لجريدة عمان:
2025-12-10@11:39:42 GMT

من أجل صناعة ذاكرة ثقافية عمانية

تاريخ النشر: 18th, November 2024 GMT

العلوم.. بمختلف أبوابها تقوم على تأريخ طويل من التراكم المعرفي، فلا علم من دون مقدمات، فمن العلوم ما يرجع إلى مئات وآلاف السنين، ومنها ما يمتد إلى بداية الوجود الإنساني.. بل هناك بحوث علمية وأطروحات فلسفية تقرأ ما قبل وجود الإنسان، وتأثيره على مسار حياة البشر، ووُجِدتْ فروع تدرس تأريخية العلوم كـ«علم العلم» و«تأريخ العلم».

وكما اهتم العلماء بخارطة العلوم؛ اهتمت الأمم بمسيرة حضارتها الطويلة، فغدت يُحسب مجدها بما حققته في ماضيها من حضارة، وبما تحققه في حاضرها من مدنية. والدول تعيد بناء ذاتها متكئة على تاريخها الحافل بالأحداث، وهي ليست أحداثًا سياسية وعسكرية فحسب، وإنما هي أيضًا أحداث اجتماعية ومعرفية؛ من أديان ومعتقدات وأساطير وآداب وفنون ومخترعات.

إن الاهتمام بمسيرة العلوم وما أنتجته الإنسانية عبر تاريخها الطويل ليس جديدًا، فهو يمتد إلى ما قبل الميلاد، فينقل عن أرسطوطاليس (ت:322ق.م) اهتمامه بتاريخ العلوم؛ الإنسانية والطبيعية، وبجَمْعِ ما يتمكن من معلومات ومواد.. بل جَمَعَ حيوانات ونباتات؛ ليجري تجاربه عليها، وقد ذُكر بأنه أقام متحفًا طبيعيًا، وأنشأ مكتبة كبيرة تحتوي على مختلف العلوم، وبهذا يعدّ أرسطو مؤسس أقدم وعاء لذاكرة ثقافية؛ تشتمل على الطبيعيات والإلهيات والفلسفات والآداب والسياسة ونحوها. وهناك من يذهب إلى أن أول متحف تأسس عام 530ق.م في بلاد ما بين النهرين، وقيل: عام 2500ق.م في بابل. وأيًا كان التاريخ الصحيح.. فالمقصود أن البشرية منذ عصورها العتيقة اهتمت بذاكرتها الثقافية.

الذاكرة الثقافية.. إرث إنساني، يتعدى الحيّز الزمكاني للمجتمع الذي يحتضنها، فهي الأحداث والمعارف والعلاقات البشرية؛ تعاونًا وتنافسًا، التي تشكّل ذهنية مجتمع ما وضميره وتؤثر على ممارسة أفراده، منذ نشأته الأولى، وتتراكم ما بقي قائمًا. وقد ينقرض المجتمع وتبقى ذاكرته محفوظة بمختلف وسائل الحفظ، فالذاكرة الثقافية.. أطول عمرًا من حاضنتها الاجتماعية. وهي كلٌ متكاملٌ؛ كلُ عنصر يؤثر على الآخر، وأي تقسيم لها فهو اعتباري لتسهيل جمع عناصرها، ثم دراستها، ولهذا الغرض؛ يمكن تصنيفها إلى تاريخية وحضارية وعلمية ووطنية وقومية. والذاكرة.. وعاء يضم كل ما يتعلق بأي علم وفن، يتسع وطابها ويضيق بحسبما تخصص له، فذاكرة الأمة أوسع من ذاكرة المجتمع، والذاكرة القومية التي تضم مجموعة من الشعوب أوسع من الذاكرة الوطنية لدولة واحدة، وذاكرة العلوم الطبيعية أكبر من الذاكرة النباتية أو الحيوانية، وهكذا في سائر الذاكرات.

