مع زيادة عمليات القرصنة وبرامج الفدية والهجمات الإلكترونية حول العالم في السنوات الأخيرة، فإن أكثر ما يقلق مشغّلي الأنظمة هو هجمات “حقن البيانات المزيفة”، التي تعتبر أخطر أنواع القرصنة وأكثرها خبثًا، حيث يمكن لأي مهاجم متمكن قلب النماذج الحاسوبية وعمليات تحليل البيانات القائمة على الذكاء الاصطناعي، التي تضمن التشغيل الآمن للشبكات الكهربائية ومحطات الطاقة النووية والمستشفيات والمصانع وأنظمة الملاحة الجوية، في أي دولة ضد نفسها.


حيث يخترق المهاجم الدفاعات الرقمية والإلكترونية، ويغذي أجهزة الحاسوب التي تتحكم في هذه الجهة ببيانات ومعلومات وهمية ومتعارضة، وبهذه الطريقة يخدع نظام الحماية كله، فالكل يعتقد أن ما يحدث أمر طبيعي، ويسيطر المخترق بعد ذلك على المحطة أو المنشأة بالكامل، قبل أن يدرك الموظفون ما يحدث، والنتائج بطبيعة الحال ستكون كارثية بكل المقاييس.
وهو ما جعل العلماء والباحثين يسعون لإيجاد حلول وتقنيات جديدة “مدركة ذاتيًا” لحماية أنظمة التحكم الصناعية والطبية وغيرها ضد التهديدات الداخلية والخارجية.
هذا التحدي وغيره ستكون محل نقاش وبحث بين خبراء الأمن السيبراني خلال “بلاك هات 24” الذي تستضيفه العاصمة الرياض حاليًا.

* الهجمات على الأنظمة الصحية زادت بنسبة ٥٥٪
يحذر البروفيسور عوض العمري، الخبير في القطاع الصحي، من أن التقديرات العالمية تشير إلى أن الهجمات السيبرانية على الأنظمة الصحية زادت بنسبة ٥٥٪ في السنوات الأخيرة، ما يعكس الحاجة الملحة لتوفير بيئات رقمية آمنة لحماية البيانات، وضمان استمرارية الخدمات الصحية.
وقال: في الولايات المتحدة وحدها، تؤدي الهجمات الإلكترونية إلى خسائر سنوية تتجاوز ٦ مليارات دولار نتيجة تعطل الأنظمة، أو سرقة البيانات الحساسة.
هذا الواقع يبرز أهمية البيئة الرقمية الآمنة، كعنصر أساسي في تحسين رحلة المريض وضمان سلامته، خاصة مع تسارع التحول الرقمي الذي يشهده القطاع الصحي عالميًا.
وتعتمد رحلة المريض الحديثة على أنظمة متقدمة، مثل السجلات الطبية الإلكترونية، والتطبيب عن بعد، وتطبيقات إدارة المواعيد، مما يجعل حماية البيانات الرقمية أمرًا حيويًا، لضمان تقديم خدمات صحية موثوقة وآمنة.
وتوفر البيئة الرقمية الآمنة حماية للمعلومات الشخصية والطبية الحساسة، مما يعزز ثقة المرضى بمقدمي الرعاية الصحية. هذه الثقة تدفع المرضى إلى تقديم بيانات دقيقة وشفافة، وهو ما يساهم في تحسين جودة التشخيص والعلاج. كما تقلل البيئة الرقمية الآمنة من الأخطاء الطبية الناتجة عن فقدان أو التلاعب بالبيانات، مما يحسن من سلامة المرضى بشكل مباشر.
وبالإضافة إلى ذلك، يسهل تخزين البيانات بشكل آمن ومنظم على الفرق الطبية الوصول إليها بسرعة، مما يعزز من كفاءة اتخاذ القرارات السريرية.
وفي هذا السياق، حققت المملكة بحمد الله قفزات نوعية في رحلتها نحو التحول الرقمي، مدفوعة برؤية 2030 التي تهدف إلى بناء بنية تحتية رقمية قوية وآمنة.
وقد نجحت المملكة في تحقيق إنجازات بارزة في مجال الأمن السيبراني، ما جعلها تحتل مراتب متقدمة عالميًا.
وأسهمت هيئات متخصصة مثل الهيئة الوطنية للأمن السيبراني في وضع معايير صارمة لحماية الأنظمة الرقمية، خاصة في القطاعات الحيوية مثل الصحة.
وهذه الجهود مكنت القطاع الصحي من تقديم خدمات مبتكرة، تعتمد على تقنيات متقدمة، مثل التشفير الذكي والذكاء الاصطناعي، مما يضمن حماية بيانات المرضى وتحسين تجربتهم العلاجية.
ولقد أصبحت رحلة التحول الرقمي في المملكة نموذجًا رائدًا لبناء بيئات آمنة وفعالة، تعزز من رفاهية الإنسان وجودة الرعاية الصحية. والقادم أجمل وأفضل بإذن الله.

