أحزان‭ ‬ودموع‭ ‬وقلوب‭ ‬أمهات‭ ‬تتمزق‭ ‬كل‭ ‬يوم‭, ‬مئات‭ ‬وآلاف‭ ‬الحالات‭ ‬المرضية‭, ‬وآلام‭ ‬متواصلة‭ ‬نتيجة‭ ‬عدم‭ ‬توفير‭ ‬الهيئة‭ ‬العامة‭ ‬للتأمين‭ ‬الصحى‭ ‬لقطع‭ ‬الغيار‭ ‬والصيانة‭ ‬اللازمة‭, ‬بعد‭ ‬إجراء‭ ‬جراحات‭ ‬زراعة‭ ‬القوقعة‭ ‬بالأذن‭ ‬للاطفال‭ ‬ضعاف‭ ‬السمع‭, ‬طالب‭ ‬الاهالى‭ ‬بالمساواة‭ ‬مع‭ ‬أصحاب‭ ‬الامراض‭ ‬المزمنة‭ ‬كالسكر‭ ‬والقلب‭ ‬والضغط‭, ‬وذوى‭ ‬الاحتياجات‭ ‬الخاصة‭, ‬لصرف‭ ‬احتياجاتهم‭ ‬شهريا‭, ‬وعمل‭ ‬الصيانة‭ ‬وقطع‭ ‬الغيار‭ ‬على‭ ‬نفقة‭ ‬التامين‭ ‬الصحى‭ ‬أو‭ ‬نفقة‭ ‬الدولة‭, ‬مع‭ ‬إعفاء‭ ‬قطع‭ ‬الغيار‭ ‬من‭ ‬الجمارك‭ ‬وضريبة‭ ‬القيمة‭ ‬المضافة‭, ‬الذى‭ ‬يضاعف‭ ‬سعرها‭ ‬الباهظ‭.

