طه حسيب (أبوظبي)
طفرة كبرى في آليات الإنتاج والتوزيع والتسويق والتجارة والخدمات تطرحها تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتفتح الباب على مصراعيه أمام خريطة جديدة للقوى الاقتصادية العالمية، وفي الوقت نفسه تعيد تشكيل مراكز القوى على خريطة العالم الجيوسياسية، يلعب فيها الاقتصاد القائم على المعرفة دور البطولة، وينقل السباق بين القوى الكبرى من أسواق التجارة إلى تطبيقات الذكاء الاصطناعي.

 
الذكاء الاصطناعي أحد أهم التقنيات الناشئة، وباتت له تطبيقات في صناعات عديدة، تنمو بوتيرة أعادت تشكيل الاقتصاد العالمي وتعيد تعريق محددات الأمن القومي، وفي كل عام، وتزداد طفرة الذكاء الاصطناعي أهمية مع تنامي اعتماد المزيد والمزيد من الشركات والحكومات في جميع أنحاء العالم على حلول الذكاء الاصطناعي.
وتتوقع شركة Grand View Research المتخصصة في أبحاث السوق والاستشارات ومقرها الهند والولايات المتحدة، أن ينمو سوق الذكاء الاصطناعي من 387.45 مليار دولار في عام 2022 إلى تريليون و394 مليار دولار بحلول عام 2029، وتشير التقديرات إلى سوق الذكاء الاصطناعي يشهد نمواً سنوياً خلال الفترة من 2023 إلى 2030 يزيد على 37%. 
كما يمكن أن يساهم الذكاء الاصطناعي بما يصل إلى 15.7 تريليون دولار أميركي في الاقتصاد العالمي في عام 2030، أي أكثر من الإنتاج الحالي للصين والهند مجتمعتين، ذلك من خلال زيادة الإنتاجية، وأيضاً من خلال تأثيرها على المستهلك. 

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يؤثر الذكاء الاصطناعي على خريطة القوى الاقتصادية العالمية، خاصة في صعود شركات التقنية التي تلعب دور البطولة في طرح تطبيقات مبتكرة تغير قواعد الإنتاج والتجارة والتصنيع؟ 
وفي تصريح خاص للاتحاد أكد الدكتور جواو ليما، مستشار الذكاء الاصطناعي بمجلس الأعيان البرازيلي، عضو لجنة الذكاء الاصطناعي في المجلس، أن تأثير الذكاء الاصطناعي على الكتل الاقتصادية العالمية بات أكثر تعقيداً من مجرد تحول بسيط لصالح شركات التكنولوجيا الكبرى. وأوضح ليما أنه على الرغم من أن هذه الشركات تتمتع حالياً بمزايا كبيرة في تطوير الذكاء الاصطناعي، إلا أن هناك العديد من القوى الموازنة التي تساهم في تشكيل المشهد العالمي على الصعيد الاقتصادي.
معايير تنظيمية
وأشار ليما إلى أن شركات التكنولوجيا الكبرى تمتلك مزايا كبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي من خلال موارد البيانات الضخمة وقدرات البحث ومجموعات المواهب، وتضع شركات مثل «جوجل» و«مايكروسوفت» و«اوبن إيه آي» معايير تكنولوجية يجب على الآخرين اتباعها. ومع ذلك، هناك ثلاثة عوامل رئيسية تتحدى هيمنتها: أولاً، تعمل الأطر التنظيمية مثل قانون الذكاء الاصطناعي في الاتحاد الأوروبي على الحد بشكل نشط من قوة وتأثير شركات التكنولوجيا الكبرى. ثانياً، تعمل ديمقراطية الذكاء الاصطناعي من خلال مبادرات مفتوحة المصدر وواجهات برمجة التطبيقات على جعل القدرات المتقدمة أكثر سهولة في الوصول إليها من قبل اللاعبين الأصغر. ثالثاً، تنشأ أنظمة بيئية إقليمية للذكاء الاصطناعي، وخاصة في الصين وغيرها من الأسواق الآسيوية، مما يخلق مراكز بديلة للابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي والقوة الاقتصادية.
وأضاف ليما: بالنظر إلى المستقبل، من المرجح أن يتشكل المشهد الاقتصادي العالمي نتيجة ما قد تسفر عنه التفاعلات بين القيادة التكنولوجية لشركات التكنولوجيا الكبرى وهذه القوى المعاكسة الرامية إلى ضبط وحوكمة هذا القطاع الصاعد. وأكد ليما في تصريحه لـ«الاتحاد» أن النجاح في عصر الذكاء الاصطناعي لن يعتمد على التفوق التكنولوجي فحسب، بل على القدرة على التنقل عبر المتطلبات التنظيمية، وتعزيز أنظمة الابتكار، ومعالجة المخاوف المجتمعية بشأن تأثير الذكاء الاصطناعي. ستكون البلدان والمناطق القادرة على موازنة هذه العوامل بشكل فعال - وليس فقط شركات التكنولوجيا الكبرى - هي التي ستكتسب ميزة اقتصادية في المستقبل الذي يقوده الذكاء الاصطناعي.

