ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟
تاريخ النشر: 4th, December 2024 GMT
أعلن إيلون ماسك، مؤسس شركة تسلا، الشهر الماضي عن الجيل الجديد من روبوتات شركته الشبيهة بالإنسان، وتحدث عن الاقتراب من إنتاج جيل آخر أكثر تطوراً، قادر على إنجاز مهام أكثر تعقيداً كان من المفترض أنها حكر على الإنسان مثل: “حمل الأجنة” و”تقديم الرعاية للأطفال” (care provider). ليس هذا فحسب؛ بل إنه أشار إلى أن عدد الروبوتات سوف يتجاوز عدد سكان العالم في المستقبل القريب الذي حدده بعام 2040.
تثير هذه التطورات الحالية والتصريحات بشأن المستقبل العديد من الأسئلة حول موقع “الإنسان” من ذلك العالم. فإذا كانت وظائف الكائن البشري، المادية والمعنوية، جميعها سيتم نقلها لأشياء/أجسام أخرى فهل سيظل الإنسان هو “مركز الكون”، بالمعنى والمفهوم الذي قامت عليه نظريات “الإنسانية” (Humanism)، وما ملامح المجتمعات الهجينة التي سيتعايش فيها الإنسان مع الروبوت ومن يقود الآخر؟ وإذا كانت الشرائح أو الأعضاء الاصطناعية المدعمة بالذكاء الاصطناعي المفرط قادرة على رفع قدرات البشر، فمن البشر الذين سيتم تعزيز قدراتهم؟ ومن سيكون له قرار الاختيار؟ وماذا عن البشر المتروكين خلف الركب؟ وإذا كنا نشهد طفرة تكنولوجية في إمكانات الروبوتات الشبيهة بالإنسان أو الروبوتات الاجتماعية، فالأسئلة التي تطرح نفسها هنا هي: أي إنسان تشبهه هذه الروبوتات؟ وأي نسق قيمي تتبع؟ وأي موروث ثقافي تنتمي له؟ وهل يصح الحديث عن إنسان كوني تتشبه به الروبوتات؟ وما ملامحه؟ وهل انتهت البشرية التي نعرفها؟ ونتجه الآن إلى عصر “ما بعد الإنسان” (Posthumanism)، ولماذا هناك اتجاه شديد المثالية بشأن هذا التحول، وآخر شديد التشاؤم؟
لقد اكتسب مفهوم ما “بعد الإنسانية” اهتماماً كبيراً ليس فقط في الفكر الفلسفي، ودراسات التكنولوجيا؛ بل وأدبيات الخيال العلمي أيضاً، وتصاعد الجدال الفكري المرتبط بحركات “ما بعد الإنسانية”. والتي قدمت عدداً من المفاهيم مثل: “ما بعد الإنسانية” (Post humanism) و”تجاوز الإنسانية” (Transhumanism)، و”الفوق إنسانية” (Meta-Humanism)، وعلى الرغم من الاختلافات الموجودة بين تلك المصطلحات؛ فإنها تتفق جميعها على خلاصة واحدة وأساسية، وهي انتهاء شكل الإنسانية التي نعرفها، وأن مصطلح “الإنسانية” لم يعد الآن قادراً على تعريف “من نحن” في ظل الاندماج المتزايد بين الإنسان والآلة، وظهور مفاهيم مثل “السايبورغ” (الروبوتات الإنسانية أو الشبيهة بالإنسان)، ناهيك عن المفاهيم المرتبطة بتطور التكنولوجيا البيولوجية، إضافة إلى زيادة اندماج الإنسان بالبيئة وصعود عصر “الإنثروبوسين”.
خريف الإنسانية:
قبل الحديث عن مفهوم “ما بعد الإنسانية”، ينبغي علينا أولاً فهم حركة “الإنسانية” (Humanism) وفرضيتها التي سادت لقرون، والتي يبدو أننا تجاوزناها.