الطفل‭ ‬يذهب‭ ‬للمدرسة‭ ‬يتحرك‭ ‬وتتعرض‭ ‬السماعة‭ ‬‮«‬جهاز‭ ‬السمع‮» ‬‭ ‬للأعطال‭ ‬بمرور‭ ‬سنوات‭ ‬الاستخدام‭ ‬اليومى‭ ‬لها،‭ ‬وتتطلب‭ ‬صيانة‭ ‬تتكلف‭ ‬آلاف‭ ‬الجنيهات‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬عن‭ ‬عشرة‭ ‬آلاف‭ ‬جنيه‭ ‬وقد‭ ‬تصل‭ ‬ببعض‭ ‬الحالات‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬خمسين‭ ‬الف‭ ‬جنيه،‭ ‬والا‭ ‬يفقد‭ ‬الطفل‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬السمع‭ ‬ويعود‭ ‬للصمم‭ ‬لا‭ ‬يسمع‭ ‬ولا‭ ‬يتكلم،‭ ‬وبالتالى‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬التعلم‭ ‬او‭ ‬الدراسة‭.‬
ومع‭ ‬ترك‭ ‬الاهالى‭ ‬البسطاء‭ ‬لمرحلة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬زراعة‭ ‬القوقعة‭ ‬داخل‭ ‬الاذن،‭ ‬وتتضاعف‭ ‬الاسعار‭ ‬لأبسط‭ ‬الاشياء‭ ‬من‭ ‬قطع‭ ‬الغيار،‭ ‬مثل‭ ‬كابل‭ ‬يتم‭ ‬استبداله‭ ‬مع‭ ‬القديم‭ ‬بمبلغ‭ ‬سبعة‭ ‬الاف‭ ‬جنيه،‭ ‬أو‭ ‬بيت‭ ‬البطارية‭ ‬بسبعة‭ ‬الاف‭ ‬جنيه،‭ ‬والبطارية‭ ‬تتراوح‭ ‬اسعار‭ ‬الصغيرة‭ ‬بين‭ ‬اثنى‭ ‬عشر‭ ‬الفا‭ ‬وتصل‭ ‬إلى‭ ‬خمسة‭ ‬وعشرين‭ ‬الف‭ ‬جنيه‭ ‬للكبيرة،‭ ‬والميكروفون‭ ‬بحدود‭ ‬ثلاثين‭ ‬الف‭ ‬جنيه‭.‬
الدولة‭ ‬مشكورة‭ ‬ممثلة‭ ‬فى‭ ‬وزارة‭ ‬الصحة‭ ‬تساهم‭ ‬بإجراء‭ ‬جراحة‭ ‬زرع‭ ‬القوقعة‭ ‬‮«‬تتكلف‭ ‬200‭ ‬الف‭ ‬جنيه‭ ‬للمريض‮»‬،‭ ‬لكن‭ ‬تتبخر‭ ‬هذه‭ ‬المبالغ‭ ‬الضخمة‭ ‬وتصبح‭ ‬هباءً‭ ‬منثورًا،‭ ‬ويعود‭ ‬الطفل‭ ‬للصمم‭ ‬لا‭ ‬يسمع‭ ‬ولا‭ ‬يتكلم،‭ ‬بدون‭ ‬إجراء‭ ‬الصيانة‭ ‬الدورية‭ ‬لها‭ ‬وتوفير‭ ‬قطع‭ ‬الغيار‭ ‬اللازمة‭ ‬لنجاح‭ ‬الجراحة،‭ ‬وعمل‭ ‬جلسات‭ ‬التخاطب‭ ‬لتنمية‭ ‬المهارات‭ ‬السلوكية‭ ‬والكلام،‭ ‬وهكذا‭ ‬قد‭ ‬تتحول‭ ‬ملايين‭ ‬الجنيهات‭ ‬التى‭ ‬تنفقها‭ ‬الدولة‭ ‬سنويا‭ ‬لعلاج‭ ‬حالات‭ ‬‮«‬زرع‭ ‬القوقعة‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬إهدار‭ ‬مال‭ ‬عام‭ ‬نتيجة‭ ‬عودة‭ ‬الاطفال‭ ‬للصمم‭ ‬بدون‭ ‬إجراء‭ ‬الصيانة‭ ‬وتوفير‭ ‬قطع‭ ‬الغيار‭ ‬التى‭ ‬يرفض‭ ‬توفيرها‭ ‬التأمين‭ ‬الصحى‭.‬
