موقع النيلين:
2025-10-14@12:52:52 GMT

عادل عسوم: إلى أستاذي مع التحية

تاريخ النشر: 4th, October 2024 GMT

اهدي هذا المقال إلى كل اساتذتي الذين تعلمت على يديهم خلال سني حياتي وكل المعلمين في يومهم العالمي.
ابتدارا أعترف بأنني من المعجبين -جدا- بأدوار الممثل الأمريكي (سدني بواتييه)، وهو الممثل الذي ترك بصمة خالدة في سجل الذاكرة الأمريكية، بل والعالمية عندما أدى دور طبيب زنجي أحبته أمريكية بيضاء ليتوجا ذاك الحب بعلاقة زوجية سعيدة خلال الستينات، وقد حدث ذلك عندما كانت التفرقة العنصرية مقننة في أمريكا، واسم الفلم هو (خمِّن من سيأتي الى العشاء)…
لكن إعجابي كان أشد بفلم له آخر إسمه (الى أستاذي مع التحية) أو (الى أستاذي مع حبي) بناء على الترجمة الحرفية، هذا الفيلم أجده من أفضل الأفلام التي رأيتها خلال حياتي قصة وسيناريو وأداء…
سأتحدث عنه قليلاً ثم أدلف إلى ذكرياتي مع العديد من الأساتذة الذين شكلوا سوحاً من وجداني وتركوا بصمات خالدات في حياتي…
هذا الفلم كان -في الأصل- أغنية انجليزية شهيرة غنتها مطربة بريطانية في بدايات السبعينات، وقد اعتاد الوالد رحمه الله -وهو الذي عمل لسنوات طويلة في السلاح الطبي الانجليزي- في ليبيا وأثيوبيا وأفريقيا الوسطى- الدندنة بها وهو المجيد للانجليزية والمعجب بالموجب من سمت الحياة الانجليزية ثقافة وأسلوب حياة، أسألك ياربي أن تغفر له وترحمه وتفتح له في مرقده بابا من الجنة لايسد، وتجعل الفردوس الأعلى له مستقرا ومقيلا، ويوم يقوم إليك الناس اسألك ياربي أن تهبه لذة النظر إلى وجهك الكريم، انك ياربي وليُّ ذلك والقادر عليه…
راجت تلك الأغنية في كل من بريطانيا وأمريكا وأصبحت أغنية شعبية تحكي عن القدرة على تحمل وتجاوز الصعاب بالنسبة للمعلم أو حتى لكل امرء تعترضه صعوبات تبدو في ظاهرها عصية بل ومستحيلة التخطي والتجاوز، ثم تحولت الأغنية إلى فيلم…
وهذا الحال لايستطيع مجابهته والتواؤم معه إلا ذووا القدرة الفائقة على التعامل الحصيف مع الشخوص استصحابا واستخداما للعديد من القدرات القيادية التي لا توهب الاّ لقلة من الناس أساتذة كانوا أم غير ذلك…
والحق أقول بأنني كم أفدت من هذا الفلم وكم راقني دور سيدني بواتييه فيه حيث أضاف لي الكثير من الايجاب خلال حياتي الماضية ولم يزل، ولعلي بذلك أصبحتُ لا أجد نفسي الاّ في بيئات التحدي التي تتطلب كاريزما بعينها يمكن للمرء من خلالها التعامل مع الأحداث، وأجد في ثنايا ذلك امتاعا كبيرا وأنا أتخير زوايا النظر الموصلة إلى الحلول فأسعى جاهداً إلى تذليل العقبات والصعاب للخلوص إلى مراداتي وميس بغيتي…
كم كان التحدي كبيرا على الأستاذ سيدني بواتيه وهو يتعامل -لأول وهلة- مع تلاميذ أقل مايوصفون به أنهم لا أدب لهم، لا (قليلي أدب)!…
ويكفي أن يُعلم بأن جل تلاميذ تلك المدرسة كانوا (مرفودين) من مدارس أخرى!…
أولئك التلاميذ (البيض) ظلوا يعيرونه بلونه الأسود استصحابا لحال المجتمع الأمريكي الذي لا أكاد أجده برء من هذا المرض العضال…
وهؤلاء التلاميذ لم يكن فيهم من يرغب -حتى- الاستماع إليه وهو يلقي الدرس، ولا أحد منهم يسعى الى أداء الواجب البيتي…
لكن بواتييه وضع لنفسه مآلا وميسا أقسم على نفسه بأن يحققه، ليس انتصارا لنفسه بل محبة لهؤلاء الصغار الذين تكالبت عليهم العديد من المؤثرات الخارجة عن ارادتهم لتحيلهم إلى واقعهم ذاك…
وما أعظم الحب يا أحباب عندما يكون لنا موئلا ومناطا للتعامل مع الآخرين!
وبالمناسبة، لا أدري متى كان تأريخ انتاج مسرحية مدرسة المشاغبين لعادل أمام وبقية المبدعين الراحلين من نجوم الكوميديا المصرية، لكنني لا استبعد أنها قد جاءت بعد فيلم (إلى استاذي مع التحية)، فعندما شاهدت المسرحية لأول وهلة وكنت قبلها قد شاهدت الفيلم وجدت بعض الشبه بينهما، وكذلك شبه في بعض أدوار الممثلين هنا وهناك ومنها دور الممثل أحمد زكي.


