الباحث الإسرائيلي آدم راز يؤرخ النهب.. كيف سُرقت الممتلكات الفلسطينية؟
تاريخ النشر: 8th, December 2024 GMT
آدم راز هو أحد "المؤرخين الجدد" في إسرائيل، وهم نخبة قليلة من باحثين أكاديميين وكتاب وصحفيين نبذت تقاليد البحث التاريخي التي رسختها المؤسسة الصهيونية الرسمية أكاديميا، وقدموا دراسات تختلف كثيرا عن أساطير التأسيس الصهيونية، وتقترب أكثر من تاريخ نكبة فلسطين الحقيقي.
وارتبطت ظاهرة "المؤرخين الجدد" برفع السرية عن محفوظات ووثائق إسرائيلية تعود لأحداث حرب ونكبة 1948، أواخر السبعينيات، وبتأثير الغزو الإسرائيلي للبنان صيف 1982 والانتفاضة الأولى في الضفة العربية وقطاع غزة المحتلين أواخر 1987.
دحض "المؤرخون الجدد"، أمثال توم سيغيف وسيمحا فلابان وبيني موريس وآفي شلايم وإيلان بابيه وآدم راز، أساطير الرواية الرسمية الإسرائيلية حول حرب 1948:
أسطورة "خطر الإبادة"، التي تعرض لها التجمع الاستيطاني اليهودي بفلسطين جراء "تفوق" العرب عددا وعدة في حرب 1948. أسطورة أن العرب "رفضوا"، منذ سنة 1948، يد السلام التي مدّتها إسرائيل إليهم. أسطورة "حرب الاستقلال" وأن التجمع الاستيطاني اليهودي في فلسطين خاض حربا ضد الانتداب البريطاني لتحقيق الاستقلال، وأجبر بريطانيا على الخروج من فلسطين، ومن ثَمّ أقام دولة إسرائيل. أسطورة أن الفلسطينيين نزحوا بمعظمهم عن أرضهم خلال الحرب "طوعيا" أو بتأثير "دعاية" الجيوش العربية التي دفعتهم للهجرة. أسطورة الاستيطان اليهودي المثالي الرومانسي. إعلانتكمن أهمية ما يطرحه "المؤرخون الجدد" أو مدرسة "التأريخ الإسرائيلي الجديد"، من أفكار في تحديها لأساطير بنيت عليها مُخيلة الكيان الصهيوني تجاه قضايا أساسية قبل تأسيس الدولة وبعدها.
انصبت دراسات "المؤرخين الجدد" على إثبات أن المنظمات العسكرية الصهيونية التي شكلت الجيش الإسرائيلي قبيل الحرب، انخرطت في برنامج تهجير واعٍ للفلسطينيين بهدف طردهم من فلسطين، تحقيقا لفكرة الـ"ترانسفير" الصهيونية الأساسية وضرورة إخلاء الأرض للمهاجرين اليهود وتعذُر وجود شعبين فيها.
النهب سلاحا لمنع العودةلدى اقتلاعهم من مدنهم وبلداتهم وقراهم عام 1948، سُلبت ممتلكات الفلسطينيين الخاصة، عندما تحول النهب والتخريب إلى سلاح لمنع عودتهم إلى منازلهم.
خلال حرب 1948، نهب الصهاينة، من مدنيين وعصابات مسلحة على حد سواء، منازل الفلسطينيين ومتاجرهم وأعمالهم ومزارعهم. ثم تم قمع هذه الحقيقة المريرة أو نسيانها على مدى العقود التالية.
وشارك عشرات الآلاف من الإسرائيليين في نهب الممتلكات الفلسطينية، وسرقة ممتلكات جيرانهم السابقين. وتتجاوز آثار هذا النهب الجماعي بكثير شخصية المشاركين فيه أو نسيجهم "الأخلاقي". خدم النهب أجندة سياسية من خلال المساعدة في إفراغ البلاد من سكانها الفلسطينيين. وفي هذا السياق، كان جزءا من السياسة السائدة أثناء الحرب، وهي سياسة مصممة لسحق الاقتصاد الفلسطيني، وتدمير القرى، ومصادرة المتبقي من المحاصيل والحصاد بالمناطق المهجورة وتدميرها أحيانا.