يعبر مفهوم “الإنسانية” عن حركة فلسفية ظهرت خلال عصر النهضة في القرن السابع عشر، نقلت ثقل التركيز من “اللاهوتية” إلى “الإنسان”؛ إذ منحت الإنسان اليد العليا في تسيير حياته، وأكدت أن البشرية لا بد أن تتحمل المسؤولية عن مصيرها، وتعول على جهودها لتلبية الاحتياجات والرغبات بدلاً من الاعتماد على الآلهة والمعتقدات الغيبية التي سادت أوروبا خلال العصور الوسطى. فكانت فلسفة الإنسانية هي رد فعل ضد الاستبداد الديني في أوروبا في العصور الوسطى وانتشار الأساطير الدينية وتفسير العالم مصائر البشر بناءً عليها. فوفقاً للكتابات الغربية، انتزعت حركة “الإنسانية” السيطرة على مصير الإنسان من الإله ووضعته في أيدي أفراد عقلانيين، وكان المقصود بالعقلانيين في ذلك الوقت “الرجال البيض”. وعلى الرغم من ارتباط هذه الفلسفة بعصر التنوير وتحرير الإنسان؛ فإنها في واقع الأمر اعترفت فقط بعقلانية “الرجل الأبيض”، وكان البشر من دون البيض “أقل إنسانية”. (ولكن هذا ليس موضوع هذه المقالة).
في هذا الإطار، ارتكزت حركة “الإنسانية” على معتقداتها الراسخة بالقيمة الفريدة والوكالة والتفوق الأخلاقي للبشر على كافة الكائنات الأخرى، وأن أهم ما يدعم هذا التفوق هو النسق الأخلاقي والقيمي لدى الإنسان؛ وهو الأمر الذي يؤهله ليكون في مركز الكون، ما يعرف بـ”مركزية الإنسانية” (humancentric). وساد هذا الإطار المعرفي منذ ظهوره حتى فترة التسعينيات من القرن الماضي تقريباً؛ إذ بدأت التطورات التكنولوجية تأخذ منحى متسارعاً ونوعياً، وظهرت بعض الآراء الفكرية التي تشكك في ذلك النموذج، وتحدت فكرة أن البشر سيظلون دائماً الوكلاء الوحيدين للعالم الأخلاقي؛ بل أشارت إلى أنه في ظل التكنولوجيا؛ فإن فهم العالم باعتباره هرماً أخلاقياً، يضع البشر في قمته لن يكون ذا معنى .
السير نحو “ما بعد الإنسانية”:
يُعد مفهوم “ما بعد الإنسانية” مظلة لعدد من المفاهيم والمدارس الفكرية، وأهمهما مفهومان أساسيان:
– “ما بعد الإنسانية/ تجاوز الإنسانية” (Posthumanism): يشير المفهوم بالأساس إلى نقد الفكرة التقليدية التي ترى الإنسان كائناً مركزياً متميزاً عن غيره في الكون. ويسعى “ما بعد الإنسانية” إلى تفكيك الحدود الثنائية التي لطالما حكمت الفلسفة الغربية، مثل: الإنسان/غير الإنسان، الطبيعة/الثقافة، الذات/الموضوع؛ ويهدف هذا التوجه إلى إعادة النظر في الوكالة (Agency) ودورها من خلال إدراج غير البشر مثل: البيئة والآلات، ضمن دائرة الفاعلية والتأثير. وفي هذا الإطار، يتصاعد مفهوم وكالة غير البشر (Non-human agency) الذي يدعم ذات التوجه. فيؤكد مفهوم “ما بعد الإنسانية” أن الطبيعة البشرية سائلة ومتغيرة ومتشابكة مع كيانات غير بشرية. فمع التقدم السريع في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية والروبوتات، أصبحت الخطوط الفاصلة بين البشر وغير البشر تتضاءل بشكل متزايد. وتشكل الأسئلة حول الهوية البشرية والاستقلالية والأخلاق ودور التكنولوجيا في تشكيل المجتمعات المستقبلية جوهر خطاب “ما بعد الإنسانية”.
– “الإنسانية المعززة” (Transhumanism): على العكس من مفهوم “ما بعد الإنسانية”، تقوم حركة “الإنسانية المعززة” على تحسين القدرات البشرية من خلال التكنولوجيا والهندسة الحيوية والجينية، والتقنيات النانوية. ويركز هذا التوجه على تجاوز الحدود الطبيعية للإنسان والتغلب على القيود البيولوجية؛ بهدف تحقيق مستويات جديدة من الأداء البدني، والمعرفي، وحتى النفسي؛ فهو يهدف إلى تعزيز نوعية الحياة الإنسانية وإطالة أمدها. ويستلهم هذا المفهوم من النزعة الإنسانية التقليدية، ولكنه يعيد تعريفها بما يتناسب مع إمكانات التكنولوجيا الحديثة.
