هذا المقال بقلم الدبلوماسي التركي إردام أوزان *، سفير أنقرة السابق لدى الأردن، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.

لم تنشب الحرب بين إسرائيل وإيران بين عشية وضحاها. إنها تُشير إلى زوال تدريجي وعلني لقواعد الاشتباك الإقليمية. الوهمٌ بأن الصراع في الشرق الأوسط يُمكن إدارته أو احتواؤه بالغموض.

لم تعد الخطوط الحمراء تحكم هذه المنطقة؛ بل انهيارها هو الذي يحكمها.

ما شهدناه خلال الأيام الماضية ليس تصعيدًا، بل كشفًا.

حرب إقليمية كانت تُدار بالوكالة وبإنكار مُقنع، تتكشف الآن على الملأ. في هذه الأثناء، يجد العالم العربي، الذي كان في السابق مركز الدبلوماسية الإقليمية، نفسه يراقب من بعيد.

من الحرب بالوكالة إلى المواجهة المباشرة

لأكثر من عقد، سارت التوترات بين إيران وإسرائيل على نهج مختلف. إسرائيل تشن هجماتها من الخفاء، بينما ترد إيران عبر وكلائها. لقد انتهى الآن ما يُسمى "الحرب بين الحروب".

تخلت إسرائيل عن سياسة الغموض، وشنت هجمات في عمق الأراضي الإيرانية. طهران، من جانبها، ترد بضربات صاروخية علنية. ما كان في السابق ردعًا سريًا تحول إلى حرب مفتوحة.

والآن انضمت الولايات المتحدة إلى المعركة.

في الساعات الأولى من صباح 22 يونيو/حزيران، شنّت قاذفات بي-2 الأمريكية ووحدات بحرية ضربات منسقة على المواقع النووية الإيرانية الرئيسية الثلاثة (فوردو، ونطنز، وأصفهان) مستخدمةً ذخائر خارقة للتحصينات وصواريخ كروز. وأعلن الرئيس ترامب أن العملية حققت "نجاحًا عسكريًا باهرًا"، مدعيًا تدمير البنية التحتية لتخصيب اليورانيوم في إيران.

لم تعد هذه مجرد مواجهة إقليمية، بل إن خطر اندلاع حرب متعددة الجنسيات أصبح مرتفعا للغاية.

سقوط جدار الحماية

لقد اعتمد النفوذ الإقليمي لإيران في الماضي على جهات مسلحة غير حكومية (حزب الله في لبنان، وحماس في غزة، والميليشيات العراقية، والحوثيين في اليمن). وقد وسعت هذه الجماعات نطاق طهران في حين حمتها من الانتقام المباشر.

لقد انهار جدار الحماية هذا. منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحوّل الوكلاء إلى مقاتلين مباشرين في حرب مُعلنة.

والآن، مع الضربات الأمريكية في إيران، اختفت فكرة الحماية من الحرب بلا حدود.

الدول العربية.. حاضرة لكنها مكشوفة سياسيًا

إن صمت العالم العربي ليس حيادًا، بل يبدو وكأنه ثغرة استراتيجية مُقنّعة تحت ستار ضبط النفس.

أصدرت الحكومات بياناتٍ مألوفة: دعواتٍ لتهدئة التصعيد، وقلقٍ على المدنيين، وإدانةٍ لإسرائيل. لكن جامعة الدول العربية لا تزال راكدة. عواصم الخليج، التي كانت تشجعت سابقًا بالتطبيع مع إسرائيل، تتردد الآن، عالقةً بين الانحياز والقلق.

لم يعد هذا القلق نظريًا. فمع انخراط القوات الأمريكية مباشرةً، أصبحت كل قاعدة أمريكية في المنطقة، من قطر إلى البحرين، هدفًا محتملًا. فالدول العربية ليست على هامش الجغرافيا، بل هي جزء لا يتجزأ من ساحة المعركة.

لكن التردد أعمق من ذلك. فقد قللت القيادة المجزأة، والضغوط الاقتصادية، واختلاف الأولويات من احتمالية تنسيق الدبلوماسية الإقليمية.

