عندما ذهب إلياس خوري إلى مخيم شاتيلا للاشتراك فـي الذكرى السنوية الأولى للمجزرة 1983، سمع أصواتا أصابته بالدهشة والعجز عن الفهم، مجموعة من النساء المُتشحات بالسواد يزغردن، حتى ظن إلياس خوري بأنّه فـي منام. صرخت امرأة: «انتصرنا، صار عندنا مقبرة لأولادنا». فمشى خلفهن ليجد نفسه أمام أرض فارغة دُفنت فـيها 1500 ضحية فـي واحدة من أكثر مجازر النكبة رعبا ووحشية.
احتاج إلياس خوري لتسع سنوات -هي زمن عمله على جمع حكايات النكبة من اللاجئين واللاجئات فـي المخيمات- ليفهم التروما التي أحدثها غياب المقابر، فالعجز عن دفن الموتى الساقطين تحت وابل الرصاص أو المغمورين بالأنقاض، يعود من وجهة نظر إلياس خوري إلى تروما جذورها ممتدة منذ عام 1948، حيث تُركت الجثث لتتعفن قبل أن يقوم الصليب الأحمر بإلقائها فـي حفرة جماعية بعد رشها بالكلس والمبيدات.
تاريخ النكبة لم يمض بشكل خطي بل متعرج، ربما نشهدُ الآن المنعطف الأكثر حدّة ووحشية منه، ولذا لا يمكن تناول صدمة من الصدمات بمعزل عن الأخرى، لأنّها جميعا تصب فـي خزان واحد للمأساة الكبرى، هذا ما يشير إليه إلياس خوري فـي كتابه «النكبة المستمرة»، الصادر عن دار الآداب.
إن الفخ الذي وقعنا فـيه جميعا هو اعتبار النكبة حدثا اكتملت عناصره عام ٤٨، الأمر الذي أثر على مسارات الانتباه، فأجّل وعي الفلسطيني بحقيقة واقعه المُهدد بالامّحاء، ودفع العرب لردود فعل سريعة، فالحرب لم تضع أوزارها أو نقطة نهايتها، ولذا بقي كل يوم هو يوم نكبة وفوهة موت مفتوحة على الشقاء اللانهائي.
ماذا عن المنكوب الآخر، المشاهد العاجز المُصاب بالخرس، الذي يرى كل شيء لحظة بلحظة، ثم يتوجب عليه أن يُمارس حياته الطبيعية، كأنّه خرج من كابوس للتو أو شاهد فـيلما دمويا لا أكثر؟ لا سيما مع تكسر أجنحة أناشيد القومية العربية، وما يراه من هشاشة فـي أوصال الروابط الكبرى التاريخية والثقافـية والدينية والاجتماعية؟ فهل ينظر العربي اليوم لانعكاسه فـي مرايا هذا الواقع كمسخ مُشوه الإنسانية أو يرى نفسه مُنبتا من عجلة الاشتباك؟
ترى هل تملكُ الكلمات قوتها بعد مرور عام من الخذلان أم أنّ الموت صار جزءا من التجربة اليومية، يمكن تجاهله بخاصية الحجب؟ بأي قلب وعقل وضمير نواجه حياتنا؟ وكيف ينصب البعض أنفسهم قضاة -واضعين رجلا على أخرى- مُنظرين فـي آلام الغير دون أن يختبروا ما يجيش في صدورهم من أوجاع؟
«النكبة الفلسطينية ليست ماضيا نتذكره، وإنّما هي الكلمة التي تُلخص الحياة، فعندما نستخدم كلمة «نكبة»، فإنّنا لا نتذكر ما جرى وانتهى وإنّما ما امتد فـي مسار متعرج إلى يومنا هذا، فالنكبة هي الآن أيضا، هي نكبة مستمرة». فهذه الكلمة التي أشار لها المؤرخ السوري قسطنطين زريق فـي كتابه «معنى النكبة»، صارت عصية على الترجمة، فدخلت فـي نسيج اللغات كافة.
تلك المحاولة الممنهجة شديدة السُمية والعنف للمحو والتقويض، ينبغي أن تُقابلها مقاومة مستمرة واستيقاظ فـي الضمير الجمعي والفردي لنغدو جميعا كنصل موجع فـي خاصرة مغتصبي الأرض وكرامتنا البشرية، وقد لا يحدث ذلك عبر اليأس المفرط - الذي أصاب أغلبنا- ولا عبر التفاؤل الساذج والمنفعل - الذي ركن إليه بعض آخر- وإنّما عبر تحليل الراهن لاستعادة أبجديتنا العربية الضائعة، وعبر زعزعة خطاب السُلطة السابحة فوق نهر من الدماء.. دون خجل أو تورية.
