لجريدة عمان:
2025-12-12@13:47:29 GMT

«النكبة» هي الآن أيضا

تاريخ النشر: 13th, October 2024 GMT

عندما ذهب إلياس خوري إلى مخيم شاتيلا للاشتراك فـي الذكرى السنوية الأولى للمجزرة 1983، سمع أصواتا أصابته بالدهشة والعجز عن الفهم، مجموعة من النساء المُتشحات بالسواد يزغردن، حتى ظن إلياس خوري بأنّه فـي منام. صرخت امرأة: «انتصرنا، صار عندنا مقبرة لأولادنا». فمشى خلفهن ليجد نفسه أمام أرض فارغة دُفنت فـيها 1500 ضحية فـي واحدة من أكثر مجازر النكبة رعبا ووحشية.

ما حيره آنذاك زغاريد النساء ووصف إحداهن المقبرة بالانتصار!

احتاج إلياس خوري لتسع سنوات -هي زمن عمله على جمع حكايات النكبة من اللاجئين واللاجئات فـي المخيمات- ليفهم التروما التي أحدثها غياب المقابر، فالعجز عن دفن الموتى الساقطين تحت وابل الرصاص أو المغمورين بالأنقاض، يعود من وجهة نظر إلياس خوري إلى تروما جذورها ممتدة منذ عام 1948، حيث تُركت الجثث لتتعفن قبل أن يقوم الصليب الأحمر بإلقائها فـي حفرة جماعية بعد رشها بالكلس والمبيدات.

تاريخ النكبة لم يمض بشكل خطي بل متعرج، ربما نشهدُ الآن المنعطف الأكثر حدّة ووحشية منه، ولذا لا يمكن تناول صدمة من الصدمات بمعزل عن الأخرى، لأنّها جميعا تصب فـي خزان واحد للمأساة الكبرى، هذا ما يشير إليه إلياس خوري فـي كتابه «النكبة المستمرة»، الصادر عن دار الآداب.

إن الفخ الذي وقعنا فـيه جميعا هو اعتبار النكبة حدثا اكتملت عناصره عام ٤٨، الأمر الذي أثر على مسارات الانتباه، فأجّل وعي الفلسطيني بحقيقة واقعه المُهدد بالامّحاء، ودفع العرب لردود فعل سريعة، فالحرب لم تضع أوزارها أو نقطة نهايتها، ولذا بقي كل يوم هو يوم نكبة وفوهة موت مفتوحة على الشقاء اللانهائي.

ماذا عن المنكوب الآخر، المشاهد العاجز المُصاب بالخرس، الذي يرى كل شيء لحظة بلحظة، ثم يتوجب عليه أن يُمارس حياته الطبيعية، كأنّه خرج من كابوس للتو أو شاهد فـيلما دمويا لا أكثر؟ لا سيما مع تكسر أجنحة أناشيد القومية العربية، وما يراه من هشاشة فـي أوصال الروابط الكبرى التاريخية والثقافـية والدينية والاجتماعية؟ فهل ينظر العربي اليوم لانعكاسه فـي مرايا هذا الواقع كمسخ مُشوه الإنسانية أو يرى نفسه مُنبتا من عجلة الاشتباك؟

ترى هل تملكُ الكلمات قوتها بعد مرور عام من الخذلان أم أنّ الموت صار جزءا من التجربة اليومية، يمكن تجاهله بخاصية الحجب؟ بأي قلب وعقل وضمير نواجه حياتنا؟ وكيف ينصب البعض أنفسهم قضاة -واضعين رجلا على أخرى- مُنظرين فـي آلام الغير دون أن يختبروا ما يجيش في صدورهم من أوجاع؟

«النكبة الفلسطينية ليست ماضيا نتذكره، وإنّما هي الكلمة التي تُلخص الحياة، فعندما نستخدم كلمة «نكبة»، فإنّنا لا نتذكر ما جرى وانتهى وإنّما ما امتد فـي مسار متعرج إلى يومنا هذا، فالنكبة هي الآن أيضا، هي نكبة مستمرة». فهذه الكلمة التي أشار لها المؤرخ السوري قسطنطين زريق فـي كتابه «معنى النكبة»، صارت عصية على الترجمة، فدخلت فـي نسيج اللغات كافة.

تلك المحاولة الممنهجة شديدة السُمية والعنف للمحو والتقويض، ينبغي أن تُقابلها مقاومة مستمرة واستيقاظ فـي الضمير الجمعي والفردي لنغدو جميعا كنصل موجع فـي خاصرة مغتصبي الأرض وكرامتنا البشرية، وقد لا يحدث ذلك عبر اليأس المفرط - الذي أصاب أغلبنا- ولا عبر التفاؤل الساذج والمنفعل - الذي ركن إليه بعض آخر- وإنّما عبر تحليل الراهن لاستعادة أبجديتنا العربية الضائعة، وعبر زعزعة خطاب السُلطة السابحة فوق نهر من الدماء.. دون خجل أو تورية.