* “بلاك هات” ليست مجرد فعالية
يؤكد الباحث عبدالرحمن الكناني، وهو المتخصص في اكتشاف المخاطر والثغرات والمؤسس لشركة “سايبر”، أن المملكة شهدت بفضل الله نقلة نوعية في مجال الأمن السيبراني، تمثلت في استضافة فعاليات عالمية كبرى مثل “بلاك هات الشرق الأوسط وأفريقيا”. هذه الفعالية الدولية التي تقام حاليًا في الرياض تعد من أبرز الأحداث المتخصصة في مواجهة التهديدات الرقمية، وتعزيز الجاهزية الإلكترونية.

* بالأرقام.. السعودية وقوة التأثير
منذ انطلاقتها في المملكة استقطبت الفعالية أكثر من 40 ألف مختص في الأمن السيبراني، من أكثر من 100 دولة، وشارك فيها 450 جهة عارضة من الشركات العالمية والمحلية، بما فيها أبرز الأسماء مثل شركة سايبر. كما تضمنت 200 جلسة نقاشية وورش عمل متقدمة، مما جعلها محطة محورية لتبادل الأفكار والخبرات.

* تحولات جوهرية
خلال سنوات انعقادها أحدثت بلاك هات نقلة نوعية في فهم وتطبيق استراتيجيات الأمن السيبراني، حيث انتقلت من كونها منصة لعرض التقنيات إلى مختبر حي للتجربة. وأصبح الحدث نموذجًا يحتذى به لتطوير السياسات الأمنية ومواجهة التحديات الرقمية المتسارعة، مثل هجمات الفدية والاختراقات المتطورة.

اقرأ أيضاًالمنوعاتتصاعد التوترات الجيوسياسية يرفع أسعار كل من النفط والذهب

* أهميتها للمملكة
تأتي أهمية بلاك هات من قدرتها على دعم قطاعات حيوية كالبنوك، والطاقة، والبنية التحتية الرقمية، من خلال تعزيز القدرات الدفاعية، وتطوير الكفاءات المحلية.
وورش العمل المتقدمة لم تكن مجرد تعليم نظري؛ بل منصة لابتكار حلول تحاكي واقع التحديات الإلكترونية، مما يعزز الاعتماد على الكفاءات الوطنية.

* حاجة متزايدة
في ظل تصاعد الهجمات الرقمية عالميًا أصبح الأمن السيبراني ليس مجرد ضرورة تقنية، بل عاملاً استراتيجيًا لتحقيق التنمية المستدامة.
وتمثل فعالية بلاك هات خطوة حاسمة في تعزيز موقع المملكة كقوة رقمية قادرة على حماية استثماراتها وتطوير بنيتها التحتية، مع بناء جيل من الخبراء القادرين على التصدي لأي تهديد.
“بلاك هات” ليست مجرد فعالية، بل رمز لعصر جديد من الحماية الرقمية والتمكين السيبراني في المملكة.