التطبيع، الذي كان يُسوّق سابقًا على أنه واقع، أصبح الآن أقرب إلى الانفصال. لا يوجد مقترح لوقف إطلاق النار، ولا مبادرة إقليمية، ولا رؤية جماعية.

إن المنطقة ليست محايدة، بل إنها تقترب بسرعة من حالة الغياب.

الارتجال ليس استراتيجية

تتسع هذه الحرب في ظل فراغ عالمي في القوة. اختارت الولايات المتحدة الآن القوة بدلًا من الدبلوماسية. ولا تزال روسيا تُركز على أوكرانيا. أما الصين، فتُلقي خطابًا عن التعددية القطبية، لكنها تفتقر إلى أي وزن سياسي.

في هذا الفراغ، يحل الارتجال محل الاستراتيجية.

تُقدّم تركيا نفسها كوسيط، بينما تُعزّز في الوقت نفسه وجودها العسكري وتأكيدها القومي في العراق وسوريا وغيرهما. في غضون ذلك، تلجأ مصر، التي تُصارع أزماتها الاقتصادية الداخلية، إلى عبارات مبتذلة حذرة. تُعيد المملكة العربية السعودية تقييم استراتيجيتها للتطبيع، مُقيّمةً التوازن بين الانخراط والتصعيد.

ولكن في غياب رد عربي موحد، فإن القرارات تُتخذ في أماكن أخرى.

الجبهة السورية الهشة

ولا يوجد مكان تكون فيه الهشاشة الإقليمية أكثر حدة من سوريا.

لقد أفرغ عقد من الحرب فعالية الدولة. ومع تجدد الصراع حولها، تُخاطر سوريا بأن تصبح أكثر من مجرد ضرر جانبي. بل قد تصبح ممرًا لانتشار عدم الاستقرار.

القوات الأمريكية قد تواجه هجمات متجددة في الشمال الشرقي. وتكثفت الضربات الإسرائيلية حول دمشق. وتترسخ الميليشيات في المناطق غير الخاضعة للحكم. وبدون دولة سورية فاعلة، لن يكون هناك منطقة عازلة، بل فراغ يملؤه السلاح والمقاتلون والفوضى.

الأوضاع السورية ليست مجرد قصة تحذيرية، بل هي نذير شؤم. فعندما تنهار الدولة ولا تتدخل أي بنية إقليمية حقيقية لإعادة بنائها، لا يبقى الفراغ ساكنًا، بل ينتشر.

وهم الاحتواء

لقد تحطمت كل الافتراضات التي حددت في وقت ما الصراع بين إيران وإسرائيل:

•       أن إسرائيل قادرة على إضعاف القدرات الإيرانية دون عقاب.

•       أن إيران ستستوعب الضربات لتجنب التصعيد.

•       أن الوكلاء قد يتمكنون من عزل رعاتهم عن المواجهة المباشرة.

•       أن الولايات المتحدة يمكن أن تظل ضامنًا بعيدًا، وليس مشاركًا مباشرًا.

لم تكن هذه استراتيجيات، بل كانت خرافات مُريحة.

الآن، المواقع النووية الإيرانية وسط الدمار. المدن الإسرائيلية تحت القصف. لقد تجاوز الصراع الحدود جغرافيًا ونفسيًا.

لقد فشل الاحتواء، وما تبقى هو التصعيد دون إطار.

من سيرسم الخطوط؟

لم يعد السؤال هو ما إذا كانت هذه الحرب سوف تنتشر، بل من سيشكل حدودها.

في الوقت الحاضر، إسرائيل وإيران هما من يحددان الشروط، وقد انضمت إليهما الولايات المتحدة.

إذا كانت الدول العربية تنوي وقف هذا السقوط الحر للسيادة، والأهمية المؤسسية، والوكالة الإقليمية، فيتعين عليها أن تتطور من مجرد متفرجين سلبيين إلى جهات فاعلة رئيسية.

هذا يتطلب أكثر من مجرد بيانات دبلوماسية، فهو يتطلب:

• عقد منتديات إقليمية مستقلة عن الوساطة الغربية.

• تحديد الخطوط الحمراء الإقليمية، ليس فقط ضد التدخل الأجنبي، بل أيضاً ضد تحويل الأراضي العربية إلى ساحات معارك بالوكالة.

