البوابة نيوز:
2025-06-17@04:29:20 GMT

قطط سوداء في غرفة مظلمة

تاريخ النشر: 8th, October 2024 GMT

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

 في عالم متقلب، تقود متغيراته إلى الأسوأ، وتفاقم الشر، وتصاعد العنف والكراهية، ورفض الآخر، حينئذ تتضح قيمة الفلسفة وضرورتها وأهمية العلوم الإنسانية، في طرح المبادئ، وتعزيز القيم، ودعم الجمال مقابل القبح، والتسامح مقابل تقليص الكراهية والعنف والرفض، وصناعة الاتزان الروحي الداخلي للإنسان.

الفلسفة هي طريق الإنسان نحو الكمال، صوب السمو الخلقي، تبدأ بالدهشة، وقديمًا أثارت دهشة ظهور الحقائق واختفاؤها، وتنوع صورها، السؤال لدى الفلاسفة: ما الحقيقة؟ وقيل: «الفلسفة بنت الدهشة»، وإلى جانب الدهشة، هناك التأمل، الاستغراق الذهني للأفكار والمعاني، وبه نصح الفيلسوف الروماني ماركوس أوريليوس قائلًا: «اختبروا بأنفسكم هذا الجانب من الفلسفة (أي التأمل) فليس هنالك ما هو أنسب من تلك الطريقة للتوصل إلى السمو الخلقي».

شخص لا يتفلسف، ليست لديه قدرة على التسامح، وليست لديه قدرة على الحب، فحياة بدون معنى هي حياة جافة قاتلة، وحياة بتأمل وأسئلة وبحث ومغامرات معرفية متشابكة، هي الحياة الحقيقية، حياة الفلسفة، وأصحابها هم هؤلاء الأشخاص الذين يجيدون الحب، ويرفضون الكراهية والحروب.

وليس شرطًا أن تتأمل وتتفلسف أن تكون حاصلًا على شهادة أكاديمية، فالفلاسفة الأوائل كانوا أمام الطبيعة بعقولهم، يبحثون في الكون الضخم الغامض، يعيشون مغامرة عقلية لا تنتهي، ومن المؤسف أن يتصدر للتدريس في التعليم الثانوي أو التعليم الجامعي أشخاص تخصصوا في الفلسفة لكنهم يعملون منذ البداية ضد الفلسفة.

إحدى التجارب الشخصية، كانت مؤسفة نوعًا ما، عندما حضرتُ لأول مرة حصة الفلسفة، وكان على المعلم أن يشرح لنا ماذا تعني الفلسفة ببساطة؟ كي نفهم هذه المادة الجديدة والغريبة، فهي تختلف تمامًا عن التاريخ، الرياضيات، الفيزياء، الكمياء، وفي الحقيقة الفلسفة هي أم هذه العلوم، ولكن نحن طلبة لا نفهم هذا الاسم العجيب، ومع غرابته كان لدي شغف من نوع خاص به، وبالفعل سألت معلمي، ماذا تعني فلسفة؟.. ضحك المعلم كأنه يمتلك سر الأسرار، سيكشف لنا عن خفايا لا يملكها أحد، قائلًا: إن الفلسفة يا أبناء هي مهمة الرجل الأعمي الذي يبحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة!.

اندهشنا جميعًا من هذا التصورالغامض، بحثنا عن فهم يليق بالموقف، وهنا استكمل المعلم شرحه بأن الفلسفة تعني اللاجدوى! وتساءلنا جميعا بأسفٍ شديد: لماذا يقررون علينا مادة محبطة لهذا الحد؟ فأضاف المعلم ساخرًا: وماذا نفعل لوزارة التربية والتعليم؟! ورغم أنه مدرس لهذه المادة، فإن الأولى به أن يسأل نفسه: لماذا تخصص في الإحباط واللاجدوى؟.

من المفارقات اللطيفة أن هذه المقولة التي أصابت طلاب الثانوية بالإحباط من مادة جديدة يشعرون تجاهها بالشغف، لم تُصِب طالبة من بيننا بنفس الشعور، يبدو أنها فكَّرتْ خارج الصندوق، وقالت لي ساعتها: تصور إن البحث عن قطط سوداء في غرفة مظلمة يدعو للمغامرة وللإثارة أكثر، وللتحدى أكثر، وليس صحيحًا أنها لا جدوى. ومن المدهش أن صاحبة هذا التعليق تخصصت فيما بعد في قسم الفلسفة.

قطة سوداء في غرفة مظلمة، عبارة تُنسب للحكيم الصيني كونفوشيوس، ويُراد بها حل مشكلة معقدة بطريقة غير فعالة، بينما تكررت عند فريدريش هيجل بمعنى مختلف وربما أراد منها صعوبة الوصول والبحث عن الحقيقة وسط ظروف غامضة، أو غير واضحة.

