لجريدة عمان:
2025-07-09@01:01:05 GMT

من أجل صناعة ذاكرة ثقافية عمانية

تاريخ النشر: 18th, November 2024 GMT

العلوم.. بمختلف أبوابها تقوم على تأريخ طويل من التراكم المعرفي، فلا علم من دون مقدمات، فمن العلوم ما يرجع إلى مئات وآلاف السنين، ومنها ما يمتد إلى بداية الوجود الإنساني.. بل هناك بحوث علمية وأطروحات فلسفية تقرأ ما قبل وجود الإنسان، وتأثيره على مسار حياة البشر، ووُجِدتْ فروع تدرس تأريخية العلوم كـ«علم العلم» و«تأريخ العلم».

وكما اهتم العلماء بخارطة العلوم؛ اهتمت الأمم بمسيرة حضارتها الطويلة، فغدت يُحسب مجدها بما حققته في ماضيها من حضارة، وبما تحققه في حاضرها من مدنية. والدول تعيد بناء ذاتها متكئة على تاريخها الحافل بالأحداث، وهي ليست أحداثًا سياسية وعسكرية فحسب، وإنما هي أيضًا أحداث اجتماعية ومعرفية؛ من أديان ومعتقدات وأساطير وآداب وفنون ومخترعات.

إن الاهتمام بمسيرة العلوم وما أنتجته الإنسانية عبر تاريخها الطويل ليس جديدًا، فهو يمتد إلى ما قبل الميلاد، فينقل عن أرسطوطاليس (ت:322ق.م) اهتمامه بتاريخ العلوم؛ الإنسانية والطبيعية، وبجَمْعِ ما يتمكن من معلومات ومواد.. بل جَمَعَ حيوانات ونباتات؛ ليجري تجاربه عليها، وقد ذُكر بأنه أقام متحفًا طبيعيًا، وأنشأ مكتبة كبيرة تحتوي على مختلف العلوم، وبهذا يعدّ أرسطو مؤسس أقدم وعاء لذاكرة ثقافية؛ تشتمل على الطبيعيات والإلهيات والفلسفات والآداب والسياسة ونحوها. وهناك من يذهب إلى أن أول متحف تأسس عام 530ق.م في بلاد ما بين النهرين، وقيل: عام 2500ق.م في بابل. وأيًا كان التاريخ الصحيح.. فالمقصود أن البشرية منذ عصورها العتيقة اهتمت بذاكرتها الثقافية.

الذاكرة الثقافية.. إرث إنساني، يتعدى الحيّز الزمكاني للمجتمع الذي يحتضنها، فهي الأحداث والمعارف والعلاقات البشرية؛ تعاونًا وتنافسًا، التي تشكّل ذهنية مجتمع ما وضميره وتؤثر على ممارسة أفراده، منذ نشأته الأولى، وتتراكم ما بقي قائمًا. وقد ينقرض المجتمع وتبقى ذاكرته محفوظة بمختلف وسائل الحفظ، فالذاكرة الثقافية.. أطول عمرًا من حاضنتها الاجتماعية. وهي كلٌ متكاملٌ؛ كلُ عنصر يؤثر على الآخر، وأي تقسيم لها فهو اعتباري لتسهيل جمع عناصرها، ثم دراستها، ولهذا الغرض؛ يمكن تصنيفها إلى تاريخية وحضارية وعلمية ووطنية وقومية. والذاكرة.. وعاء يضم كل ما يتعلق بأي علم وفن، يتسع وطابها ويضيق بحسبما تخصص له، فذاكرة الأمة أوسع من ذاكرة المجتمع، والذاكرة القومية التي تضم مجموعة من الشعوب أوسع من الذاكرة الوطنية لدولة واحدة، وذاكرة العلوم الطبيعية أكبر من الذاكرة النباتية أو الحيوانية، وهكذا في سائر الذاكرات.