* كيف نربط الأمن السيبراني بالتقنيات الناشئة؟
تقول د. فاطمة يوسف العقيل، مستشار الأمن السيبراني، والأستاذ المساعد بجامعة الملك سعود، حول هذا الموضوع: في البداية أعتقد أن معرض ومؤتمر “بلاك هات” هو أهم حدث دولي للباحثين والمبتكرين والمخترعين في مجال الأمن السيبراني، ومن خلاله يتم التواصل مع المختصين والخبراء لمعرفة الموضوعات الحديثة الهامة، التي تلاقي انتشارًا واسعًا محليًا ودوليًا.
ومن أهم الجوانب التي نتطلع إليها في هذا الحدث هو استكشاف تطور ارتباط الأمن السيبراني بالتقنيات الناشئة، ومدى نضج الخدمات والمنتجات في هذا المجال.
فيما يلي بعض التقنيات الحديثة، التي أعتقد أنه من الضروري التوقف عندها والاستفادة منها بشكل أكبر، وكيفية استخدامها في الحماية:
– الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي: وتقوم هذه التقنيات بتحليل كميات هائلة من البيانات، والتنبؤ بالتهديدات المحتملة، وعند تطبيق هذه التقنيات يمكن لخبراء الأمن السيبراني تحديد وكشف التهديدات والاختراقات، والاستجابة لها بشكل أسرع وأكثر دقة. إضافة إلى ذلك يتم استخدام هذه التقنيات في القياسات الحيوية السلوكية للمستخدمين، من خلال تحليل أنماط تفاعل المستخدمين مع الأجهزة، مثل سرعة الكتابة وحركة الماوس والتنقل، ومن خلال ذلك يمكننا تحديد التهديدات المحتملة، والتعرف على المتسللين الذين حصلوا على حق الوصول غير المشروع إلى حساب المستخدم.
– سلاسل الكتل Blockchain: على الرغم من ارتباطها بالعملات المشفرة إلا أن لديها القدرة على رفع مستوى الأمان من خلال قدرتها على توفير تخزين آمن للمعلومات الحساسة، من خلال إنشاء قاعدة بيانات لامركزية، وذلك لعدم وجود سلطة مركزية تتحكم في البيانات، مما يقلل فرص المتسللين في الوصول غير المصرح به وكذلك تغيير وتعديل البيانات المخزنة مسبقًا.
– الحوسبة الكمومية Quantum Computing : هي تقنية تستخدم ميكانيكا لمعالجة البيانات، ولديها القدرة على حل المشكلات المعقدة بشكل أسرع بكثير من أجهزة الكمبيوتر التقليدية. وستحدث هذه التقنية تحولاً نوعيًا في مجال التشفير، حيث سيصبح من السهل فك التشفير مما يخلق تحديًا للخوارزميات الحالية ولذا سيصبح هناك تطور مستقبلي في طرق وخوارزميات التشفير.
– الحوسبة السحابية Cloud Computing: تشكل الحوسبة السحابية جزءًا أساسيًا للعديد من الخدمات والمنتجات التقنية، حيث تتيح تخزين ومعالجة البيانات، ولكنها تقدم أيضًا مخاطر أمنية جديدة، لذا فإن الأمن السيبراني قد تطور في هذا المجال، ليشمل تقنيات أمان السحابة لمعالجة هذه المخاطر، مثل المصادقة متعددة العوامل والتشفير وضوابط الوصول. ومن خلال الاستفادة من هذه التقنيات يمكن للشركات ضمان أمان بياناتها في السحابة.
ومن خلال معرض ومؤتمر “بلاك هات” تقدم الجلسات والنقاشات وكذلك الشركات العارضة أحدث التوجهات في هذه التقنيات المفيدة للمجتمعات والبشرية، مما يوسع آفاق المختصين والباحثين، ويتيح لهم التواصل المباشر مع الخبراء والشركات لتطوير منتجات وخدمات تخدم السوق المحلي والعالمي.

المصدر: صحيفة الجزيرة

كلمات دلالية: كورونا بريطانيا أمريكا حوادث السعودية الأمن السیبرانی هذه التقنیات بلاک هات ومن خلال فی مجال من خلال فی هذا

إقرأ أيضاً:

منظومة القمع المصري.. اختراق الحدود وملاحقة المعارضين بأي ثمن

اللجوء الذي لم يعد ملاذا

في أحد مطارات إحدى الدول، يدخل شاب مصري مقيم في دولة أوروبية منذ خمس سنوات إلى صالة الوصول، حاملا جواز سفر يحمل تأشيرة دخول؛ فجأة، تحيط به الشرطة ويُقاد إلى غرفة التحقيق، هناك يُعلم بأن اسمه على قائمة الإنتربول بناء على طلب مصري، بتهمة "الانتماء لجماعة إرهابية". في نفس اليوم، يُقتحم منزل أسرته في أحد أحياء القاهرة، ويُعتقل شقيقه بتهم ملفقة ويهدد برسائل لاعتقال أمه وأخته. هذه ليست قصة خيال، بل حالة متكررة في ملف النظام العسكري المصري الذي حوّل القمع من ممارسة محلية إلى صيد عابر للقارات.