ودور سيدني بواتيه في فيلم إلى (استاذي مع حبي) لم يخلو من بعض المظاهر الكوميدية، لكنها كوميديا في داخل الاطار التراجيدي الحزين، وكم تكون الكوميديا مؤثرة عندما تكون في هذا السياق، اذ تكون المعاني والمرادات فيها من العمق والاجادة بمكان، لكونها تشتمل على مضامين عديدة تذكي في نفس المشاهد الكثير من المشاعر والعبر، بينما أدوار عادل امام وسعيد صالح ويونس شلبي وسهير البابلي انحصرت في الاضحاك فقط…
قال سيدني بواتييه عن ذاك الفيلم:
عندما عُرض عليّ الدور أعجبني جدا، لكنني علمت بأن الأمر ليس بالسهولة التي يبدو بها، فما كان مني الاّ أن عمدت إلى كتب علم النفس أقرأ فيها الكثير عن طبائع النفوس البشرية، فسلوك التلاميذ الصغار ماهو الاّ ترجمة واقعية لما يدور في بيوت الناس من قناعات يستقيها الأطفال لترسخ في ذواكرهم وافهامهم، وهم بالقطع لا يلامون على كل الذي يبدر منهم لانتفاء الوعي والادراك لديهم، إذ اللوم جله يقع على الأسرة والمجتمع من حولهم، فما كان مني الاّ أن جلست مع المنتج والمخرج لأعطيهم انطباعاتي ورؤاي للدور الذي سأقوم به فوافقا على ذلك مشكوران…
دور سيدني بواتييه هذا رأيته بأم عيني في سمتِ البعض من أساتذتي ممن عانوا الأمرين تعاملا مع صنوف من زملائي التلاميذ والطلبة، لكونهم بذهنيات وخلفيات متباينة، وقد قدر لي الدراسة في مدارس عديدة ومناطق مختلفة من مدن وقرى السودان نتاج أسفار اكتنف عمل الوالد الذي كان يعمل في الحقل الطبي (مساعدا طبيا) إلى أن لقي ربه مشمولا برحمة الله وغفرانه بحول منه ومنة…
ولان تساقطت صورٌ لوجوه عديدة لاساتذة ساهموا في تشكيل وجداني فإن وجه أستاذي الفاضل- ابن الاراك الحبيبة إلى النفس- (عوض عباس)، لم يزل في الخاطر كالبدر ينير منّي الوجدان ومن ثم الدروب، إنه لعمري رجل يصفه قول الذي قال:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أولٌ وهي المحلُّ الثاني
فاذا هما اجتمعا لنفس حُرّة
بلغت من العلياء كل مكان
وهو أيضا كم يصدق فيه قول الشاعر إذ يقول:
قم للمعلم وفِّه التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا
فقد كان -أطال الله عمره ومتعه بالصحة والعافية والرضوان- يلج الى الفصل ويسأل عن الحصة ثم يقوم بتدريسنا اياها، علوما كانت أو لغة عربية أو انجليزية أو رياضيات!…