‮«‬عيادة‭ ‬الوفد‮»‬‭ ‬تعيد‭ ‬نشر‭ ‬صرخات‭ ‬الامهات‭ ‬ودموع‭ ‬الاطفال،‭ ‬وتضع‭ ‬هذه‭ ‬المأساة‭ ‬والمناشدة‭ ‬العاجلة‭ ‬إلى‭ ‬قلب‭ ‬الدكتور‭ ‬مصطفى‭ ‬مدبولى،‭ ‬رئيس‭ ‬مجلس‭ ‬الوزراء،‭ ‬والدكتور‭ ‬خالد‭ ‬عبدالغفار،‭ ‬وزير‭ ‬الصحة‭ ‬والسكان،‭ ‬لإنقاذ‭ ‬فلذات‭ ‬اكبادنا‭ ‬الابرياء‭ ‬ومستقبل‭ ‬الغد،‭ ‬المهددين‭ ‬بفقدان‭ ‬الحق‭ ‬فى‭ ‬التعليم‭ ‬ورفض‭ ‬المدارس‭ ‬لهم،‭ ‬وفقدان‭ ‬معنى‭ ‬الحياة‭ ‬بعد‭ ‬توقف‭ ‬جهاز‭ ‬السمع‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬والعودة‭ ‬إلى‭ ‬الصمم‭.‬
تأتى‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬عيادة‭ ‬الوفد‮»‬‭ ‬حالات‭ ‬كثيرة،‭ ‬تتجرع‭ ‬مرارة‭ ‬الألم‭ ‬والفقر‭ ‬والمرض،‭ ‬نتيجة‭ ‬رفض‭ ‬التأمين‭ ‬الصحى‭ ‬لتوفير‭ ‬قطع‭ ‬الغيار‭ ‬والصيانة‭ ‬واجراء‭ ‬جلسات‭ ‬التخاطب،‭ ‬وأغلب‭ ‬المرضى‭ ‬من‭ ‬الفقراء‭ ‬البسطاء‭ ‬المعدمين‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يملكون‭ ‬من‭ ‬حطام‭ ‬الدنيا‭ ‬شيئاً،‭ ‬وبعد‭ ‬مرور‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة‭ ‬من‭ ‬إجراء‭ ‬الطفل‭ ‬لجراحة‭ ‬زرع‭ ‬القوقعة‭ ‬تعود‭ ‬الحالات‭ ‬مهددة‭ ‬بالصمم‭ ‬وفقدان‭ ‬نعمة‭ ‬السمع‭ ‬والكلام‭.‬
تتطلب‭ ‬الحالات‭ ‬بعد‭ ‬زرع‭ ‬جهاز‭ ‬السمع‭ ‬‮«‬القوقعة‮»‬،‭ ‬متابعة‭ ‬طبية‭ ‬وصيانة‭ ‬دورية‭ ‬وإصلاح‭ ‬بعض‭ ‬الاعطال،‭ ‬مثل‭ ‬تغيير‭ (‬البطاريات‭ ‬أو‭ ‬المغناطيس‭ ‬أو‭ ‬أسلاك‭ ‬أو‭ ‬بيت‭ ‬البطارية‭ ‬أو‭ ‬الميكروفون‭ ‬أو‭ ‬برمجة‭) ‬وكافة‭ ‬هذه‭ ‬الاعطال‭ ‬توقف‭ ‬جهاز‭ ‬السمع‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬نهائيا،‭ ‬ويعود‭ ‬الطفل‭ ‬للصمم‭ ‬لا‭ ‬يسمع‭ ‬لا‭ ‬يتكلم‭ ‬ومهددًا‭ ‬بترك‭ ‬المدرسة‭ ‬وضياع‭ ‬مستقبله،‭ ‬وهذا‭ ‬لا‭ ‬يرضى‭ ‬ابدا‭ ‬الجهات‭ ‬المسئولة‭ ‬بالدولة‭ ‬التى‭ ‬تسخر‭ ‬نفسها‭ ‬فى‭ ‬خدمة‭ ‬الوطن‭ ‬والمواطن،‭ ‬لكن‭ ‬المشكلة‭ ‬فى‭ ‬بعض‭ ‬اللوائح‭ ‬والقرارات‭ ‬الادارية‭ ‬التى‭ ‬أوصلت‭ ‬المريض‭ ‬لهذا‭ ‬الوضع‭ ‬المؤلم‭.‬
وتذهب‭ ‬الامهات‭ ‬مجبرات‭ ‬على‭ ‬الاقتراض،‭ ‬لشراء‭ ‬قطع‭ ‬الغيار‭ ‬من‭ ‬الشركات‭ ‬الخاصة‭ ‬بمبالغ‭ ‬مرتفعة‭ ‬تفوق‭ ‬قدراتهم،‭ ‬لكن‭ ‬يتم‭ ‬هذا‭ ‬خلال‭ ‬السنة‭ ‬الاولى‭ ‬فقط،‭ ‬وبعدها‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬الاهالى‭ ‬نفقات‭ ‬أو‭ ‬شيئا‭ ‬لانقاذ‭ ‬أطفالهم،‭ ‬الا‭ ‬مواجهة‭ ‬المستقبل‭ ‬المظلم،‭ ‬والنتيجة‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬تكون‭ ‬توقف‭ ‬الأطفال‭ ‬عن‭ ‬السمع‭ ‬لعجز‭ ‬أولياء‭ ‬أمورهم‭ ‬عن‭ ‬توفير‭ ‬قطع‭ ‬الغيار‭ ‬الباهظة‭ ‬بآلاف‭ ‬الجنيهات‭.‬