وأصبح الجمهور الصهيوني المشارك طرفا معنيا، مدفوعا بمنع السكان الفلسطينيين من العودة إلى القرى والمدن التي غادروها. لقد تم حشد هؤلاء الناس العاديين في الدفع نحو الفصل بين اليهود والعرب في السنوات الأولى من قيام الدولة الصهيونية.
ومن خلال البحث الأصلي المضني في المصادر الأولية، ألقى آدم راز الضوء على لحظة مأساوية في تاريخ صراع يهز المنطقة والعالم. إن هذا الكتاب إضافة مهمة فقد نجح المؤلف في توفير الأدلة اللازمة لكسر "مؤامرة الصمت" حول أصول الدولة الإسرائيلية. وبفهم تفاصيل النكبة وتوثيقها، أصبح إنصاف المظالم الفلسطينية حتمية مسلما بها.
إعلان خريطة الكتابيبدأ الكتاب بمسرد الاختصارات والمجموعات الأرشيفية التي اعتمد عليها المؤلف، ثم مقدمة المؤلف والجزءان الأول والثاني. وأخيرا، خلاصة موجزة للنتائج، وفهارس.
ويتناول الجزء الأول من الكتاب بالتفصيل وقائع التهجير وسرقة الممتلكات الفلسطينية في مدن: طبريا، وحيفا، والقدس، ويافا، وعكا، وصفد، وبيسان، والرملة واللد، وبئر السبع، ثم المساجد والكنائس، والقرى الفلسطينية، وأعمال النهب الجماعي.
ويعالج الجزء الثاني الأبعاد السياسية والاجتماعية لنهب الممتلكات الفلسطينية: انتشار سم النهب والسرقة في شرايين المجتمع الإسرائيلي، السرقة الفردية والنهب الجماعي، معارضة السرقة، الوزير شيتريت ندّاب محترف، بن غوريون يتجاهل شيتريت ووزارة الأقليات، وجود سياسة ممنهجة لطرد العرب وسرقة ممتلكاتهم، بن غوريون.. هذا ذنبك!؛ بن غوريون وسرقة الممتلكات، التواطؤ على جريمة.
كانوا جيران الأمس
يقول الصحفي الإسرائيلي جدعون ليفي، مؤلف كتاب "قتل غزة" إن كتاب آدم راز وثيقة قوية ومزعجة. إننا في إسرائيل لا نعرف إلا القليل عن النكبة لأننا لا نتلقى إلا القليل من المعلومات. ويكشف لنا آدم راز جانبا مظلما آخر من حرب 1948: النهب. ذلك النهب الذي ارتكبه أفراد كثيرون، وكان يعتبر شرعيا. كان هذا النهب وجها آخر من وجوه نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين، وبلغ ذروته الآن بعد 76 عاما.
يقول راز في مقدمته إن هذا هو أول كتاب يركز بشكل أساسي على نهب الممتلكات الفلسطينية. لم يكن هذا النهب امتثالا لنظام سياسي من أعلى: "كان نهب الأصول والمقتنيات المنقولة طوعيا من قبل الناهبين، وانخرط العديد من اليهود في هذا السلوك الإجرامي".
في حين أن النهب والسرقة ممارسة قياسية تقريبا في زمن الحرب، فإن النهب الذي حدث أثناء حرب "الاستقلال" المزعوم التي خلقت دولة "إسرائيل" كان مختلفا، حيث نهب السكان اليهود ممتلكات السكان العرب المجاورين. "لم يكونوا "أعداء" مجردين… كانوا جيران الأمس".