أخبار ذات صلة الاقتصاد العالمي مُعرض لخطر تراجع النمو نائب رئيس جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي لـ «الاتحاد»: «تعلم الآلة».. أكثر التخصصات المطلوبة

رؤية الإمارات 
أكد الدكتور محمد إبراهيم الظاهري، نائب مدير عام أكاديمية أنور قرقاش الدبلوماسية، أن دولة الإمارات تتبنى نهجاً استباقياً في توجيه تقنيات الذكاء الاصطناعي بما يخدم السلام والتنمية المستدامة على المستويين الإقليمي والعالمي. وأضاف أن دولة الإمارات تدرك الدور المتزايد لتقنيات الذكاء الاصطناعي في تشكيل مستقبل الأنظمة الاقتصادية، السياسية، والعسكرية، وتسعى إلى توظيف هذه التقنيات لدعم الاستقرار وتحقيق الأهداف التنموية. 
وأوضح الظاهري أن الشركات التقنية الكبرى، بقدرتها على الابتكار السريع تمتلك نفوذاً تكنولوجياً متنامياً يؤثر على السياسات العالمية، خصوصاً في مجالات حيوية مثل التجارة الرقمية، التكنولوجيا المالية، وتحليل البيانات الضخمة. وأشار إلى ضرورة توجيه هذا الابتكار لدعم الاقتصادات الناشئة والمساهمة في تحقيق النمو الشامل.
وفي سياق الحديث عن التطبيقات العسكرية لتقنيات الذكاء الاصطناعي، حذر الظاهري من أن الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي في هذا المجال دون إشراك التقييم البشري يشكل خطراً استراتيجياً ويؤدي إلى تغيرات جذرية في موازين القوى. وأكد أن الحل يكمن في إيجاد توازن مدروس بين الذكاء الاصطناعي والعنصر البشري، خاصة في القرارات الحساسة التي قد تؤثر بشكل لا رجعة فيه على مصير الدول.
واختتم الدكتور الظاهري في تصريحه لـ«الاتحاد» بالتأكيد على ضرورة تعزيز التعاون بين الحكومات وشركات التقنية الكبرى في حوكمة استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي بمستويات تسمح بالمرونة في دفع عجلة الإبداع والابتكار. وأوضح أن دولة الإمارات تؤمن بأن هذا التعاون ضروري لضمان الاستخدام المسؤول لتلك التقنيات، بما يعزز النمو الاقتصادي العالمي ويحقق فوائد مستدامة للبشرية جمعاء. 