لقد تعلمنا على يديه كيف يكون تمام التوحيد، وأنّى للمرء بأن يتصالح مع نفسه، فالرجل برغم كونه معلما للرياضيات الاّ انه علمنا أسس التلاوة، وشرح لنا مبادئ التجويد، وحينها لم يكن التجويد مقررا في مدارسنا، بل لم يكن معلوما إلا لقلة…
ومن الوجوه كذلك وكيل مدرسة كريمة الثانوية في ابتدارات الثمانينات الأستاذ والمربي الفاضل إبراهيم أحمد طه، والذي اعتاد الناس تسميته (التكاسي) رحمه الله وجعله من أهل الفردوس الأعلى،
استاذ ابراهيم هذا حدثت لي معه قصة طريفة عندما عدنا من الإجازة التي تسبق ولوجنا إلى الصف الثالث الثانوي حيث يوزع الطلبة -ولا اقول يتوزع- إلى المساقات الثلاث عملي (رياضيات وأحياء) وادبي، فإذا بي أجد اسمي قد أدرج مع أهل المساق العلمي رياضيات، فما كان مني إلا أن ذهبت إليه في مكتبه أشكو فقال لي:
– يعني عاوز تمشي علمي أحياء
فرددت عليه بأن لا، عاوز امشي أدبي…
فذهل الرجل لاجابتي وطلبي وهو يعلم امتيازي في المواد العلمية، وظل يحادثني لاعدل عن قراري، وعندما تبين له اصراري على ذلك طلب مني الذهاب إلى الفصل ووعدني بأن ينظر في الأمر، واذا به يذهب إلى والدي الذي كان يعمل مساعدا طبيا في مستشفى كريمة ويخبره بالأمر، ثم استطاعا سويا اقناعي بالتحول إلى المساق العلمي (أحياء)، وإذا بي اليوم من أهل الكيمياء…
استاذ ابراهيم احمد طه هذا رحمه الله، اشهد بأنه من اكفأ الإداريين الذين مروا على مدارس السودان الثانوية، وهو من قبل ذلك معلم مافتئت صورته محفورة في أذهان كل من علمهم اللغة الإنجليزية في مدرسة كريمة الثانوية وسواها.
وكذلك من الوجوه التي رسمت في مخيلتي ولا اخالها تمحى، الأستاذ (قرشي)، معلم الكيمياء في مدرسة سنار الثانوية والذي كان له الفضل من بعد الله في أن يحبب الكيمياء إلى جل طلبة المدرسة ممن درس المساق العلمي، فإذا بها تصبح مهوى قراءاتي وموئل تخصصي ومن ثم مصدر رزقي إلى يومي هذا.
والأسماء كثر ولولا خشية الإطالة لعددت الكثير وكلهم كانت لهم بصماتهم الوضيئة على وجدان تشكل إيجابا بحمد الله، فكانوا العون الأكيد للانتشار في الأرض لنبتغي من فضل الله في عوالم حياتنا العملية، وها قد بقى من العمر أقل مما مضى بكثير، فالله أسأل لهم الرضى وطول العمر لمن لم يزل على قيد الحياة، والرحمة والمغفرة لمن مضى إليه راضيا مرضيا.
adilassoom@gmail.com