الفرنسي جوستاف لوبون (ت:1931م)، والذي أصفه بـ«العين الثانية لفلسفة الحضارة»، يذهب إلى أن أخلاق الأمم تتغير ببطء شديد، وأنها تظل محافظة على أخلاق نشأتها الأولى، وهي صلبة أمام تبدل الأنظمة عبر الزمان؛ سواءً أكانت دينية أم سياسية أم عرقية. إن للأمة «جينات ثقافية» كالجينات البيولوجية في الكائنات الحية، والتحوّل في جذور بُنية الأمة هو ما يغيّر هيكلتها، ولذا؛ لابد من الوقوف على الذاكرة الثقافية للأمة لفهم أخلاقها القائمة، فمن دون جمع ذاكرتها؛ ثم دراستها بتحليلها وتفكيك مكوناتها معرفيًا، تبقى تصرفات أفرادها غير معللة ولا متوقعة، خاصةً؛ إن حكم على أخلاقها بحسبما يطفو على السطح. مثلًا؛ يمكن أن تصف أمة بأنها متسامحة، ولكن عندما يُمَس شيء من عاداتها أو معتقداتها ينفجر وريد تعصبها، وربما تصاعد دخانه إلى العنف، فهي متسامحة.. ليس لقدرتها على استيعاب المتغيّرات وإنما لأنها مخدَّرة بجمودها، فإن أردت أن توقظها من سباتها غلى دم تعصبها وكشرت عن أنياب غضبها.

لنأتِ إلى ذاكرتنا الثقافية.. إن أهم وعاء ذاكرة عرفه المجتمع العماني هو المخطوطات؛ فهي مكتنز العلوم كالتاريخ والأدب والفقه واللغة، ومستوعب الأخلاق الفردية والمزاج الاجتماعي والتلاقح الحضاري، فالمخطوط العماني قبل المكتبة والجامعة والمتحف، هذه المؤسسات.. لم نعرف معظمها إلا في زماننا. وأما المكتبات فقد كانت محدودة ثم تطورت في العصر الحديث كمًا ونوعًا. ومع أهميتها إلا أنها تبقى أمام مفهوم الذاكرة الثقافية مخازن للمعرفة ومصادر للذاكرة، تنتظر ترقيتها إلى «ذاكرة عمانية» بمفهومها الثقافي الحديث.

وكما نجد ذاكرتنا العمانية مدونة في أسفار الأولين؛ فإن ذاكرة المعاصرين؛ لاسيما كبار السن، المسماة بالذاكرة الشفهية أو التاريخ المروي، هي الأخرى تشكل رافدًا مهمًا لذاكرتنا الثقافية.. بل هي الرافد الحي، الذي علينا أن نبذل الجهد لجمع محتوياته قبل أن يغور بموت أصحابه. هناك من قاموا بجمع جانب من عناصر هذه الذاكرة؛ سواءً من الباحثين أم المؤسسات، وهي بداية جيدة وضرورية، بيد أنه من المهم تكثيف الجهود وتوحيدها، ووضع خطة علمية وعملية لطرائق الجمع، بحيث تغطي جميع البلدان العمانية.

هناك مصادر أخرى للذاكرة.. منها: النقوش القديمة كالرسمات على صفحات الحوائط الجبلية، فهي إما رموز دينية واجتماعية، أو تعبير عن وقائع حربية وسياسية واجتماعية، أو كتابات أبجدية تعود إلى ما قبل الإسلام كخط المسند الذي لم تجمع نقوشه ولم تفك رموزه في عمان حتى الآن. ومنها: الكتابات الجدارية بالخط العربي، والتي تحفل بها الجوامع والحصون والبيوت العودة «الكبيرة» ونحوها، ففيها مادة مهمة عن حوادث الدهر وصروفه المتقلبة، وعن أسماء أشخاص ووفياتهم؛ عاشوا على أرض عمان وتركوا بصمتهم عليها. ومنها: الأطلال والمواقع الأثرية، التي تحتاج إلى استنطاق بربطها بأحداث زمانها، والوضع الاجتماعي والسياسي الذي عاشه منشئوها. وبرغم الجهود الكبيرة التي بذلت في التنقيب عن الآثار الغابرة في عمان؛ إلا أن الكشف الآثاري لا يزال في بداياته، ناهيك عن قلة تحليله الثقافي وضعف ربطه بالحركة الحضارية التي سادت المنطقة حينذاك.