وفي تصريح خاص لـ«الاتحاد» أكد بشار الكيلاني، خبير في الاقتصاد الرقمي، مؤسس AI360 للابتكار في كامبيس دبي للذكاء الاصطناعي- مركز دبي المالي العالمي، أن الذكاء الاصطناعي محفز أو أداة جديدة تعزز القوة الاقتصادية للدول التي تمتلك قدرات في الزراعة أو الصناعة وغيرها من قطاعات الإنتاج، خاصة عندما تكون هذه الدول متميزة في الاقتصاد الرقمي، وقطعت شوطاً كبيراً في التحول الرقمي، وستكون لدى هذه الدول قدرة فائقة على تنويع اقتصاداتها القائمة على المعرفة ما يمكنها من خلق فرص عمل أفضل وتحسين جودة الحياة.
وأشار الكيلاني إلى أن كل الدول تتنافس الآن على الريادة في الذكاء الاصطناعي، وانتقل السباق التجاري بين الولايات المتحدة الأميركية والصين من التجارة إلى الذكاء الاصطناعي. وأضاف الكيلاني أن وجود شركات تكنولوجيا كبرى لديها قدرات اقتصادية تفوق بعض الدول يعطي ديناميكية أكثر للاقتصاد العالمي، لكن المسألة تحتاج إلى ضوابط خاصة في مجال الذكاء الاصطناعي، كي لا تتركز هذه القوة الهائلة لدى عدد قليل من الشركات، وضمن هذا الإطار، وضع الاتحاد الأوروبي ضوابط لهذه الشركات بحيث تلتزم بما يعرف بـ«الاستخدام المسؤول»، بحيث تحترم الخصوصية الفردية والعدل وعدم استخدام البيانات في تحقيق مكاسب تجارية، ضمان فرص متساوية، كما أن الاتحاد الأوروبي- يضيف الكيلاني- لديه قانون للذكاء الاصطناعي يضع ضوابط لاستخدامه. ولدى الإمارات أيضاً ضوابط مهمة في هذا لمجال منها: قانون البيانات والحوسبة السحابية والأمن السيبراني. 
ونوّه الكيلاني إلى أن الذكاء الاصطناعي سيخلف فجوة جديدة بين الدول التي تستطيع توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي وبين الدول النامية التي لا تستطيع استخدام الطفرة التقنية، مشيراً إلى عوامل أساسية تجعل الدول قادرة على الاستفادة من هذه التقنيات، أهمها: البنية التحتية الرقمية المتطورة، خاصة الحوسبة السحابية، والتشريعات اللازمة لضبط استخدام البيانات في التجارة الإلكترونية، وتطوير مهارات بشرية بارعة في الاقتصاد الرقمي، وتوفير بيئة جاذبة للشركات الناشئة. 
وأضاف الكيلاني أن الإمارات لديها هذه العوامل، وتتوقع شركة PWC أن الذكاء الاصطناعي سيسهم بما قيمته 100 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي للإمارات في عام 2030، أو ما يعادل 13% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة.
ما هي ديمقراطية الذكاء الاصطناعي؟ 
عززت طفرة الذكاء الاصطناعي قدرة الدول والشركات على امتلاك قدرات فائقة في الإنتاج والتصنيع وتقديم الخدمات، ومن خلال وضع أطر تنظيمية تحكم تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وعبر حوكمة شاملة لهذا القطاع الواعد، سيكون بمقدور الدول النامية الاستفادة من الطفرة التقنية وجسر الفجوة بينها وبين الدول المتقدمة، فيما يطلق عليه الخبراء «ديمقراطية الذكاء الاصطناعي» التي تتيح للجميع الاستفادة القصوى من الذكاء الاصطناعي، وتجعله قوة للخير، وتضمن تلاشي الاحتكارات. 

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: الذكاء الاصطناعي التجارة التسويق الاقتصاد العالمي الهند حوكمة الذكاء الاصطناعي الصين شرکات التکنولوجیا الکبرى تقنیات الذکاء الاصطناعی الذکاء الاصطناعی فی للذکاء الاصطناعی فی الاقتصاد خاصة فی من خلال

إقرأ أيضاً:

أخلاقيات الإبداع: مستقبل العلاقة الجدلية بين الذكاء الاصطناعي والملكية الفكرية

 