إعلان انهيار أخلاقييوثق النصف الأول من الكتاب بالتفصيل حجم نهب الممتلكات الفلسطينية. في طبريا مثلا، كان سقوط المدينة بأيدي العصابات الصهيونية المسلحة يعني الخروج الكامل للسكان الفلسطينيين، وعدم العودة أبدا. خلّفت هذه العملية وراءها كميات هائلة من الممتلكات، ووقعت عمليات النهب على نطاق غير مسبوق. وقد أبدى أحد مسؤولي الصندوق القومي اليهودي دهشته الشديدة حين كتب في مذكراته:
"لقد تحرك اليهود في مجموعات، عشرات بعد عشرات، ونهبوا منازل العرب ومتاجرهم… وكانت هناك منافسة بين فصائل (عصابات) الهاغاناه (المسلحة) المختلفة… التي وصلت في سيارات وقوارب وحملت كل أنواع الأشياء… أما الجنود المكلفون تحديدا بحماية الممتلكات فقد تجاهلوا ما كان يجري حولهم، ويقال إنهم كانوا يتلقون الرشاوى. لقد كان هذا انهيارا أخلاقيا".
وقال مراقب آخر: "كانت هذه المشاهد مألوفة بالنسبة لي، ولكنني اعتدت دوما على ربطها بما فعله الآخرون بنا أثناء المحرقة، وأثناء الحروب العالمية، وأثناء كل المذابح… وهنا كنا نفعل هذه الأشياء الرهيبة ضد الآخرين".
الضباط ينظمون النهب
لقد كانت أعمال نهب طبريا بمثابة نموذج لنهب المدن الأخرى في مختلف أنحاء البلاد. في حيفا، لم ينتظر اللصوص حتى يهجر السكان ممتلكاتهم. وقد ذكر أحد الوزراء في الحكومة أن أغلب الممتلكات المستهدفة بالنهب كانت الممتلكات العربية، لكن حتى المنازل اليهودية كانت تتعرض للهجوم:
"خلال مختلف عمليات اقتحام المنازل المستهدفة بالنهب، كانت هناك حالات استخدم فيها الغزاة القوة، وضربوا الرجال والنساء العرب، وكسروا الأبواب، وجمعوا الأثاث الذي أخرجوه من الغرف، وأخذوا الناس من منازلهم وألقوا بهم في الشارع… ومن الواضح أن اقتحامات المنازل كانت من تنظيم ضباط الجيش. وكان هناك ضباط بين الغزاة نزعوا شارات رتبهم العسكرية".
كذلك، وقعت عمليات نهب منفلتة في القدس. فقد نهب اللصوص كثيرا من المنازل الفلسطينية إلى الحد الذي جعلهم في حاجة إلى حماية المسروقات من المدنيين اليهود الآخرين الذين جاؤوا للنهب أيضا: "بدأت الدماء تسيل".
وقد ورد أن عمليات النهب استمرت أياما، بل وحتى أشهرا في الأحياء العربية واليهودية على حد سواء. ولم تتوقف إلا عندما لم يعد هناك ما يمكن سرقته، أو ما لا يمكن أخذه، أما ما كان يعتبر بلا قيمة، فكان يتم تحطيمه. وأحرقت مكتبات بأكملها.
الجيش البريطاني نهب يافافي يافا، كان الجنود البريطانيون هم الذين بدؤوا نهب المحلات التجارية أياما متواصلة بلا توقف. وسرعان ما انضم إليهم آخرون. وقد لاحظت عضو الحزب الشيوعي الإسرائيلي روث لوبيتز: "على طول الطريق، لا يوجد منزل أو متجر أو ورشة لم يتم الاستيلاء على كل شيء فيه". وفي فترة 12 يوما في يونيو/حزيران 1948، تم إخراج أكثر من 5 آلاف طن من البضائع من مدينة يافا على متن شاحنات.
إعلانوتم احتلال حوالي 550 قرية فلسطينية خلال الحرب. وفي بعضها، وقعت عمليات نهب جماعي، شملت "أشخاصا (يهودا) من كل الطبقات الاجتماعية". وقد اشتكى أحد أقسام الحكومة من أن "الآلات وحيوانات العمل والمنازل والمخازن التي كان يمكن أن تفيد الجيش نفسه وخزانة الدولة تم تدميرها أو قتلها أو حرقها".
