تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
في عالم متقلب، تقود متغيراته إلى الأسوأ، وتفاقم الشر، وتصاعد العنف والكراهية، ورفض الآخر، حينئذ تتضح قيمة الفلسفة وضرورتها وأهمية العلوم الإنسانية، في طرح المبادئ، وتعزيز القيم، ودعم الجمال مقابل القبح، والتسامح مقابل تقليص الكراهية والعنف والرفض، وصناعة الاتزان الروحي الداخلي للإنسان.
الفلسفة هي طريق الإنسان نحو الكمال، صوب السمو الخلقي، تبدأ بالدهشة، وقديمًا أثارت دهشة ظهور الحقائق واختفاؤها، وتنوع صورها، السؤال لدى الفلاسفة: ما الحقيقة؟ وقيل: «الفلسفة بنت الدهشة»، وإلى جانب الدهشة، هناك التأمل، الاستغراق الذهني للأفكار والمعاني، وبه نصح الفيلسوف الروماني ماركوس أوريليوس قائلًا: «اختبروا بأنفسكم هذا الجانب من الفلسفة (أي التأمل) فليس هنالك ما هو أنسب من تلك الطريقة للتوصل إلى السمو الخلقي».
شخص لا يتفلسف، ليست لديه قدرة على التسامح، وليست لديه قدرة على الحب، فحياة بدون معنى هي حياة جافة قاتلة، وحياة بتأمل وأسئلة وبحث ومغامرات معرفية متشابكة، هي الحياة الحقيقية، حياة الفلسفة، وأصحابها هم هؤلاء الأشخاص الذين يجيدون الحب، ويرفضون الكراهية والحروب.
وليس شرطًا أن تتأمل وتتفلسف أن تكون حاصلًا على شهادة أكاديمية، فالفلاسفة الأوائل كانوا أمام الطبيعة بعقولهم، يبحثون في الكون الضخم الغامض، يعيشون مغامرة عقلية لا تنتهي، ومن المؤسف أن يتصدر للتدريس في التعليم الثانوي أو التعليم الجامعي أشخاص تخصصوا في الفلسفة لكنهم يعملون منذ البداية ضد الفلسفة.
إحدى التجارب الشخصية، كانت مؤسفة نوعًا ما، عندما حضرتُ لأول مرة حصة الفلسفة، وكان على المعلم أن يشرح لنا ماذا تعني الفلسفة ببساطة؟ كي نفهم هذه المادة الجديدة والغريبة، فهي تختلف تمامًا عن التاريخ، الرياضيات، الفيزياء، الكمياء، وفي الحقيقة الفلسفة هي أم هذه العلوم، ولكن نحن طلبة لا نفهم هذا الاسم العجيب، ومع غرابته كان لدي شغف من نوع خاص به، وبالفعل سألت معلمي، ماذا تعني فلسفة؟.. ضحك المعلم كأنه يمتلك سر الأسرار، سيكشف لنا عن خفايا لا يملكها أحد، قائلًا: إن الفلسفة يا أبناء هي مهمة الرجل الأعمي الذي يبحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة!.
اندهشنا جميعًا من هذا التصورالغامض، بحثنا عن فهم يليق بالموقف، وهنا استكمل المعلم شرحه بأن الفلسفة تعني اللاجدوى! وتساءلنا جميعا بأسفٍ شديد: لماذا يقررون علينا مادة محبطة لهذا الحد؟ فأضاف المعلم ساخرًا: وماذا نفعل لوزارة التربية والتعليم؟! ورغم أنه مدرس لهذه المادة، فإن الأولى به أن يسأل نفسه: لماذا تخصص في الإحباط واللاجدوى؟.
من المفارقات اللطيفة أن هذه المقولة التي أصابت طلاب الثانوية بالإحباط من مادة جديدة يشعرون تجاهها بالشغف، لم تُصِب طالبة من بيننا بنفس الشعور، يبدو أنها فكَّرتْ خارج الصندوق، وقالت لي ساعتها: تصور إن البحث عن قطط سوداء في غرفة مظلمة يدعو للمغامرة وللإثارة أكثر، وللتحدى أكثر، وليس صحيحًا أنها لا جدوى. ومن المدهش أن صاحبة هذا التعليق تخصصت فيما بعد في قسم الفلسفة.
قطة سوداء في غرفة مظلمة، عبارة تُنسب للحكيم الصيني كونفوشيوس، ويُراد بها حل مشكلة معقدة بطريقة غير فعالة، بينما تكررت عند فريدريش هيجل بمعنى مختلف وربما أراد منها صعوبة الوصول والبحث عن الحقيقة وسط ظروف غامضة، أو غير واضحة.
نفس العبارة كانت عند معلمي دافعًا نحو اللاجدوى والعبث، وعند صديقتي دافعًا نحو التحدي والمغامرة، والتجريب وعدم الاستسلام للإحباط، وبإمكاني أن أقول: إن ما حدث كان نوعًا من الفلسفة والتفلسف!
هذه الروح الفلسفية لدى الطلبة يُراد لها أن تنجرف، وأن تموت، فالعدو يريد أن يرى منطقتنا تفكر بواسطة الرغبة، بواسطة الأوهام والخرافات، تندفع بواسطة الغضب والانتحار، تمضي نحو المنحدر بأقدامها، إلا أن الفلسفة والعلوم الطبيعية معها تدفعنا نحو التعقل، إدراك نقاط القوة ونقاط الضعف، التروي في فهم الحقائق، التصدي للعدو بطريقة فعالة ومؤثرة.