الفرنسي جوستاف لوبون (ت:1931م)، والذي أصفه بـ«العين الثانية لفلسفة الحضارة»، يذهب إلى أن أخلاق الأمم تتغير ببطء شديد، وأنها تظل محافظة على أخلاق نشأتها الأولى، وهي صلبة أمام تبدل الأنظمة عبر الزمان؛ سواءً أكانت دينية أم سياسية أم عرقية. إن للأمة «جينات ثقافية» كالجينات البيولوجية في الكائنات الحية، والتحوّل في جذور بُنية الأمة هو ما يغيّر هيكلتها، ولذا؛ لابد من الوقوف على الذاكرة الثقافية للأمة لفهم أخلاقها القائمة، فمن دون جمع ذاكرتها؛ ثم دراستها بتحليلها وتفكيك مكوناتها معرفيًا، تبقى تصرفات أفرادها غير معللة ولا متوقعة، خاصةً؛ إن حكم على أخلاقها بحسبما يطفو على السطح. مثلًا؛ يمكن أن تصف أمة بأنها متسامحة، ولكن عندما يُمَس شيء من عاداتها أو معتقداتها ينفجر وريد تعصبها، وربما تصاعد دخانه إلى العنف، فهي متسامحة.. ليس لقدرتها على استيعاب المتغيّرات وإنما لأنها مخدَّرة بجمودها، فإن أردت أن توقظها من سباتها غلى دم تعصبها وكشرت عن أنياب غضبها.

لنأتِ إلى ذاكرتنا الثقافية.. إن أهم وعاء ذاكرة عرفه المجتمع العماني هو المخطوطات؛ فهي مكتنز العلوم كالتاريخ والأدب والفقه واللغة، ومستوعب الأخلاق الفردية والمزاج الاجتماعي والتلاقح الحضاري، فالمخطوط العماني قبل المكتبة والجامعة والمتحف، هذه المؤسسات.. لم نعرف معظمها إلا في زماننا. وأما المكتبات فقد كانت محدودة ثم تطورت في العصر الحديث كمًا ونوعًا. ومع أهميتها إلا أنها تبقى أمام مفهوم الذاكرة الثقافية مخازن للمعرفة ومصادر للذاكرة، تنتظر ترقيتها إلى «ذاكرة عمانية» بمفهومها الثقافي الحديث.

وكما نجد ذاكرتنا العمانية مدونة في أسفار الأولين؛ فإن ذاكرة المعاصرين؛ لاسيما كبار السن، المسماة بالذاكرة الشفهية أو التاريخ المروي، هي الأخرى تشكل رافدًا مهمًا لذاكرتنا الثقافية.. بل هي الرافد الحي، الذي علينا أن نبذل الجهد لجمع محتوياته قبل أن يغور بموت أصحابه. هناك من قاموا بجمع جانب من عناصر هذه الذاكرة؛ سواءً من الباحثين أم المؤسسات، وهي بداية جيدة وضرورية، بيد أنه من المهم تكثيف الجهود وتوحيدها، ووضع خطة علمية وعملية لطرائق الجمع، بحيث تغطي جميع البلدان العمانية.

هناك مصادر أخرى للذاكرة.. منها: النقوش القديمة كالرسمات على صفحات الحوائط الجبلية، فهي إما رموز دينية واجتماعية، أو تعبير عن وقائع حربية وسياسية واجتماعية، أو كتابات أبجدية تعود إلى ما قبل الإسلام كخط المسند الذي لم تجمع نقوشه ولم تفك رموزه في عمان حتى الآن. ومنها: الكتابات الجدارية بالخط العربي، والتي تحفل بها الجوامع والحصون والبيوت العودة «الكبيرة» ونحوها، ففيها مادة مهمة عن حوادث الدهر وصروفه المتقلبة، وعن أسماء أشخاص ووفياتهم؛ عاشوا على أرض عمان وتركوا بصمتهم عليها. ومنها: الأطلال والمواقع الأثرية، التي تحتاج إلى استنطاق بربطها بأحداث زمانها، والوضع الاجتماعي والسياسي الذي عاشه منشئوها. وبرغم الجهود الكبيرة التي بذلت في التنقيب عن الآثار الغابرة في عمان؛ إلا أن الكشف الآثاري لا يزال في بداياته، ناهيك عن قلة تحليله الثقافي وضعف ربطه بالحركة الحضارية التي سادت المنطقة حينذاك.