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: إلیاس خوری
إقرأ أيضاً:
“البيت الذي شيده الطفايلة في قلب الوطن”
صراحة نيوز- الدكتور زيد أحمد المحيسن
في قلب العاصمة، وعلى بعد خطوات من مراكز القرار، بزغ فجر جديد لأبناء الطفيلة؛ فجرٌ يحمل بين طياته بشرى طال انتظارها، وأمنية ظلّت ردحًا من الزمن تتناقلها الألسن والقلوب على حد سواء، حتى قيّض الله لهذا الحلم أن يرى النور، ويتحول إلى صرحٍ شامخٍ يعانق سماء عمان: مقر جمعية ديوان عشائر الطفيلة.
لقد كان لي شرف الحضور في هذا اليوم البهي، يوم افتتاح المقر وتناول الغداء مع إخوتي من أبناء الطفيلة الذين توافدوا من كل حدب وصوب، يحملون في قلوبهم البهجة، وعلى وجوههم ابتسامات الفخر والرضى، إذ أصبح للطفايلة اليوم عنوان واضح، ومقر دائم، وبيت يجمع ولا يفرق، ويوحّد ولا يبعثر.
ليست فكرة المقر سوى تجلٍّ لفكرةٍ نبيلة، طالما حلم بها الغيارى من أبناء المحافظة، ممن حملوا همّ الانتماء الصادق والعمل التطوعي النظيف، فعملوا بصمت، وسعوا بجد، حتى أُتيحت لهم هذه اللحظة التاريخية. لم يكن الطريق ممهّداً، بل شاقًا ومعمّدًا بالإرادة والإيمان، لكنهم مضوا دون كلل، حاملين على أكتافهم أمانة الطفيلة ومكانتها، فكان لهم ما أرادوا.
إن وجود مقر دائم في العاصمة لهو علامة فارقة في مسيرة الطفايلة، وخطوة استراتيجية تنقل العمل الأهلي من التشتت إلى التنظيم، ومن الجهد الفردي إلى الحراك الجماعي المنظم. فهذا البيت ليس مجرد مبنى من حجر وإسمنت، بل هو مساحة حوار وتفكير، ومظلة جامعة، تحتضن أبناء الطفيلة بمختلف أطيافهم واتجاهاتهم، ليكونوا يدًا واحدة في خدمة مجتمعهم، وتقديم المبادرات التي تنهض بالشأن الاجتماعي والثقافي والتنموي.
إنه بيت للتشاور لا للتنازع، وللتآلف لا للتنافر، ومجلس دائم للحوار الجاد والبنّاء، يُعزز الانتماء الوطني، ويعيد للروح الجماعية حضورها وهيبتها في زمنٍ كثرت فيه المسافات وتفرّقت الجهود. وفيه يتدارس أبناء المحافظة قضاياهم، ويضعون أيديهم بأيدي بعض، من أجل صياغة مستقبل أفضل لأبنائهم وأحفادهم.
ولأن هذا المشروع ولد من رحم الحاجة، وتغذّى على حبّ الأرض وأهلها، فإنه يستحق أن يحاط بكل أشكال الدعم والرعاية. وها نحن على أعتاب الافتتاح الرسمي تحت الرعاية الملكية السامية، في مشهدٍ سيشكل محطة مضيئة في تاريخ العمل الأهلي لأبناء الطفيلة، ويؤكد أن الانتماء لا يُقاس بالكلام، بل بالفعل الملموس والعطاء المستمر.
كل الشكر والتقدير لكل من ساهم بفكرته أو جهده أو دعمه في إخراج هذا الحلم إلى النور، ولمن آمن بأن لابناء محافظة الطفيلة الهاشمية الحق في أن يكون لهم بيتٌ في العاصمة عمان، يجمعهم ولا يُقصي أحدًا، ويرتقي بهم نحو مزيد من المشاركة المجتمعية الفاعلة، تحت مظلة القانون والشرعية والانتماء الصادق – لله والوطن والعرش .
نعم، أصبح للطفايلة بيتٌ في قلب الوطن… فهنيئًا لهم، وهنيئًا للوطن بأبنائه الأوفياء..