رؤية لترجمة الآداب المكتوبة بالألمانية
تاريخ النشر: 17th, August 2023 GMT
كمال عبد الحميد
أخبار ذات صلةالترجمة؛ ترجمة الأدب تحديداً، طالما كانت وستظل موضوعاً للجدل، وما بين قول إيطالي شائع بخيانة المترجم، وقولٌ آخر باستحالة وجود لـ «الترجمة النهائية المطلقة»، تظل الترجمة في جوهرها عملية إبداعية تتطلب جهداً ووعياً وثقافة وحساسية بالغة، إذ إن الوصول إلى روح النص المستهدف يتطلب حسب المترجمة الشابة آية عبد الحكيم: (أرفع ما يمكن أن يبلغه المترجم، لا سيما مترجم الآداب، أن يكون على دراية واسعة وعميقة بفيلولوجيا هذه اللغة، وتاريخ تطورها، والآلية التي تتطور بها).
في حديثها إلى (الاتحاد الثقافي) تسرد آية عبد الحكيم جوانب من تجربتها مع الترجمة ومشروعها لبناء صورة حقيقية منصفة للآداب المكتوبة باللغة الألمانية، وتسليط الضوء على الأدب النمساوي تحديدًا، إضافة إلى رؤيتها وعلاقتها الخاصة والمتفردة مع اللغة الألمانية وجمالياتها.
بداية تضيء آية عبد الحكيم على نشأتها والإشارات الأولى الدالة على شغفها، تقول: أنا من مواليد القاهرة. بدأ شغفي بالقراءة والمطالعة منذ سن مبكرة؛ حيث كانت الرغبة في تقليد الجَدّ وهو يقرأ الجريدة. بعدها التهمت مكتبة أبي، ما سمح لي بقراءته وما منعني منه وكنت أقرأه سرًا، لاعتقاده بأنه ليس مناسبًا بعد. إن ألذ وأمتع ما قرأت في أثناء هذه الفترة الكتبُ التي مُنعت منها. وفي سن الخامسة عشرة عثرت على الكوميديا الإلهية لـ«دانتِه» (هكذا تفضل آية أن تكتبه بدلاً عن الترجمة الشائعة «دانتي»)، والتي كانت حافزًا عظيمًا لتعلُّم الإيطالية والرغبة في الترجمة. أما بخصوص الدراسة فقد التحقت بكلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية بالإسكندرية، ولم أستطع استكمال فصل دراسي واحد؛ وجدت أنني سأضيع وقتًا كبيرًا من دون استفادة حقيقية لأسباب ترجع إلى المنهجية والمادة المدروسة. وحولت مسار دراستي إلى علوم اللغة الألمانية وآدابها بكلية الألسن؛ نظرًا لأني أنهيت الثانوية وقد تعلمت الإيطالية والألمانية وبعضًا من الإسبانية والإنجليزية طبعًا. كنت على دراية بأن اللغات عوالم غامضة مغرية أحب الطرق على أبوابها كي أقوض جهلي بأكثر الطرق عذوبة، لا سيما عندما يكون باللغة الألمانية. أما عن الترجمات التي أنجزتها فالأولى نوڤيلا «الموت في البندقية» لتوماس مان ثم «الهروب بلا نهاية» للنمساوي يوزِف روت، بعدها رواية «أيوب» لنفس الأديب، تلاها روايتان قصيرتان لصديقه تسڤايج. ويعد روت أحد أهم مكونات مشروعي الترجمي المرتكز على بناء صورة حقيقة منصفة للآداب المكتوبة باللغة الألمانية، وتسليط الضوء على الأدب النمساوي تحديدًا، فبجانب إعدادي لترجمة «مارش راديتسكي» و«مدفن الكبوشيين»، أترجم حاليًا روايتين قصيرتين للنمساوي آرتور شنيتسلَر. وتظل ترجمة توماس مان، بخاصة الجبل السحري، مشروعًا قائمًا ومراوغًا طوال الوقت، لكنه يحتاج مزيدًا من الاستقرار لإتمامه كما يليق به.