نفس العبارة كانت عند معلمي دافعًا نحو اللاجدوى والعبث، وعند صديقتي دافعًا نحو التحدي والمغامرة، والتجريب وعدم الاستسلام للإحباط، وبإمكاني أن أقول: إن ما حدث كان نوعًا من الفلسفة والتفلسف!

هذه الروح الفلسفية لدى الطلبة يُراد لها أن تنجرف، وأن تموت، فالعدو يريد أن يرى منطقتنا تفكر بواسطة الرغبة، بواسطة الأوهام والخرافات، تندفع بواسطة الغضب والانتحار، تمضي نحو المنحدر بأقدامها، إلا أن الفلسفة والعلوم الطبيعية معها تدفعنا نحو التعقل، إدراك نقاط القوة ونقاط الضعف، التروي في فهم الحقائق، التصدي للعدو بطريقة فعالة ومؤثرة.

في كراهية الفلسفة، اشترك العدو مع أصحاب الإيدلوجيات الدينية المتشددة الذين هاجموا مرارًا تدريس الفلسفة، أو الاهتمام بها، أو المفكرين الناشطين فيها، واعتبر الراحل فؤاد زكريا أن «الانتشار الواسع للاتجاهات الإسلامية بشكلها الراهن إنما هو مظهر صارخ من مظاهر نقص الوعي لدى الجماهير»؛ ومع انحسار دور الفلاسفة والمفكرين تشيع بضاعة المتشددين والمتطرفين.

ولم يقف دورهم عند التحذير من الفلسفة، بل فعلوا ما هو أكثر فاعلية في إفشال دور الفلسفة، وهو السيطرة على أقسام الفلسفة في الأكاديميات والكليات المختلفة، وهي استراتيجية جرى تفعيلها وأتت بثمارها، وليس من العجيب أن نرى حاليًا أستاذا للفلسفة في تونس يحرض ضد فيلسوف العقل أبي الوليد بن رشد الأندلسي وكتابه «تهافت التهافت»، لصالح ابن تيمية الحنبلي.

هذه السيطرة جمَّدت دور الفلسفة، ولفت إلى هذه الظاهرة بتوسع شديد الراحل طلعت رضوان في كتابه المثير «مثقفون مع الأصولية الإسلامية» كان من بينهم أساتذة للفلسفة مؤثرين ولهم حاليًا أجيال يتخذون منهم آباء روحيين. وبدوري تعرضت في كتابي «الفكرة والقناع» لنماذج مصرية وعربية تخصصت في الفلسفة، وعملت بدأب على تقويضها وتجميدها لصالح مشاريع الجماعات المتطرفة.

في ظني، إن مأزق الفلسفة في عالمنا العربي كامن في دعم مشاريع الجماعات المتطرفة، رغم ما نمتلكه فيها من رموز قليلة تُعد ثروة، وأن مأزقها في الغرب عند بعض أعلامها كامن في دعم الصهيونية، وتأييد العدوان الإسرائيلي دون تعقل أو شيء من فلسفة، دون التقليل من أهمية الفلسفة وأهمية رموزها في الغرب بشكل عام.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: الفلسفة أستاذ الفلسفة

إقرأ أيضاً:

فعلها ترامب وليس نتنياهو… ونجحت إيران بالرد

   – مهما كانت البروباغندا التي تريد تسويقها جماعة الترويج للتفوّق الكاسر للتوازن لصالح أمريكا و”إسرائيل”، فإن الأكيد الذي لا قدرة لأحد على إنكاره هو أن المنطقة دخلت في حرب استنزاف يصعب أن تنتهي قريباً، كما بات أكيداً بعد تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن الحرب كانت قراراً أمريكياً تم تفويض بنيامين نتنياهو بخوضها، بعدما تمّ تزويده بكل ما يلزم من أسلحة وذخائر وأموال ولوجستيات وملفات استخبارية، بما فيها شبكات عاملة داخل إيران ومعطيات طازجة وفورية للأقمار الصناعية، والهدف السياسيّ للحرب واضح، دعوة إيران لتوقيع صك الاستسلام الذي قال ترامب إن فرصة التوقيع عليه لا تزال مفتوحة، إذا عادت إيران إلى مسار مفاوضات الأحد في مسقط لقبول الشروط الأمريكية.

