كان مصطلح «اليوم التالي» حتى وقت قريب جزءاً من أدبيات الحرب الدائرة في غزة، وقُصد به ترتيبات إدارة القطاع بعد هزيمة مفترضة لحركة «حماس».
قبل أن تبلغ الحرب عامها الأول بشهور، راج المصطلح، خاصة مع كل تبشير بانفراجة في أفق المفاوضات بين إسرائيل و«حماس»، وبدا أن ما بعد الحركة شاغل رئيسي للأطراف المعنية، وظهرت سيناريوهات عدة لذلك تأرجحت بين دور للسلطة الفلسطينية، أو آخر عربي، أو وجود دولي بشكل أو بآخر.وسعت إسرائيل في توريط أطراف عربية في هذه السيناريوهات المفترضة لإدارة غزة من دون أن تلتزم من جانبها بأي حقوق عربية أو صيغ يمكن الاتفاق عليها بشأن مسارات القضية الفلسطينية.
كان بنيامين نتانياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، يراهن على أن هدف القضاء على «حماس» وإخراجها من المعادلة الفلسطينية متحقق لا محالة، وهو أمر لم يتيقن منه أحد حتى الآن رغم كل الخسائر التي وقعت في صفوف الحركة، وتوسع رقعة الحرب لتشمل الجبهة اللبنانية، وربما يكون في جعبة المستقبل ما هو أخطر.
رغم أيّ مؤاخذات لحركة «حماس» و«حزب الله» وبقية مكونات هذا المحور، ورغم كل الأسئلة التي تطارده منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 والخلاف حول إجاباتها، فإن ما لا يمكن تجاوزه حجم ما لحق بغزة، أرضاً وسكاناً، من دمار، وهو ما يتكرر في لبنان بلا نهاية واضحة حتى الآن.
إن الأمر أصبح أكبر من الانشغال بفكرة «اليوم التالي»، والنتائج، حتى الآن، أفدح مما كان ينتظر نتنياهو بلوغه لإعلان نصره. وتطورات الحرب بعد عامها الأول تشي بأن فصولاً أخرى في الانتظار، وأن ما لم ينجح فيه الوسطاء والمعنيون بالملف خلال عام، لن يتحقق بزيادة انشغال الجانب الأمريكي بقرب انتخاباته الرئاسية.
يبدو أن الأمر أصبح أكثر تعقيداً بعد أن تجاوزت النيران حدود لبنان، وأن خرائط جديدة تتجهز للمنطقة تتجاوز مفهوم «اليوم التالي» في غزة، أي فلسطين، وحدها إلى عقود طويلة، خاصة أن ما حققه الجانب الإسرائيلي خلال الأسبوعين الماضيين من اختراقات في مسار الحرب يفتح شهيته على ما هو أكبر من ثمارها القريبة.
إننا، فيما يبدو، أمام ترتيبات أو سيناريوهات قرن كامل تفسح الطريق لحدود، وشخصيات، وكيانات، وأفكار جديدة تنبت فوق الدمار المتواصل في غزة ولبنان، وربما ما بعدهما. وهو دمار يحتاج، فيما يخص غزة وحدها، إلى 80 عاماً للتغلب عليه حسب تقديرات بالاكريشنان راغاغوبال، محقق الأمم المتحدة المستقل المعني بالحق في السكن الملائم.
ومع استمرار الضربات الإسرائيلية في القطاع بلا حل قريب، ربما تحتاح غزة إلى قرن كامل، لا 80 عاماً فقط، لاستعادة عافيتها، وهو زمن لا يمكن الآن تصور شكل المنطقة وخرائطها فيه ولا إن كان الصراع حُسم أم لا.
ما نرتجيه ألّا يصل لبنان إلى وضع مماثل، ولا أن تفتح ساحات جديدة بعده ومعها يبدأ الحديث رسمياً عن ترتيبات القرن التالي.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: عام على حرب غزة إيران وإسرائيل إسرائيل وحزب الله السنوار الانتخابات الأمريكية غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية عام على حرب غزة
إقرأ أيضاً:
رأي.. إردام أوزان يكتب: الشرق الأوسط في عصر الصراع المفتوح.. من سيرسم الخطوط؟
هذا المقال بقلم الدبلوماسي التركي إردام أوزان *، سفير أنقرة السابق لدى الأردن، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
لم تنشب الحرب بين إسرائيل وإيران بين عشية وضحاها. إنها تُشير إلى زوال تدريجي وعلني لقواعد الاشتباك الإقليمية. الوهمٌ بأن الصراع في الشرق الأوسط يُمكن إدارته أو احتواؤه بالغموض. لم تعد الخطوط الحمراء تحكم هذه المنطقة؛ بل انهيارها هو الذي يحكمها.