الفصل الأول: التشريع كسيف مسلط على الرقاب البعيدة

هندسة القوانين لتصدير القمع

لم تترك السلطات العسكرية في مصر شيئا للصدفة، فمنذ تمدد المعارضة خارج الحدود وتمرد الشباب على المعارضة التقليدية، شرعت في هندسة ترسانة قانونية تسمح بملاحقة من يعتبرهم النظام "أعداء" أينما وجدوا. تم تعديل قوانين مكافحة الإرهاب والتجسس وقانون العقوبات لتوسيع نطاق الاختصاص القضائي المصري ليشمل أي فعل "يُضِر بالمصلحة العليا للدولة" حتى لو حدث خارج إقليمها، وصيغت النصوص بعبارات فضفاضة مثل "الإضرار بالاقتصاد الوطني" أو "النيل من هيبة الدولة" أو "نشر أخبار كاذبة"؛ مصطلحات قابلة للتأويل لتشمل أي انتقاد للنظام من الخارج، وما الصحفية المصرية بسمة مصطفي المقيمة في ألمانيا، أو عبد الرحمن عز المقيم في لندن، وأنس حبيب وحاتم شريف وإيناس إسماعيل وكاتب هذه السطور المقيمين في هولندا؛ عنكم ببعيد، فهي نماذج حية للقمع العابر للقارات.

القضايا الهلامية

يظهر نمط من القضايا الجماعية التي تُرفع ضد مئات الأشخاص، معظمهم يقيمون خارج مصر. تُصنع هذه القضايا في أروقة الأمن الوطني، حيث تُختلق وقائع غير موجودة إلا في مخيلة ضابط الامن الوطني، وتُجمع أسماء عشوائية، وتُقدم للمحاكم كـ"قضايا كبرى". إحدى هذه القضايا الشهيرة تضم أكثر من 300 متهما، بينهم 200 على الأقل في الخارج، متهمين جميعا بـ"الانضمام لجماعة إرهابية" و"التمويل الإرهابي" و"التخابر لصالح جهات أجنبية". القضية لا تحوي أدلة مادية، بل تعتمد على اعترافات منتزعة تحت التعذيب من معتقلين آخرين، وروابط افتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي.

محاكمات الغياب كآلية إرهاب

تم إصدار أحكام غيابية بالمؤبد وحتى الإعدام على عشرات النشطاء في الخارج، في جلسات تستغرق دقائق معدودة، دون محامين للدفاع، ودون أدلة حقيقية كما ذكرها الضابط المنشق ماجد عثمان في فيديوهاته.

هذه الأحكام ليست للتنفيذ في الواقع -فمن الصعب تسلم المطلوبين من دول أوروبية- بل هي رسالة ترهيب واضحة: "نستطيع الوصول إليكم قانونيا، ونستطيع أن نعلنكم مطلوبين للعدالة".

الفصل الثاني: عُقدة العائلة.. عندما يصبح الحب سلاحا

الاعتقال الاستباقي للأقارب

طورت الأجهزة الأمنية ممارستها القمعية المنهجية والتي تعرف بـ"الاعتقال الاستباقي" أو "الاعتقال الاحتياطي" لأقارب النشطاء في الخارج. بمجرد أن يظهر اسم ناشط في برنامج تلفزيوني معارض من الخارج، أو ينظم وقفة احتجاجية أمام سفارة، تتحرك الأجهزة الأمنية لاعتقال أقاربه من الدرجة الأولى في مصر. الهدف واضح: تحويل نشاط المعارض في الخارج إلى تهديد وجودي لأسرته، وعلى سبيل المثال القضية الاخيرة برقم 1282 لعام 2024 والتي هي مثال للاعتقال الاستباقي للأقارب.