فيزعم أنصار هذا التيار أن البشر سوف يتغيرون جذرياً في القرن القادم؛ من خلال عمليات الزرع والاختراق البيولوجي وتعزيز القدرات المعرفية، وغير ذلك من التقنيات الطبية الحيوية. وسوف تقودنا هذه التحسينات إلى “التطور” إلى نوع لا يتطابق تماماً مع ما نحن عليه الآن. ويؤكد راي كورزويل، كبير مهندسي جوجل، أن المعدل الهائل للتطور التكنولوجي سوف يجلب نهاية التاريخ البشري كما عرفناه، وسيؤدي إلى ظهور طرق جديدة تماماً للوجود لا يستطيع البشر العاديون مثلنا فهمها بعد.
ولعل أشهر الأمثلة على ذلك مفهوم “السايبورغ”؛ إذ يسمح للأشخاص بالتغلب على العوائق والمشكلات البيولوجية باستخدام الأجهزة الذكية، فهو التطبيق الواقعي لفكرة دمج الإنسان والآلة لتحقيق ذلك، حيث يصبح الإنسان قادراً على الاستفادة من قدرات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا لتحسين وظائفه؛ مما يمهد الطريق لتحول البشر إلى كائنات ما بعد بشرية. وقد شهد العالم تطور “السايبورغ” مع حالة العالم البريطاني بيتر سكوت مورغان، الذي أصيب بمرض ضمور العضلات، وقرر الخضوع لعدد من العمليات المعقدة لزرع واستبدال أجهزته البيولوجية بأجهزة آلية تعمل بالذكاء الاصطناعي، وأعلن عن أول إنسان تحول بالكامل لـ”سايبورغ”، وأطلق على نفسه بيتر 2.0، وكانت من قبله حالة نيل هاربيسون، الذي تغلب على عمى الألوان بدمج جهاز إلكتروني مع مخه.
يعبر كلا المفهومين عن رؤيتين مختلفتين لمستقبل البشرية ودور التكنولوجيا. فـ”ما بعد الإنسانية” يدعو إلى تجاوز مركزية الإنسان لصالح رؤية شاملة ومتعددة الوكلاء. بينما “الإنسانية المعززة” يسعى إلى تعزيز هذه المركزية من خلال تحسين الإنسان باستخدام التكنولوجيا. كلا الإطارين يقدمان رؤى مبتكرة، لكنهما يثيران أيضاً تساؤلات أخلاقية وفلسفية عميقة حول ما يعنيه أن تكون “إنساناً” في المستقبل.
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”
المصدر: جريدة الوطن
إقرأ أيضاً:
علماء للجزيرة نت: أصول القطط المنزلية ترجع إلى شمال أفريقيا
تشير دراسة استخدمت الحمض النووي القديم إلى أن القطط المنزلية لم تصل إلى أوروبا إلا قبل نحو ألفي عام، وأنها تعود في أصلها إلى قطط برية شمال أفريقية، وليس إلى سلالة نشأت في المشرق خلال العصر الحجري الحديث، كما رجحت فرضيات سابقة.
وتوضح النتائج التي نشرت يوم 27 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي في مجلة "ساينس"، أن انتشار القط المنزلي في أوروبا ارتبط في جانب منه بحركة الجيوش والتجارة الرومانية، مع وصوله إلى بريطانيا في القرن الأول الميلادي.
حللت الدراسة 87 جينوما لقطط قديمة وحديثة ضمن مشروع بحثي أوسع بعنوان "فيليكس"، وشمل ذلك 70 جينوما منخفض التغطية من عينات أثرية تغطي أكثر من 10 آلاف عام (من نحو 9000 قبل الميلاد حتى القرن التاسع عشر)، و17 جينوما عالي التغطية لقطط برية من أوروبا وشمال أفريقيا والأناضول.
تتبع خطوط نسب القططفي تصريحات للجزيرة نت، يقول المؤلف المشارك في الدراسة كلوديو أوتوني، أستاذ البيولوجيا التطورية المشارك في جامعة روما تور فيرجاتا، إن الفريق خلص إلى أن القط المنزلي كما نعرفه اليوم ينحدر على الأرجح من القط البري الأفريقي، وأن ظهوره خارج موطنه وانتشاره الواسع لم يحدث في أوروبا وغرب آسيا إلا بعد انتهاء موجة الاستيطان الزراعي الأولى بقرون طويلة.