في الأسبوع الأخير من شهر يونيو 2025، أصدر قاضٍ فدرالي أمريكي حكماً يقضي بأن استخدام شركة الذكاء الاصطناعي “أنثروبيك” للكتب دون إذن مؤلفيها لتدريب النموذج اللغوي الكبير “كلود” لا ينتهك قانون حقوق الطبع والنشر الأمريكي، وينطبق عليه مبدأ “الاستخدام العادل”. وهذا المسوغ نفسه الذي استند إليه قاضٍ آخر أصدر حكماً في الأسبوع ذاته لصالح شركة “ميتا” في دعوى قضائية رفعها 13 كاتباً اتهموا فيها الشركة باستخدام كتبهم المحمية بحقوق النشر لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الخاصة بها دون إذن؛ حيث رأى القاضي أنهم لم يقدموا أدلة كافية على أن الذكاء الاصطناعي سيُسبب “تأثيراً سلبياً في السوق” بإغراقها بأعمال مشابهة لأعمالهم، واعتبر أن استخدام “ميتا” لأعمالهم كان عادلاً.

وتُمثل تلك الأحكام غير المسبوقة تحولاً بارزاً في الصراع الدائر بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين والمؤلفين حول مشروعية استخدام مصادر البيانات الثقافية ذات الطابع الإبداعي كمدخلات تدريبية للنماذج الذكية دون إذن أو تعويض، وتطبيق وصف “الاستخدام التحويلي” على مخرجات النماذج اللغوية الضخمة باعتبارها تخلق شيئاً جديداً يتجاوز حدود النسخ والنقل الحرفي، بما ينفي تُهم السرقة والانتهاك عنها؛ وهو ما يحمل دلالات مهمة بشأن مستقبل تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي واستثماراتها وعلاقاتها التعاقدية وأُطرها القانونية والتنظيمية، كما يطرح تساؤلات جادة حول مستقبل العلاقة بين الملكية الفكرية والتكنولوجيا الإبداعية.

الاستخدام العادل:

يُمثل “الاستخدام العادل” (Fair Use) بنداً استثنائياً في قانون حقوق النشر الأمريكي، يسمح باستخدام الأعمال المحمية دون إذن المالك، بشرط أن يكون الاستخدام عادلاً ومقتصداً، وبالرغم من أنه لا يحدد بدقة ما المقصود بالـ”العادل”؛ فإنه يضع أربعة معايير لتقييم كل حالة على حدة، وهي: طبيعة الاستخدام من حيث كونه تجارياً أو غير ذلك وبحيث يميل الاستخدام للأغراض غير الربحية لأن يكون استخداماً عادلاً، وطبيعة العمل الأصلي بحيث تكون الأعمال التي تحقق منافع عامة مثل الكتب العلمية أقرب لتطبيق ذلك المبدأ، بالإضافة إلى المقدار المستخدم من حيث كونه واسعاً أو محدوداً، وأخيراً الأثر على السوق إذا كان هناك ضرر اقتصادي يلحق بقيمة أو بيع العمل الأصلي.

والحقيقة أن هذا المبدأ لا يُعد جديداً، وإنما ترجع جذوره التاريخية إلى حكم قضائي أمريكي عام 1841 في نزاع حول استخدام مراسلات لجورج واشنطن في كتاب عن سيرته الذاتية نقلاً عن كتاب آخر؛ حيث تضمن الحكم التاريخي أن “الاختصار العادل والحسن النية للعمل الأصلي، لا يُعد قرصنة لحقوق الطبع والنشر للمؤلف”، ثم أدرجه الكونغرس ضمن المادة 107 من قانون حقوق الطبع والنشر عام 1976، محدداً العوامل الأربعة السابق الإشارة إليها.