وحاليا‭ ‬تقوم‭ ‬الامهات‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬صيانة‭ ‬وقطع‭ ‬غيار،‭ ‬بالعودة‭ ‬لرحلة‭ ‬من‭ ‬العذاب‭ ‬والذل‭ ‬والمهانة،‭ ‬إلى‭ ‬الجمعيات‭ ‬والمؤسسات‭ ‬الخيرية،‭ ‬لجمع‭ ‬مبالغ‭ ‬الصيانة‭ ‬المطلوبة،‭ ‬والجمعيات‭ ‬مشكورة‭ ‬تساهم‭ ‬بجزء‭ ‬قدر‭ ‬استطاعتها،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬مساعدة‭ ‬كافة‭ ‬الحالات‭ ‬المرضية‭.‬
وتعود‭ ‬صعوبة‭ ‬توفير‭ ‬قطع‭ ‬الغيار‭ ‬لوجود‭ ‬وكيل‭ ‬واحد‭ ‬أو‭ ‬اثنين‭ ‬لقطع‭ ‬الغيار‭ ‬بكافة‭ ‬محافظات‭ ‬الجمهورية،‭ ‬وهكذا‭ ‬تباع‭ ‬بأسعار‭ ‬مبالغ‭ ‬فيها،‭ ‬ويتعلل‭ ‬أصحاب‭ ‬الشركات‭ ‬بأن‭ ‬قطع‭ ‬الغيار‭ ‬غير‭ ‬معفاة‭ ‬من‭ ‬الجمارك‭ ‬ويضاف‭ ‬على‭ ‬سعرها‭ ‬الباهظ‭ ‬ضريبة‭ ‬القيمة‭ ‬المضافة،‭ ‬والأهالى‭ ‬ليس‭ ‬لديهم‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬ثمنها،‭ ‬وفى‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬لا‭ ‬يتحملون‭ ‬تهديد‭ ‬حياة‭ ‬أطفالهم‭ ‬بالعودة‭ ‬لحياة‭ ‬الصمم‭.‬
وهى‭ ‬احتياجات‭ ‬مستمرة‭ ‬للاطفال‭ ‬مدى‭ ‬الحياة‭ ‬للسمع،‭ ‬وتمثل‭ ‬عبئا‭ ‬ضخما‭ ‬وكابوسا‭ ‬مزعجا‭ ‬للأمهات‭ ‬بتدبير‭ ‬الثمن‭ ‬من‭ ‬الجمعيات‭ ‬الخيرية،‭ ‬وهى‭ ‬قطع‭ ‬الغيار‭ ‬والبطاريات‭ ‬والكابلات‭ ‬والمجفف‭ ‬والشواحن‭ ‬وجلسات‭ ‬التخاطب‭.. ‬وغيرها،‭ ‬وهى‭ ‬تفوق‭ ‬فى‭ ‬تكلفتها‭ ‬الأسرة‭ ‬الميسورة‭ ‬وليس‭ ‬الأسر‭ ‬محدودة‭ ‬الدخل‭.‬
ويطالب‭ ‬الاهالى‭ ‬بالنظر‭ ‬فى‭ ‬ضرورة‭ ‬صرف‭ ‬معاش‭ ‬للأطفال‭ ‬مرضى‭ ‬القوقعة‭ ‬وضعاف‭ ‬السمع،‭ ‬حتى‭ ‬تساهم‭ ‬فى‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬مصروفات‭ ‬تأهيل‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأطفال‭ ‬وانقاذهم‭ ‬من‭ ‬براثن‭ ‬المرض،‭ ‬وتوفير‭ ‬مراكز‭ ‬لتقديم‭ ‬جلسات‭ ‬التخاطب‭ ‬وتنمية‭ ‬المهارات‭ ‬بأسعار‭ ‬مدعمة،‭ ‬لأن‭ ‬الطفل‭ ‬بعد‭ ‬الزرع‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬سنوات‭ ‬تأهيل‭ ‬وتخاطب‭ ‬مكلفة‭ ‬جدا،‭ ‬وجدير‭ ‬بالذكر‭ ‬أن‭ ‬نسبة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الحالات‭ ‬يوجد‭ ‬طفلان‭ ‬أو‭ ‬ثلاثة‭ ‬مرضى‭ ‬داخل‭ ‬الاسرة‭ ‬الواحدة،‭ ‬مما‭ ‬يزيد‭ ‬الالم‭ ‬والحزن‭ ‬والمأساة‭ ‬كلما‭ ‬تعرض‭  ‬جهاز‭ ‬القوقعة‭ ‬لابنائهم‭ ‬فاقدى‭ ‬حاسة‭ ‬السمع‭ ‬لأى‭ ‬تلف‭.‬
 