شرارة البدء
تنتقل آية عبد الحكيم إلى الحديث عن علاقتها باللغة الألمانية، وترجماتها عنها حتى الآن، ولماذا اختارت أعمالاً من دون غيرها، وما هي الشروط الواجب توافرها في أي عمل تتصدى لترجمته، وعلاقتها بالنص قبل الترجمة، تجيب: عنادي سيد تجربتي مع الألمانية. لقد ظلمتها البروباجندا ظلمًا أضخم من صعوبتها. أردت تعلمها تنكيلًا بغموضها وعصيانها لكن ما حدث كان أنني همتُ بها. بدأ الأمر من «الساعات» لـ «ريلكه». أردت قراءة هذه الأشعار بلغتها. لكن شرارة البدء الحقيقية كانت من هكذا تكلَّم زارادشت، بالتحديد نشيدا الليل والرقص اللذان دفعاني إلى البدء، فلو أردت شكر نيتشه لن يكون لأنه ثَقَف في عقلي شيئًا بل لأنه ألقى بي في هذه اللغة حيث الأصالة والأريحية مع حركة التاريخ في آن واحد، فضلًا عن الرقة والشاعرية والدقة والوضوح الناجم من العمق. هذه الحماسة وهذا العناد هما قطبا اختياري للنصوص، بحيث لا بد وأن يحتوي النص على جماليات هذه اللغة والأسلوب ومكابدته للفناء: توجد نصوص ضد الفناء ولا يكون البشر هم جمهورها الحقيقي، بل يلعب الزمن هذا الدور الفارق. على سبيل المثال أول ما ترجمت كما ذكرت كانت نوڤيلّا «الموت في البندقية» لتوماس مان. والجدير بالذكر أنها الترجمة الخامسة للرواية نفسها، والآن أعد مخطوطة جديدة لها، منقحة بعد سنوات النضج من العمل في الترجمة، هذا الشغف لم يجِئ إلا من تفرد النص في تناول موضوعه بهذه اللغة. في سياق متصل جاء اختياري للـ «الهروب بلا نهاية». لدينا في الأدب العالمي المكتوب عقب الحرب العالمية الأولى روايتان شهيرتان: واحدة فرنسية للفذ سيلين «رحلة إلى آخر الليل» وهي سبب شروعي في تعلم الفرنسية نظرًا لرداءة الترجمات حتى ترجمها عاصم عبد ربه، والثانية ألمانية «كل شيء هاديء في الجبهة الغربية» لريمارك. ربما تتفوق رواية روت على هاتين الروايتين في عمق التحليل بصورة مكثفة ليست صعبة وممتعة، الرواية تقول باختصار إنني يمكنني سرد التاريخ بأدق تفاصيله بتتبع أحداث وجود شخصية واحدة بلغة بسيطة وشديدة الدقة. هذه السمة رئيسة في أدبه، لعلَّ ذلك نابع من كونه درس علوم اللغة الألمانية وآدابها كذلك. لقد تجلَّت بوضوح شديد في رواية «أيوب» التي على وشك الصدور لأول مرة باللغة العربية عن دار ميتافورا للنشر؛ إذ أعاد حكاية يومية تكاد تغيب من فرط وجودها للحياة، حكاية قديمة جدًا كما هو ظاهر من عنوانها التراثي «أيوب» وأكسبهما «الحكاية إلى جانب اللغة نفسها» بعدًا جديدًا سوف يغير نظرة القاريء العربي عن الأدب الألماني برمته.
ضوء جديد
من يقرأ ترجمات آية عبد الحكيم يكتشف أن ثمة علاقة خاصة وعميقة بينها وبين مكونات المفردات وتراكيبها ودلالاتها، وربما يندر في جيل الشباب أن يكون لدى المترجم هذا الحرص البالغ على الغوص خلف المفردات، لذلك سألتها عن رؤيتها لعلاقة المترجم باللغة التي يترجم عنها، عمَّا تعنيه الترجمة لها، عن النظرة التقليدية للمترجم، عن القول بالخيانة.