كما استهدفت المساجد والكنائس بالنهب والتدمير. ووصف وزير الخارجية الإسرائيلي، موشيه شاريت، ذلك في عام 1949 بأنه "تخريب وحشي، وتدنيس للأماكن المقدسة يليق بالمتوحشين، وليس اليهود". وجدير بالذكر أن دير رقاد السيدة العذراء لطائفة البنيديكتيين المسيحية، على جبل صهيون، والذي يعتبر أحد أقدس كنائسهم، قد تعرض للنهب الكامل. كما تم تدمير الأديرة والمساجد على نحو روتيني.
يمكن القول إن سرقة الأثاث والأدوات المنزلية كانت تافهة مقارنة بالمذابح التي ارتكبت آنذاك، مثل إعدام العشرات من السجناء الفلسطينيين في عين الزيتون، وهي فظائع تم إخفاؤها سنوات طويلة. لكن تورط العديد من المدنيين، بما في ذلك الأطفال، في النهب كان له عواقب بعيدة المدى.
وعبّر البعض عن هذا بالقول: "أخشى فقدان البراءة، وفقدان فكرة أن الإنسان يحتاج إلى العيش من خلال عمله بدلا من النهب والسرقة، لأن شيئا هنا ينم عن فشل أخلاقي كبير".
وقال آخر: "الغنائم (المنهوبة) تفعل أكثر من مجرد تدمير الضحية. إنها تلحق الضرر بروح الجاني؛ إذا ظهر تأثيرها ولو قليلا في زمن الحرب، فإن الكثير من سمومها تنتشر عبر شرايين المجتمع خلال أوقات السلم اللاحقة".
جريمة جماعية متعمدةعلى الصعيد السياسي، كان تورط هذا العدد الكبير من الناس في أعمال النهب أمرا بالغ الأهمية. فقد أدى ذلك إلى دمجهم في جريمة جماعية كبرى، وجعل من الأسهل حشدهم في دعم الفظائع المستمرة التي ارتكبتها الدولة الصهيونية الناشئة.
إعلانيقول راز: "لقد حول ذلك اللصوص… إلى متعاونين سياسيين". ويتابع: "لقد أصبح اللصوص مدافعين "غير راغبين" عن أجندة سياسية تسعى إلى خلق حالة حرب دائمة بين إسرائيل والعالم العربي".
علاوة على ذلك، وبما أن القيادة الإسرائيلية يبدو أنها تجاهلت التحذيرات بشأن النهب الجماعي التي تم التعبير عنها من داخل حكومتها، ثم في وقت لاحق منحت عفوا شاملا عن هذه الجرائم، فقد يكون هذا بمثابة سياسة حكومية متعمدة:
"لقد خدمت (هذه الجرائم) سياسة رئيس الوزراء ديفيد بن غوريون في إبعاد السكان العرب عن دولة إسرائيل وساعدته على تحقيق ذلك" ومنع عودتهم بإزالة ما يمكن العودة إليه. وهكذا يظهر الدور السياسي المركزي لنهب الممتلكات الفلسطينية في توليد ظاهرة اللاجئين الفلسطينيين، وكيف استخدمه بن غوريون لتنفيذ سياساته الخاصة.
ويؤكد المؤرخ الإسرائيلي، بيني موريس، أن تأريخ النهب اليهودي الهائل للممتلكات العربية يسلط الضوء على الجوانب المظلمة لـ"حرب الاستقلال" آنذاك، ويظهر الارتباط بين أعمال النهب وسياسة بن غوريون لتطهير البلاد من سكانها العرب.
بعد الحرب، عيّن رئيس الوزراء الإسرائيلي النائب العام "للتحقق فيما إذا كان الجيش وجنوده قد ألحقوا الأذى بحياة العرب في الجليل والجنوب بطرق تتعارض مع قواعد الحرب". وحتى يومنا هذا، تظل النتائج سرية.
وبحسب المؤلف: "رغم ارتكاب الجنود الإسرائيليين العديد من الفظائع، إلا أن جنديا واحدا فقط، متهم بقتل 15 عربيا، خضع للمحاكمة". وحُكِم عليه بالسجن مدة عام واحد، ثم صدر عفو عنه بعد فترة وجيزة.