وبالرغم من قدم مبدأ “الاستخدام العادل”، وتعدد حالات استخدامه؛ فإنه يحمل دلالات خاصة في سياق الذكاء الاصطناعي، بالنظر إلى الملاحظات التالية:

1- الجدل حول “الاستخدام التحويلي”: يُمثل إعمال “الاستخدام التحويلي” على مخرجات النماذج اللغوية الكبيرة، تطوراً جوهرياً في تأويل هذا المفهوم القانوني الذي يشير إلى استخدام العمل الأصلي لغرض جديد يغير من طابعه أو رسالته. فعلى الرغم من أن التطبيقات الإبداعية التقليدية تعتمد في الأغلب على تحويل نصوص محددة يمكن تمييز بصمتها في العمل الجديد؛ فإن مخرجات النماذج اللغوية تعتمد على معالجة كمية ضخمة من النصوص؛ مما يجعل العلاقة بينها وبين النصوص الأصلية أقل وضوحاً؛ ما تسبب في حالة الجدل القائمة حول ما إذا كان استخدام هذه النصوص في التدريب، بالرغم من أنه لا يُنتج عادةً اقتباسات مباشرة، يُعد استخداماً تحويلياً من الناحية القانونية، خاصةً عندما يكون الغرض هو تطوير قدرات تفاعلية مستقلة للنموذج وليس تكرار المحتوى الأصلي.

2- مدى القدرة على إثبات الضرر: إن وصف الاستخدام بأنه “تحويلي” لا ينفي بشكل قطعي إمكانية وقوع انتهاك لحقوق الملكية الفكرية؛ وهو ما أشار إليه قاضي المحكمة الجزئية الأمريكية، فينس تشابريا، في قضية “ميتا”؛ حيث أشار إلى أن الحكم الذي أصدره “لا يدعم الادعاء بأن استخدام ميتا للمواد المحمية بحقوق الطبع والنشر لتدريب نماذجها اللغوية قانوني، وإنما يدعم فقط الادعاء بأن المؤلفين المُدعين قدموا حججاً خاطئة ولم يقدموا سجلاً يدعم الحجج الصحيحة”؛ ما يعني أن الأمر مرهون بإثبات أصحاب الحقوق أن ثمة ضرراً في السوق الأصلي أو أن جزءاً كبيراً من المحتوى قد أُعيد إنتاجه.

3- تعقُّد عمليات التدريب الآلي: تتضمن هذه العمليات تجاوزات قانونية تتصل بتخزين نصوص أصلية مقرصنة ضمن المكتبات المركزية المستخدمة في هذه العمليات. فعلى الرغم من أن القاضي في قضية “أنثروبيك” أكد أن الشركة لم تنتهك حقوق الطبع والنشر عندما قامت بتدريب الذكاء الاصطناعي على الكتب دون إذن مؤلفيها؛ فإنه مع ذلك اعتبر أن نسخ “أنثروبيك” وتخزينها لأكثر من سبعة ملايين كتاب مقرصن في مكتبة مركزية يُعد انتهاكاً لحقوق الطبع والنشر، وأن شراء الشركة للكتب بعد قرصنتها في وقت سابق لا يعفيها من المسؤولية القانونية عن “السرقة”. وهذا يسلط الضوء على الحاجة إلى إطار تعاقدي وتنظيمي واضح يضبط حدود استخدام المحتوى الإبداعي من قِبل أنظمة الذكاء الاصطناعي، ويعيد توازن العلاقة بين المبدعين ومطوري التكنولوجيا.

4- تحديات قانونية عابرة للحدود: إن مبدأ “الاستخدام العادل” الذي يُمثل حجر الزاوية في الأحكام التي أصدرها القضاة الأمريكيون، غير معتمد في العديد من الأنظمة القانونية حول العالم؛ ما يثير تحديات قانونية عابرة للحدود لا سيّما مع توسع شركات التكنولوجيا في استخدام المحتوى المنشور في دول مختلفة. فعلى سبيل المثال، تعتمد المملكة المتحدة، والهند، وجنوب إفريقيا، وأستراليا، مبدأ “التعامل العادل” (Fair Dealing)، والذي يُعد أكثر تقييداً وصرامة من النموذج الأمريكي؛ إذ ينص على حالات محددة يسمح فيها باستخدام العمل الأصلي دون إذن، مثل الأغراض التعليمية أو النقد أو البحث، مع اشتراط عدم إلحاق ضرر بمالك حقوق النشر. ويطرح هذا التباين إشكاليات بشأن صياغة إطار قانوني عابر للحدود يمكن من خلاله ضبط استغلال الأعمال الأصلية، لا سيّما مع النظر إلى أن التعلم الآلي يستمد قوته من التدريب على نطاق كبير من البيانات الضخمة والمتنوعة التي لا يمكن أن تتوفر ذاتياً دون التمدد خارجياً.