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: الهيئة العامة للتأمين الصحي الأمراض المزمنة ذوي الاحتياجات الخاصة جهاز السمع زراعة القوقعة عيادة الوفد

إقرأ أيضاً:

موسوعة تاريخ الفن بين السمع والبصر!

(1)

ضمن إنجازات عديدة وكبيرة وضخمة، توارى الجهد المذهل الذي قدمه مؤرخ الفن والباحث والمثقف الموسوعي وصاحب الرؤى المستنيرة رفيعة المقام في الثقافة العربية؛ الدكتور ثروت عكاشة (1921-2012) وزير ثقافة الحقبة الناصرية لثماني سنوات ازدهرت خلالها الحركة الثقافية والإبداعية والنشاط الثقافي والفكري ليس فقط في عموم مصر وأرجائها إنما امتدت آثارها البعيدة إلى العالم العربي كله.

ثروت عكاشة يعد فعليًا أحد قادة التنوير العظام في الثقافة العربية الحديثة، وأحد واضعي أسس النهضة الثقافية في القرن العشرين، بل يزيد عليهم في أنه كان صاحب مشروع (قومي) طموح خاص به، تولى قيادته والإشراف عليه عندما كان وزيرًا للثقافة لمرتين خلال الفترة من 1958 إلى 1962 ثم تركها وعاد إليها عام 1966 ليخرج للمرة الثانية 1970 أي أنه قضى في منصبه الرسمي كوزير للثقافة المصرية إبان حكم جمال عبد الناصر قرابة الأعوام الثمانية، دشن فيها عكاشة البنية التحتية الحقيقية للثقافة المصرية التي ما زلنا نتوكأ عليها، ونقتات منها رغم ما أصابها، لكنها ما زالت باقية تحمل عبقا لا يزول من تاريخ مصر الثقافي الزاهر.

(2)

لم يكن سهلا ولا ميسورا أن يعتزل الدكتور ثروت عكاشة العالم ويتفرغ لمشروعه الكبير، عقب انتهاء مسؤولياته كوزير للثقافة بعد وفاة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في 1970، بكل ما يستلزمه ذلك من تخطيط وتنظيم وسفر وتجوال وأموال؛ فضلا على إنفاق الجهد والسنين..

يفسر الفنان التشكيلي والرسام المبدع والناقد الفني الكبير حسين بيكار ذلك النزوع الشغوف بالتحدي وإنجاز المهام الكبار بقوله:

"إنها إحدى سمات العالم الكبير ثروت عكاشة فارس المفاجآت الذي يعدو بلا توقف‏،‏ ويهرول دون إبطاء وراء الكمال الذي يسدله على جميع إنجازاته التي هي في رأي الجميع كان ينبغي أن تكون نتاج مؤسسة ضخمة وليست من عمل فرد واحد‏.‏ فقد قرر الرجل العظيم عندما ترك وراءه وزارة الثقافة أن يكون بمفرده وزارة الرجل الواحد بكل ما يتبع ذلك من أعباء ومسئوليات لا حد لها‏.‏ وأن يمسك قيثارته بكلتا يديه يعزف عليها منفردا تارة‏،‏ وتارة أخري يمسك بعصا القيادة يدير بها المقاطع اللحنية بين العازفين ببراعة منقطعة النظير"‏.‏

إن هذا المشروع الموسوعي الذي بدأه المايسترو الكبير في ظروف نعلم مدى قصورها عن تحقيق مثل هذا الحلم الثقافي العملاق قد يصيب بالإحباط أي مغامر يفكر في أن يلقي بنفسه في دوامته‏،‏ وذلك لبعد واقعنا عن مصادر المعرفة الوثائقية‏،‏ مكتبية كانت أو متحفية‏،‏ وخلو الساحة من الناشر الفدائي الذي يتحمل مصاعبه‏،‏ وقلة الإمكانيات المادية والتقنية التي تنجز مثل هذا المشروع الضخم في مستواه الرفيع‏..‏