النساء دروع بشرية

لاحظ المراقبون تركيزا خاصا على اعتقال النساء من عائلات النشطاء. الأمهات تحديدا يتحولن إلى أهداف استراتيجية، فاعتقال أم ناشط في الثلاثينيات من عمره يولد ضغطا عاطفيا هائلا لا يتحمله معظم الأبناء. وفي حالات كثيرة، تُعتقل الزوجات والأخوات، ويواجهن ظروف احتجاز قاسية في سجون سيئة السمعة، أحيانا مع أطفالهن الرضع، وما أم عبد الرحمن الشويخ عنا ببعيد.

أسلوب "الرهائن"

في إحدى الحالات الموثقة، اعتقلت الأجهزة الأمنية والد ووالدة وأخوَيْن لناشط مقيم في قطر، وتركت لهم رسالة غير مباشرة: "أقنعوا ابنكم بالتوقف عن النشاط المعارض، وسنفرج عنكم". وأحيانا تكون الطلبات خيالية مثل نزول الناشط لمصر وتسليم نفسه، فتحولت الأسرة إلى رهائن سياسيين، وأصبح اتصالهم بابنهم في الخارج عبارة عن جلسات مراقبة ومحاولات للضغط عليه. العديد من النشطاء يقعون في مأزق أخلاقي لا حل له: إما التوقف عن نشاطهم السياسي الذي يؤمنون به، أو تحمل مسؤولية تعذيب واستغلال أحبائهم.

الخوف كفيروس مجتمعي

لا تستهدف هذه الممارسات النشطاء وعائلاتهم فقط، بل تخلق حالة من الرعب المجتمعي العام. صار الناس يخافون من وجود قريب في الخارج، ويتجنبون الحديث عن أبنائهم المغتربين، ويمتنعون عن مشاركة أخبارهم على وسائل التواصل خوفا من أن تجذب الانتباه الأمني، وفي أحيان كثيرة يقومون بحظرهم خوفا من الملاحقة والمراقبة. تحولت الهجرة واللجوء -التي كانت مصدر فخر لدعم الأسرة- إلى مصدر تهديد وخطر.

الفصل الثالث: الإنتربول.. القفاز القانوني للقبضة الأمنية

تحويل الشرعية الدولية إلى سلاح

تأسست المنظمة الدولية للشرطة الجنائية (الإنتربول) لمكافحة الجريمة العابرة للحدود مثل الاتجار بالمخدرات والأشخاص والجرائم المالية الكبرى، لكن النظام المصري استطاع تحويل هذه الآلية الدولية المحايدة إلى أداة للملاحقة السياسية. أصبح "الإشعار الأحمر" -الذي يفترض أنه تحذير للشرطة الدولية عن مجرم خطير هارب- مجرد وسيلة لملاحقة صحفيين وحقوقيين ومدونين والامثلة ذكرت سابقا وغيرها الكثير.

آلية الاختطاف القانوني

تتبع مصر استراتيجية خبيثة في استخدام الإنتربول: تقدم طلبات بإشعارات حمراء ضد ناشطين بناء على أحكام غيابية صادرة من محاكم استثنائية، مثل الزيارة الغريبة التي تحدث عنها أنس حبيب في أحد الفيديوهات الأخيرة.

تستغل الثغرة في نظام الإنتربول الذي لا يتحقق من شرعية القضايا الأساسية، بل يكتفي بالتحقق من اكتمال الأوراق. وهكذا يتحول ناشط سلمي إلى "مطلوب دوليا" بناء على قضية ملفقة بالكامل.

حالات مفجعة

في عام 2018، اعتقلت السلطات الإسبانية ناشطا حقوقيا مصريا لدى وصوله إلى مطار مدريد، بناء على إشعار أحمر من مصر. قضى 40 يوما في السجن قبل أن ترفض المحاكم الإسبانية طلب التسليم لعدم وجود أدلة حقيقية، لكن التجربة دمرته نفسيا وجعلته يعيش رهاب السفر والمطارات. وفي حالة أخرى، منعت سلطات مطار فرانكفورت شابة مصرية من السفر إلى بريطانيا لحضور مؤتمر أكاديمي، لأن اسمها كان على قوائم المراقبة بناء على طلب مصري. وافتح القوس ولا تغلقه مثلما حدث مع الناشط عبد الرحمن عز، والصحفي المرموق أحمد منصور الإعلامي في الجزيرة.