5- صعوبة تحديد المقدار المستخدم: يعتمد أحد المعايير المحددة لـ”الاستخدام العادل” على الكمية المستخدمة من النص الأصلي والتي يصعب تحديدها إلى حد بعيد في سياق الذكاء الاصطناعي، والذي يتطلب تدريباً على كميات هائلة من البيانات؛ مما يجعل من الصعب تقييم ما إذا كان الاستخدام جزئياً أم كلياً.

حلول مُقترحة:

على الرغم من إصدار القاضي الأمريكي، فينس تشابريا، قراراً لصالح شركة “ميتا”؛ فإنه أشار إبان إصدار حكمه إلى مخاوفه بشأن تقويض البشر المبدعين؛ حيث قال إن الذكاء الاصطناعي التوليدي لديه القدرة على إغراق السوق بصور وأغانٍ ومقالات وكتب لا نهاية لها باستخدام جزء صغير جداً من الوقت والإبداع الذي قد يكون مطلوباً لإنشائها، وهو ما يشير إلى مخاوف واسعة بشأن التوازن العادل والمسؤول فيما يتعلق بتطوير الذكاء الاصطناعي التوليدي.

فما بين عامي 2023 و2025، بلغ عدد الدعاوى القضائية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي وحقوق النشر في الولايات المتحدة وحدها 22 قضية، ضمت كبرى شركات ناشري الكتب والأخبار ومنتجي الموسيقى ووكالات الصور وشركات الأبحاث والدراسات، في مقابل شركات التكنولوجيا العملاقة مثل “مايكروسوفت” و”ميتا” و”أوبن أيه آي” و”إنفيديا” و”جوجل” وغيرها؛ حيث يتمحور أغلب هذه الدعاوى في اتهام منتجات الذكاء الاصطناعي باستغلال المنتجات الإبداعية الأصلية دون إذن وتكبيد الشركات مالكة الحقوق خسائر فادحة بما يهدد قدرتها على الاستمرار.

وتُعبر تلك الدعاوى عن المخاوف المتزايدة لدى العاملين والمستثمرين في المنتجات الثقافية والإبداعية من المنافسة غير المتوازنة التي يفرضها الذكاء الاصطناعي التوليدي؛ وهو ما لا تعكسه الدعاوى القضائية فحسب، وإنما تعبر عنه أيضاً استطلاعات الرأي بين العاملين في الصناعات؛ إذ أظهر استطلاع للرأي نشرت نتائجه نقابة المؤلفين الأمريكيين عام 2023 وشمل أكثر من 1700 كاتب من خلفيات متنوعة، أن 90% من الكتَّاب يعتقدون أن المؤلفين يجب أن يحصلوا على تعويض إذا تم استخدام أعمالهم لتدريب تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدية، وأن 65% يدعمون نظام ترخيص جماعي من شأنه أن يدفع للمؤلفين رسوماً مقابل استخدام أعمالهم في تدريب الذكاء الاصطناعي.