ويلفت أنتوني لوينشتاين، مؤلف "مختبر فلسطين"، إلى أن الإنكار لا يزال عميقا في المجتمع الإسرائيلي حول الأحداث المظلمة التي وقعت عام 1948. لكن آدم راز لا يخشى التحقيق بشجاعة في الوضع الحقيقي لميلاد إسرائيل، وقد كان قبيحا.
إعلانيجب أن يشكل هذا النص الدؤوب والضروري إلى الأبد كيف ينظر العالم إلى ميلاد الدولة الإسرائيلية على أنه عنيف واستغلالي. ومن خلال التعويض والاعتراف وسرد الحقيقة فقط يمكن للإسرائيليين أن يأملوا بالمصالحة مع جيرانهم الفلسطينيين.
لقد جمع آدم راز قدرا مذهلا من التفاصيل في بحثه عن هذا الموضوع. ونظرا للجهود الجارية لمحو ماضي فلسطين وإخفاء حقائق معاملة إسرائيل للفلسطينيين، فإن هذا الكتاب يشكل مساهمة مهمة في الكشف عن الواقع الذي تأسست عليه الدولة الصهيونية.
مؤلف الكتاب آدم راز باحث ومؤرخ إسرائيلي في حقوق الإنسان وتاريخ القرن الـ20 السياسي. ألف عدة كتب بالعبرية عن تاريخ الأسلحة النووية في إسرائيل والصراع الإسرائيلي الفلسطيني منها: الصراع على القنبلة (2015)؛ هرتزل: صراعات مؤسس الصهيونية مع المؤيدين والمعارضين (2017)؛ مذبحة كفر قاسم: سيرة سياسية (2018)، الحكم العسكري 1948-1966 (2021)؛ الديماغوجية وآليات القوة السياسية (2023). يعمل راز بمعهد أكيـﭬوت لأبحاث الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات أعمال النهب بن غوریون من خلال حرب 1948
إقرأ أيضاً:
أنس.. الكلمة التي أرعبت الرصاصة
لمن يهمه الأمر الاحتلال يلوّح باجتياح غزة بجدية، والمدينة تنزف منذ اثنين وعشرين شهرًا تحت نيران البر والبحر والجو. شهداؤها بعشرات الآلاف، وجرحاها بمئات الآلاف، وإن لم يتوقف هذا الجنون فلن يبقى من غزة سوى الركام، وستغيب صورة وصوت أهلها، وستسجّلكم ذاكرة التاريخ كشهود صامتين على جريمة إبادة لم يفعل أحد شيئًا لوقفها.
أنس الشريف، تغريدة قبل ساعة من استشهاده.
حين كنت شابًّا غِرًّا، كنت أظن كما رسمته وسائل الإعلام الغربية أن الإرهاب سيارة مفخخة، أو طائرة مختطَفة، أو حزام ناسف، وأن الإرهابي لا يكون إلا ذا لحية كثّة وملامح متجهّمة. لكنني أدركت لاحقًا أن هذا النمط ليس إلا شكلاً بدائيًّا أمام إرهاب الدول الذي نشهده اليوم؛ كالمجزرة المستمرة في غزة على مرأى ومسمع العالم. فالإرهابي ذو اللحية الكثّة ليس سوى مبتدئ أمام أولئك الذين يرتدون البذلات الفاخرة، ويعقدون ربطات العنق اللامعة، ويبتسمون بثقة أمام عدسات الكاميرات.
وقد تأتي صورة الإرهاب أحيانًا أقل دمويّة، كما حدث قبل أيام في بريطانيا حين خرجت مظاهرة سلمية تندّد بالمجزرة، فاعتُقل 522 مشاركًا فيها، كان أكثر من نصفهم قد تجاوزوا الستين عامًا.
افتتح الكيان الصهيوني هجومه الجديد على غزة باغتيال الصحفي النشيط أنس الشريف وثلاثة من رفاقه، بعد لحظات فقط من تغطيتهم للهجوم الهمجي على القطاع، في نهج ممنهج لإسكات الأصوات الحرة وترهيب الصحفيين وثنيهم عن كشف فصول المجزرة الجديدة التي بدأت للتو.
