجاه المجتمع، وذلك من خلال تقييم المخاطر المحتملة وتبني استراتيجيات للحد منها، من جهة أخرى.
• تعزيز ثقافة الابتكار الأخلاقي: يتطلب الأمر تثقيف وتدريب الفرق على القضايا الأخلاقية، ومكافأة السلوك المسؤول، وتبني سياسات واضحة تشجع على الابتكار المسؤول.
• التعلم والتحسين المستمر: مراجعة نتائج الابتكارات بشكل دوري، والتعلم من الأخطاء، وتحديث السياسات والممارسات الأخلاقية باستمرار.
هنا لم تعد الأخلاقيات عائقًا أمام الابتكار؛ بل هي محرك محفز له، لأنها تساعد على تحديد المشكلات الحقيقية، وتوقع الآثار السلبية، وتعزيز الثقة والشرعية في المجتمع.
وبهذا النهج، يصبح الابتكار وسيلة لتحقيق التقدم الإنساني المستدام، ويظل في خدمة الإنسان والمجتمع دون المساس بالقيم الأخلاقية أو الحقوق الأساسية.
الابتكار يحترم كرامة الإنسان وحقوقه
ولضمان احترام الابتكار لكرامة الإنسان وحقوقه، يجب اتباع نهج متعدد المستويات يشمل:
• تضمين مبادئ حقوق الإنسان في التصميم: يجب أن تدمج المبادئ الأساسية مثل الكرامة، العدالة، الخصوصية، وعدم التمييز في جميع مراحل تطوير الابتكار، من الفكرة إلى التنفيذ.
• إجراء تقييمات أثر حقوق الإنسان (HRIA): هذه التقييمات تحدد وتقيّم الآثار الإيجابية والسلبية للابتكار على حقوق الإنسان طوال دورة حياته.
• إشراك أصحاب المصلحة المتنوعين: تضمين المستخدمين النهائيين، والخبراء، والمجتمعات المهمشة في عملية التطوير لضمان أن الابتكار يلبي احتياجات الجميع ولا يضر بأي فئة.
• آليات الشفافية والمساءلة: وضع آليات واضحة للشفافية والمساءلة، بما في ذلك مراجعات خارجية وتدقيق مستقل، لضمان الالتزام بالقيم الأخلاقية.
• التحسين المستمر والتعلم: مراجعة وتحديث السياسات والممارسات الأخلاقية باستمرار استجابة للتغيرات والتحديات الجديدة.
** خبير إعلامي
رابط مختصر