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: إلیاس خوری

إقرأ أيضاً:

لبنان .. البلد الذي ليس له شبيه

لبنان البلد الفريد في كل شيء. وطن الجمال ساحلاً وجبلاً، سهولاً وأوديةً. البلد الذي يجمع بين التنوع الديني والعرقي من مسلمين (سنة، وشيعة، ودروز)، ومسيحيين (موارنة، وروم أرثوذكس، وروم كاثوليك، وبروتستانت، وأرمن رسوليون، وغيرهم) مع جذور تاريخية عميقة فينيقية وكنعانية ما يمنحه طابعا خاصا من التعايش الديني والثقافي ليس له مثيل. إنه البلد الذي يجمع بين أصالة الشرق وروح المتوسط.

إن تاريخ لبنان غني متنوع يبدأ من الحضارات القديمة، مثل الفينيقيين (في العام ٣٠٠٠ ق.م وما بعدها) الذين أسسوا مدنًا تجارية مهمة، مثل: صيدا، وصور، وجبيل مروراً بالاحتلالات المتعاقبة للأشوريين والفرس والرومان والبيزنطينيين والصليبيين والمماليك والعثمانيين (خلال الفترة ١٥١٦-١٩١٨م ) حتى ظهرت دولة لبنان الكبير في سبتمبر من العام ١٩٢٠م بموجب الانتداب الفرنسي إلى أن أُعلنت الجمهورية اللبنانية في العام ١٩٢٦م، ونيل لبنان استقلاله التام عن فرنسا في ٢٢ نوفمبر ١٩٤٣م، وانتخاب الشيخ بشارة الخوري كأول رئيس للجمهورية اللبنانية ورياض الصلح كأول رئيس وزراء للبنان بعد الاستقلال.

وقد جاء هذا الاستقلال تتويجاً لمسار طويل من النضال السياسي ضد الفرنسيين ظهر على إثره الميثاق الوطني، وهو الاتفاق غير المكتوب الذي نظم أسس الحكم في لبنان في العام ١٩٤٣م، وما زال إلى الآن عاملًا مؤثرًا في السياسة اللبنانية.

وقد نشأ هذا الميثاق الوطني بعد مفاوضات بين القيادات السنية والشيعية والمارونية، ونص على أنه يجب أن يكون رئيس الجمهورية وقائد الجيش من الموارنة، وأن يكون رئيس مجلس الوزراء من السنة، وأن يكون رئيس مجلس النواب من الشيعة، وأن يكون نائب رئيس مجلس النواب ونائب رئيس مجلس الوزراء من الروم الأرثوذكس، وأن يكون نسبة النواب المسيحيين والمسلمين (٥:٦) -عدلت في اتفاق الطائف (٥:٥)-، وأن يكون رئيس الأركان العامة من الدروز.

وتضمن كذلك الميثاق الوطني قبول الموارنة الهوية العربية بدلاً من الهوية الغربية، وتخلي المسلمين عن مطمح الوحدة مع سوريا.

وقد مر لبنان بأحداثٍ جسام بعد استقلاله كان أكبرها الحرب الأهلية التي استمرت قرابة ١٥ عاما منذ العام ١٩٧٥م حتى توقيع اتفاق الطائف الذي مهد لإنهاء الحرب رسميًا في العام ١٩٩٠م. وهو الاسم الذي تعرف به وثيقة الوفاق الوطني اللبناني التي وضعت بين الأطراف المتنازعة في لبنان بوساطة سورية سعودية في مدينة الطائف بالمملكة العربية السعودية بتاريخ ٣٠ سبتمبر ١٩٨٩م، وأقره لبنان بقانون بتاريخ ٢٢ أكتوبر ١٩٨٩م، وصدق عليه البرلمان اللبناني في ٥ نوفمبر من نفس العام، وذلك بعد نشاط مكثف للدبلوماسية السعودية وشخصيات وطنية لبنانية وشخصيات دولية.

وقد تكوّن هذا الاتفاق من ٤ مواد رئيسية: المادة (١) المبادئ العامة والإصلاحات: حيث نصت فقرات هذه المادة على المبادئ العامة، كتأكيد استقلال لبنان وهويته العربية والشكل السياسي للدولة، كجمهورية برلمانية ديموقراطية.

كما نصت فقرات هذه المادة على مجموعة من الإصلاحات السياسية التي تم الاتفاق عليها، كتوزيع مقاعد مجلس النواب مناصفة بين المسلمين والمسيحيين إضافة إلى إصلاحات أخرى في مجالات مختلفة كالإدارة والتعليم والمحاكم.

تتناول المادة (٢) بسط سيادة الدولة اللبنانية على كامل الأراضي اللبنانية فيما تتناول المادة (٣) تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي وتتناول المادة (٤) العلاقات اللبنانية السورية. وقد وضع اتفاق الطائف إلغاء الطائفية هدفاً له، لكن هذا الهدف لم يتحقق حتى الآن.

