لجريدة عمان:
2025-06-01@23:30:05 GMT

جحا.. الواقع والخيال

تاريخ النشر: 19th, November 2024 GMT

لم يكن العرب دعاة نكد فحسب، بل كانوا يطلّون على نتف من المتع والمؤانسة والفكاهة والظرف، حتّى احتلّ الأمر بابا من أبواب الكتابة العربيّة القديمة عنوانه الظرف والظرفاء فـي الأدب العربيّ، فظهرت مدوّنات وفـيرة جامعة لنتف من مشاهد الفكاهة وأخبار الظرفاء ونوادر المتماجنين، وقامت سرديّة تامّة العناصر حول هذا الحقل الدلاليّ، وبانت فـي كتب، منها: كتاب الظرف والظرفاء للوشّاء، أخبار الحمقى والمغفّلين، أخبار الظرّاف والمتماجنين لابن الجوزي، التطفـيل وحكايات الطفـيليين وأخبارهم ونوادر كلامهم وأشعارهم للخطيب البغدادي، لطائف اللّطف لأبي منصور الثعالبي، وكتاب البخلاء للجاحظ.

وقد كانت الحضارة العربيّة خاصّة فـي عصر العبّاسيين مهادا خصيبا لظهور فنّ لم يهمله الأدباء، وهو الطرافة والظرافة، وهو فنّ موصول أساسًا بمجالس الملوك والأمراء وذوي الجاه والمال. وقد ذكر ابن النديم فـي فهرسته جملة من كتب النوادر التي لا يعلم مؤلّفوها والتي كانت رائجة ودارجة فـي الثقافة الشعبيّة العربيّة، يتناقلها النّاس ويطلبون نسخها، منها: كتاب نوادر جحا، كتاب نوادر أبي ضمضم، كتاب نوادر ابن أحمر، كتاب نوادر سورة الأعرابيّ، كتاب نوادر ابن الموصلي، كتاب نوادر ابن يعقوب، كتاب نوادر أبي عبيد الحزمي، كتاب نوادر أبي علقمة، كتاب نوادر سيفويه. وقد كانت هذه النوادر الشائعة والدارجة فـي الثقافة الشعبيّة مصدرًا استقى منه الرواة العلماء مثل ابن الجوزي والجاحظ والوشّاء نوادر ضمّنوها كتبهم، واعتمدوا عليها لبناء أدب ساخر كان له الأثر الحسن فـي تاريخ الأدب العربيّ، فلقد كان المخيال الشعبيّ دوما أقوى وأقدر من الخيال العالم.

وقد برزت تبعا لذلك شخصيّات وأشخاص برزوا فـي هذا الفنّ وتخصّصوا فـيه، فأمّا الأشخاص فهم الأدباء والشعراء الذين داخلوا هذا الفنّ، ومنهم بشّار بن برد وأبو نوّاس وأبو دلامة، والجاحظ، وأمّا الشخصيّات، فهي كائنات خطابيّة، أو ذوات تخييليّة أنتجها المخيال الجمعي الشعبيّ ومن بعده المخيال العالم، لتتّخذ سندا للتندّر والتفكّه، هي نماذج للظرافة وللغباء فـي الوقت ذاته، لحسن العبارة وحسن التخلّص من المآزق ولسرعة الوقوع فـيها، فكانت هذه الشخصيّات حمّالة أوجه ومنبع تناقض.

ولعلّ أهمّ الظرفاء الذين أنتجتهم الثقافة العربيّة شخصيّة جحا العابرة للثقافات، التي ابتدأت صورة عربيّة لشخص وجد فـي القرن الأوّل للهجرة (حسب أغلب الدارسين) وعاصر الخلافة الأمويّة وعمّر فـي الكون، وهو أبو الغصن دجين الفزاري، وانتقل إلى غالب الثقافات بنفس الصفات والحكايات، مع مراعاة المقام الحضاري، فمن ذلك -على سبيل التمثيل- أن جحا العربيّ أخذ صورة وهيئة فـي الأدبيّات التركيّة، وتترك، وأسند له اسم تركيّ، وحرّك فـي الفضاء التركيّ مع المحافظة على صفاته وأعماله، وهو نصر الدين خوجة. ولقد نمّى المخيال العربيّ الشعبيّ صورة جحا تدريجيّا حتّى راكمت نوادره وطرائفه وحمّلته كلّ ما يمكن أن يتندر به.