في كراهية الفلسفة، اشترك العدو مع أصحاب الإيدلوجيات الدينية المتشددة الذين هاجموا مرارًا تدريس الفلسفة، أو الاهتمام بها، أو المفكرين الناشطين فيها، واعتبر الراحل فؤاد زكريا أن «الانتشار الواسع للاتجاهات الإسلامية بشكلها الراهن إنما هو مظهر صارخ من مظاهر نقص الوعي لدى الجماهير»؛ ومع انحسار دور الفلاسفة والمفكرين تشيع بضاعة المتشددين والمتطرفين.
ولم يقف دورهم عند التحذير من الفلسفة، بل فعلوا ما هو أكثر فاعلية في إفشال دور الفلسفة، وهو السيطرة على أقسام الفلسفة في الأكاديميات والكليات المختلفة، وهي استراتيجية جرى تفعيلها وأتت بثمارها، وليس من العجيب أن نرى حاليًا أستاذا للفلسفة في تونس يحرض ضد فيلسوف العقل أبي الوليد بن رشد الأندلسي وكتابه «تهافت التهافت»، لصالح ابن تيمية الحنبلي.
هذه السيطرة جمَّدت دور الفلسفة، ولفت إلى هذه الظاهرة بتوسع شديد الراحل طلعت رضوان في كتابه المثير «مثقفون مع الأصولية الإسلامية» كان من بينهم أساتذة للفلسفة مؤثرين ولهم حاليًا أجيال يتخذون منهم آباء روحيين. وبدوري تعرضت في كتابي «الفكرة والقناع» لنماذج مصرية وعربية تخصصت في الفلسفة، وعملت بدأب على تقويضها وتجميدها لصالح مشاريع الجماعات المتطرفة.
في ظني، إن مأزق الفلسفة في عالمنا العربي كامن في دعم مشاريع الجماعات المتطرفة، رغم ما نمتلكه فيها من رموز قليلة تُعد ثروة، وأن مأزقها في الغرب عند بعض أعلامها كامن في دعم الصهيونية، وتأييد العدوان الإسرائيلي دون تعقل أو شيء من فلسفة، دون التقليل من أهمية الفلسفة وأهمية رموزها في الغرب بشكل عام.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الفلسفة أستاذ الفلسفة
إقرأ أيضاً:
خالد الجندي: عطاء الدنيا زائل وليس دليلا على محبة الله للعبد
أجاب الشيخ خالد الجندي، عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، عن سؤال حول قول الرجل المؤمن لصاحب الجنتين في سورة الكهف: «فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ»، موضحًا أن التعبير القرآني يحمل أدبًا رفيعًا، إذ قال «فعسى ربي» مراعاة لمشاعر صاحبه حتى لا يدفعه إلى التطاول أو الاعتراض بقوله: «لا، ربك وحدك!»، فيرد عليه المؤمن بأدب: «ربي لوحدي وخير لي»، مؤكداً أن كلمة «خيرًا من جنتك» لا تُفهم على أنها جنة في الدنيا، لأن نعم الدنيا زائلة مهما عظمت، بينما المقصود هو الخير الأبقى في الآخرة، جنة الخلد التي لا تزول ولا تتبدل.
وأضاف عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية خلال حلقة خاصة بعنوان "حوار الأجيال" ببرنامج "لعلهم يفقهون" المذاع على قناة "DMC" اليوم الأربعاء، أن طلب الرجل المؤمن ليس بالضرورة قصره على نعيم الدنيا أو الآخرة فقط، فالآية تحتمل رجاء الخير في الدارين، لكن نهاية السياق القرآني ترجّح أن «الخير» المقصود هو نعيم الآخرة؛ بدليل أن المؤمن نفسه قال بعدها مباشرة: «وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا»، أي أنه يعلم أن نعيم الدنيا قد يزول، وأن ما يبقى هو النعيم الدائم.
وبيّن أن الفرق بين عطايا الدنيا والآخرة واسع، فالدنيا نعيمها زائل، محدودة، ويأتي معها تعبٌ وتكليف وحفظ ورعاية، وقد تكون اختبارًا للمؤمن والكافر معًا، بينما عطاء الآخرة باقٍ لا يزول، ولا مشقة فيه، وهو جزاءٌ خالصٌ للمؤمنين وحدهم، بلا حسد ولا تبعة ولا حساب.
وأوضح الشيخ خالد الجندي أن عطاء الدنيا لا يدل على محبة الله، فقد يعطيها الله لمن يحب ولمن لا يحب، بينما عطاء الآخرة دليل على الرضا والمحبة الإلهية، وأن نعيم الدنيا مرتبط بالموت ويعقبه حساب، بينما نعيم الآخرة لا موت فيه ولا انقطاع ولا سؤال عن كيفية حفظه وإنفاقه.
وأكد أن قول المؤمن: «خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ» لا يمكن أن يُفهم على أنه يطلب «جنينة مثلها»، لأن المِثل لا يكون خيرًا، أما «الخيرية» فلا تتحقق إلا في النعيم الأبدي، ومن ثم فإن المقصود بالآية هو دار البقاء وثواب الآخرة، لا جنة الدنيا المحدودة التي قد تصبح «صعيدًا زلقًا» في لحظة بحسابٍ إلهي دقيق.