ولكن الإرادة تصنع المعجزات‏،‏ وقد صدرت الأجزاء العشرة الأولى من الموسوعة في سبعينيات القرن الماضي رغم كل ذلك لترصع المكتبة العربية بأرفع الأوسمة في فن الكتاب شكلًا ومضمونًا، وإخراجًا فنيا وطباعيا (وقد نحتاج لحلقة كاملة من "مرفأ قراءة" لبيان روعة وإبداع إخراج الكتب وتهيئتها للطباعة بمثل ما ظهرت به وخرجت عليه ووضعتها في مصاف أرقى الكتب الفنية في العالم أجمع).

(3)

أما (موسوعة تاريخ الفن: العين تسمع والأذن ترى) فليس لها مثيل في الثقافة العربية كلها، منذ صدور أول أجزائها وحتى رحيل صاحبها وقد صدر منها 28 مجلدا ضخما (يبلغ متوسط المجلد الواحد 600 صفحة من القطع الكبير جدا) فضلا عما اشتمل عليه كل مجلد من روائع الصور والنماذج الفنية المنحوتة والمرسومة وآثار العمارة والقطع الفنية المختلفة..

كثيرون ممن كتبوا عن هذه الموسوعة الضخمة؛ غفلوا عن تيار عام في الثقافة المصرية والعربية؛ حاول أن يصل ثقافتنا العربية المعاصرة بروافد الثقافة الإنسانية منذ أقدم العصور، ووصلها بثقافة عصور النهضة والأنوار والعقل خاصة.. راد هذا التيار طه حسين، والنهضويون من جيله (توفيق الحكيم وحسين فوزي على سبيل المثال)، ثم من الرعيل الأول والثاني من تلاميذه، وعلى رأسهم سهير القلماوي ومحمد مندور ولويس عوض.. إلخ.

وكان ثروت عكاشة الضابط الأرستقراطي الذي تخرج في الكلية الحربية، ثم التحق بسلاح الفرسان، بعيدا عن مجرى هذا التيار الثقافي العام، بل كان من أشد المتأثرين به والمتشربين لأفكاره وآرائه وتصوراته، ما انعكس على تكوينه الثقافي العميق وتعدد روافد هذا التكوين، وإجادته لعديد اللغات والجمع بين الثقافة التراثية الأصيلة والثقافة الحداثية بكل أشكالها أنواعها، من هنا لم يكن غريبا ولا مفارقا للسياق العام أن ينتج ثروت عكاشة موسوعته تلك التي تكونت وتشكلت على مدى أربعين سنة تقريبا!

(4)

منذ شبابه الباكر؛ ومن انشغالاته الأصيلة ومراميه البعيدة، تأسيس وترسيخ ثقافة موسوعية للفنون البصرية تقوم على قاعدة معرفية عريضة بتاريخها وأصولها كالسينما، والفن التشكيلي، والتصوير والنحت والعمارة، وهو ما ساهم فيه بجهد جبار من خلال موسوعته الفنية الضخمة «العين تسمع والأذن ترى» التي تقع في 29 جزءًا، تتتبع من خلالها تاريخ الفن منذ أقدم عصوره وحتى العصر الحديث، وهو عمل موسوعي ضخم جدًا، فوق طاقة مؤسسات بكاملها، أنجزها مفردًا ثروت عكاشة على مدى أربعين سنة.

وكل جزء من أجزاء هذه الموسوعة اختص بحقبة تاريخية أو فن من الفنون [الفن المصري القديم/ الفن العراقي القديم (سومر وبابل وآشور)/ الفن الفارسي القديم/ الفن اليوناني (الإغريقي)/ الفن الروماني/ الفن البيزنطي/ فنون العصور الوسطى/ فنون عصر النهضة/ الفن الصيني/ الفن الهندي/ التصوير الإسلامي المغولي/ جماليات التصوير الإسلامي/ موسوعة التصوير الإسلامي/ ..... إلخ أجزاء الموسوعة التي تصل إلى تخوم العصر الحديث]