المعتقدات والعادات والتقاليد والألعاب الشعبية والأغاني والموسيقى.. أيضًا روافد للذاكرة الثقافية العمانية. فمعرفة مكان ظهورها؛ سواءً أكانت محلية، أم وافدة على عمان واستقرت فيها، وتتبع طريقة ممارستها، ومدى التطور الذي لحقها، كل ذلك يسهم في فك «الخارطة الجينية» للذاكرة العمانية. وعلينا ألا ننسى بأن عمان على مدى تأريخها استقبلت هجرات بشرية، وتعرضت إلى الغزو، وتمددت في حكمها إلى بقاع احتكت بسكانها، كل هذا رافد لذاكرتها. وبالجملة؛ هناك الكثير من مظان ذاكرتنا الثقافية؛ وإنما ذكرت بعضها على سبيل المثال، وتبقى على مؤسساتنا وباحثينا مواصلة جهودهم في تكوين هذه الذاكرة.

إن الذاكرة الثقافية العمانية متوزعة في أمكان كثيرة، قد لا نلقي لها بالًا، في حين هي مخازن للمعرفة ومكانز للعلم، ولذلك؛ كل الجهود العلمية مهمة لجمعها وبنائها. وفي زمننا يوجد الكثير مما يمكن الاستفادة منه لبناء هذه الذاكرة، بدءا من الجامعات والمكتبات والمراكز الثقافية والإعلام؛ بمختلف أنواعه، وليس انتهاءً بالناس الذين هم جزء من الذاكرة وناقلوها. ولابد من الإشارة إلى الجهود التي تقوم بها مؤسسات عديدة في سلطنة عمان، منها: وزارة الثقافة والرياضة والشباب؛ في جمع المخطوطات وتحقيقها، والمنتدى الأدبي؛ بوصفه مؤسسة للإنتاج العلمي، وهيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، ومركز ذاكرة عمان، والمتحف الوطني، ومتحف عمان عبر التاريخ، ومتحف البليد، ومكتبة السيد محمد بن أحمد البوسعيدي، وعموم المكتبات الأهلية؛ خاصةً التي تحوي المخطوطات والوثائق.

إن ما نحتاج إليه في المرحلة القادمة من عمر الدولة الحديثة؛ وضع دراسة لمشروع متكامل للذاكرة الثقافية العمانية، يُبنى على أسس منهجية علمية؛ وتستخدم فيه أحدث أدوات التقنية الرقمية، مع فريق واسع مدرب على جمع المعلومات، وفريق من الباحثين المقتدرين على التحليل العلمي الموضوعي لمسيرة العماني؛ منذ بدأ حياته على أرض عمان حتى اليوم، مع نخبة من المفكرين والفلاسفة؛ ليسهموا في فهم الشخصية العمانية والتحولات التي أصابتها والمآلات التي تنتظرها. لم تعد الذاكرة الوطنية ترفًا علميًا ولا هدرًا ماليًا، وإنما أصبحت من ركائز ومنطلقات صناعة المستقبل الثقافي.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذاکرة الثقافیة

إقرأ أيضاً:

فوز "العمانية لنقل الكهرباء" بجائزتين في "قيادة الطاقة النظيفة"

 

 

مسقط- الرؤية

فازت الشركة العُمانية لنقل الكهرباء بجائزتين مرموقتين ضمن حفل جوائز عُمان لقيادة الطاقة النظيفة 2025، إذ يأتي هذا التتويج تقديرًا لجهود الشركة في تعزيز كفاءة الأنظمة وتطوير بنية تحتية للطاقة الحيوية والمرنة تستجيب للنمو المتسارع والاتجاهات الوطنية والعالمية نحو الطاقة المتجددة.