المعتقدات والعادات والتقاليد والألعاب الشعبية والأغاني والموسيقى.. أيضًا روافد للذاكرة الثقافية العمانية. فمعرفة مكان ظهورها؛ سواءً أكانت محلية، أم وافدة على عمان واستقرت فيها، وتتبع طريقة ممارستها، ومدى التطور الذي لحقها، كل ذلك يسهم في فك «الخارطة الجينية» للذاكرة العمانية. وعلينا ألا ننسى بأن عمان على مدى تأريخها استقبلت هجرات بشرية، وتعرضت إلى الغزو، وتمددت في حكمها إلى بقاع احتكت بسكانها، كل هذا رافد لذاكرتها. وبالجملة؛ هناك الكثير من مظان ذاكرتنا الثقافية؛ وإنما ذكرت بعضها على سبيل المثال، وتبقى على مؤسساتنا وباحثينا مواصلة جهودهم في تكوين هذه الذاكرة.

إن الذاكرة الثقافية العمانية متوزعة في أمكان كثيرة، قد لا نلقي لها بالًا، في حين هي مخازن للمعرفة ومكانز للعلم، ولذلك؛ كل الجهود العلمية مهمة لجمعها وبنائها. وفي زمننا يوجد الكثير مما يمكن الاستفادة منه لبناء هذه الذاكرة، بدءا من الجامعات والمكتبات والمراكز الثقافية والإعلام؛ بمختلف أنواعه، وليس انتهاءً بالناس الذين هم جزء من الذاكرة وناقلوها. ولابد من الإشارة إلى الجهود التي تقوم بها مؤسسات عديدة في سلطنة عمان، منها: وزارة الثقافة والرياضة والشباب؛ في جمع المخطوطات وتحقيقها، والمنتدى الأدبي؛ بوصفه مؤسسة للإنتاج العلمي، وهيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، ومركز ذاكرة عمان، والمتحف الوطني، ومتحف عمان عبر التاريخ، ومتحف البليد، ومكتبة السيد محمد بن أحمد البوسعيدي، وعموم المكتبات الأهلية؛ خاصةً التي تحوي المخطوطات والوثائق.

إن ما نحتاج إليه في المرحلة القادمة من عمر الدولة الحديثة؛ وضع دراسة لمشروع متكامل للذاكرة الثقافية العمانية، يُبنى على أسس منهجية علمية؛ وتستخدم فيه أحدث أدوات التقنية الرقمية، مع فريق واسع مدرب على جمع المعلومات، وفريق من الباحثين المقتدرين على التحليل العلمي الموضوعي لمسيرة العماني؛ منذ بدأ حياته على أرض عمان حتى اليوم، مع نخبة من المفكرين والفلاسفة؛ ليسهموا في فهم الشخصية العمانية والتحولات التي أصابتها والمآلات التي تنتظرها. لم تعد الذاكرة الوطنية ترفًا علميًا ولا هدرًا ماليًا، وإنما أصبحت من ركائز ومنطلقات صناعة المستقبل الثقافي.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذاکرة الثقافیة

إقرأ أيضاً:

اللجنة العمانية لألعاب المضرب تحتفي باليوم العالمي للريشة الطائرة

 مسقط- الرؤية

احتفلت اللجنة العمانية لألعاب المضرب باليوم العالمي للريشة الطائرة مؤخراً، وذلك عبر كرنفال الريشة الطائرة الذي أقيم في قاعة سماش بمركز الدولفين في ولاية السيب.

وشارك في الكرنفال 60 مشاركاً من الفئة العمرية 8-12 سنة بالإضافة الى مشاركة عدد من أولياء الأمور، وشارك في كرنفال الريشة الطائرة مجموعة من الأطفال من محافظة مسقط وشمال الشرقية وجنوب الباطنة، حيث تخلل الحدث مجموعة من الفعاليات التي تم تنفيذها من خلال برنامج وقت الريشة وعدد من المنافسات المشوقة للأطفال المشاركين، الى جانب تنفيذ المدرب وسيم الخطيب ومجموعة من المدربين والحكام والإداريين والمتطوعين المنتمين للجنة العُمانية لألعاب المضرب.