وكان منهجه الذى اتبعه بطول أجزاء الموسوعة هو التناول العلمي القائم على التحليل والكشف عن جماليات الصور واللوحات والأشكال المعروضة، بلغة أدبية رائعة ورائقة ورفيعة الجمال، فأسلوبه يكاد يدنو بل يصل في غالب الأحيان إلى "شعرية الأدب" مع مراعاته للدقة المتناهية، والحفاظ على جميع المعايير العلمية التي يتطلبها البحث الفني الذى يقوم به، وكذلك القدرة الاستقصائية النادرة في الوصول إلى المصادر والمراجع الكبرى اللازمة لمؤلفاته.

(5)

يقول الفنان الكبير الراحل حسين بيكار في مغزى هذا العمل وجماليته:

"وليس الصرح الثقافي الشامخ الذي أقامه فارس الكلمة، الدكتور ثروت عكاشة، وأطلق عليه موسوعة تاريخ الفن: «العين تسمع والأذن ترى» إلا صدى لومضة داخلية خاطفة التقطها بكل ذكاء وهو يستمع إلى إحدى سيمفونيات بيتهوفن‏،‏ أو وهو يقرأ قصيدة لجبران‏،‏ أو وهو يتأمل بانبهار شديد إحدى روائع مايكل أنجلو التي تطل عليه من سقف مُصلى كنيسة سيستينا‏ التاريخية العريقة!!‏

إنها منحة السماء التي أودعت في تلك الخفقة الربانية القدرة على النمو والتكيف والتواصل والتشامخ‏،‏ ومكنتها من صنع ذلك النسيج المعجز الذي لم يكن عند مولده سوى خيط نحيل عرف كيف يسلك طريقه فوق خريطة الفكر‏،‏ وكيف يتناسج مع نظرائه من الوشائج والخيوط القريبة منه أو البعيدة‏.‏ وفوق كل ذلك عرف كيف يتخاطب مع وجدان الإنسان في كل مكان وزمان‏"..

هذه الأسطر مجرد شاهد واحد من عشرات بل مئات الشواهد المسجلة والموثقة، تحتفي بهذا العمل غير المسبوق في تاريخ الثقافة العربية، وبعضها يحاول أن يفسر ويحلل طبيعة هذا البناء الضخم، بذرته ونواته وعمليات نمائه وتفرعه وتوسعه وصولا إلى تغطية هذه المساحة الهائلة من تاريخ الإنسانية (زمنيا منذ أقدم العصور وحتى العصر الحديث، ومكانيا من أقصى بقعة في العالم شرقا حتى أقصاها غربا ومن شمالها المتاخم للقطبي إلى جنوبها في أقصى نقطة في القارة السمراء).. (وللحديث بقية).

مقالات مشابهة

  • 20 مليون جنيه.. الزمالك يسدد عقود التأمين ضد الإصابات ويضخ استثمارات جديدة
  • والد الطفل علي: جمعنا 106 ملايين جنيه لعلاج ابني بفضل المصريين وأشقاء عرب
  • بـ 124 مليون جنيه.. «بنك مصر» يدعم مستشفى القصر العيني الجامعي لتطوير مركز رعاية الحالات الحرجة
  • برنامج أبواب الخير يدعم مسنة ويتحمل 25 ألف جنيه لتركيب أسنان لها
  • جمع 106 ملايين جنيه لعلاجه.. والد الطفل «علي» يكشف تطورات حالة نجله
  • موجز أخبار الوادي الجديد.. توفير لحوم طازجة بسعر 200 جنيه.. و31 محضرا لمحلات ومخازن مخالفة
  • أخبار أسوان: كيفية الحصول على الكارت الجديد لمنظومة التأمين الصحي الشامل وحملات لضبط الأسواق وعروض فنية بالعلمين
  • توفير لحوم طازجة بسعر 200 جنيه للكيلو بقري أبو منقار في الوادي الجديد
  • موسوعة تاريخ الفن بين السمع والبصر!
  • كيفية الحصول على الكارت الجديدلمنظومة التأمين الصحى الشامل بأسوان..صور