وتُعد جوائز عُمان لقيادة الطاقة النظيفة من المبادرات الوطنية البارزة التي تسلّط الضوء على التميز والابتكار والإسهامات المؤثرة في قطاع الطاقة النظيفة، إذ تستهدف تكريم المؤسسات والأفراد الذين يسهمون في دعم الحلول المستدامة وتطوير تقنيات الطاقة المتجددة والشبكات الذكية والممارسات البيئية. كما تؤكد هذه المبادرة التزام السلطنة بتمكين بيئة طاقة متطورة ومرنة تتوافق مع التوجهات المستقبلية ورؤية "عُمان 2040".

وحصدت الشركة العُمانية لنقل الكهرباء جائزة شركة العام في مجال الطاقة الشمسية (فئة الهيكلة) ضمن جوائز التميّز في الأعمال، تقديرًا لصدارتها في الحصول على شهادة اعتماد أنظمة الإدارة المتكاملة، كونها أول مؤسسة عُمانية ومن بين الأوائل في المنطقة تحقق هذا الاعتماد، كما فازت الشركة بجائزة أفضل ابتكار للتكنولوجيا الذكية لعام 2025 ضمن جوائز التميّز في التكنولوجيا والابتكار، عن مشروع تطوير أدوات التنبؤ بمصادر الطاقة المتجددة الذي يجسد تبني الشركة للتقنيات الحديثة والذكاء الصناعي في دعم جاهزية الشبكة وتحسين كفاءتها.

وقال المهندس هشام بن عبدالله الريامي، الرئيس التنفيذي للشركة (بالوكالة)، إن هذا الإنجاز يمثل محطة مهمة تعكس الجهود المبذولة لتعزيز الأداء وإبراز دور الشركة في قيادة التحول في قطاع الطاقة، مضيفا: ""نحن فخورون بالفوز في فئتين أساسيتين ضمن جوائز عُمان لقيادة الطاقة النظيفة 2025، وهو تأكيدٌ لالتزام الشركة العُمانية لنقل الكهرباء بالابتكار والتميز التشغيلي ودعم أهداف التحول في الطاقة نحو مستقبل أكثر اخضرارًا واستدامة، كما يعكس هذا الإنجاز تفاني فرق العمل التي تعمل وفق أعلى المعايير وتتبنى أحدث التقنيات لتحقيق تغيير إيجابي في قطاع الطاقة. وسيمثل هذا الفوز حافزًا لمواصلة تعزيز جاهزية الشبكة وتحقيق طموحات عُمان المستقبلية."

وتعكس هذه الجوائز حرص الشركة على الارتقاء بمستوى جودة وكفاءة الأعمال، وتعزيز مرونة الشبكة الوطنية، وبناء منظومة طاقة ذكية قادرة على مواكبة متطلبات الحاضر والتوسع المستقبلي، وفق أعلى المعايير المعتمدة عالميًا.

مقالات مشابهة

  • سلطنة عُمان ترسخ موقعها كوجهة رائدة للاستثمار في صناعة أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية
  • محادثات لبنانية - عمانية مثمرة وتحرك ديبلوماسي لم يبدد المخاوف من تجدد التصعيد الاسرائيلي
  • قمة لبنانية - عمانية بين الرئيس عون والسلطان هيثم بن طارق.. وتوافق على فتح افاق جديدة من التعاون والشراكة
  • جندال ستيل بصحار تحتفل بانضمام 21 من المواهب العمانية كموظفين
  • نادي عمان يطمع في الحفاظ على اللقب.. ومسقط يريد استعادة ذاكرة التتويج
  • قمة عمانية لبنانية تعزز العمل المشترك وتبحث التحولات الإقليمية والدولية
  • نحو إنجاز شركة جزائرية عمانية لصناعة الأدوية والمستلزمات الطبية
  • الجغبير: الزيارة الملكية لغرفة صناعة عمان تعزز نمو الصناعة الأردنية
  • فوز "العمانية لنقل الكهرباء" بجائزتين في "قيادة الطاقة النظيفة"
  • الذاكرة المثقوبة