تجيب آيه عبد الحكيم: علاقة المترجم باللغة التي يترجم عنها، أي لغة، ينبغي في رأيي أن تكون مؤسسة ليس على الاتقان وحسب، وليس أيضًا على ديمومة الفهم المتعمق لهذه اللغة ومنطقها وطريقة رؤيتها للعالم والأشياء بدءاً من النغمات الصوتية وحتى المضامين والتصورات الفكرية المعبرة عنها في صورة كلمة أو مفردة فقط، لأن أرفع ما يمكن أن يبلغه المترجم، لا سيما مترجم الآداب، أن يكون على دراية واسعة وعميقة بفيلولوجيا هذه اللغة، وتاريخ تطورها، والآلية التي تتطور بها، هذا مما لا ريب فيه من خلال القراءة المتخصصة وغير المتخصصة من قصص وروايات وشعر إلخ.. لأن تمكُّنه مما سبق، جميعًا، إلى جانب تمكنٍ مماثل للغته الأم، يجعلا من العلاقة بينهما علاقة صحية ونبيلة وحيوية غير آلية أو صنمية، الأمر يستغرق وقتًا وجهدًا عظيمًا يتخلله ربما عشرات الصفحات في تحليل جملة أو مفردة واستنطاقها كي تفرغ لنا ما في جبتها كله، كيلا تكون منزعجة أو متوارية أو غامضة في جسدها اللغوي الجديد، أقصد في مرادفها في اللغة الهدف. يمكننا القول إن هذا جزء مما تعنيه الترجمة لي.
تضيف آية: ذلك فضلًا عن كون الترجمة عملية بحث وتنقيب ومفاضلات ومقارنات وتنقية تتم من خلال القراءة أولًا لاختيار النص، ثم تأتي بعد ذلك هذه الرحلة التي نضفي فيها عليه مصدر ضوء جديد؛ فالترجمة من وجهة نظري عمل فني يوازي العمل الفني الأصلي أيً كان جنسه. هي فن الحركة، الحركة كما أفهمها ألمانيًا بكلمة «Bewegung»؛ إذ جمعت هذه المفردة دلالة التحرك الفيزيقي وكذا التحرك الوجداني، حيث أن كل نص يظل محليًا حتى يُترجم، أو إلى أن يتقن جميع البشر اللغة المكتوب بها وهذا مما لا يمكن وجوده. ويؤسفني قول إننا لم نكون أية نظرة بعد، بصورة حقيقية، حتى تكون هناك نظرة تقليدية له وأخرى أكثر نضجًا وتثقُّفًا. لكن على أية حال.. ما زال ينظر إلى المترجم بصفته ذلك الشخص الذي يخلو عمله من الاقتراب من المثالية أو الإتقان، المترجمون خائنون كما يقول الإيطاليون؛ غير أن واحدًا من أولئك الطليان كتب كتابًا في الترجمة أعده من أعظم ما كتب في الموضوع، ولن أعرض لأفكاره هنا بل سأكتفي بعنوان الكتاب الدقيق والعظيم، قال: Dire quasi la stessa cosa أي قول نفس الشيء تقريبًا: هذه ال «تقريبًا» نقضت كل تصور تقليدي عن الترجمة والمترجم، تلك الخيانة هي المساحة التي تتمسك فيها كل ثقافة بتفردها وتأبى أن تصير عالمية، وهذا أمر محمود، ومنه يتجلَّى مكون من جوهر الترجمة، إذ إنها في المقام الأول عمل اجتماعي يحاول تقويض السياج وخلق مساحات رحبة للانفتاحٍ على الآخر، وأحب أن أردف: تقريبًا! هذه الأخيرة يتناقص اتساعها بما نثري الترجمة به من هوامش ضرورية وحواش ومقدمات أو تعليقات، وبالمناسبة أود أن أبيَّن أهمية مقدمات النصوص المترجمة، وإنها ليست تأويلًا أو وجهة نظر كاتبها عن العمل، إن تأويل النصوص لا يمكن أن تتسع له مقدمة أو يفعل تعليق، إنها مجرد مداخل لتمهيد أراضٍ يجهل بها القاريء، في معظم الأحيان، كليةً.