عادل عسوم

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

ثمن الفوضى.. عندما تصبح السياسة الخارجية رهينة المزاج

ترجمة - نهى مصطفى 

لعقود، قامت السياسة الخارجية الأمريكية على مفهوم المصداقية: أي الإيمان بأن واشنطن تفي بالتزاماتها، وأن سلوكها السابق مؤشر على سلوكها المستقبلي. فعلى سبيل المثال، نجحت الولايات المتحدة في بناء شبكة واسعة من الحلفاء لأن شركاءها كانوا واثقين من أنها ستدافع عنهم إذا تعرضوا لهجوم. كما تمكنت من إبرام اتفاقيات تجارة حرة مع دول عدة حول العالم، والتفاوض على اتفاقيات سلام، لأنها كانت تُعتبر، في المجمل، وسيطًا نزيهًا. ولا يعني ذلك أن الولايات المتحدة لم تُفاجئ أحدًا يومًا، أو أنها لم تتراجع عن وعودها مطلقًا، لكنها، على مدار معظم تاريخها الحديث، كانت طرفًا فاعلًا يُعتد بثقته.

على النقيض من ذلك، تخلى دونالد ترامب، بخلاف أي رئيس أمريكي قبله، عن كل الجهود التي سعت إلى ترسيخ موثوقية واشنطن واتساق مواقفها. صحيح أن أسلافه اتخذوا أحيانًا قرارات أضعفت مصداقية أمريكا، لكن افتقار ترامب للاتساق اتخذ بُعدًا مختلفًا تمامًا، إذ بدا جزءًا من استراتيجية مقصودة: فهو يقترح الصفقات ثم يتراجع عنها، ويَعِد بإنهاء الحروب قبل أن يوسع نطاقها، ويوبخ حلفاء بلاده بينما يقرب خصومها.

ومع ترامب، بات النمط الوحيد هو غياب النمط ذاته.

تقوم نظرية ترامب في هذه القضية على منطق بسيط: فبإبقاء الأصدقاء والخصوم في حالة من عدم التوازن، يعتقد الرئيس أنه قادر على تحقيق مكاسب سريعة، مثل الزيادات المحدودة في الإنفاق الدفاعي الأوروبي. كما يرى أن عنصر المفاجأة يمنحه هامشًا أوسع للمناورة في الشؤون الدولية، لأنه يجعل الحلفاء والخصوم على حد سواء في حالة دائمة من الشك تجاه خطوته التالية.

وأخيرًا، يؤمن ترامب بأنه يستطيع ردع أعدائه عبر تخويفهم من خلال الظهور بمظهر غير متزن - وهي الفكرة التي يصفها علماء السياسة بـ«نظرية الرجل المجنون». وكما تفاخر هو نفسه ذات مرة، فإن الرئيس الصيني شي جين بينج «لن يُخاطر أبدًا بحصار تايوان أثناء ولايتي، لأنه يعلم أنني مجنون تمامًا».

صحيح أن نهج ترامب هذا حقق بعض المكاسب الدولية المؤقتة، كما يشير بعض المحللين، لكنه على المدى الطويل يبدو غير مرشح لتعزيز موقع بلاده في النظام العالمي. فالدول الأخرى قد تسعى في البداية إلى استرضاء واشنطن لتجنب العقوبات الأمريكية، لكنها ستعمل في نهاية المطاف على حماية مصالحها عبر التحالف مع قوى أخرى.

وهكذا ستزداد قائمة خصوم الولايات المتحدة، وتضعف تحالفاتها، وقد تجد واشنطن نفسها أكثر عزلة من أي وقت مضى.

دائمًا ما رأى رؤساء الولايات المتحدة أن حماية قوتها تستلزم التزامات موثوقة. فقد تدخل ترومان في كوريا لردع التوسع السوفييتي، بينما صعد جونسون حرب فيتنام خشية أن يُفهم التراجع كضعف. وبرر جورج بوش الابن زيادة القوات في العراق عام 2007 بأن الانسحاب سيقوض مصداقية بلاده، وأبقى أوباما على القوات للسبب ذاته. لكنه تعرض لاحقًا لانتقادات حادة حين تراجع عن تنفيذ «الخط الأحمر» في سوريا، مؤكدًا أن «إلقاء القنابل لإثبات الاستعداد لإلقائها ليس سببًا وجيهًا لاستخدام القوة». بينما توصي الدراسات بترسيخ المصداقية عبر الثبات والالتزام، يفعل ترامب العكس تمامًا. فقد شكك علنًا في أهم ضمانات الدفاع الأمريكية -التزام حلف الناتو بالدفاع الجماعي وفق المادة الخامسة- معلنًا أن الحلفاء الذين لا «يدفعون ما عليهم» لا يمكنهم توقع الحماية. كما انسحبت الولايات المتحدة في عهده من اتفاقيات متعددة الأطراف، مثل اتفاق باريس للمناخ والاتفاق النووي الإيراني، من دون اكتراث بتأثير ذلك على سمعتها، بل تراجعت حتى عن اتفاقية التجارة مع المكسيك وكندا التي تفاوض عليها ترامب ووقعها بنفسه.