ما شهدناه خلال الأيام الماضية ليس تصعيدًا، بل كشفًا.
حرب إقليمية كانت تُدار بالوكالة وبإنكار مُقنع، تتكشف الآن على الملأ. في هذه الأثناء، يجد العالم العربي، الذي كان في السابق مركز الدبلوماسية الإقليمية، نفسه يراقب من بعيد.
من الحرب بالوكالة إلى المواجهة المباشرةلأكثر من عقد، سارت التوترات بين إيران وإسرائيل على نهج مختلف. إسرائيل تشن هجماتها من الخفاء، بينما ترد إيران عبر وكلائها. لقد انتهى الآن ما يُسمى "الحرب بين الحروب".
تخلت إسرائيل عن سياسة الغموض، وشنت هجمات في عمق الأراضي الإيرانية. طهران، من جانبها، ترد بضربات صاروخية علنية. ما كان في السابق ردعًا سريًا تحول إلى حرب مفتوحة.
والآن انضمت الولايات المتحدة إلى المعركة.
في الساعات الأولى من صباح 22 يونيو/حزيران، شنّت قاذفات بي-2 الأمريكية ووحدات بحرية ضربات منسقة على المواقع النووية الإيرانية الرئيسية الثلاثة (فوردو، ونطنز، وأصفهان) مستخدمةً ذخائر خارقة للتحصينات وصواريخ كروز. وأعلن الرئيس ترامب أن العملية حققت "نجاحًا عسكريًا باهرًا"، مدعيًا تدمير البنية التحتية لتخصيب اليورانيوم في إيران.
لم تعد هذه مجرد مواجهة إقليمية، بل إن خطر اندلاع حرب متعددة الجنسيات أصبح مرتفعا للغاية.
سقوط جدار الحمايةلقد اعتمد النفوذ الإقليمي لإيران في الماضي على جهات مسلحة غير حكومية (حزب الله في لبنان، وحماس في غزة، والميليشيات العراقية، والحوثيين في اليمن). وقد وسعت هذه الجماعات نطاق طهران في حين حمتها من الانتقام المباشر.
لقد انهار جدار الحماية هذا. منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحوّل الوكلاء إلى مقاتلين مباشرين في حرب مُعلنة.
والآن، مع الضربات الأمريكية في إيران، اختفت فكرة الحماية من الحرب بلا حدود.
الدول العربية.. حاضرة لكنها مكشوفة سياسيًاإن صمت العالم العربي ليس حيادًا، بل يبدو وكأنه ثغرة استراتيجية مُقنّعة تحت ستار ضبط النفس.
أصدرت الحكومات بياناتٍ مألوفة: دعواتٍ لتهدئة التصعيد، وقلقٍ على المدنيين، وإدانةٍ لإسرائيل. لكن جامعة الدول العربية لا تزال راكدة. عواصم الخليج، التي كانت تشجعت سابقًا بالتطبيع مع إسرائيل، تتردد الآن، عالقةً بين الانحياز والقلق.
لم يعد هذا القلق نظريًا. فمع انخراط القوات الأمريكية مباشرةً، أصبحت كل قاعدة أمريكية في المنطقة، من قطر إلى البحرين، هدفًا محتملًا. فالدول العربية ليست على هامش الجغرافيا، بل هي جزء لا يتجزأ من ساحة المعركة.
لكن التردد أعمق من ذلك. فقد قللت القيادة المجزأة، والضغوط الاقتصادية، واختلاف الأولويات من احتمالية تنسيق الدبلوماسية الإقليمية.
التطبيع، الذي كان يُسوّق سابقًا على أنه واقع، أصبح الآن أقرب إلى الانفصال. لا يوجد مقترح لوقف إطلاق النار، ولا مبادرة إقليمية، ولا رؤية جماعية.
إن المنطقة ليست محايدة، بل إنها تقترب بسرعة من حالة الغياب.
الارتجال ليس استراتيجيةتتسع هذه الحرب في ظل فراغ عالمي في القوة. اختارت الولايات المتحدة الآن القوة بدلًا من الدبلوماسية. ولا تزال روسيا تُركز على أوكرانيا. أما الصين، فتُلقي خطابًا عن التعددية القطبية، لكنها تفتقر إلى أي وزن سياسي.
في هذا الفراغ، يحل الارتجال محل الاستراتيجية.
تُقدّم تركيا نفسها كوسيط، بينما تُعزّز في الوقت نفسه وجودها العسكري وتأكيدها القومي في العراق وسوريا وغيرهما. في غضون ذلك، تلجأ مصر، التي تُصارع أزماتها الاقتصادية الداخلية، إلى عبارات مبتذلة حذرة. تُعيد المملكة العربية السعودية تقييم استراتيجيتها للتطبيع، مُقيّمةً التوازن بين الانخراط والتصعيد.
