في عام 1993، عقد عالم السياسة الأميركي الشهير والأستاذ في جامعة هارفارد صامويل هنتنغتون العزم على الرد على أطروحة تلميذه فرانسيس فوكوياما التي أصدرها في العام السابق في كتاب بعنوان "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، وحازت اهتماما عالميا كبيرا وأثارت حولها جدلا واسعا.

وقد نسج فوكوياما نظريته حول استنتاج مثير مفاده أن الليبرالية الغربية قد انتصرت بشكل نهائي على كل الأيديولوجيات الأخرى بانتهاء الحرب الباردة، وأنها ستسود العالم في السنوات القادمة، لأنها ذروة التطور الفكري الإنساني وتمثل نهاية التاريخ.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2جون هاغي.. القس الأميركي الذي يدفع نحو الحرب العظمى باسم المسيحlist 2 of 2الفيلسوف إيمانويل تود الذي يتنبأ بهزيمة الغرب كما تنبأ بسقوط الاتحاد السوفياتيend of list

جاء رد هنتنغتون ضمن نظرية عرفت باسم "صراع الحضارات"، نشرها أولا في مقال مطول في مجلة "فورين أفيرز"، ثم في كتاب يحمل الاسم نفسه عام 1996، وأثار من خلالها جدلا لا يقل عن نظيره الذي حفزته أطروحة فوكوياما، ولكن مع روح مختلفة تماما. وبعكس نظرية فوكوياما المتفائلة بشأن السيادة النهائية لليبرالية الغربية في عالم مستسلم بلا منازعة، توقع هنتنغتون صراعات عديدة ستملأ العالم، ليس بسبب القومية والاختلافات السياسية والاقتصادية، ولكن بفعل الهوية والثقافة.

ما توقعه هنتنغتون هو أن العولمة لن تؤدي إلى تآلف العالم تحت مظلة ليبرالية سعيدة، وإنما ستؤدي إلى عودة المجتمعات لجذورها الهوياتية، ما يؤدي إلى "بلورة" الاختلافات بين الثقافات وتعميقها أكثر وأكثر، كما تنبأ أن الغرب سيظل متقدما اقتصاديا بفارق ملحوظ على نحو سيثير استياء المجتمعات الأخرى، وستجد المجتمعات نفسها تتآلف بروابط الدين والثقافة واللغة والتقاليد والتاريخ المشترك مع أبناء حضارتها في مواجهة الآخرين، ومن ثم سيعاد تشكيل خريطة العالم الحضارية، ممهدة لنشوب صراعات ربما تكون دموية بين الحضارات المختلفة، والتي لن تكون الحضارة الغربية سوى واحدة منها.

إعلان

واحد من أهم الصراعات التي أشار إليها هنتنغتون هو ذلك الصراع الذي سينشأ بين الحضارة الإسلامية وبين الحضارة الغربية بوصفها تجليا "مسيحيا بروتستانتيا"، وذلك ببساطة لأن كلتا الحضارتين متمركز حول اعتقاد جازم بالتبشير لنموذجه ومحاولة جعل الآخرين يتبعه، كما أن كلتا الحضارتين مؤمنة بأن غاية التاريخ هو انتصارها.

فمن ناحية، يسود الاعتقاد في الغرب البروتستانتي بأن النموذج الليبرالي هو أعلى مراتب الكمال الفكري، وهو الذي حمى حقوق الإنسان ووفر التقدم كما لم توفره فكرة أو حضارة أخرى في التاريخ، وعلى الجانب الآخر ورغم أن المسلمين لا يتمتعون بالتمثيل السياسي الكافي عالميا، ورغم ظروف بلادهم الصعبة والصراعات الطاحنة التي تشهدها منطقتهم، فإن عقيدتهم الدينية الراسخة في مجتمعاتهم وقوتهم البشرية (السكانية) المتزايدة تجعلهم تحديا هائلا للحضارة الغربية.

صامويل هنتنغتون (روتيرز)

حين أصدر هنتغتون نظريته، لم يكن هناك الكثير من المثقفين الراغبين في تصديق نبوءة متشائمة تتوقع صراعات مريرة شبيهة بصراعات القرون الوسطى، ومن ثم واجهت أطروحته هجوما كبيرا رغم اعتناقها من قبل العديد من السياسيين اليمينيين في الغرب، لكن بعد مرور أكثر من 30 عاما على النظرية يمكن القول الآن إن توقعاتها كانت أقرب إلى الدقة من توقعات فوكوياما حول نهاية التاريخ.

فمن صعود تيارات أقصى اليمين في الغرب، إلى انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان وعودة طالبان لسدة الحكم، وصولا إلى حرب روسيا وأوكرانيا التي يرى الكثير من المراقبين أن موسكو في طريقها لتحقيق نوع من النصر فيها، وليس انتهاء بحرب غزة التي يدعم فيها الغرب حكومة الاحتلال اليمينية الدينية المتطرفة في حرب إبادتها ضد الفلسطينيين، لا يبدو بأي حال أن الليبرالية قد سادت، وإنما تشير الكثير من المشاهد إلى صراعات متزايدة على خطوط الصدع بين "الحضارات المختلفة".

إعلان

ويأتي الفصل الأخير في هذا المشهد العالمي، الذي يتجه نحو ترسيخ الجذور الثقافية لكل حضارة وتعزيز شعورها بالمواجهة مع الحضارات الأخرى، من قلب الولايات المتحدة الأميركية ذاتها التي اعتقد فوكوياما قبل 30 عاما أنها ستقود العالم في اتجاه الليبرالية السياسية، فقد جرت الانتخابات الأميركية الأخيرة في نوفمبر/تشرين الأول الماضي وسط أجواء ساد فيها الخطاب المسيحي واستخدام الدين في الدعاية السياسية ربما أكثر من أي انتخابات قريبة، وسط وعود من الحزب الجمهوري بتقوية النزعة الدينية المسيحية وتمكين المؤثرين المسيحيين في البلاد في حال فوزه.