التكلفة الإنسانية

لا تقتصر آثار إساءة استخدام الإنتربول على الاعتقال أو منع السفر، بل تمتد إلى تدمير الحياة العملية والاجتماعية للناشطين. فوجود اسم الشخص على قوائم الإنتربول -حتى لو تم سحبه لاحقا- يترك أثرا دائما في قواعد البيانات الدولية، وقد يؤثر على فرص العمل والسفر والهجرة مدى الحياة. كما أن مجرد الخوف من الاعتقال في مطار ما يجبر الكثيرين على العزلة والاختباء، مما يحقق للنظام هدفه بإسكات الأصوات المعارضة.

الفصل الرابع: شبكات القمع الإقليمي والدولي

التحالفات الأمنية كأدوات قمع

لا تعمل السلطات المصرية بمفردها، بل هي أحيانا جزء من شبكة إقليمية للقمع العابر للحدود. فمن خلال التحالف مع دول مثل الإمارات العربية المتحدة وغيرها، تتبادل الأجهزة الأمنية معلومات عن النشطاء وتتعاون في مراقبتهم وملاحقتهم. في عدة حالات، تم اعتقال نشطاء مصريين في دول خليجية بناء على طلب مصري، ثم تسليمهم بشكل غير رسمي إلى القاهرة، وما حدث مع الشاعر عبدالرحمن يوسف القرضاوي ليس عنا ببعيد.

الدبلوماسية السامة

تحولت السفارات والقنصليات المصرية في الخارج إلى مراكز للمراقبة والتجسس على الجاليات. يقوم موظفون أمنيون متنكرون بزي دبلوماسيين بجمع معلومات عن النشطاء، وحضور فعالياتهم، وتصوير المشاركين، وترهيب الطلبة المبتعثين عبر التهديد بإلغاء منحهم الدراسية أو منع عائلاتهم من السفر. وما حدث في وقفات أمام السفارات المصرية في عامي الحرب الأخيرة على غزة المطالبة بفتح المعبر خير مثال، حيث لوحقت عائلات المشاركين في حراك حصار السفارات مثل الناشطين عبد الرحمن إيهاب وعمر إيهاب، حيث تم اعتقال عمهم جراء نشاطهم في حراك السفارات.

استغلال حروب مكافحة الإرهاب

تستخدم مصر بخبث الحملة العالمية لمكافحة الإرهاب، للتنكيل بكل معارضة سياسية بأنها "إرهاب"، وتقدم معلومات استخباراتية مشكوكا فيها لدول غربية عن نشطاء على أنهم "إرهابيون".

بعض الدول الغربية، في سعيها للحصول على معلومات استخباراتية عن الجماعات ذات المرجعية الإسلامية، فتقبل هذه المعلومات وتتعامل مع النشطاء كتهديدات أمنية، مما يلحق بهم ضررا بالغا، وما فضيحة مراقبة المساجد في هولندا وغيرها من الدول بتحريض من الإمارات ببعيدة عنا.

عسكرة العلاقات الدولية

تحول التعاون العسكري والأمني الى المحور الأساسي للعلاقات الدولية لمصر. ففي المفاوضات مع الدول الأوروبية حول اتفاقيات تجارية أو هجرة، تقدم القاهرة التعاون الأمني كعملة مساومة: "ساعدونا في ملاحقة المطلوبين لدينا، وسنضمن لكم التعاون في قضايا الهجرة غير النظامية أو مكافحة الإرهاب". وما حدث مع أنس حبيب في بلجيكا ومن إساءة استخدام السيسي للهيئات الدبلوماسية في محاولة للتنكيل بكل صوت يعارضه من الخارج؛ خير دليل.

الفصل الخامس: آثار نفسية ومجتمعية مدمرة

جروح غير مرئية

ما يعايشه النشطاء المصريون في الخارج من ضغط نفسي هائل لا يقل عن ضغط من يسجنون في الداخل. يعاني الكثير منهم من اضطراب القلق العام، ونوبات الهلع، والاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة. الشعور الدائم بالتهديد، والخوف على الأهل، والإحساس بالعجز عن حماية الأحباء، كلها عوامل تدمر الصحة النفسية.