وقد تقلّبت هذه الشخصيّة فـي مدوّنات عربيّة عديدة واتّخذت أوجها وتنقّلت بين الأدب العالم والأدب الشعبيّ. فإن وقفنا -على سبيل المثال- على هذه الشخصيّة التي حمّلت الظرف والحماقة والطرافة، ألفـيناها قد فارقت عالمها الشعبيّ ودخلت كتب العلماء والفقهاء تثبّتا ونسبة وردّا للشخصيّة إلى شخص فـي التاريخ معلوم، فمن ذلك أنّ كتبا عديدة أثارت مسألة نسبه وهويّته، وصدقه وكذبه، منها كتاب سير أعلام النبلاء لشمس الدين الذهبي الذي يقف طويلا فـي حدّ شخصيّة جحا وبيان صفاتها ونسبها، يقول: «جحا أبو الغصن دجين بن ثابت اليربوعي، البصري ،صاحب النوادر. وروى عن: أسلم، وهشام بن عروة شيئا يسيرا. وعنه: ابن المبارك، ومسلم بن إبراهيم، وأبو جابر محمد بن عبد الملك، والأصمعي، وبشر بن محمد السكري، وأبو عمر الحوضي، قال النسائي: ليس بثقة. ورُوي عن ابن معين قال: دجين بن ثابت هو جحا. وأما أحمد الشيرازي، فذكر فـي «الألقاب» أنه جحا، ثم روى عن مكي بن إبراهيم، قال: رأيت جحا الذي يقال فـيه: مكذوب عليه، وكان فتى ظريفا، وكان له جيران يمازحونه، ويزيدون عليه. قال عباد بن صهيب: حدثنا أبو الغصن جحا -وما رأيت أعقل منه- قال كاتبه: لعله كان يمزح أيام الشبيبة، فلما شاخ، أقبل على شأنه، وأخذ عنه المحدثون. «فننتبه إلى صورة أخرى لصاحب النوادر جحا، هي صورة المحدّث الراوية الثقة، الذي أخذ عن شيوخ فـي رواية الحديث، وأخذ عنه أعلام ثقات فـي الرواية، وهي صورة موجودة فـي كتب الحديث، جامعة بين تضعيف رواياته وتثبيتها، وقد ذكره أيضا برهان الدين الأبناسي فـي كتاب الشذا الفـيّاح من علوم ابن الصلاح نافـيا أن يكون هو جحا صاحب النوادر، وقد ذكره ابن الجوزي فـي كتاب الباعث الحثيث إلى شرح اختصار علوم الحديث، نافـيا أيضا أن يكون هو الشخص الذي ردّت إليه الشخصيّة، مستندا فـي ذلك إلى ابن الصلاح، يقول: «دجين بن ثابت أبو الغصن، يقال إنه جحا، قال ابن الصلاح والأصح أنه غيره»، وهو من صنف المجروحين فـي رواياتهم، عدّه خلدون الأحدب فـي كتاب زوائد تاريخ بغداد على الكتب الستة من الداخلين فـي زمرة الرواة الضعيفة رواياتهم المنكرة القليلة. وورد فـي كتاب التقييد والإيضاح شرح مقدّمة ابن الصلاح إنّ الدجين بن ثابت هو جحا حسبما ذهب إلى ذلك الجمهور، والأصحّ عنده أنّه غيره.

وورد فـي كتاب تعجيل المنفعة لابن حجر العسقلاني قوله: «الدجين بن ثابت اليربوعي أبو الغصن البصريّ عن أسلم مولى عمر وهشام بن عروة وعنه بن المبارك ووكيع وأبو عمر الحوضي ومسلم بن إبراهيم وجماعة وقال النسائيّ ليس بثقة وقال ابن حبان كان قليل الحديث منكر الرواية على قلّته، يقلب الأخبار، ولم يكن الحديث شأنه، وهو الذي يتوهم أحداث أصحابنا أنّه جحا». أوردت كلّ ذلك، تتبّعا لشخصيّة لم تتقبّل الذائقة العالمة أن تبقى مطلقة، سائبة، دون قيد أو ضبط، أو تبقى محض خيال، وصنيعة تخييل، ولذلك، كان الاجتهاد فـي ردّها إلى شخص راوية محدّث، موجود فـي التاريخ، ضعيف الرواية، مجروح الحديث، وكذا دأب العقل العربيّ العالم فـي كبح التخييل وشدّ انطلاقه وردّه دوما إلى واقع محدّد، ولعلّنا لاحظنا ذلك مع شخصيّة علّقت عليها أشعار وحكايات وهي شخصيّة مجنون بني عامر فـي إطار أقاصيص العشّاق وأخبارهم. العقل العربيّ ميّال إلى الضبط والتقييد، وشدّ المخيّل إلى واقع ما، ألا يمثّل هذا الأمر بابا من أبواب النكد أن يجتهد العقل العربيّ فـي مجادلة نسبة ونسب شخصيّة طريفة ظريفة أرادها الفكر العامّ مهربا من نكد الحياة، وفسحة للتندّر وابتكارا لشخصيّة يمكن أن تحمل منابت فكاهتهم، فـيأتي الفكر العالم النّكد ليردّها إلى شخص فـي الواقع، ويجعله من رواة الحديث، ويرفعه ويسقطه إضعافا أو تقوية لرواياته!؟