أكثر من ذلك، وبحسب نيويورك تايمز، ساد خطاب مشحون بين المؤثرين المسيحيين المعارضين للحزب الديمقراطي في تلك الانتخابات وصل إلى حد تشبيه المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس بشخصية الملكة إيزابل التي صارعت النبي إيليا واضطهدت المؤمنين وفق رواية الكتاب المقدس. وقد كتب مارك دريسكول، القس الإنجيلي المؤثر في ولاية أريزونا، قبل الانتخابات على صفحاته بمواقع التواصل الاجتماعي: "نحن بصفتنا مسيحيين ملزمون ببذل كل ما في وسعنا لمنع (إيزابل) من تولي السلطة".

أثمرت الانتخابات في النهاية فوز الحزب الجمهوري باكتساح ثلاثي: رئاسة الجمهورية وأغلبية مجلس الشيوخ ومجلس النواب، وسط وعود دينية سياسية كبيرة من الرئيس المنتخب دونالد ترامب وحزبه، ووسط تخوفات ليبرالية كبيرة من تنامي المشروع المسيحي القومي الأبيض في الولايات المتحدة بصورة غير مسبوقة، وهو ما يدفعنا لاستكشاف تلك النزعة المسيحية الصاعدة في خطاب ترامب والحزب الجمهوري، ودلالاتها وتأثيراتها المحتملة على المدى الطويل.

خطة الرب

"لا يمكنك أن تكون مسيحيا مخلصا بحق وتصوت للحزب الديمقراطي الذي يدعم أشياء تعارض تماما ما يقوله الكتاب المقدس…، لقد شهدت تلك البلاد صحوة ضد المسيح قادها باراك حسين أوباما وهيلاري كلينتون ونانسي بيلوسي وكامالا هاريس"

جيسون رابرت – رئيس الرابطة الوطنية للمشرعين المسيحيين في أميركا، التي تأسست عام 2019، وتضغط من أجل تعزيز النفوذ المسيحي في المناصب المنتخبة في البلاد

 

حين اجتمع بعض أنصار دونالد ترامب من "مثيري الشغب" في 6 يناير/كانون الثاني 2021 واقتحموا مبنى "الكابيتول" في واشنطن من أجل منع التصديق على نتائج الانتخابات التي فاز بها جو بايدن آنذاك، كانت الرموز المسيحية حاضرة في المشهد بشكل لا يمكن تجاهله، إذ صلى مثلا أحد الحاضرين في مبنى مجلس الشيوخ قائلا: "حمدا للرب الذي ملأ هذه الغرفة بالوطنيين المحبين للمسيح"، كما رفع أحدهم لافتة يظهر فيها يسوع مرتديا قبعة "ماغا"، الشعار الشهير لحملة ترامب الذي يرمز إلى عبارة "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى".

إعلان

كان ذلك المشهد مجرد علامة على المدى الذي بلغه تحالف الرئيس ترامب مع الإنجيليين البيض بحلول نهاية ولايته الأولى. المفارقة هنا أن ترامب لم يُعرف قبل دخوله المعترك السياسي بأنه كان شخصا متدينا قط، بل على النقيض تماما، فشخصيته التي عرفها المجتمع الأميركي كانت تناقض العديد من القيم المسيحية الظاهرة، إذ كثيرا ما يستخدم الألفاظ النابية، ولديه قدر غير قليل من الفظاظة في وصف خصومه، كما أن بعض الممارسات في حياته الشخصية تناقض النصوص والمبادئ المسيحية كما ينقل تقرير لصحيفة الغارديان.

غير أن ترامب استطاع من خلال العلاقات العامة أن يعزز علاقاته مع القادة الكبار في الحركة الإنجيلية ويقنعهم بأن الامتيازات التي سيحصل عليها الإنجيليون في عهده ستكون غير مسبوقة، ومن ثم قدم ترامب نفسه للمجتمع المسيحي بوصفه رجلا يرتكب المعاصي، لكنه أيضا جزء من خطة الرب لإنقاذ الولايات المتحدة وإعادتها إلى مسارها المسيحي الغربي القويم، وهكذا بدأ القادة المسيحيون يقدمونه لجمهورهم بوصفه أشبه بالملوك في العهد القديم الذين لم يكونوا مؤمنين بشدة، لكن الله يسر لهم أمرهم لينقذوا المؤمنين فكانوا أداة في خطة الرب.

آتت هذه الدعاية ثمارها على ما يبدو، ونجحت في جذب كتلة لا بأس بها من أصوات المتدينين لصالح ترامب، الذي كان بالنسبة إليهم خيارا أفضل حالا من منافسته آنذاك هيلاري كلينتون. وخلال ولاية ترامب الأولى، منح الرئيس المسيحيين الإنجيليين امتيازات فائقة، على رأسها تغيير تركيبة المحكمة العليا التي أصبح غالبية أعضائها من القضاة المحافظين بنسبة 6-3، كما دأب ترامب على استقبال رجال الدين الإنجيليين وقادة الطائفة الإنجيلية في البيت الأبيض بشكل أسبوعي لأداء الصلاة، كما أنه عيّن في إدارته رجالا عُرفوا بتمسكهم الشديد بالتعاليم المسيحية، مثل نائبه مايك بنس، ووزير خارجيته مايك بومبيو الذي أنشأ لجنة فيدرالية عرفت حقوق الإنسان على أساس أنها "الحقوق الطبيعية المستمدة من الله".

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب (يمين) ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (الجزيرة)

وأخيرا، اتخذ ترامب في ولايته الأولى موقفا شديد الجرأة بنقل السفارة الأميركية للقدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، وهي مسألة مهمة للغاية بالنسبة للإنجيليين الذين يعتقدون أن سيطرة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية هي تمهيد أساسي لعودة المسيح.