ويُعد مقترح التراخيص الجماعية إحدى الأطروحات الأساسية التي يتم طرحها كجزء من تنظيم قانوني متوازن يحل تلك المعضلة المتفاقمة بشأن حقوق النشر والذكاء الاصطناعي. ففي نهاية العام 2024، قدم وزير الدولة البريطاني للعلوم والابتكار والتكنولوجيا آنذاك، ورقة استشارية للبرلمان في هذا الشأن، تطرح آلية تمويل التراخيص الجماعية من خلال مساهمات مطوري أنظمة الذكاء الاصطناعي الذين يستخدمون المحتوى المحمي في تدريب نماذجهم؛ حيث يتم تحديد رسوم الترخيص بناءً على حجم ونوع الاستخدام، مع إمكانية اعتماد نموذج تمويل يقوم على تحصيل رسوم من المستخدمين ثم توزيعها على أصحاب الحقوق بشكل متناسب مع معدل استخدام أعمالهم، هذا إلى جانب إنشاء صندوق مركزي تديره جهة تنظيمية مستقلة كجزء من هيئة الملكية الفكرية البريطانية لضمان شفافية عملية التمويل والتوزيع، مع إمكانية دعم هذا النظام من خلال رسوم إضافية على خدمات الذكاء الاصطناعي التجارية أو عبر تخصيص جزء من عائدات الشركات المطورة لهذه النماذج.

أُطر أخلاقية مستدامة:

تُعد حقوق النشر جزءاً من قضية أوسع تتعلق ببناء نظم تدريب آلي مستدامة ومبنية على المسؤولية الأخلاقية؛ إذ تكمن المشكلة الرئيسية في عدم كشف الشركات المطورة للنماذج الذكية عن مصادر البيانات المستخدمة في تدريب نماذجها بشكل دقيق؛ مما يشكل أزمة شفافية حقيقية، تستبدل فيها الشركات الإفصاح الواضح عن طبيعة البيانات المستخدمة، باستخدام عبارات غامضة مثل “بيانات الإنترنت” أو “المصادر المفتوحة”، وهي صياغات لا تُعد كافية لضمان الشفافية أو الالتزام بالمسؤولية الأخلاقية، خاصةً مع وجود أدلة على استخدام قواعد بيانات مقرصنة مثلما الحال في قضية “أنثروبيك”؛ وهو ما يضع تلك الشركات في مواضع الشك والاتهام من حيث التزامها بمبادئ النزاهة والشفافية، وبما يؤثر سلباً في القيمة السوقية للمنتجات الأصلية والنماذج الذكية على السواء، فضلاً عن تحديات استمرارية الصناعات الثقافية والإبداعية.

وفي ضوء مفاهيم الذكاء الاصطناعي الأخلاقي والمسؤول، تبرز الحاجة إلى التزام شركات الذكاء الاصطناعي بحوكمة سياساتها المتعلقة بتدريب النماذج الآلية، وخاصةً في الجانب المتعلق ببيانات التدريب؛ من أجل تأسيس بنية تحتية أكثر عدالة وشفافية في هذا المجال تضمن علاقة متوازنة بين تطوير النماذج الآلية وحقوق النشر؛ وهو ما يبدأ مع تنظيم العلاقة التعاقدية بين شركات الذكاء الاصطناعي وأصحاب الحقوق وذلك ضمن بنية قانونية واضحة لضبط استخدام البيانات، تتضمن شروط الاستخدام وحدود الترخيص ونماذج التوزيع العادل للعوائد، لا سيّما مع الاستخدام الربحي والتجاري لتلك المشروعات.

وإلى جانب التنظيمات القانونية المتعلقة بمراعاة حقوق المبدعين، يبدو إنشاء شراكات مباشرة بين الشركات التكنولوجية ودور النشر والمبدعين، خطوة مهمة نحو تسوية قانونية عادلة لاستخدام المحتوى الإبداعي في تدريب النماذج. وهذه الشراكات لا تُعزز فقط شرعية مصادر البيانات، بل تفتح أيضاً آفاقاً لتعويضات عادلة لأصحاب الحقوق، سواء أكانت مالية مباشرة أم شراكات في التطوير التكنولوجي. وفي هذا السياق، برزت الشراكة التي أعلنت عنها شركة “أوبن إيه آي” مع صحيفة “الغارديان” البريطانية في فبراير 2025.