تحديات وطموحات
في إجابتها عن سؤال حول واقع الترجمة في مصر تحديداً، والظروف والتحديات التي يواجهها المترجمون الشباب، تقول آية عبد الحكيم إن رؤيتها لحركة الترجمة الأدبية في مصر حاليًا تحاول أن تكون متفائلة أكثر مما هي عليه.. مضيفة: إن الجهد والإخلاص المبذول من قبل المترجمين الشباب، نحتاج أضعافه كي نتجاوز ركام المعرفة المتوهمة عن الآخر، وكذا لنتجاوز أصنامًا اكتسبت صنميتها من عدم معرفة. ويبدو أنني اخترت البدء بهذا التحدي نظرًا لكونه أثقلها. دعني أخبرك إن بعض القراء مصابون بما أحب تسميته بـ «معرفة مونتالِه» نسبة إلى الشاعر الإيطالي أوجّينو مونتالِه وقصته الشهيرة المتعلقة بكتابته واحدة من أمتع قصائده عن نوع من الورود يصادفه أثناء تمشية فيدهشه جماله ويمدحه كأنه يراه لأول مرة، وقد دهشت السيدة التي كانت معه من تصرفه، لأنه كتب بالفعل قصيدة جميلة عن هذا النوع بالتحديد من الورود، فردَّ عليها بأن قصائده، إذن، كانت عن الكلمات لا عن الأشياء! أود قول إننا في الواقع لم نقرأ شيئًا كثيراً بعد مما أنتجته الأمم الأخرى: مُتَرجمًا. يرجع ذلك لأسباب عديدة منها الحذف. فالحذف في الترجمات قضية أكبر وأعمق مما تبدو عليه؛ إن السلطة التي مارسها بعض مترجمينا السابقين، وكذا الداخلون في عملية الترجمة، على النصوص بالحذف والتبديل، تكاد تفوق سلطة كل المحررين الأدبيين في تهذيب النصوص، مع مراعاة الفارق والآلية، فالأول قد يحذف من النص كي يصبح أجمل، أما ما فعله بعض مترجمينا كان مشوِّهًا للغاية. إن ما يعجبني في جيلنا، وبعض الجيل السابق علينا، أننا ندرك، معظمنا، بوضوح ما تمَّ فعله ونعمل على إصلاحه قدر إمكاننا وإمكاناتنا.. لا سيما ما أراه في اللغة الروسية والإسبانية مؤخرًا وكذا الألمانية والإيطالية، على أمل أن تتسع الدائرة لتشمل لغات مثل الهنجارية والهولندية إلخ. أما عن التحديات الخاصة بالمقابل المادي فليس بخفي أن أجور الترجمة الأدبية متهالكة، لا يوجد مترجم قادر على التفرغ التام والإخلاص الصميم للترجمة، ذلك راجع بصورة أساسية إلى ما يمر به نظام عالمنا الاقتصادي من توعك، الأمر الذي تحترف بعض دور النشر استغلاله لصالحها، والاستثناء كما تعلمون غير نافٍ للقاعدة.
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: الترجمة الأدب الألماني هذه اللغة
إقرأ أيضاً:
عميدة كلية الآداب: التعاون مع الأزهر ضمانة حقيقية لبناء وعي سليم
اختتم مجمع البحوث الإسلامية فعاليات «أسبوع الدعوة الإسلاميَّة الخامس عشر» الذي تنظمه الأمانة العليا للدعوة بالمجمع بالتعاون مع جامعة عين شمس، تحت شعار «الشباب بين مقاصد الدين ومحاولات التغريب».