• استعادة الوكالة الاستراتيجية، ليس كوسطاء، بل كمؤلفين للنظام الإقليمي.

نار بلا حدود

لقد زالت جدران الحماية، وانكشفت الأوهام. المنطقة لا تحترق من أطرافها، بل من داخلها.

إن الحقيقة الوحيدة الواضحة الآن هي أنه إذا ظلت الدول العربية صامتة، فإن دولاً أخرى سوف تشكل مستقبل المنطقة، نيابة عنها، وبدونها.

في الشرق الأوسط الذي لا توجد فيه خطوط حمراء، لم يعد من الممكن احتواء النار حيث بدأت.

* نبذة عن الكاتب: 

إردام أوزان دبلوماسي تركي متمرس يتمتع بخبرة 27 عامًا في الخدمة الدبلوماسية. وقد شغل العديد من المناصب البارزة، بما في ذلك منصبه الأخير كسفير لدى الأردن، بالإضافة إلى مناصب في الإمارات العربية المتحدة والنمسا وفرنسا ونيجيريا.

ولد في إزمير عام 1975، وتخرج بمرتبة الشرف من كلية العلوم السياسية بجامعة أنقرة. واكتسب معرفة واسعة بالمشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الشرق الأوسط، حيث قام بتحليل تعقيدات الصراعين السوري والفلسطيني، بما في ذلك جوانبهما الإنسانية وتداعياتهما الجيوسياسية.

كما شارك في العمليات الدبلوماسية المتعددة الأطراف، وتخصص في مجال حقوق الإنسان والتطورات السياسية الإقليمية. وتشمل مساهماته توصيات لتعزيز السلام والاستقرار من خلال الحوار والتفاوض بالتعاون مع المنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية. ويواصل حاليا دراساته عن الشرق الأوسط بينما يعمل مستشارا.

إردام أوزاندبلوماسي تركي وسفير أنقرة السابق لدى الأردنأمريكاإسرائيلإيرانالإماراتالسعوديةالعراقالكويتسورياقطرلبنانمصرنشر الاثنين، 23 يونيو / حزيران 2025تابعونا عبرسياسة الخصوصيةشروط الخدمةملفات تعريف الارتباطخيارات الإعلاناتCNN الاقتصاديةمن نحنالأرشيف© 2025 Cable News Network. A Warner Bros. Discovery Company. All Rights Reserved.

المصدر: CNN Arabic

كلمات دلالية: الولایات المتحدة الدول العربیة الشرق الأوسط

إقرأ أيضاً:

سؤال برلماني حول جذب الاستثمارات الهاربة من مناطق الصراع

تقدمت المهندسة مي أسامة رشدي، عضو مجلس النواب، بسؤال برلماني ، إلى المستشار حنفي جبالي رئيس المجلس، موجه إلى وزير الاستثمار والتجارة الخارجية، حول خطة وزارته لاجتذاب الاستثمارات الأجنبية الفارة "الهاربة" من مناطق الصراع بالشرق الأوسط على خلفية الحرب بين إسرائيل وإيران.

وجاء في سؤالها:"الواقع يشير إلى أن طول أمد الإضطرابات والتوترات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط على خلفية الحرب القائمة بين إسرائيل وإيران ستؤثر بالسلب على الاستثمارات الأجنبية التي استوطنت في بلدان المنطقة لسنوات، ولكنها تفكر جديًا في الخروج والهروب والبحث عن الملاذات الآمنة في دول أخرى بالمنطقة".

وقالت "رشدي"، منذ أحداث 7 أكتوبر 2023 يتواصل هروب الاستثمارات الأجنبية من إسرائيل جراء تداعيات الحرب، إذ شهد هذا النوع من الاستثمارات انخفاضًا كبيرًا، إذ يظن كثير من المستثمرين أن الاستثمار في إسرائيل يواجه حاليًا كثيرًا من المخاطر، فيما سجل قطاع رأس المال الاستثماري في إسرائيل تباطؤا حادًا في إبرام الصفقات.