غياب الثقة

تعد هذه الممارسات تمزيق للنسيج الاجتماعي للمجتمعات المصرية في الخارج. فالخوف من أن يكون أي شخص عميلا للنظام، أو أن المعلومات قد تتسرب عبر الصداقات، يجعل النشطاء يعيشون في عزلة وشك دائم؛ تختفي الثقة بين الناس، ويصعب بناء تحالفات أو عمل جماعي إلا في أضيق الحدود.

تحول مفهوم الوطن

تعتبر علاقة الناشطين في المنفي مع الوطن علاقة معقدة جدا. فمن ناحية، حبه لمصر وشعوره بالمسؤولية تجاهها هو ما يدفعه للنشاط السياسي، ومن ناحية أخرى، فإن الدولة المصرية نفسها (أو النظام الحاكم فيها الذى هو الاحتلال العسكري) يعد مصدر تهديده الرئيسي. هذا التناقض يخلق أزمة هوية عميقة، ويجعل الحنين إلى الوطن محفوفا بالألم والخوف.

إرث للأجيال القادمة

قد ينتقل الخوف عبر الأجيال كإرث، فأبناء النشطاء في الخارج يولدون ويتربون في أجواء من السرية والخوف، يتعلمون ألا يتحدثوا عن عمل والديهم، وألا يشاركوا معلومات عن عائلاتهم، ويعيشون مع فكرة أن هناك "نظاما شريرا" في وطن والدهم يريد إيذاءهم. ويشكل هذا وعيا سياسيا مشوها ومليئا بالخوف للأجيال القادمة، بدلا من الانفتاح والتمتع بالحرية التي حرموا منها في أوطانهم الأصلية.

الفصل السادس: آليات المواجهة والمقاومة

القانون كسلاح ذو حدين

دفعت الممارسات القمعية في دولهم الأصلية إلى استخدام النشطاء لدراسة ومعرفة القانون الدولي والقوانين المحلية في دول اللجوء للدفاع عن أنفسهم. ففي عدة حالات، نجح محامون متخصصون في إلغاء إشعارات الإنتربول الحمراء عن طريق كشف تلفيق القضايا في المحاكم المحلية، كما رفع نشطاء دعاوى قضائية ضد النظام المصري في محاكم أوروبية بتهمة "المطاردة السياسية" و"انتهاك حقوق الإنسان".

توثيق منهجي

طور النشطاء ومنظمات حقوق الإنسان آليات دقيقة لتوثيق كل حالة اعتقال عائلي، وكل إشعار إنتربول، وكل تلفيق قضائي. هذا التوثيق لا يستخدم فقط للدفاع القانوني، بل أيضا لكشف هذه الممارسات إعلاميا، مما يكشف الوجه الحقيقي للنظام المصري على المستوى الدولي وتكون كلفته السياسية باهظة للنظام.

شبكات التضامن

ظهرت شبكات تضامن إقليمية ودولية تدعم النشطاء المطاردين. تتكون هذه الشبكات من منظمات حقوقية، وبرلمانيين، وإعلاميين، وأكاديميين، ونشطاء من جنسيات مختلفة. تعمل على حماية الأفراد المهددين، والضغط على الحكومات لعدم التعاون مع طلبات التسليم السياسية، وتقديم الدعم النفسي والقانوني.

المقاومة الرقمية

استخدم النشطاء التكنولوجيا ليس لنشر أخبار الانتهاكات فقط، بل أيضا لبناء أنظمة حماية رقمية. فمن خلال تشفير الاتصالات، واستخدام شبكات آمنة، وإنشاء قواعد بيانات موزعة عن الانتهاكات، استطاعوا الحد من قدرة النظام على مراقبتهم وملاحقتهم رقميا.

الفصل السابع: مستقبل القمع ومستقبل الحرية

تطور أدوات القمع

مع تطور الوسائل التكنولوجية، تتطور معها أدوات القمع العابر للحدود. فباستخدام الذكاء الاصطناعي، يمكن للنظام تتبع النشطاء عبر منصات التواصل بشكل أسهل، وباستخدام تقنيات الاختراق الإلكتروني المتطورة، يمكن اختراق هواتف النشطاء ومقاطع اتصالاتهم. كما أن أنظمة التعرف البيومتري في المطارات العالمية تجعل من الصعب على المطلوبين السفر حتى بهويات مزورة.