– انتصار “إسرائيل” في هذه الحرب يعني شيئاً واحداً هو انتقال المنطقة من العصر الأمريكيّ الذي يحتمل التوازن بين “إسرائيل” محورين إقليميين يقاسمانها النفوذ، حلف تقوده إيران وحلف ينافس “إسرائيل” على خطب ود أمريكا، للدخول في العصر الإسرائيلي كوكيل حصريّ للهيمنة الأمريكية على المنطقة، وإخراج إيران من المعادلة يعني إكمال الضربات التي وجّهت لقوى المقاومة وصولاً إلى إسقاطها كخيار في معادلات المنطقة، وهذا معناه فتح الطريق نحو تصفية القضية الفلسطينية، وإكمال قطار التطبيع دون مقابل على مستوى دول المنطقة. وبهذا فإن صمود إيران وثباتها وإثبات قدرتها على إقامة توازن عسكريّ ولو دون تحقيق التفوق، سوف يكون كافياً لإسقاط هذه الأهداف وإعادة التوازن اللازم للقول إن لا بد من السياسة والمفاوضات، ولكن بشروط جديدة عنوانها فشل الحل العسكري الأمريكي وسقوط آخر فرضيّة أمريكية للرهان على شطب قوى المقاومة وإخضاع إيران. وفي هذا التوازن تستفيد فلسطين أولاً وتبقى قضية حية تفرض حضورها طلباً لحل سياسي، وتبقى توازنات في المنطقة تشكل فيها الأنظمة المحسوبة على الحلف مع أمريكا طرفاً يُقام له الحساب وليست مجرد أتباع لـ”إسرائيل” يطلب منها تأدية الطاعة لسيد المنطقة الجديد.

– صحيح أن أمريكا نجحت بإدارة مناورة أوحت من خلالها بمعارضة خيار الحرب الإسرائيلية، بينما كانت تستعد لخوضها بكل تفاصيلها التقنية والاستخبارية والعسكرية، وصحيح أن “إسرائيل” بدعم أمريكي كامل نجحت بتوجيه ضربات مفاجئة ومؤذية لإيران تشبه كثيراً الضربة التي وجهتها أمريكا و”إسرائيل” للمقاومة في لبنان، وصحيح أيضاً أن هذا النجاح الأمريكي الإسرائيلي أضعف صورة القوة الإيرانية، لكن الصحيح أن إيران تعافت بسرعة وتمكّنت من إعادة ترتيب هيكليتها العسكرية والأمنية وبدأت بالردّ العسكريّ القويّ، الذي قال مسؤولون إسرائيليون إنّه غير مسبوق بالنسبة لكل حروب “إسرائيل”.

– منذ زمن طويل قال سيد المقاومة الشهيد السيد حسن نصرالله، إن إيران لا تحتاج إلى مَن يدافع عنها، ومهين لها الحديث عن فتح جبهات تقاتل نيابة عن إيران عندما تستهدف مباشرة، وكان يردّ على محاولات التذاكي المشابهة لما نسمعه في بعض التصريحات اللبنانية التي تتحدّث عن انتصار وهميّ بالنجاح في منع المقاومة من فتح جبهة إسناد لإيران، بينما الصحيح هو العكس، أن لبنان وغزة من أوائل المستفيدين من صمود إيران وردها على العدوان الأمريكي الإسرائيلي، لأن الأرجح أن هذه الحرب لن تتوقف إلا ومعها كل حروب المنطقة، ومنها حرب لبنان المستمرّة من طرف واحد، هو العدوان والاحتلال من الجانب الإسرائيلي برعاية أمريكيّة.

– إذا كانت الساعات الأولى من الحرب قد أوحت بنجاح “إسرائيلي” وراهن نتنياهو عليه لإعادة صياغة العلاقة بالحكومات الغربية على قاعدة أن إيران عدو مشترك، وأنه يقوم بإضعاف إيران لحساب حلف تقليديّ يضم الغرب و”إسرائيل” وربما بعض العرب، فينجح بتجاوز الصدوع التي أصابت علاقاته الغربية والعربية بسبب حرب الإبادة في غزة وما فعلته في الرأي العام الضاغط على الحكومات، فإن ظهور الحرب كقفزة في المجهول سوف يدفع الجميع للتريث، ويبقيهم في دائرة الوسط والدعوة لوقف الحرب، ويزيد قوة الدفع باتجاه الدعوة لوقف كل حروب المنطقة لصالح حلول سياسيّة، وفي المقدّمة سوف تكون القضية الفلسطينية أول الرابحين.

 

*رئيس تحرير صحيفة النداء اللبنانية

 

 

مقالات مشابهة

  • الحرس الثوري يقصف القاعدة التى استهدفت مقر التليفزيون الإيرانى
  • الفلسفة، العلوم والمحاسبة.. مواد أساسية بمعاملات مرتفعة تنتظر تلاميذ “الباك” غدا
  • الفلسفة العلوم والمحاسبة..مواد أساسية بمعامل مرتفع تنتظر تلاميذ الباك غدا
  • رضا عبدالعال: أفشة كان الأنسب للمشاركة مع الأهلي بعد إصابة إمام عاشور وليس زيزو
  • بستارة سوداء.. غلق جناح إسرائيل بمعرض باريس الجوي
  • مادونا تستعرض حقيبة جلد التمساح بقيمة 100 ألف دولار – صورة
  • إعادة الحجاج الإيرانيين الى بلدهم عبر العراق
  • فعلها ترامب وليس نتنياهو… ونجحت إيران بالرد
  • ثأر مشروع.. أستاذ قانون دولي: الهجوم الإيراني دفاع عن النفس وليس انتقاما
  • نقابة المعلمين تُشكّل غرفة عمليات مركزية لمتابعة أوضاع المدرسين فى امتحانات الثانوية العامة