وفي علاقاته مع الخصوم، تذبذب ترامب بين انتقاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين - والإشادة به بلا مبرر واضح. وكان لقاؤهما الأخير في ألاسكا مثالًا صارخًا على ذلك؛ إذ عُقد على عجل لتحسين صورة ترامب كـ«صانع صفقات»، لكنه خرج منه بلا أي مكاسب ملموسة، فيما رأى معظم المراقبين أنه كان الطرف الأضعف في اللقاء.

قد يكون ترامب مدركًا لتأثير سلوكه أو غافلًا عنه، لكن الواضح أن مصداقية بلاده لا تهمه. فهو لا يسعى إلى أن يُوثق به بقدر ما يريد انتصارات سريعة تعزز إحساسه بالتفوق، حتى لو تطلب ذلك التنصل من التزامات أمريكا الثابتة.

يبدو أن عدم قابلية ترامب للتنبؤ متعمدة، فهو يستمتع بالفوضى ويستغلها لتحقيق مكاسب، خصوصًا في الصفقات التجارية. لكن هذا لا يعني أن سلوكه محسوب دائمًا؛ فكثيرًا ما يصدر عن تقلبات مزاجية، في ما يسميه الباحث تود هول «الدبلوماسية العاطفية»، حيث باتت الانفعالات -كالخوف والغضب والرغبة في الانتقام- من أبرز سمات سياسة ترامب الخارجية. فمثلًا، امتدح ترامب رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو خلال ولايته الأولى وأبرم اتفاقًا تجاريًا مع أوتاوا، ثم عاد لاحقًا ليتهم كندا بالتقاعس عن مكافحة تهريب المخدرات وفرض عليها رسومًا جديدة. وبالطريقة نفسها، تباهى بعلاقته القوية مع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، ثم انقلب على نيودلهي بعد أن نفت دور واشنطن في تهدئة صراعها مع باكستان.

وفي المقابل، شهدت علاقته بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تطورًا معاكسًا. ففي البداية أغضبه زيلينسكي بتصحيحه خلال اجتماع في البيت الأبيض، مما دفع واشنطن إلى تعليق مساعداتها لكييف مؤقتًا. لكن زيلينسكي سرعان ما اتخذ موقفًا أكثر ودًا، ليعلن ترامب الشهر الماضي دعمه الكامل لمساعي أوكرانيا لاستعادة جميع أراضيها من روسيا، وهو الموقف الذي سبق أن وصفه بنفسه بالمستحيل.

بالنسبة للقادة الأجانب، من شبه المستحيل التنبؤ بتقلبات ترامب، لكنهم تعلموا استخدام بعض الأساليب لكسب رضاه أو تجنب غضبه. أبرزها الإطراء، إذ أصبح وسيلة مفضلة لدى حلفاء واشنطن. فإلى جانب زيلينسكي، وصف الأمين العام لحلف الناتو مارك روته ترامب بأنه «صانع سلام براجماتي» بعد لقائه في البيت الأبيض، في محاولة للحفاظ على علاقة التحالف. وبالمثل، لم يتردد نتنياهو في الإشادة بـ«قيادة ترامب الحاسمة» بينما يحثه سرًا على دعم الغارات الإسرائيلية على إيران. حتى من حاولوا البقاء على الحياد لجأوا إلى النهج نفسه.