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: کتاب نوادر ة العربی ة فـی کتاب شخصی ة

إقرأ أيضاً:

تدشين كتاب «الشاهد الأول ضد بن لادن» : وثيقة نادرة تكشف أسرار القاعدة وصلتها بالسودان

 

شهدت العاصمة الأوغندية كمبالا أمس السبت حفل تدشين كتاب «الشاهد الأول ضد بن لادن – جمال الفضل السوداني الذي هز القاعدة» للصحفي محمد عبد العزيز وذلك وسط حضور نوعي من الصحفيين والمثقفين والمهتمين بقضايا الإرهاب والسياسة في المنطقة.

التغيير– كمبالا – فتح الرحمن حمودة

و في افتتاح الجلسة قالت الصحفية مديحة عبد الله مديرة الجلسة إن الكتاب يعالج قضايا عميقة تتعلق بالسودان والحرب والإرهاب مشيرة إلى أن الظروف التي تمر بها البلاد تجعلها عرضة لاختراق الجماعات الإرهابية.

وأكدت في حديثها أن السودان يواجه خطر تمدد تلك الجماعات نتيجة استمرار الحرب المستمرة حاليا ما يفتح المجال أمام نفوذ جديد لها في المنطقة.

و يعيش السودان منذ فترة تحديات أمنية وسياسية عميقة وسط استمرار الحرب والصراعات الداخلية التي تهدد استقرار البلاد و هناك مخاوف وسط هذه الظروف المتدهورة أن تجعل من البلاد بيئة خصبة لاختراق الجماعات الإرهابية التي تستغل الفراغات الأمنية والضعف السياسي لتوسيع نفوذها.

و قدم الأستاذ السر السيد عرضا تحليليا لمحتوى الكتاب مشيرا إلى أنه يتكون من ثلاثة فصول و قال إنه في فصله الأول يتناول السيرة الذاتية لجمال الفضل وانضمامه إلى الجماعات الجهادية مع عرض لتفاصيل تأسيس تنظيم القاعدة وأسماء المعسكرات وهيكله التنظيمي وأهم قادته إضافة إلى الخلافات الداخلية.

و في فصله الثاني يغوص في فترة وجود القاعدة في السودان بدءاً من زيارة بن لادن التفقدية ولقائه بحسن الترابي مرورا بأنشطته الاقتصادية ودور جمال الفضل في إدارة تلك العمليات بما فيها كذبه وسفره إلى إريتريا كما أن هذا الفصل قدم تفاصيل دقيقة عن علاقة القاعدة بالحكومة السودانية والمنظمات الخيرية التي كان لها أدوار موازية.

و أوضح أن الفصل الثالث رصد خروج الفضل من السودان ومروره بسوريا والأردن وتسليم نفسه للاستخبارات السعودية في إريتريا كما يتطرق لمحاولاته التواصل مع السفارات الإسرائيلية والأمريكية وعلاقة القاعدة بالجيش السوداني وتهريب الأسلحة وظهور اسم عبد الباسط حمزة كما يسرد قضايا فساد الفضل نفسه ومحاكمة «أبو مصعب السوداني» في فصل اعتبر من أخطر فصول الكتاب.

و جمال أحمد محمد الفضل هو شخصية عسكرية سودانية معروفة بدوره في الحركات الجهادية خلال أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات حيث تم تجنيده للقتال في أفغانستان عبر مسجد الفاروق في بروكلين و انضم في عام 1988 إلى تنظيم القاعدة وأدى قسم الولاء لزعيمه آنذاك أسامة بن لادن إلا أن الفضل شهد خلافا حادا مع بن لادن أدى إلى انفصاله عن التنظيم ليصبح لاحقا شريكا للحكومة الأمريكية عبر تقديم معلومات استخباراتية عن القاعدة .