ويضيف الباحث أن هذه النتائج تعيد تقييم رواية شائعة مفادها أن القطط رافقت المزارعين الأوائل من الأناضول إلى أوروبا قبل 6 آلاف عام، وأن استئناسها بدأ في المشرق مع صعود الزراعة.
وبحسب الدراسة، فقد أظهر التحليل الجيني أن القطط التي وُجدت مبكرا في أوروبا وتركيا كانت في الحقيقة قططا برية أوروبية، وأن ما رصد حينها هو أشكال من الهجينة بين سلالات برية محلية ووافدة، لا سلالة منزلية مستقرة.
ومع إدخال سلالة القط المنزلي ذات الأصل الشمال أفريقي لاحقا، بدأ انتشاره السريع عبر طرق الإمبراطورية الرومانية، قبل أن يثبت حضوره في معظم أنحاء القارة.
إعلانكما عالجت الدراسة لغزا إقليميا في جزيرة سردينيا، إذ أظهرت النتائج أن القطط البرية السردينية، القديمة والحديثة على السواء، أقرب جينيا إلى القطط البرية في شمال أفريقيا منها إلى القطط المنزلية.
ويعني ذلك، بحسب الباحثين، أن البشر نقلوا قططا برية إلى جزر لم تكن موطنا طبيعيا لها، وأن التجمعات الحالية هناك ليست مجرد أحفاد لقطط منزلية عادت إلى البرية.
"يعد الاعتماد على العظام وحدها لتمييز القطط المنزلية من البرية إشكاليا بسبب التشابه الشكلي الكبير بينهما، مما يفسر تباين القراءات الأثرية السابقة. ويوفر تحليل الحمض النووي القديم إطارا أوضح لتتبع خطوط النسب وحركة السلالات عبر الزمن، ولفصل ظاهرة الهجنة عن الاستئناس المنزلي بمعناه البيولوجي والسلوكي"، كما أوضح أوتوني.
يرى المؤلفون أن الصورة الجديدة توفق بين شواهد متفرقة: وجود ارتباطات إنسانية مبكرة بالقطط في شرق المتوسط، ودور مصر القديمة في إبراز مكانة القط، ثم الانتشار الأوروبي المتأخر نسبيا.
في هذا الإطار، يتمركز الاستئناس في شمال أفريقيا، ثم تنقلت السلالة المنزلية لاحقا على نطاق واسع بواسطة البشر، مع حدوث تزاوج متقطع مع قطط برية محلية على طول مسارات الانتقال.
ويؤكد أوتوني أن هذه النتائج لا تلغي تعقيد تاريخ القطط، فالسمات السلوكية التي قربتها من الإنسان، مثل صيد القوارض والتسامح مع القرب البشري، نمت تدريجيا؛ كما أن اختلاط السلالات ظل قائما عبر آلاف السنين.
لكن الباحث يشدد على أن حدوث التهجين لا يعني بالضرورة وجود سلالة منزلية مستقرة في ذلك الوقت المبكر، وأن البصمة الجينية الواضحة للقط المنزلي لا تظهر في أوروبا إلا لاحقا.
وأشار الباحث إلى أن الدراسة جزء من جهود مستمرة لحسم أسئلة منشأ القطط وتاريخ استئناسها، مضيفا أن "القطط تمنح أسرارها على مضض". وتفتح النتائج الباب أمام أعمال لاحقة لتوسيع قاعدة العينات جغرافيا وزمنيا، وتدقيق العلاقة بين تحركات البشر، خاصة الرومان، وتوزع السلالات القططية.
عمليا، لا تغير هذه الخريطة المعدلة كثيرا في الواقع اليومي لعلاقة البشر بقططهم، لكنها تعدل جدولا زمنيا أساسيا: قطط أوروبا ليست بقايا رفيق نيوليتي قديم (العصر الحجري الحديث قبل 4500 قبل الميلاد)، بل وافد أحدث انطلق من شمال أفريقيا واستقر مع العصر الروماني، بحسب المؤلف المشارك في الدراسة.