إعلان

وفق جميع الاعتبارات الممكنة، كانت ولاية ترامب الأولى حقبة ذهبية للمسيحيين الإنجيليين، فيما لم يخجل الرئيس في التعبير بصراحة عن ذلك التوجه عمدا بالعديد من الطرق. ففي عام 2020، وبينما كان العملاء الفيدراليون يفضّون تظاهرات المطالبين بالمساواة العرقية إثر حادثة مقتل جورج فلويد، خرج دونالد ترامب ملوحا بالإنجيل أمام كنيسة قريبة، في إشارة رمزية إلى التزاوج بين المسيحية والحكم في إدارته. وقد استمر ترامب في حصد ثمار هذا التزاوج حتى في انتخابات 2020 التي خسرها أمام بايدن، التي حصل خلالها ترامب على 84% من أصوات الإنجيليين البيض.

والغريب أن ذلك "البريق" المحافظ استمر في اللمعان حتى بعد رحيله عن السلطة، خاصة في الولايات الجمهورية، كما ظهر مثلا في استشهاد رئيس المحكمة العليا في ولاية ألاباما بالله في حكم تاريخي في فبراير/شباط الماضي أعلن فيه أن الأجنة المجمدة لديها نفس حقوق الأطفال، ومطالبة ولاية أوكلاهوما المدارس العامة بتدريس الكتاب المقدس، في خلط غير معتاد في أميركا بين التعليم الديني والتعليم العام، وهو مزج يوافق هوى أقلية، تتزايد قوتها باستمرار في أميركا، باتت ترى حتمية إلغاء الفصل بين الكنيسة والدولة، وتقديم تعاليم الكتاب المقدس على إرادة الشعب حال تعارض الأمران.

لكن يظل إنجاز ترامب الديني الأكبر، وهو إنجاز حدث للمفارقة بعد مغادرته للسلطة أيضا، هو قرار المحكمة العليا في عام 2022، بأغلبية قضاتها المحافظين الذين عينهم ترامب خلال ولايته، بإسقاط حكم تاريخي يقضي على نصف قرن من الحماية الدستورية للإجهاض في قضية "رو ضد وايد" الشهيرة، ما يفتح الطريق أمام كل ولاية أميركية لسنّ تشريع خاص بها للسماح بالإجهاض أو حظره، ويُعتقَد أن نحو 26 ولاية سوف تتجه لحظر الإجهاض قطعا أو ترجيحا.

 

مبعوث المسيح

لكن الجرعة الدينية خلال ولاية ترامب الأولى بأسرها تتضاءل بما أظهره الرئيس المنتخب خلال حملته الانتخابية الأخيرة، بما يشي أن النزوع المسيحي في ولاية ترامب الحالية مرشح بشدة للتصاعد، ولا أدل على ذلك من مشهد وقع في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قبل أيام من الانتخابات، إذ صعد دونالد ترامب إلى المنصة في مؤتمر الإيمان الوطني الذي استضافته هيئة الاستشارة الإيمانية في أتلانتا، جامعا حوله مجموعة من القادة المسيحيين البارزين ليضعوا أياديهم عليه ويصلوا من أجله، وقال أحدهم في خشوع: "نحن نحبك يا يسوع، ونحب بلدنا أيضا…، ونشكرك لأنك رفعت دونالد جيه ترامب، ليكون محاربا من أجل كلمة الله…، ونحن نصلي لك بينما ترفعه مرة أخرى الآن ليكون رئيسنا، وندعوك أن تمنحه القوة والحكمة والفرح في الرحلة".

إعلان

بحسب "أنجيلا بين"، وهي عضوة في الكنيسة المعمدانية الأولى بمدينة بيتشتري في ولاية جورجيا، وتبلغ من العمر 68 عاما، في حديثها لصحيفة "ذا تايمز"؛ فإن إعادة انتخاب ترامب تمثل بالنسبة لها تفويضا إلهيا وليس تفويضا انتخابيا فقط، مشيرة إلى أن العديد من "الأولياء المعاصرين" قد تنبؤوا بعودة ترامب ليحارب الظلام المحيط بالولايات المتحدة. والواقع أن ما تقوله جورجينا هو لسان حال الكثير من الإنجيليين البيض الآن في أميركا الذين يرون أن ترامب مبعوثا إلهيا لإنقاذ البلاد من التسيب ومعاداة التعاليم المسيحية.

وقد أسهمت نجاة دونالد ترامب من محاولات الاغتيال خلال حملته الانتخابية في ترسيخ صورته وسط قطاعات مسيحية كبيرة على أنه مؤيد من الله، وإدراكا منه لهذه الحقيقة، بنى ترامب جزءا معتبرا من حملته الانتخابية على أساس الهجوم على الامتيازات التي حازها المتحولون جنسيا وانتقاد مسائل الهويات الجنسية وحقوق الإجهاض التي ينافح عنها الديمقراطيون عادة، لدرجة أنه عيّن "جيه دي فانس"، المعروف بميوله المسيحية القوية ودفاعه عن قيم الأسرة التقليدية في البلاد والمؤيد لإسرائيل، نائبا له، ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقد روّج ترامب لفكرة أن الحكومة الأميركية تضطهد المسيحيين في البلاد، ومن ثم وعد بإنشاء لجنة حكومية تتولى مكافحة التحيز ضد المسيحيين، وقال: "علينا أن نعيد المسيحية إلى هذا البلد…، علينا أن نستعيد ديننا".