لكن الإطراء يفقد تأثيره سريعًا حين يبالغ الجميع في استخدامه، إذ لا يعود يمنح أي نفوذ. أما من ضاقوا ذرعًا بتنمر ترامب، فاختار بعضهم المواجهة بدل التملق. فقد رد الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا بتحدٍ على الرسوم الجمركية والعقوبات الأمريكية، بينما تبنى مودي لهجة أكثر صدامًا معه. غير أن هذه المواقف، رغم شعبيتها داخليًا، نادرًا ما تجبر ترامب على التراجع وقد ترتد سياسيًا على أصحابها، كما حدث مع الرئيسة السويسرية كارين كيلر سوتر التي واجهته هاتفيًا ثم تعرضت لانتقادات حادة في بلادها بعد فشلها في ثنيه عن فرض التعريفات.

الخيار الثالث هو التحوط، أي الموازنة بين القوى الكبرى بدل الانحياز التام لأي طرف. فبعد فوز ترامب، وسعت دول في أمريكا اللاتينية تعاونها مع آسيا وأوروبا مع الحفاظ على علاقاتها بواشنطن، فيما أبدت دول الخليج دعمها العلني له، لكنها عمقت شراكاتها مع الصين سرًا. أما ماكرون فدعا إلى «استقلال استراتيجي» أوروبي يقلل الاعتماد على واشنطن وبكين. هذه الأساليب ليست متناقضة، بل محاولات للتكيف مع واقع مضطرب؛ إذ تتأرجح الدول بين التملق والتحدي وفق تقلبات ترامب، الذي لا تحكم قراراته اعتبارات استراتيجية بقدر ما تمليها تقلبات مزاجه.

ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هذا التقلب حقق له أحيانًا نتائج ملموسة. فحين قصف إيران، أبطأ بالفعل مسار برنامجها النووي. وعندما سُئل إن كان سيواصل الضربات بعد بدء إسرائيل عملياتها الجوية، أجاب ببرود متعمد: «قد أفعل، وقد لا أفعل. لا أحد يعلم ما سأفعله». خلق هذا الغموض ارتباكًا في كلٍ من طهران وتل أبيب، قبل أن يتخذ قراره بالتدخل العسكري في نهاية المطاف. لم يكن القرار نابعًا من حسابات دقيقة بقدر ما كان رد فعل على شعورٍ بالضعف ورغبةٍ في استعراض القوة.

بهذا السلوك، عزز ترامب صورة الردع الأمريكية من خلال إظهار استعداده للانقلاب على الحلفاء والخصوم على حدٍ سواء. ويمكن اعتبار تعامله مع إنفاق الحلفاء الدفاعي مثالًا آخر على نجاح تكتيكه. فبعد عقود من المحاولات الأمريكية الفاترة لإقناع دول الناتو بزيادة موازناتها العسكرية، جاء ترامب ليكسر المحظور: شكك علنًا في مبدأ الدفاع الجماعي المنصوص عليه في المادة الخامسة. وبدافع الخوف من فقدان المظلة الأمريكية، تعهد الحلفاء في قمة لاهاي عام 2025 بزيادة إنفاقهم الدفاعي إلى 5٪ من الناتج المحلي الإجمالي - وهو رقم لم يكن مطروحًا من قبل.

وسارت المواجهة الجمركية بين واشنطن وبروكسل على المنوال ذاته. فبعد تهديدات متكررة من ترامب بتصعيد الرسوم، رضخت أوروبا وقدمت تنازلات تجارية غير مسبوقة، منها اتفاقية لشراء طاقة أمريكية بقيمة 750 مليار دولار. وكعادته، أعلن ترامب النصر، بينما لم تجد رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين غضاضة في الثناء على «قيادته الحاسمة».