وتابعت، وتسببت الحرب المتواصلة في انخفاض حاد بنسبة 55.8% في الاستثمار الأجنبي المباشر في إسرائيل خلال الربع الأول من العام 2024 .

وأكدت "رشدي"، على أن تتزايد أهمية منطقة الشرق الأوسط كواحدة من أكثر المناطق المفضلة لدى المستثمرين الأجانب الذين يتطلعون إلى توظيف رأس المال، وفقاً لاستطلاع يصنف البلدان الأكثر احتمالاً لاستقطاب الأموال على مدى السنوات المقبلة.

مصر بين القوى الصاعدة في سباق الصناعة النظيفة.. واستثمارات عالمية بـ1.6 تريليون دولار تبحث عن التمويلطلعت مصطفى نموذج للكيانات الاقتصادية الوطنية.. المجموعة تدعم جهود الدولة في جذب الاستثمارات وتطوير منظومة الضرائبمطورون عقاريون: المشروعات الجديدة تعزز الاقتصاد وتجذب استثمارات أجنبيةالمشاط: 7.3 مليار جنيه استثمارات عامة موجهة لمحافظة دمياط

وكشفت "رشدي"، أن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر لدول العالم العربي والشرق الأوسط في 2024، ارتفعت بنسبة 44.2%، لتبلغ 66.85 مليار دولار مقابل 46.37 مليار دولار عام 2020، بينما يقدر حجم الاستثمارات الهاربة والتي تبحث عن ملاذ آمن 31 مليار دولار.

وشددت على أن مصر هي الدولة الأنسب لجذب هذه الاستثمارات الهاربة، حيث يمكنها أن تنجح في جذب استثمارات أجنبية مباشرة تتجاوز 20 مليار دولار سنويًا غير أن ذالك ذلك يتطلب تنفيذ عدد من العوامل المحفزة والجاذبة للاستثمارات الأجنبية، منها حصر المناطق الاقتصادية والصناعية المهمة في مصر وحصر إمكانياتها ومميزاتها وما توفره من فرص استثمارية كالمنطقة الاقتصادية لقناة السويس وغيرها.

وأكملت، فضلًا عن حصر الفرص الاستثمارية المتاحة في كافة القطاعات المختلفة بالاقتصاد المصري، ثم الترويج لها عالميا بكل الوسائل المتاحة، سواء عن طريق مكاتب التمثيل التجاري أو المعارض الدولية أو طرحها وترويجها إلكترونيا على مواقع الاستثمار.

وأشارت إلى أن هناك عوامل أخرى محفزة وجاذبة للاستثمار الأجنبي هو حجم ما تتمتع به من استقرار سياسي وأمني كبير في ظل التوترات الجيوسياسية والصراعات التي تشهدها المنطقة، حيث أن رؤوس الأموال لاسيما الشركات متعددة الجنسيات تبحث بطبيعتها عن الهدوء والاستقرار، والبُعد كل البعد عن مناطق الصراعات.

طباعة شارك سؤال برلماني وزير الاستثمار والتجارة الخارجية الاستثمارات الأجنبية الفارة الهاربة إسرائيل إيران

مقالات مشابهة

  • الطيران في الشرق الأوسط يدخل حالة تأهب! الطائرات تهبط اضطرارياً في إسطنبول وأنقرة
  • أستاذ علوم سياسية: أمريكا لا تريد الدخول في حرب فى منطقة الشرق الأوسط
  • صافرات الإنذار تدوي في 3 دول عربية خلال الرد الإيراني على أمريكا
  • بوتين: الصراع في الشرق الأوسط يصل لنقطة خطيرة للغاية
  • سؤال برلماني حول جذب الاستثمارات الهاربة من مناطق الصراع
  • الأمم المتحدة تحذر من إمكانية اتساع نطاق الصراع في الشرق الأوسط
  • حزب المصريين: الرئيس السيسي يبذل جهودًا كبيرة لوقف الصراع الإسرائيلي الإيراني
  • تصاعد توترات الشرق الأوسط يثير قلق المستثمرين مع تقييم لأسوأ السيناريوهات المحتملة
  • تصاعد التوترات في الشرق الأوسط يرفع أسعار النفط ويقلق المستثمرين اقتصاديا