أظهرت استطلاعات الرأي قبيل الانتخابات نجاعة هذه السياسة، مثلا أشار استطلاع لمعهد أبحاث الدين العام "PPRI" أن 21% ممن يملكون آراء إيجابية حول ترامب يتبنون الآراء التي توصف بالقومية المسيحية، وأن 34% منهم متعاطفون مع تلك الآراء، ولكي نبسّط الأمر فإن دونالد ترامب من خلال خطابه وعلاقاته العامة قد استطاع أن يكون مقنعا لقطاع واسع من المؤمنين بالمسيحية والمتعاطفين معها، على مختلف درجاتهم، بما فيها التيارات الأكثر تشددا، كحركة الإصلاح الرسولي الجديد التي ترفض العلمانية وتريد أن تسود المسيحية على الحكم والمجتمع في الولايات المتحدة، وبحسب الغارديان فإن بعض هؤلاء مقربون من الرئيس المنتخب وربما يلعبون دورا سياسيا كبيرا في فترة الحكم القادمة له.

إعلان

والواقع أن اهتمام ترامب بإبراز العنصر المسيحي في حملته وفي خطابه قد أسهم بشكل واضح في نهاية المطاف في حصوله على حوالي 80٪ من أصوات الإنجيليين البيض، بالإضافة إلى أغلبية كبيرة من البروتستانت البيض والكاثوليك البيض أيضا خلال الانتخابات الأخيرة.

من القومية المسيحية إلى المسيحية الحضارية

هذا التوجه "المسيحي" الواضح الذي يشمل العلاقة الوثيقة بين دونالد ترامب والمؤثرين المسيحيين في الولايات المتحدة، وتصريح بعض الشخصيات من الحزب الجمهوري بآراء سياسية تستند إلى التفسيرات الدينية بطريقة لم تكن مقبولة على نطاق واسع في السابق، بالإضافة إلى سيادة الرموز المسيحية بين بعض أنصار الرئيس ترامب؛ جعلت الصحافة الغربية بالأخص ذات الهوى الليبرالي منها تسيل الكثير من الحبر للتحذير من صعود غير مسبوق للقومية المسيحية البيضاء، وقد بلغت تلك التحذيرات حد الإشارة إلى قيام دولة ثيوقراطية تهدد الديمقراطية الأميركية، وتطبق تفسيرا أصوليا متشددا للعهدين القديم والجديد في البلاد.

لا يعد مفهوم "القومية المسيحية" جديدا بحال، وهو اصطلاح فضفاض يضم تحت رايته طيفا أيديولوجيا متنوعا، لدرجة الزعم أن غالبية من يصنفون "القوميين المسيحيين" ربما لا يعرفون أنهم كذلك. ولنحت هذا المفهوم بشكل علمي، طرح عالما الاجتماع "أندرو وايتهايد" و"صامويل بيري" جملة الأسئلة على مجموعة كبيرة من المستجوبين الأميركيين، من قبيل: "هل يتعين على الحكومة الفيدرالية أن تعلن الولايات المتحدة أمة مسيحية؟"، و"هل يتعين عليها أن تدافع عن القيم المسيحية، وأن "تسمح بعرض الرموز الدينية في الأماكن العامة؟"، "وهل يجب أن تسمح بالصلاة في المدارس العامة؟"، و"هل تعتقد أن نجاح الولايات المتحدة هو جزء من خطة الله التي خططها للعالم؟".

ومن خلال إجاباتهم، صنف العالمان المشاركين بحسب درجة دعمهم لأيديولوجيا "القومية المسيحية"، ليخلصا إلى أن هؤلاء الذين كانوا أكثر ارتباطا بتلك الأيديولوجيا حسب قياساتهم كانوا أكثر ميلا للتشكك في صدق "أميركية" المهاجرين الحاصلين على الجنسية، وكانوا يميلون بشكل عام للاعتقاد بأن المسلمين والملحدين على السواء يحملون قيما أخلاقية أدنى من تلك التي يحملها المسيحي الأميركي.

إعلان

ورغم ذلك، ظلت التعريفات القائمة لظاهرة القومية المسيحية قاصرة عن تفسير سبب تبني قطاع كبير من العلمانيين وحتى من أتباع الديانات الأخرى غير المسيحية لأفكار ما تُعرف بـ"القومية المسيحية"، لدرجة أن بعض هؤلاء يعرب عن تمنيه بأن تعلن الولايات المتحدة الأميركية نفسها بوصفها أمة مسيحية رغم عدم إيمانه بالمسيحية كعقيدة دينية، بل إن بيانات صامويل بيري نفسها تبين أن الأميركيين السود كانوا من أكثر المجموعات العرقية استجابة للأيديولوجيا القومية المسيحية، رغم ارتباط تلك الأيديولوجيا غالبا بأفكار هوياتية بيضاء.

يصبح تفسير هذا التناقض أكثر صعوبة إذا أشرنا أن الولايات المتحدة، شأنها شأن الكثير من الدول الغربية، وصلت أعداد اللادينيين فيها لنسبة قياسية بحسب تعبير الموقع الإخباري الأميركي أكسيوس. وتؤيد الأرقام الصادرة عن مؤسسة غالوب الشهيرة لتحليل البيانات والاستشارات هذه الحقيقة، فعدد من يمارسون الطقوس الدينية في الولايات المتحدة الأميركية من مختلف الأديان قد انخفض من حوالي 70% من السكان في عام 1999 إلى 47% فقط عام 2020.

وبشكل أكثر أهمية، أظهرت الإحصاءات المعمقة التي أجراها معهد أبحاث الدين العام منذ أواخر عام 2022، وهي منظمة أبحاث غير ربحية تشتغل في ملفات الدين والسياسة والثقافة، أظهرت بوضوح أن 3 فقط من كل 10 أميركيين يظهرون تأييدا لما يسمى بأيديولوجيا القومية المسيحية، وأن 20% من الأميركيين يظهرون تعاطفا مع تلك الأيديولوجيا، وكل هذه الأرقام لا يمكنها أن تفسر إطلاقا الرواج والنجاح الذي شهده الخطاب المسيحي المُسيّس خلال الفترة الأخيرة.