الصراع على السرديات

تعد المعركة الحقيقية اليوم هي معركة سرديات، فالنظام المصري يصور النشطاء على أنهم "إرهابيون" و"خونة" و"عملاء أجانب"، بينما يحاول النشطاء تقديم أنفسهم كـ"مدافعين عن حقوق الإنسان" و"مناهضين للديكتاتورية". نتيجة هذه المعركة تحدد أي السرديات ستتقبلها الحكومات والمحاكم الدولية، وبالتالي تحدد درجة الحماية التي يحصل عليها النشطاء.

حدود القمع

على الرغم من قوة آليات القمع العابر للحدود، إلا أن لها حدودا. فالكثير من الدول الديمقراطية بدأت تدرك إساءة استخدام الإنتربول وتشدد إجراءاتها، كما أن التكلفة السياسية لهذه الممارسات على صورة مصر الدولية تزداد. والأهم، أن صمود النشطاء واستمرارهم في النضال رغم كل شيء يدل على أن القمع له حدود، أما إرادة الحرية فلا حدود لها.

ختاما: كسر دائرة الخوف

إن القمع العابر للحدود ليس مجرد تكتيك أمني، بل هو فلسفة وجودية تستخدمها القوى الاستبدادية وتهدف إلى تحويل العالم كله إلى سجن كبير، حيث لا ملاذ ولا منفى ولا خلاص، إنه محاولة لنفي فكرة اللجوء السياسي ذاتها، التي كانت لقرون منارة أمل للهاربين من الظلم.

لكن في مواجهة هذه الآلة القمعية المعقدة، يظهر شيء نفيس: قدرة البشر على المقاومة. فكل ناشط يرفض الصمت رغم اعتقال عائلته، وكل محامٍ يدافع عن مطلوب إنتربول رغم الضغوط، وكل صحفي يكتب عن هذه الممارسات رغم التهديدات، هم شموع تضيء ظلام القمع العابر للحدود.

تعد هذه معركة طويلة ومعقدة، لكن التاريخ يعلمنا أن الأنظمة التي تحتاج إلى هذه الدرجة من القمع لقمع معارضيها في الخارج هي أنظمة تعاني من شرعية هشة في الداخل، وأن الخوف الذي تنشره قد يعود كالمرتد ليدمر ناشريه. فحين تصبح العائلة سلاحا، تفقد الأسرة معناها، وحين يصبح القانون أداة قمع، تفقد الدولة شرعيتها، وحين يصبح الوطن مصدر تهديد لأبنائه يفقد حقه في الولاء.

الحرية، في النهاية، فكرة لا تعرف الحدود، والنظام الذي يحاول سجنها خارج أسواره سيكتشف أنه يحاول سجن البحر في زجاجة. قد ينجح لفترة، لكن البحر سيجد دائما طريقة للانعتاق، والنشطاء المصريون في الخارج، برغم كل ما يعانوه، هم موج ذلك البحر الذي لا يقهر ولا يمكن سجنه، فهو طوفان لا يمكن إيقافه.

مقالات مشابهة

  • الحرف اليدوية وأثرها في حياتنا المعاصرة.. غداً بالسحيمي
  • منظومة القمع المصري.. اختراق الحدود وملاحقة المعارضين بأي ثمن
  • «بلاك روك» و«العالمية القابضة» تعززان الأسواق المرمّزة
  • إنوفيرا تطلق برامج تدريبية متقدمة في الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني
  • "بلاك نايت" تمثل قطاع القهوة المختصة السعودي في العالم
  • جامعة كفر الشيخ تنظم ندوة توعوية حول الأمن السيبراني بالتعاون مع «المحافظة وتنظيم الاتصالات»
  • هل تخطط للسفر إلى أمريكا؟ قريبًا قد يُطلب منك الكشف عن حساباتك في مواقع التواصل
  • العراق يطلق منصة أمين الرقمية لمواجهة الجرائم الإلكترونية
  • الأمن العراقي يطلق منصة أمين الرقمية لمواجهة الجرائم الإلكترونية والإبتزاز
  • الداخلية تحتفي باليوم العالمي لحقوق الإنسان بشعار حقوق الإنسان جوهر حياتنا اليومية