وأوضح الدكتور عبدالرحيم بن مسلم الدروشي رئيس اللجنة العمانية لألعاب المضرب بأن أهمية تنظيم هذا الحدث سنوياً يأتي على مستوى العالم احتفاءً بنجاحات وأهمية رياضة الريشة الطائرة في خارطة رياضات المضرب، مضيفا: "سلطنة عمان ممثلةً باللجنة تشارك دول العالم الاحتفال بهذا اليوم الرياضي المهم؛ تعبيراً عن تطور هذه الرياضة في عُماننا الحبيبة، والذي يتزامن مع احتفالات الاتحاد الدولي والاتحادات القارية والإقليمية، مؤكدا سعاته بمشاركة عدد كبير من العائلات والأطفال في هذا الحدث الذي تضمن العديد من البرامج الترفيهية والتي تقرب الأطفال من الرياضة".

أشاد عدنان العويدي - ولي أمر- لأبنائه المشاركين في هذا الحدث الرياضي بجهود اللجنة العمانية لألعاب المضرب على هذا التجمع، وتميزهم في العطاء وفي تقديمهم للنسخة الثانية للاحتفال باليوم العالمي للريشة الطائرة مشيرا الى أن هذا يدل على جهودهم الحثيثة في تعريف المجتمع بهذه الرياضة المتميزة، لافتا الى أن هذا اليوم يأتي في يوم يتزامن مع الفترة الصيفية واستغلال أوقات الإجازة الدراسية لدى الطلبة وهو الهاجس من قبل أولياء الأمور، مقدماً الشكر والتقدير للجنة على التنظيم الرائع من قبل جميع الفنيين والمدربين، ولتعريف المجتمع بهذه الرياضة الجميلة، ومتمنياً لهم دوام التوفيق والنجاح".

من ناحيتها أوضحت سبأ السعدية -إحدى منظمات كرنفال الريشة الطائرة- بأنها شاهدت العمل الجبار الذي قامت به اللجنة العُمانية لألعاب المضرب عن كثب، حيث كانت الأجواء مليئة بالحماس والمرح، وأن هناك جهد كبير في انتقاء وتنظيم مجموعة مناسبة من الألعاب والتمارين للأطفال، كما كان المكان جميلًا لتنظيم الحدث وتم استغلاله بشكل جيد مما ساعد على خلق بيئة مثالية لتطبيق برنامج الكرنفال، كما استمتع الأطفال كثيراً وتعلموا أساسيات رياضة الريشة الطائرة، وكان التعاون بين المنظمين واضحاً ومؤثراً في نجاح الفعالية.

يشار إلى أن اللجنة العُمانية لألعاب المضرب تقوم بأنشطة واسعة خلال صيف 2025م وذلك في رياضتي الريشة الطائرة والإسكواش، وذلك من خلال مجموعة من الأيام الرياضية، والبرامج الصيفية، بالإضافة إلى استمرار نشاط المراكز التدريبية.

مقالات مشابهة

  • «البيئة العمانية».. مبادرات وجهود مكثّفة ترسم مستقبلا بيئيا مستداما
  • «عارٍ أنا».. نصوص نثرية تستكشف الذاكرة والهوية
  • تفاصيل جديدة.. اغلاق منفذ صرفيت بالمهرة واسم القائد العسكري الذي قُتل في اشتباك مسلح عقب القبض على قيادي حوثي حاول الهرب
  • مشروع “ذاكرة المكان وجمالياته”.. نقلة نوعية في برامج مهرجان جرش الثقافية
  • اللجنة العمانية لألعاب المضرب تحتفي باليوم العالمي للريشة الطائرة
  • الدبلوماسية العمانية مرفأ السلام
  • إطلاق مشروع “الذاكرة الثقافية للمخيم” ضمن فعاليات مهرجان جرش للثقافة والفنون 2025
  • بالفيديو والصور.. القضاة يكرم داعمي حملة “صنع في الأردن” بغرفة صناعة عمان
  • اجعلوه صوتاً حراً.. المنبر الحسيني ذاكرة ثورة ومحرك إصلاح
  • عاشوراء.. الذاكرة تشتعل بدمعة