من ناحية أخرى، يُعد الإفصاح عن مصادر بيانات التدريب أحد الأعمدة الأساسية لحوكمة الذكاء الاصطناعي، وقد اتخذ الاتحاد الأوروبي موقفاً واضحاً في هذا الصدد عبر قانون الذكاء الاصطناعي الذي أقره البرلمان الأوروبي في 13 مارس 2024 ويُطبق تدريجياً حتى عام 2026؛ وهو يفرض على مطوري النماذج التوليدية التزاماً بالكشف عن المحتوى المحمي الذي تم استخدامه في تدريب النماذج، ويضع آليات رقابة وعقوبات واضحة على الشركات التي تنتهك متطلبات الشفافية.

ولا يستقيم ذلك سوى مع مراقبة الالتزام بالمعايير القانونية والأخلاقية في تجميع البيانات؛ وهو ما يتم الاسترشاد فيه بمبادئ الذكاء الاصطناعي المسؤول كما وردت في توصيات منظمة اليونسكو، إلى جانب اللوائح الأوروبية، والتي تُعد من أبرز الأُطر التي تدعو إلى تعزيز الشفافية والعدالة في تجميع البيانات. مع الأخذ في الاعتبار دور المجتمعات الأكاديمية والمؤسسات البحثية في بناء بيئة معرفية مرخصة وشفافة تُمكّن من تطوير الذكاء الاصطناعي ضمن إطار قانوني وأخلاقي، ويمكن هنا الإشارة إلى إطلاق جامعة هارفارد في ديسمبر 2024 مجموعة بيانات عالية الجودة تضم ما يقرب من مليون كتاب متاح للعامة، يمكن لأي شخص استخدامها لتدريب نماذج لغوية كبيرة وأدوات ذكاء اصطناعي أخرى، ضمن مبادرة تم تمويلها من “مايكروسوفت” و”أوبن إيه آي”.

ختاماً، إن العلاقة بين الذكاء الاصطناعي وحقوق النشر تمر بمرحلة انتقالية حرجة؛ حيث تواجه التشريعات الوطنية والدولية تحديات كبيرة في موازنة الحوافز الاقتصادية والابتكارية مع حماية الإبداع البشري وحقوق المؤلفين، وتشير الأحكام القضائية الأخيرة في الولايات المتحدة إلى تحول قانوني واضح؛ ولكنه ليس نهائياً وشاملاً، بالنظر إلى تحديات قانونية عديدة تلتبس مفهوم “الاستخدام العادل” ذاته وتطبيقه في سياق الذكاء الاصطناعي من ناحية، إلى جانب إشكاليات تطبيقه عبر الحدود وقبوله دولياً من ناحية أخرى، ما يؤشر على الحاجة لحلول أكثر عدلاً وواقعية تستند إلى نظام مستدام ومتوازن يحفظ العلاقة بين حماية الملكية الفكرية ودعم الابتكار التكنولوجي، سواء من خلال نظام تراخيص جماعية، أم آليات تعويض عادلة، أم تشجيع استخدام البيانات العامة والمفتوحة؛ من أجل بيئة إبداعية وتقنية مبنية على أساس من العدالة والشفافية والمسؤولية المشتركة.

 

” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”


مقالات مشابهة

  • بي بي سي تختار مديرة تنفيذية من ميتا لإدارة الذكاء الاصطناعي
  • الذكاء الاصطناعي يدخل فحص القيادة في الأردن وتحويل الرخص إلى إلكترونية قريباً
  • أخلاقيات الإبداع: مستقبل العلاقة الجدلية بين الذكاء الاصطناعي والملكية الفكرية
  • وضع الذكاء الاصطناعي يصل إلى الشاشة الرئيسية في هواتف أندرويد
  • عائدات AT&T تتضاعف نتيجة استثماراتها في الذكاء الاصطناعي
  • حوارٌ مثيرٌ مع الذكاء الاصطناعي
  • هل تنفجر معدلات النمو الاقتصادي في زمن الذكاء الاصطناعي؟
  • دعوة لمقاربة شاملة لتنظيم الذكاء الاصطناعي
  • حظر الأسلحة النووية.. لماذا تتهرب الدول الكبرى من التوقيع على المعاهدة؟
  • الجدل الاقتصادي في شأن الذكاء الاصطناعي 1/5