ومنذ اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري عام ٢٠٠٥م شهد لبنان توترات سياسية وأمنية كبيرة؛ حيث أطل شبح الفتنة على البلاد مجدداً. وحاولت بعض الأطراف الداخلية والخارجية جر لبنان إلى حرب أهلية، لكن حكمة الوطنيين والمخلصين من رجالات لبنان أنقذت الموقف بتسوية عكست انهزام مشروع الفتنة؛ فكان اتفاق الدوحة، وهو الاتفاق الذي توصلت إليه القوى السياسية اللبنانية يوم الأربعاء ٢١ مايو ٢٠٠٨م في العاصمة القطرية الدوحة، لتنهي أزمة سياسية كبيرة استمرت ١٨ شهرا شهدت بعض الفترات منها أحداثا دامية.

ومن ضمن ما تعرض له لبنان من مخاطر هدد وجوده الاجتياح الإسرائيلي في السادس من يوليو ١٩٨٢م؛ حيث وصلت قوات الاحتلال الإسرائيلية إلى العاصمة بيروت. وكان الهدف المعلن تصفية القضية الفلسطينية نهائيا، وتأمين العمق الجغرافي للكيان الصهيوني، ولكن يبدو أن الاجتياح أتى بنتائج كارثية على الغزاة؛ حيث انفجرت شعلة المقاومة التي زرعها الإمام موسى الصدر في فترة السبعينيات مع تأسيس أفواج المقاومة اللبنانية (حركة أمل) التي تبعها لاحقا إنشاء حزب الله.

ومنذ ذلك الحين إلى الآن لم يسلم لبنان بشكل عام وجنوبه بشكل خاص من الاعتداءات المستمرة للكيان الصهيوني بحجة أو بدون حجة ما يجعل لبنان بشكل دائم تحت مرمى الاعتداءات والاستفزازات الصهيونية المستمرة كان آخرها الصراع بين حزب الله والكيان الصهيوني الذي بدأ في ٨ أكتوبر ٢٠٢٣م بعد يوم واحد من انطلاق عملية طوفان الأقصى في غزة. والذي استمر حتى ٢٦ نوفمبر ٢٠٢٤م عندما أعلن عن وقف إطلاق النار لمدة ٦٠ يوما التزم بهذا الاتفاق حزب الله، وخرقه الكيان الصهيوني خلال هذه المدة أكثر من١٣٥٠ مرة.

وسواء اتفقنا مع حزب الله وأجندته أو اختلفنا لا يمكن لأحد أن ينكر أن حزب الله شكل عبر هذه السنوات الطويلة حاجز صد لأطماع الكيان الصهيوني في اجتياح لبنان مجددا.

لبنان البلد الصغير حجماً والكبير مكانةً له في قلب كل عربي -ومنهم أهل سلطنة عمان- مكانة خاصة قل أن تجد لها نظيرًا. فهذا البلد ذو التاريخ العظيم والمكانة الاستثنائية في الحاضر، والذي أنجب جبران خليل جبران، وأمين الريحاني، وميخائيل نعيمة، وإيليا أبو ماضي، وجوزيف حرب، وسعيد عقل، وأنسي الحاج، وفيروز، والرحابنة، ونصري شمس الدين، وغيرهم من القامات الأدبية والفنية، وكذلك العديد من الشخصيات والقامات الوطنية والسياسية والأكاديمية والاقتصادية -لا يتسع هنا المجال لذكرها-، والتي أثرَت الوطن العربي والعالم أجمع عبر عقود من الإبداع - كلٌ في مجاله - سيظل عصياً على الكسر. وسيظل لبنان التاريخ والحاضر ملتقى الحضارات والثقافات والجمال والإبداع. إنه بحق جوهرة الشرق الأوسط؛ البلد الذي ليس له نظير.

خالد بن عمر المرهون متخصص في القانون الدولي والشؤون السياسية

مقالات مشابهة

  • "الناجي الوحيد".. لقب "بتول" الذي جردها الفقد معانيه
  • كريم بدوي: نعمل جميعا على تمكين وتوفير المنتجات البترولية لـ 120 مليون نسمة
  • الفرق بين الورم والسرطان.. ما الذي يجب معرفته؟
  • من الذي فتح باب حمام الطائرة الرئاسية رغمًا عن ترامب «فيديو»
  • العثور على جثمان الطفل الذي جرفته السيول في كلار
  • "فلسطين المقتلعة".. معرض بكندا حول النكبة وحرب غزة
  • من هو غسان الدهيني الذي أصبح زعيم القوات الشعبية في غزة بعد أبو شباب؟
  • لبنان .. البلد الذي ليس له شبيه
  • نديم إلياس: صناعة الطباعة والتغليف فرصة واعدة للتوسع في الأسواق الأوروبية
  • تستحق تقديمها في عمل سينمائي| نيكولا خوري : ثريا بغدادي شخصية استثنائية .. خاص