جاء ذلك برعاية الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، وإشراف وكيل الأزهر الدكتور محمد الضويني، والأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية الدكتور محمد الجندي؛ حيث عُقد اليوم اللقاء الختامي بكلية الآداب بجامعة عين شمس، تحت عنوان: «الشخصية السوية ومواجهة التغريب»، بحضور قيادات وأعضاء هيئة التدريس بالكلية والعاملين والطلاب.
أكدت الدكتور حنان كامل، عميد كلية الآداب، في كلمتها على الأهمية القصوى للتعاون المشترك بين الكلية والأزهر الشريف، مشيرة إلى أن هذا التعاون يمثل ضمانة حقيقية لبناء وعي سليم لدى الطلاب، لأن الأزهر بما يمتلكه من مرجعية دينية وتاريخية، لديه القدرة على تعزيز الهوية الوطنية والانتماء، وترسيخ الفهم الصحيح لجوهر الدين والقيم، كما أن هذه اللقاءات تسهم بشكل مباشر في صقل الجوانب المتعلقة بـالأخلاق والتربية والجانب الإيماني لدى الشباب، لذلك لدينا في كلية الآداب رغبة جادة في زيادة عدد لقاءات وندوات علماء الأزهر بالطلاب، لما سيكون له من أثر إيجابي في معالجة القضايا التي تشغل عقول الشباب، بما يسهم في تحصين العقول ضد الأفكار المتطرفة وبناء جيل واع ومسؤول.
وفي كلمته أوضح الدكتور محمد ورداني، أستاذ الإعلام بجامعة الأزهر، أن الشخصية السوية هي تلك التي تتسم بالتوازن الداخلي والانسجام الخارجي، وهي لا تقتصر على المظاهر والسلوكيات السطحية، بل تعتمد في جوهرها على بنية نفسية وفكرية متينة، ومن أبرز مقوماتها الأساسية هو القدرة على التحليل والتمييز، وامتلاك بوصلة قيمية ثابتة مستمدة من مرجعية راسخة، تمكن الفرد من مقاومة تيارات التغيير السطحية، التي يتعرض له في الحياة، نتيجة التغيرات المتسارعة، مع ضرورة أن يتجاوز الإنسان النظر إلى الأمور الشكلية أو ما يسمى بـ "القشور"، بل يجب عليه أن يدقق في الأمور ويحاول فهم الأبعاد الحقيقية للقضايا، مما يساعده على بناء قناعات ذاتية صلبة بدلاً من مجرد التبعية المجتمعية أو الإعلامية، لكل ما هو شكلي فقط.
كما أكد الدكتور محمد ورداني أن تحقيق الشخصية السوية، تتطلب أن يبدأ المسار من الفرد ذاته، حيث يجب على الإنسان أن ينظر في نفسه بعمق وصدق ويجري لها مراجعة دورية ومحاسبة ذاتية مستمرة لتقييم سلوكه وأفكاره، وهو المنهج الذي علمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم، والهدف من هذه المراجعة هو ضبط المسار وتصحيح الانحرافات قبل استفحالها، وأن يمتلك الفرد شخصية نقدية؛ أي شخصية لا تقبل المعلومة أو السلوك على كما هي، بل تمحص في كل ما تتعرض له وتتعامل معه بأسلوب نقدي، من خلال إعمال العقل والمنطق والقيم، وهذا النقد الدائم والموضوعي هو الضمانة الحقيقية لبقاء الشخصية على استقامتها السوية بعيدًا عن التقليد الأعمى أو التأثر السلبي بالتغيرات المتسارعة في محيطه.