وأوضح السيد أن الكاتب استخدم أسلوبا أدبيا أقرب إلى السرد الروائي دون التقيد الصارم بالترتيب الزمني وهو ما منح النص طابعا دراميا في بعض المواضع كما أشار إلى أن الفصول بنيت على عناوين فرعية تنظم الهيكل العام للكتاب وتكشف في كل مرة زاوية جديدة من القصة.

كما نوه إلى أن الكاتب حاول عقد مقارنات بين الأدلة التي قدمها جمال الفضل مما منح الكتاب بعدا تحليليا مهما رغم أنه لم يتدخل كثيرا كمؤلف في توجيه السرد ما يمنح العمل طابعا موضوعيا.

وفي مداخلة أخرى وصف الصحفي ماهر أبو الجوخ الكتاب بأنه في الأصل بدأ كمشروع تحقيق استقصائي ثم تحول إلى كتاب شامل وأشاد بالتفاصيل الدقيقة التي قدمها المؤلف حول تنظيم القاعدة والتي قال إنها غابت عن معظم الكتب التي تناولت التنظيم وأضاف أن الكتاب يقدم أول لائحة اتهام رسمية ضد القاعدة في التسعينيات.

وأشار أبو الجوخ إلى أن الكتاب يظهر العلاقة المباشرة بين الجماعات الإسلامية والإرهاب الدولي ويشرح بنية القاعدة وتحالفاتها في دول مختلفة لكنه انتقد غياب خاتمة واضحة تبرز استنتاجات الكاتب كما أشار إلى وجود بعض التواريخ غير الدقيقة وتضارب في المعلومات لكنه اعتبر الكتاب وثيقة تاريخية مهمة توثق لفترة شائكة ومؤثرة.

وفي ختام الفعالية تحدث كاتب الكتاب محمد عبد العزيز عن تجربته مع الكتاب قائلا إن علاقته بجمال الفضل بدأت عام 2008 أثناء عمله على تحقيق صحفي حول دور السودان في تنظيم القاعدة واعتبر أن شخصية الفضل هي محور الكتاب دون أن يعني ذلك تبرئة التنظيم أو الحكومة بل تقديم «شاهد من الداخل».

وأضاف أن فكرة تحويل المادة إلى كتاب بدأت بعد اندلاع الحرب الأخيرة بعد أن تعذر النشر داخليا فتمت طباعته في مصر بعد عام ونصف من الجهد كما كشف أن جزءا من الكتاب تعرضت للحذف بسبب الرقابة لا سيما ما يتعلق بالاعتداءات التي طالت ابن جمال الفضل.

وأشار إلى أن الطبعة الثانية قيد الإعداد وستتميز بتقنيات سرد أكثر تطورا وميل أكبر نحو الطابع الروائي مع الحفاظ على الوقائع والحقائق.

و محمد عبد العزيز صحفي سوداني يتمتع بخبرة تمتد لحوالي عشرين عاما في مجال الصحافة و يشغل حاليا منصب سكرتير نقابة الصحفيين السودانيين ويعد من الأسماء البارزة في الصحافة السودانية و بدأ مسيرته في الكتابة بكتابه «عين على الصين» الذي مثل انطلاقة  أولى في مشوار تأليف الكتب  وواصل بعدها التفرغ للبحث والتحقيق في قضايا معقدة تمس السياسة والعلاقات الدولية والجماعات المسلحة.

الوسوم«الشاهد الأول ضد بن لادن» الصحفي السوداني محمد عبدالعزيز عين على الصين كتاب

مقالات مشابهة

  • هل يطالع الرئيس كامل إدريس كتاب تحفة الوزراء؟
  • تدشين كتاب «الشاهد الأول ضد بن لادن» : وثيقة نادرة تكشف أسرار القاعدة وصلتها بالسودان
  • يتضمّن تحذيرًا... كتاب من وزير المال إلى شركات تحويل الأموال!
  • اليانسون بين الطب والخيال.. فوائد مذهلة وتحذيرات لا تُهمل
  • لماذا الحديث عن أمن الهوية الثقافية؟
  • أقوى امرأة في التاريخ الحديث
  • هاوس: بين الحقيقة والخيال.. دراسة علمية تكشف 77 خطأ في المسلسل الشهير
  • «الإدارة الاستراتيجية».. كتاب جديد للدكتور بهاء الدين سعد
  • العقل المحاصر.. رحلة في دهاليز التفكير العربي المقيّد.. قراءة في كتاب
  • كتاب جديد يبرز واجب العلماء والدعاة لنصرة فلسطين والمسجد الأقصى