ما نقترحه هو أن السبب في هذه التناقضات يكمن على الأرجح في أن الباحثين والصحف يتتبعون الظاهرة التي يحاولون تتبعها من أقصى طرفها، وبدلا من التركيز على القومية المسيحية البيضاء، هناك ظاهرة أخرى أشمل يمكنها أن تكون أكثر تفسيرا، وهي ما سنطلق عليه أفكار "المسيحية الحضارية"، هذه الأفكار التي شاعت مؤخرا في العالم الغربي على مستويات متعددة، ترتكز على تصور أن الحضارة الغربية حضارة استثنائية قدمت لأبنائها ما لم تقدمه حضارة أخرى من الحقوق والحريات والتقدم، وقد حدث ذلك التقدم في ظل الثقافة المسيحية وتطورها، ومن ثم ينبغي الحفاظ على تلك الحضارة والتمسك بها في مواجهة أعدائها بحزم في الخارج، وفي الداخل من خلال حماية حدودها وإغلاق الأبواب أمام المهاجرين الذين لا يحملون نفس القيم الغربية.

إعلان

تعد المسيحية الحضارية مظلة أكثر اتساعا من مظلة القومية المسيحية، التي تضم أولئك الذين يريدون التطبيق الحرفي لتعاليم الإنجيل وبعضهم يحمل رؤى قد توصف بالعنصرية، وصحيح أن بعض هؤلاء مقرب من الإدارة الأميركية المنتخبة مؤخرا لكنهم لا يشكلون الأغلبية.

الرئيس الأميركي المنتخب ممسكا الإنجيل أمام كنيسة في واشنطن (رويترز)

في المقابل، تضم المظلة المسيحية الحضارية أيضا علمانيين لا يؤمنون بالكتاب المقدس بالمرة، أو يؤمنون بقيمه دون الإيمان بالتطبيق الحرفي له. والواقع أن البيانات الحديثة تشير إلى أن نسبة متصاعدة من رجال الدين المسيحي في الغرب لا تؤمن بأشياء أساسية في العقيدة المسيحية، خاصة الخوارق الطبيعية، ومع ذلك يعرفون أنفسهم بصفتهم رجال دين ويشغلون مناصب في المؤسسات الدينية.

لهذا السبب شاعت كلمة "مسيحي ثقافيا" في الغرب مؤخرا لوصف العديد من المتبنين للأفكار المحافظة حتى ولو لم يكونوا "متدينين" طقوسيا. ويشترك هؤلاء المسيحيون الحضاريون في سخطهم على التوسع في استقبال المهاجرين، وعلى أفكار اليسار وممارساته في نطاقات الجنس والأسرة والأطفال، ويتشاركون نوعا من الغضب تجاه التعددية الثقافية التي تتبناها المجتمعات الأوروبية، وهم يشعرون أن الدين المسيحي من بين كل الأديان هو الأقدر على توفير قاعدة أخلاقية جيدة للمجتمع، فتجد أغنى رجل في العالم إيلون ماسك يصرح بأنه مسيحي ثقافيا وأنه مؤمن بالمبادئ الأخلاقية المسيحية لأنها تعزز السعادة، وكذلك جوردان بيترسون، عالم النفس والمفكر الكندي الشهير، يحمل موقفا مشابها، وكذلك الكاتب والصحافي البريطاني دوغلاس موراي الذي يطلق على نفسه "الملحد المسيحي".

في الواقع، فإن الكثير من الفلاسفة والباحثين باتوا يرون بوضوح أن ظهور البروتستانتية تاريخيا كان العمود الفقري الذي بنى عليه الغرب نهضته من خلال تشجيعها لقيم العلم والعمل وقدسية الفرد، وفي كتابه الأخير المثير للجدل "هزيمة الغرب"، توقع الفيلسوف الفرنسي "إيمانويل تود" أن الحضارة الغربية في طريقها للانهيار، ومن الأسباب التي أسهب في شرحها والتي رآها ممهدة لهذا الانهيار هو وصول العالم الغربي بقطبيه البروتستانتي والكاثوليكي "للصفر الديني" بحسب وصفه، أي أنه باختصار صار يفتقر للروحانية وعمق المعاني والمعايير، ما أنتج فوضى في القيم، وهشم نموذج الأسرة الغربية، ورفع مستويات الاكتئاب.

إعلان

من ثم، وإذا ما أخذنا بمذهب تود، فيمكن أن نرى المسيحية الحضارية الصاعدة على أنها شكل من أشكال الصحوة في وجه "الصفر الديني" الذي أنتج -من وجهة نظر الكثير من المفكرين- فوضى هائلة على مستوى المعنى في المجتمعات الغربية، وربما يعزز تلك الصحوة الشعور السائد مؤخرا بأن الحضارة الغربية في خطر أمام منافسيها وعلى رأسهم الصين وروسيا.

 

تحولات جذرية

"إن ترامب هو جزء من خطة الله لبدء عصر جديد من الهيمنة المسيحية في جميع أنحاء العالم"

المبشر المسيحي الشهير "لانس والناو" الذي يقول إنه تنبأ بانتصار ترامب منذ سنوات

 

من المؤكد أن هذا المد المسيحي في السياسة الأميركية سوف يقترن بتحولات واسعة في المديين القصير والبعيد. وبحسب دوف واكسمان، مدير مركز للدراسات الإسرائيلية في جامعة كاليفورنيا، فإن السبب في تصويت الأغلبية الكاسحة من اليهود للمرشحة كامالا هاريس في الانتخابات الأخيرة هو أن الحركة القومية المسيحية البيضاء التي يرافق صعودها صعود ترامب ويؤيدها ترامب تهدد بحسبه الديمقراطية والليبرالية الأميركية، ومن ثم إذا ما انتصرت تلك الحركة فستكون النتيجة الحتمية هي تهميش اليهود إلى جانب كل الأقليات العرقية والدينية الأخرى، وهذا ما يقتنع به أغلب اليهود في أميركا باستثناء اليهود الأرثوذكس الداعمين بشدة لترامب.