من جانبه حذر الدكتور حسام شاكر، أستاذ الإعلام بجامعة الأزهر، من ظاهرة التغريب، لأنها ليست مجرد تأثر ثقافي عابر، بل هي مخطط ممنهج يشكل خطورة قصوى على المجتمع العربي والمسلم، ومن يقف خلف هذا التغريب لا يهدف فقط إلى تغيير الأنماط السلوكية، بل يسعى بالأساس إلى إعاقة أمتنا عن تحقيق الإنجازات والنهوض الحضاري، وذلك من خلال إحداث ضياع متعمد للهوية الأصيلة وتقويض المقومات الثقافية والدينية، التي تميز هويتنا الإسلامية والعربية، ولذا فإننا نأسف لظهور بعض مظاهر التغريب في أمتنا مثل: اندثار بعض ألفاظنا العربية الفصحى وتغلغل استخدام الألفاظ غير العربية، وكما أن الخطورة الأكبر تكمن في التباهي بهذا التمسك اللغوي المستورد، في حين أن هويتنا وتراثنا العربي الإسلامي مليء بكل مقومات القوة والابتكار والاكتفاء الذاتي الحضاري.
كما أكد الدكتور حسام شاكر أن التغريب يستهدف بشكل خاص الشباب الذي أصبح يواجه خطورة حقيقية تتمثل في التشتت الفكري والتبعية الثقافية، لثقافات لا تمثل ثقافتنا ولا تناسب أمتنا، وهذا الأمر ليس جديدًا، حيث كتب العديد من العلماء والمفكرين في هذا الشأن منذ عقود، داعين إلى ضرورة تحصين المجتمع من ضياع هويته، لكن التنبه الآن أصبح واجبًا قوميِا يتطلب تضافر جهود المؤسسات التعليمية والدينية والإعلامية، ليس فقط للتحذير، بل لتقديم البديل الحضاري المتمثل في الاعتزاز باللغة العربية، والتراث، والقيم الدينية الأصيلة، مع ضرورة بناء الجسور بين الشباب ومرجعيتهم الحضارية لضمان بقاء الأمة قادرة على الإنتاج والإسهام الحضاري الفاعل بعيدًا عن ذوبان الهوية في ثقافات الآخرين.
من جانبه، أشار أ.د. محمد إبراهيم، وكيل الكلية، إلى مفهوم "الشخصية السوية"، مؤكدًا أنها تحتاج بالضرورة إلى بوصلة توجهها نحو الطريق الصحيح، وهذه البوصلة، بدورها، تستلزم ضبطًا مستمرًا لضمان دقة توجيهها، وهذه اللقاءات التي تجمع الطلاب بعلماء الأزهر هي آلية مثلى لتحقيق هذا الضبط، خاصة وأنها تنبع من مرجعية دينية وتاريخية كبيرة وموثوقة مثل الأزهر الشريف، وهذا الدعم أصبح ضرورة في ظل ما يواجه الشباب من أزمات وتحديات فكرية وقيمية، حيث أصبح الكثير منهم ينجرف نحو البحث عن الترفيه السريع على حساب القيمة والمعنى الحقيقي للحياة، نتيجة التغيرات المتسارعة في عالمنا المعاصر.
من جانبه، أشار الأستاذ محمود حبيب، عضو المركز الإعلامي للأزهر، أن الشخصية السوية لا تعني الخلاء من العيوب، بل هي في جوهرها القدرة على الاتزان والتحلي بالحكمة عند مواجهة الأزمات، والبحث الفعال عن الحلول، مشددًا على أن تحقيق الصحوة للنفس والنهضة الذاتية، يبدأ بسؤال جوهري ومستمر هو: "من أنا؟"، معتبرًا أن هذا التساؤل العميق هو المفتاح لتحقيق التطور الذاتي المستمر.
يذكر أن «أسبوع الدعوة الإسلامية خامس عشر» والذي يحمل شعار «الشباب بين مقاصد الدين ومحاولات التغريب»، استمر خلال على مدار خمسة أيام بدأت من الأحد ٧ ديسمبر وحتى الخميس ١١ ديسمبر، بخطة دعوية شاملة في مختلف كليات جامعة عين شمس، بمجموعة من المحاول تشمل: «التغريب مظاهره ومخاطرة وسبل مواجهته»، و«محاولات تغريب المرأة وسبل ومواجهتها»، و«أزمة الشباب بين التطرف والانحلال»، «الحفاظ على الوطن في ظل موجات التعريب»، و«بناء الشخصية السوية ودوها في مواجهة التغريب».