ولم تُخفِ الدولة المجرمة أن الاغتيال كان مقصودا، زاعمةً أن أنس قائد خلية لحماس. فكل صحفي تغتاله، في روايتهم، حماس، وكل طفل جائع يُقتل عند مواقع توزيع المساعدات حماس، وكل مسجد أو كنيسة أو مستشفى يُقصف حماس، وكل مظاهرة حماس، وكل ناشط فلسطيني حماس، بل إن قول الحقيقة حماس، والأمم المتحدة حماس، والدول التي تدين المجزرة حماس.
لقد تحوّلت هذه الكذبة المبتذلة إلى أسطوانة ممجوجة لا يرددها إلا نتن ياهو وزبانيته، وزبائن جيفري إبستين مغتصبو الأطفال، والسياسيون الفاسدون الذين تحرّكهم أموال اللوبيات الصهيونية.
وإذا كان أنس، كما يزعم الكيان المجرم، رأس خلية إرهابية، فلماذا لم يُغتَل وحده؟ ولماذا استُهدِف معه ثلاثة صحفيين آخرين، وابن شقيقته الذي لم يكن يحمل سوى حلم أن يصبح صحفيًّا مثل أنس حين يكبر؟
بالطبع، لن تثور وسائل الإعلام الأجنبية ولا كبار صحفييها لاغتيال أنس
ورغم سيطرة الكيان على 80% من قطاع غزة، وإقامته مصائد الموت التي يسميها مراكز مساعدات، وإنكاره وجود مجاعة أو إبادة جماعية، وادعائه أن الصحفيين يكذبون، فإنه في الوقت نفسه يمنع دخول الصحفيين الأجانب إلى القطاع. وهذا وحده دليل قاطع على أن ما ينقله الصحفيون من هناك هو الحقيقة العارية.
بالطبع، لن تثور وسائل الإعلام الأجنبية ولا كبار صحفييها لاغتيال أنس؛ قد يصدرون إدانات ويبدون شيئًا من الغضب، لكنه غضب لا يرقى إلى اعتبار اغتياله جريمة تمسهم جميعًا. وهم لم يغضبوا من قبل على اغتيال أكثر من 245 صحفيًّا حصدتهم آلة الحرب خلال اثنين وعشرين شهرًا، أي بمعدل صحفي واحد كل ثلاثة أيام، وهو رقم لم يشهد التاريخ مثله.
قبل اغتياله، تعرّض أنس لحملة تشويه صهيونية منظمة، قادها المتحدث باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي، الذي نعته بالإرهابي لمجرد ظهوره على شاشة التلفاز جائعًا منهكًا، وكأن الجوع أصبح تهمة إرهاب! ولعمري، لم أرَ في حياتي إرهابيًّا جائعًا.
وقد شُكّلت لجنة للدفاع عنه، وحذّرت المنظمات الأممية المعنية بحماية الصحفيين من الخطر الذي يحدق بحياته، وسط عشرات التغريدات التي نشرها بنفسه. لكن تلك التحذيرات ضاعت في الفراغ، بل إن وسائل الإعلام الغربية شككت في الأمر وتبنّت الرواية الصهيونية. عندها كتب أنس وصيته، وحمل كفنه، ومضى في جهاده بالكلمة والصورة حتى اللحظة الأخيرة.
لحق أنس ورفاقه بركب مئات الصحفيين الذين فقدوا منازلهم وعائلاتهم أولًا في محاولة لترهيبهم، لكنهم أبوا أن يضعوا الكاميرا أرضًا أو أن يصمتوا أمام الجريمة. قبل عامين، لم يكن اسم أنس يتردّد في الأروقة ولا يظهر على الشاشات، لكنه تسلّم الراية من رفيقٍ مضى شهيدًا قبله، وسيتسلمها من بعده آخرون، يحملون أرواحهم بأيديهم ليواصلوا هذه المهمة المقدسة، وهم يدركون أن ثمنها غالبًا حياتهم، مؤمنين بأن الكلمة والصورة ستنتصران على الرصاصة والقنبلة يومًا ما.
الدستور الأردنية