ولكن في غياب رد عربي موحد، فإن القرارات تُتخذ في أماكن أخرى.
الجبهة السورية الهشةولا يوجد مكان تكون فيه الهشاشة الإقليمية أكثر حدة من سوريا.
لقد أفرغ عقد من الحرب فعالية الدولة. ومع تجدد الصراع حولها، تُخاطر سوريا بأن تصبح أكثر من مجرد ضرر جانبي. بل قد تصبح ممرًا لانتشار عدم الاستقرار.
القوات الأمريكية قد تواجه هجمات متجددة في الشمال الشرقي. وتكثفت الضربات الإسرائيلية حول دمشق. وتترسخ الميليشيات في المناطق غير الخاضعة للحكم. وبدون دولة سورية فاعلة، لن يكون هناك منطقة عازلة، بل فراغ يملؤه السلاح والمقاتلون والفوضى.
الأوضاع السورية ليست مجرد قصة تحذيرية، بل هي نذير شؤم. فعندما تنهار الدولة ولا تتدخل أي بنية إقليمية حقيقية لإعادة بنائها، لا يبقى الفراغ ساكنًا، بل ينتشر.
وهم الاحتواء
لقد تحطمت كل الافتراضات التي حددت في وقت ما الصراع بين إيران وإسرائيل:
• أن إسرائيل قادرة على إضعاف القدرات الإيرانية دون عقاب.
• أن إيران ستستوعب الضربات لتجنب التصعيد.
• أن الوكلاء قد يتمكنون من عزل رعاتهم عن المواجهة المباشرة.
• أن الولايات المتحدة يمكن أن تظل ضامنًا بعيدًا، وليس مشاركًا مباشرًا.
لم تكن هذه استراتيجيات، بل كانت خرافات مُريحة.
الآن، المواقع النووية الإيرانية وسط الدمار. المدن الإسرائيلية تحت القصف. لقد تجاوز الصراع الحدود جغرافيًا ونفسيًا.
لقد فشل الاحتواء، وما تبقى هو التصعيد دون إطار.
من سيرسم الخطوط؟لم يعد السؤال هو ما إذا كانت هذه الحرب سوف تنتشر، بل من سيشكل حدودها.
في الوقت الحاضر، إسرائيل وإيران هما من يحددان الشروط، وقد انضمت إليهما الولايات المتحدة.
إذا كانت الدول العربية تنوي وقف هذا السقوط الحر للسيادة، والأهمية المؤسسية، والوكالة الإقليمية، فيتعين عليها أن تتطور من مجرد متفرجين سلبيين إلى جهات فاعلة رئيسية.
هذا يتطلب أكثر من مجرد بيانات دبلوماسية، فهو يتطلب:
• عقد منتديات إقليمية مستقلة عن الوساطة الغربية.
• تحديد الخطوط الحمراء الإقليمية، ليس فقط ضد التدخل الأجنبي، بل أيضاً ضد تحويل الأراضي العربية إلى ساحات معارك بالوكالة.
• استعادة الوكالة الاستراتيجية، ليس كوسطاء، بل كمؤلفين للنظام الإقليمي.
نار بلا حدودلقد زالت جدران الحماية، وانكشفت الأوهام. المنطقة لا تحترق من أطرافها، بل من داخلها.
إن الحقيقة الوحيدة الواضحة الآن هي أنه إذا ظلت الدول العربية صامتة، فإن دولاً أخرى سوف تشكل مستقبل المنطقة، نيابة عنها، وبدونها.
في الشرق الأوسط الذي لا توجد فيه خطوط حمراء، لم يعد من الممكن احتواء النار حيث بدأت.
* نبذة عن الكاتب:
إردام أوزان دبلوماسي تركي متمرس يتمتع بخبرة 27 عامًا في الخدمة الدبلوماسية. وقد شغل العديد من المناصب البارزة، بما في ذلك منصبه الأخير كسفير لدى الأردن، بالإضافة إلى مناصب في الإمارات العربية المتحدة والنمسا وفرنسا ونيجيريا.
ولد في إزمير عام 1975، وتخرج بمرتبة الشرف من كلية العلوم السياسية بجامعة أنقرة. واكتسب معرفة واسعة بالمشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الشرق الأوسط، حيث قام بتحليل تعقيدات الصراعين السوري والفلسطيني، بما في ذلك جوانبهما الإنسانية وتداعياتهما الجيوسياسية.
كما شارك في العمليات الدبلوماسية المتعددة الأطراف، وتخصص في مجال حقوق الإنسان والتطورات السياسية الإقليمية. وتشمل مساهماته توصيات لتعزيز السلام والاستقرار من خلال الحوار والتفاوض بالتعاون مع المنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية. ويواصل حاليا دراساته عن الشرق الأوسط بينما يعمل مستشارا.