في الواقع، تناقش الصحف الأميركية في الآونة الأخيرة بكثافة مسألة كيف سيؤثر التوجه المسيحي لحملة ترامب المنتصرة على طبيعة الولايات المتحدة الأميركية، وتحذر الكثير منها من أن الأمر قد يؤدي إلى تهديد المكتسبات الليبرالية والنظام العلماني في الولايات المتحدة الأميركية، خاصة في ظل وجود متشددين مسيحيين من بين المقربين لترامب والذين قد يلعبون دورا كبيرا في تحديد المستقبل السياسي للولايات المتحدة في السنوات المقبلة، لكن الواقع أن هناك أمرا آخر شديد الأهمية بغض النظر عن حجم التدخلات الدينية المحتملة في السياسة المحلية التي ستحدث في الحقبة الجديدة للرئيس.

إعلان

هذا الأمر هو أن العديد من المرشحين والرؤساء الأميركيين السابقين وظفوا الخطاب الديني في مناسبات مختلفة، لكن هذه هي المرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة على الأرجح التي يرفع فيها قطاع واسع من مؤيدي مرشح رئاسي مرشحهم ليمنحوه منزلة أشبه بالصفة الدينية ويجعلوه مبعوثا من قبل الرب لحماية بلادهم ولتنفيذ خطة الإله.

لطالما كان التعامل مع الزعماء في الغرب من الأشياء التي يبرهن من خلالها الغرب على تفوق نظامه السياسي على بقية الأنظمة في العالم، فبينما تكون هناك قداسة ما للزعيم في أنظمة حكم أخرى حول العالم، كانت الديمقراطية الغربية تنزع القداسة من حكامها وكانت تعاملهم باعتبارهم موظفين رفيعي المستوى فقط، لكن ما يحدث الآن يشي بتغيرات عميقة قد تؤثر بشدة لاحقا على العلاقة بين الدين والسياسة في العالم الغربي، إذ صارت النبوءات الدينية وتفسيرات العهدين القديم والجديد وبشارات رجال الدين تستخدم بكثافة في الحملات الانتخابية.

لطالما كانت مسألة تفسير السياسة وتأييد الزعماء بسبب النبؤات الدينية هي مسألة لا تحظى بالزخم غربيا إلا في أقصى الهوامش اليمينية، لكن من الملاحظ الآن أنها بدأت تنتقل من الهامش إلى مركز النقاش السياسي، وربما يمهد هذا التحول الجذري في العلاقة بين السياسي والديني إلى تحولات أعمق في طبيعة السياسة الغربية في السنوات القادمة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات أبعاد الولایات المتحدة الأمیرکیة فی الولایات المتحدة الحضارة الغربیة الکتاب المقدس دونالد ترامب المسیحیین فی ولایة ترامب المسیحی فی الغربیة فی فی العالم فی البلاد الکثیر من فی أمیرکا العدید من ترامب من کبیرة من فی الغرب فی ولایة من خلال ومن ثم فی عام

إقرأ أيضاً:

رئيسة مجموعة الأزمات: أميركا لم تعد واثقة في النظام الذي بنته وهناك أزمة مبادئ

الدوحة- أعربت الرئيسة التنفيذية لمجموعة الأزمات الدولية كومفورت إيرو عن مخاوفها من أن النظام الدولي الذي بُني على أكتاف الديمقراطية الليبرالية بات يواجه أزمة ثقة عميقة، لافتة إلى أن "أميركا نفسها أصبحت لا تثق في النظام الذي قامت ببنائه"، في إشارة إلى التحولات الجذرية التي طرأت على البنية الدولية منذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 والتدخلات في العراق وسوريا، مرورًا بالربيع العربي الذي كشف صدامًا في الحظوظ والتطلعات.

وأوضحت إيرو -في تصريحات خاصة للجزيرة نت على هامش منتدى الدوحة الـ23 الذي عُقد مطلع هذا الأسبوع في العاصمة القطرية- أن الثقة الغربية تراجعت بعد أن اتضح أن التدخل في العراق "لم يؤدِ إلى تغيير إيجابي، بل تسبب في ديناميات جديدة"، مشيرة إلى أن المبادئ الدولية تعرضت للتحدي في أماكن مثل سوريا، خاصة ما يتعلق باستخدام الأسلحة الكيميائية، مما أدى إلى شعور الناس بأنهم لم يعودوا قادرين على الوثوق في النظام الدولي.

وأكدت مسؤولة مجموعة الأزمات أن الوضع في السودان يسوء، رغم الجهود الدولية التي توّجت بتوقيع الرباعية الدولية على اتفاق مبدئي في سبتمبر/أيلول الماضي، مؤكدة أن الأزمة السودانية ستكون في مقدمة جدول أعمال المنظمة خلال عام 2026.

وأشارت إلى أن المنطقة تشهد تحولات غير مسبوقة؛ من خروج سوريا من العزلة الدولية إلى الحديث عن رفع العقوبات عنها، ومن انعقاد قمة غزة في شرم الشيخ إلى الحديث عن اتفاقات سلام في منطقة البحيرات العظمى. لكنها حذرت أيضا من أن "الصورة القاتمة" لا تزال تخيم على عدة بؤر صراع حول العالم.

وتشغل إيرو منصبها منذ ديسمبر/كانون الأول 2021، وهي حاصلة على درجة الدكتوراه من كلية لندن للاقتصاد، وأمضت مسيرتها المهنية في العمل على الدول المتأثرة بالنزاعات، بدءًا من انضمامها لمجموعة الأزمات عام 2001 كمديرة مشروع غرب أفريقيا، مرورًا بعملها مسؤولة الشؤون السياسية ومستشارة السياسات للممثل الخاص للأمين العام في بعثة الأمم المتحدة في ليبيريا (2004-2007)، ومنصبها في المركز الدولي للعدالة الانتقالية، قبل أن تتدرج لتصبح مديرة برنامج أفريقيا ثم نائبة رئيس مجموعة الأزمات بالإنابة في يناير/كانون الثاني 2021.