لكن من غير المؤكد أن هذه الانتصارات ستصمد طويلًا. فصحيح أن ترامب نجح في دفع أوروبا إلى زيادة إنفاقها الدفاعي، لكن ذلك جاء على حساب تماسك حلف الناتو نفسه. فالقوة الحقيقية للتحالف لا تُقاس بحجم ميزانياته العسكرية، بل بصلابة التزامه بالدفاع الجماعي، وهو التزام أضعفه ترامب بتصريحاته المتكررة المشككة فيه. فإذا ما تعرض أحد أعضاء الناتو لهجوم ولم تتحرك الولايات المتحدة للدفاع عنه، فسيصبح التحالف أضعف، مهما ارتفعت أرقامه الدفاعية على الورق.

والأمر نفسه ينطبق على الرسوم الجمركية. فقد نجحت واشنطن في انتزاع تنازلات اقتصادية من أوروبا، لكنها دفعت القارة في المقابل إلى السعي نحو استقلال اقتصادي وسياسي أكبر. ومع مرور الوقت، سيتراجع النفوذ الأمريكي في أوروبا، وربما في العالم بأسره. فمع كل خطوة تُقوض مصداقية الولايات المتحدة، تصبح قدرتها على التوسط في اتفاقيات سلام أو الحفاظ على الاستقرار الدولي أقل، ما ينذر بنظام عالمي أكثر اضطرابًا.

حذر سياسيون أمريكيون، بينهم جمهوريون، من الآثار البعيدة لسياسة ترامب الخارجية المضطربة. فحتى إن جاء رئيس أكثر اتزانًا، فلن يكون ترميم المصداقية الأمريكية أمرًا يسيرًا؛ إذ تبنى السمعة على مدى طويل وتعتمد على المؤسسات بقدر ما تعتمد على القادة. وعندما ينقض ترامب وعوده أو يبدل مواقفه، لا تتضرر صورته وحده بل صورة الولايات المتحدة نفسها. واستعادة الثقة بعد فقدانها صعبة، فالرئيس المقبل سيواجه حلفاء حذرين وخصومًا مترقبين وعالمًا لم تعد كلمة واشنطن فيه بالثقل السابق نفسه.

بساطة، ستخسر واشنطن أصدقاءها وتواجه مزيدًا من الأعداء. فمع تراجع تأثير الإطراء وارتفاع كلفة المواجهة، ستلجأ دول كثيرة إلى التحوط أو إلى التحالف مع خصوم أمريكا. وسيتطلب الحفاظ على الردع وطمأنة الحلفاء موارد أكبر، في وقتٍ يتجه فيه النظام الدولي نحو تعدد الأقطاب. وربما يرى ترامب أن عدم توقعه منحه قوة وحرية، لكن التاريخ سيحكم بأنه استبدل الثقة بالتقلب، ترك وراءه أمريكا أقل مصداقية.

كيرين يارحي- ميلو عميدة كلية الشؤون الدولية والعامة، وأستاذة كرسي أرنولد أ. سالتزمان لدراسات الحرب والسلام في جامعة كولومبيا.

عن فورين أفيرز «خدمة تربيون»

مقالات مشابهة

  • رحلة العقل والروح.. المفكر الذي تحدى الظنون واكتشف الإسلام (2 من 3)
  • ماذا قال ترامب عن قدرة أردوغان على المساعدة في إنهاء حرب أوكرانيا؟
  • النصر والسلام.. الجمل يوجه التحية للدبلوماسية المصرية والقوات المسلحة
  • رسالة تحذير.. ترامب يلاعب بوتين بورقة "توماهوك"
  • ثمن الفوضى.. عندما تصبح السياسة الخارجية رهينة المزاج
  • عندما تنتصر الإرادة تُستعاد السيادة
  • فتاوى وأحكام| هل وفاة الجنين تشفع لوالديه؟.. ما حكم ترك المسكن في فترة العدة بسبب عدم الأمن؟.. كيف يتطهر المريض الذي يركب قسطرة البول للصلاة؟
  • كيف يتطهر المريض الذي يركب قسطرة البول للصلاة؟..الإفتاء تجيب
  • حسام المندوه: تسلمنا ناد الزمالك في وضع مأساوي
  • فضيلة الداعية الشيخ «محمد الغزالى» (5)