مجموعة الأزمات: الأزمة السودانية تزاد وهي على رأس أولوياتنا العام القادم (الجزيرة)السودان وغزة.. أزمة تتزايد وتسوء

وفي تفاصيل تصريحاتها، وصفت إيرو الأزمة السودانية بأنها "الأصعب والأكثر تعقيدًا" بين الملفات التي تعمل عليها مجموعة الأزمات حاليًا، رغم الجهود الدولية المبذولة. وأشارت إلى أنه "تم جمع الرباعية الدولية، وهي الولايات المتحدة ومصر والسعودية والإمارات، للتوقيع مبدئيًا على اتفاق فيما بينهم في سبتمبر/أيلول الماضي"، لكنها أكدت أنه "لا أحد من الطرفين مستعد حتى الآن للجلوس على الطاولة"، في إشارة إلى طرفي الصراع الرئيسيين في السودان.

إعلان

وأضافت "نحن نشهد المزيد من العنف على الأرض. ومع ذلك، لا تزال هناك اختلافات بينهم جميعًا، لذلك لم نخرج من الأزمة في السودان أبدًا، وأكبر مخاوفي هو أن الوضع سيسوء قبل أن يتحسن".

أما بالنسبة لغزة، فأكدت الرئيسة التنفيذية لمجموعة الأزمات أن الملف سيبقى أيضًا على رأس الأولويات في 2026، موضحة أنه "علينا أن نرى تشكيل مجلس السلام، وتشكيل اللجنة الفنية الفلسطينية وعلينا أن نحرص على وقف ضم الضفة الغربية".

وفي سياق الحديث عن التطورات الإيجابية خلال الفترة الماضي، ضربت إيرو مثلا بانعقاد قمة غزة في شرم الشيخ، والحديث عن "اتفاق سلام" في عدة مناطق، بما فيها منطقة البحيرات العظمى، مما يشير إلى بوادر أمل وسط المشهد المعقد.

ولفتت إلى أن العام الحالي شهد تطورات كانت "غير متوقعة" قبل عام واحد فقط، قائلة "لو سألتني العام الماضي عما إذا كنا سنرى خلال العام الحالي سوريا تخرج من العزلة، حيث يمكن لشخص مثل الجولاني آنذاك، والآن هو الشرع، أن يذهب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لأول مرة منذ عقود، وأن يحضر زعيم سوري إلى الجمعية العامة، وحيث يرفع رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب رفع العقوبات عن سوريا، وأن تكون تركيا ودول الخليج أدوات أساسية مع الولايات المتحدة في المساعدة على تحول سوريا، فقبل عام لم أكن لأتخيل بعض هذه التطورات".

الرئيس السوري أحمد الشرع يلقي كلمة بلاده في الأمم المتحدة لأول مرة منذ عقود (رويترز)أزمة الثقة في المبادئ الدولية

وفي ما يتعلق بالتحولات الجذرية التي طرأت على المشهد الدولي منذ تأسيس مجموعة الأزمات، لفتت إيرو التحولات الجذرية عقب أحداث الربيع العربي. وقالت "ذلك بدأ يتغير في وقت الربيع العربي. وفجأة، أعتقد أنه حصل صدام في الحظوظ والتطلعات، وأصبح المدنيون غير راضين عن أنظمتهم".

وأوضحت أن "الثقة الغربية في التدخل" بدأت تتراجع "في ضوء ما بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، والدخول إلى العراق، حيث اتضح أن هذا التدخل الواثق لم يؤدِ إلى تغيير إيجابي، بل تسبب في ديناميات جديدة في العراق، على سبيل المثال، ثم سوريا، ثم ما حدث في مصر وتونس. وهكذا بدأت الأمور في الانهيار".

وتابعت الرئيسة التنفيذية لمجموعة الأزمات إن "المبادئ الدولية التي كانت تشكل التدخل الدولي تعرضت أيضًا للتحدي في أماكن مثل سوريا، حيث قال قادة العالم الغربي إنه سيكون هناك خط أحمر فيما يتعلق بالأسلحة الكيميائية، وهذا لم يحدث. وهكذا فُقدت الثقة، وبدأ الناس يرون أنهم لم يعودوا قادرين على الوثوق بالنظام الدولي، وأن الغرب لم يعد يتمتع بالشرعية".

وأشارت إلى أن "الحرب العالمية على الإرهاب كانت تسبب مشاكل أخرى في العديد من المناطق، فقد كانت تؤدي إلى ممارسات غير ديمقراطية، وإلى انهيار أجندة حقوق الإنسان، وإلى مزيد من العنف". واختتمت هذا المحور بملاحظة لافتة: "إذا تقدمنا سريعًا إلى الأمام، نجد أن أميركا نفسها أصبحت لا تثق في النظام الذي قامت ببنائه"، في إشارة إلى تحول عميق في البنية الدولية التي سادت لعقود.

مجموعة الأزمات في 30 عامًا

وعن دور المنظمة التي تستعد لإكمال 30 عامًا من العمل ضمن النزاعات العالمية، قالت إيرو إن مجموعة الأزمات الدولية تضطلع بمهمة محورية في المشهد الدولي المعقد، موضحة أن "دورنا هو التحذير المبكر، ودق ناقوس الخطر، وتحليل الوضع، وتزويد صناع القرار على جميع أطراف الصراع بالمعلومات الصحيحة، والتحليل الصحيح، والتفكير في خيارات السياسات الممكنة لإنهاء الصراع".

إعلان

وأضافت أن المنظمة عندما تأسست قبل 3 عقود "كان في صميم ذلك المساعدة في تشكيل الإرادة السياسية لدفع الأطراف إلى التحرك في الوقت المناسب وبالتماسك والعزم، من أجل إيجاد طريقة لإنهاء الصراع"، وشددت على أن هذا الدور "أصبح أكثر إلحاحًا الآن لأننا نتحدث في وقت تتزايد فيه الحروب".

ورسمت إيرو صورة قاتمة للواقع الحالي، قائلة "نحن نشهد المزيد من التهجير الجماعي ونزوح المدنيين، ونشهد جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، ونشهد استعدادًا أكبر لاستخدام القوة، ونشهد استخدام الغذاء والمساعدات الإنسانية والخدمات الأساسية سلاحا في الحروب أيضًا". مؤكدة أن هذه التطورات الخطيرة تجعل "هناك إلحاحًا أكبر لعملنا الآن" مقارنة بأي وقت مضى.

وأشارت إلى أن مجموعة الأزمات "وُلدت في لحظة زمنية معينة، في وقت كان فيه المجتمع الدولي آنذاك، خاصة اللاعبين الغربيين، يشعر بالثقة"، موضحة أن تلك الحقبة تميزت "بالقوة الأميركية أحادية القطب، التي كانت تشعر بثقة في استخدام القوة، والديمقراطية الليبرالية الدولية التي كانت تشكل طبيعة المشهد الدولي"، لكنها استدركت: "ولكن هذا تغيّر الآن"، في إشارة إلى التحولات الجذرية التي شهدها النظام الدولي على مدى العقدين الماضيين.

ولفتت إلى أن عمل المنظمة على مدى 3 عقود أثبت أهمية "التحدث مع جميع الأطراف وجميع الجهات التي تؤمن بشكل أساسي بفكرة الحوار"، مؤكدة أن منهجية مجموعة الأزمات تقوم على "جلب الناس إلى طاولة النقاش، ومحاولة إيجاد الحلول، وقضاء الوقت في محاولة فهم ما يحدث على الأرض، والتحقق من الحقائق، وضمان الاستماع والتواصل".

تحديات العام القادم

ورغم القتامة التي تطبع المشهد، فقد شددت إيرو على أن التحدي الأكبر يكمن في "جعل الدول والقادة وجميع الأطراف الرئيسية يركزون حقًا على الوقاية والدبلوماسية الوقائية"، محذرة من أن "التصرف المبكر يكلف أقل، لكن التصرف المتأخر يكلف أكثر، سواء من حيث الأرواح البشرية أو من حيث الأموال المطلوبة لصناعة الدفاع أيضًا".

وأضافت أن "الشيء الآخر الذي أراه تحديًا حقيقيًا هو كيفية إعادة التفكير في جدار الحماية متعدد الأطراف؛ فالأمم المتحدة تمر بظروف صعبة للغاية، وعليها أن تفكر في تقليل النفقات مقابل تقليل النتائج، وأوروبا أيضًا تحت ضغط كبير، وكذلك الاتحاد الأفريقي يواجه أيضًا الكثير من التحديات".

وأشارت إلى قلقها من قضايا وجودية تواجه البشرية، قائلة "أكبر ما يقلقنا هو أمن المناخ، وهو مشكلة وجودية، والتحدي الآخر يتعلق بالحد من انتشار الأسلحة النووية ووقف إطلاق النار، وأن تتحول المفاوضات بشأن ذلك إلى نتائج أكثر استدامة".

واستمرت مسؤولة مجموعة الأزمات في سرد ما يقلقها من تحديات مبينة أن ما "يقلقني بالنسبة للعام المقبل هو أن نتمكن من تحويل كل بوادر وقف إطلاق النار والهدن والاتفاقات إلى شيء أكثر استدامة في المستقبل أيضًا"، محذرة من أن "هذا سيجعل عملنا صعبًا للغاية في العام القادم".

ولفتت إلى أن التحديات لا تقتصر على الملفات المعروفة، قائلة "أثناء حديثي معك الآن، هناك توترات تتصاعد على الحدود بين تايلند وكمبوديا، ونحن نراقب تطورًا مقلقًا للغاية في فنزويلا أيضًا". وأضافت "أعتقد أنه سيكون أمامنا المزيد من التحديات في عام 2026، لكن الصورة ليست قاتمة بالكامل، وهناك فرص".

وختمت كومفورت إيرو تصريحاتها للجزيرة نت بأهمية "الحوار والتفاوض" كأدوات أساسية لحل النزاعات، موضحة أن "ما سيكون حاسمًا أيضًا في الفترة القادمة هو القدرة على جمع الدول ذات الأفكار المتشابهة والمختلفة معًا إلى طاولة مفاوضات واحدة، بطريقة لم نتخيل أبدًا أننا قد نراها في سوريا، أو في غزة، أو في البحيرات العظمى".

إعلان

مقالات مشابهة

  • مبعوث ترامب: العراق يقف مجدداً أمام لحظة حاسمة
  • ما الدول التي يفضل «ترامب» استقبال المهاجرين منها؟
  • رئيسة مجموعة الأزمات: أميركا لم تعد واثقة في النظام الذي بنته وهناك أزمة مبادئ
  • ترامب يكشف عن الدول التي يفضل استقبال المهاجرين منها
  • أرقام قياسية لمغادرة المهاجرين أميركا وإدارة ترامب تشتري طائرات لترحيلهم
  • أميركا تطلق تأشيرة "ترامب الذهبية".. هذا سعرها
  • على صلة بحزب الله وايران.. اليكم آخر المعلومات عن ناقلة النفط التي احتجزتها أميركا في الكاريبي
  • ترامب يتهم “نيويورك تايمز” بالخيانة.. والصحيفة ترد: الشعب يستحق الاطلاع على صحة القائد الذي انتخبه
  • أميركا تتوعد المحكمة الجنائية الدولية بفرض عقوبات جديدة
  • صفقة ترامب السرية.. الذي يخفيه بيع رقاقات إنفيديا للصين؟