ابراهيم برسي

١٢ ديسمبر ٢٠٢٤

في كتابه “الأفندية ومفاهيم القومية في السودان”، يقدم خالد الكِد شهادة فكرية فريدة، يغوص عبرها في عمق التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدها السودان، مستكشفًا البنية الذهنية والثقافية التي صاغت مفهوم القومية في بلد يعج بالتعدد والتناقض.
ليس هذا النص سردًا تاريخيًا تقليديًا، بل هو عمل تأملي يمتزج فيه التحليل الفلسفي بالسرد التاريخي، ليكشف عن طبقات من التعقيد والتشابك في فهم القومية السودانية.



يختار الكِد “الأفندي” ليكون نقطة انطلاق لتحليله، ليس فقط كفرد داخل مجتمع متحول، بل كرمز لفئة اجتماعية لعبت دور الوسيط بين المستعمر والشعب.
الأفندي هنا ليس مجرد موظف مدني، بل هو حامل لإرث فكري متناقض، يغذيه تعليم استعماري غربي من جهة، ويشدّه انتماؤه السوداني التقليدي من جهة أخرى. هذه الفئة التي تبنّت مشروعات تحديثية لم تخلُ من الشوائب، وجدت نفسها في صراع داخلي دائم، حيث كان عليها أن تكون جزءًا من مشروع استعماري أوجدها، لكنها في ذات الوقت مطالبة بالتصدي له.
في هذا التناقض تكمن مأساة الأفندية، مأساتهم الخاصة ومأساة مشروعهم القومي.

يرى الكِد أن القومية السودانية، كما تصوّرتها النخب الأفندية، لم تكن قادرة على تجاوز الانقسامات العرقية والثقافية التي شكلت البلاد.
لقد كانت قومية مشوهة، لأن صُنّاعها أنفسهم كانوا أسرى لفكر طبقي يجعل من التعليم والتوظيف أدوات للتمييز، بدلًا من أن تكون وسائل للتحرر.
الأفندية، بحسب الكِد، سعت في أغلب الأحيان لتثبيت موقعها الطبقي أكثر مما سعت لبناء هوية وطنية جامعة، وهو ما جعل القومية السودانية أقرب إلى حلم مستحيل منها إلى مشروع سياسي ناضج.

في لحظة فارقة من الكتاب، يتناول الكِد أحداث عام 1924، تلك الانتفاضة التي تُعتبر في كثير من الأحيان نقطة التأسيس الأولى للوعي القومي السوداني. لكنه ينظر إلى هذه الأحداث من زاوية مغايرة، فيرى فيها انعكاسًا للتناقضات التي وسمت مشروع القومية السودانية.
كان الأفندية في طليعة هذا التمرد، لكنهم في الوقت ذاته جزء من النظام الذي أوجد هذا التمرد. كانوا يثورون ضد الاستعمار البريطاني، لكنهم يحملون داخليًا بصماته الفكرية والاجتماعية. هنا يظهر الكِد في أبهى لحظات تأمله النقدي، حين يعيد قراءة التاريخ، ليس كحدث مغلق، بل كعملية معقدة من الصراع بين الإرادة والواقع.

وحين يصل الحديث إلى مؤتمر الخريجين، الذي لطالما اعتُبر منصة لتجسيد الوعي القومي السوداني، يذهب الكِد إلى ما هو أبعد من الخطاب المألوف. فهو يرى أن هذا المؤتمر لم يكن في حقيقته سوى انعكاس آخر لتناقضات النخب. بدلًا من أن يكون قوة موحدة، أصبح ساحة للتنافسات والطموحات الشخصية. وهكذا، يتبدّى القصور البنيوي لمشروع الأفندية في أعجز صوره، إذ فشلوا في تحويل ما كان يمكن أن يكون نقطة انطلاق للتغيير إلى لحظة تاريخية حاسمة.

لغة الكِد نفسها تأسر القارئ، إذ تتسم بالدقة والثراء. لكنه، رغم العمق الفكري الذي يبثه في سطوره، لا يهرب من سطوة التقريرية أحيانًا، ربما لأن شغفه بإثبات فكرته يجعل من اللغة أداة مباشرة في بعض المواضع. ومع ذلك، فإن كتابته تتألق في قدرتها على المزج بين التأريخ والنقد الفلسفي، مما يجعل نصه أقرب إلى مرآة تعكس تناقضات المجتمع السوداني بأسره.

إن قراءة “الأفندية ومفاهيم القومية في السودان” ليست مجرد رحلة عبر صفحات كتاب، بل هي مسيرة فكرية تدفع القارئ لإعادة التفكير في كل ما ظن أنه يعرفه عن القومية، عن النخب، وعن السودان نفسه. في النهاية، يدعونا الكِد لمساءلة حاضرنا بقدر ما يعيدنا إلى ماضينا.
هل يمكننا حقًا تجاوز إرث الأفندية، أم أن ظلالهم لا تزال تُلقي بثقلها على أحلامنا بالوحدة والتحرر؟
سؤال يتركه الكتاب معلقًا، لكنه ينغرس في وجدان القارئ، مثل جرح يأبى الاندمال.

Sent from Yahoo Mail for iPhone

 

[email protected]  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: القومیة السودانیة

إقرأ أيضاً:

مشروع تأسيس الانفصالي بالسودان.. رفض دولي وإقليمي واسع

منذ أن أعلنت مليشيا الدعم السريع وحلفاؤها السياسيين عن حكومة ضمن مشروع (تأسيس الانفصالي)، ظلت الإدانات الدولية والاقليمية والمحلية تتوالى داخلياُ وخارجياً وتحذر من خطورة الخطوة.

الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، وصف إعلان “تحالف تأسيس” بتشكيل سلطة حاكمة بديلة بقيادة المليشيا ، بأنه تصعيد بالغ الخطورة يُهدد وحدة السودان وسلامة أراضيه، ويُنذر بتفاقم المعاناة الإنسانية في ظل صراع دموي طال أمده.

وشدد غوتيريش على أن أي ترتيبات أحادية الجانب لا تُفضي إلى سلام حقيقي، مجددًا دعوته إلى حوار وطني شامل يجمع كافة الأطراف السودانية بهدف التوصل إلى تسوية سياسية عادلة ومستدامة.

مصر ترفض

ومنذ مارس الماضي، أعلنت وزارة الخارجية المصرية، رفضها أي محاولات تهدد وحدة وسيادة أراضي السودان، بما في ذلك تشكيل حكومة سودانية موازية، وذلك عندما بدأ نقاش الموضوع في العاصمة الكينية نيروبي.

وقالت الوزارة في بيان بأن «تشكيل حكومة موازية يعقّد المشهد في السودان، ويعوق الجهود الجارية لتوحيد الرؤى بين القوى السياسية السودانية، ويفاقم الأوضاع الإنسانية». ووفقاً للبيان، طالبت جمهورية مصر العربية، القوى السودانية كافة بتغليب المصلحة الوطنية العليا للبلاد، والانخراط بصورة إيجابية في إطلاق عملية سياسية شاملة، دون إقصاء أو تدخلات خارجية.

السعودية ترفض

كما أعلنت وزارة الخارجية السعودية، في بيان رسمي صدر الثلاثاء، رفضها القاطع للاعتراف بما يُعرف بـ”حكومة التأسيس” التي أعلنتها قوات الدعم السريع، معتبرة أن هذه الخطوة تمثل تهديدًا مباشرًا لوحدة السودان وشرعيته، وتُفاقم الأزمة المستمرة منذ أكثر من عام.

وقالت بأن تشكيل حكومة خارج إطار الشرعية الدولية يُعد تصعيدًا خطيرًا يُعرقل جهود الحل السياسي.

الاتحاد الأفريقي يدين

وأدان مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي بشدة إعلان تأسيس حكومة موازية في السودان. ودعا المجلس في بيان صحفي صدر (الثلاثاء) ، جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأفريقي والمجتمع الدولي إلى “رفض تجزئة السودان وعدم الاعتراف بما يسمى بـ(الحكومة الموازية) لما لذلك من عواقب وخيمة على جهود السلام والمستقبل الوجودي للبلاد”.

كما طالب المجلس الجميع “بالامتناع عن تقديم الدعم أو المساعدة من أي نوع لأي جماعة مسلحة أو سياسية مرتبطة بما يسمى بـ(الحكومة الموازية) في السودان”.

اهتمام بوحدة السودان

من جانبه، أكد ممثل الاتحاد الأفريقي في السودان محمد بلعيش، خلال لقائه برئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، أن تشكيل حكومة مدنية مستقلة من كفاءات وطنية يُعد خطوة مهمة لتخفيف معاناة السودانيين وتحسين الخدمات، تمهيدًا لبدء عملية إعادة الإعمار وتهيئة الظروف لعودة النازحين واللاجئين إلى ديارهم.

وأوضح بلعيش أنه نقل إلى البرهان تحيات رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، السفير محمود علي يوسف، مجددًا دعم الاتحاد لوحدة السودان واستقراره، مضيفًا أن زيارته تأتي في إطار استكشاف سبل تحقيق السلام والأمن والاستقرار في البلاد.

الكتلة الديمقراطية ترحب

ورحبت قوى الحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية، بالموقف الواضح والصريح الصادر عن مجلس السلم والأمن الأفريقي، والذي أكد رفضه القاطع لـ”حكومة التأسيس” التي أعلنها تحالف تأسيس، وتمسكه بوحدة السودان وسيادته ورفضه الاعتراف بأي كيان موازٍ.

وأشادت الكتلة في بيان (الأربعاء) بمواقف جامعة الدول العربية والأطراف الإقليمية والدولية التي عبرت بوضوح عن رفضها لهذه الخطوة وإدانتها.

واعتبرت الكتلة أن إعلان حكومة موازية يمثل تهديدًا خطيرًا للسودان والمنطقة، خاصة وأن معظم الدول المجاورة هشة وغير محصنة ضد الفوضى والانقسام.

تطور خطير

ووصف حزب الأمة القومي تشكيل”حكومة تحالف تأسيس” بمدينة نيالا، لتكون بذلك الحكومة الثانية المعلنة في البلاد بأنه تطور بالغ الخطورة يُنذر بمآلات كارثية على وحدة البلاد وسلامة نسيجها الوطني.

وأعلنت الأمانة العامة لحزب الأمة القومي في بيان صحفي، رفضها تشكيل أي حكومة خارج إطار الشرعية التوافقية أو التفويض الشعبي، بجانب أي اصطفاف مع مشروعات الحرب أو دعمها، وشددت على أن الحل الوحيد للأزمة الوطنية الراهنة هو التوجّه نحو تسوية سياسية شاملة عبر مفاوضات جادة تفضي إلى وقف شامل لإطلاق النار، وتحقيق سلام عادل، واستعادة مسار التحول المدني الديمقراطي.

خطوة خطيرة

وأكد حاكم إقليم دارفور، مني أركو مناوي، أن تشكيل ما يُسمى “حكومة تأسيس” خطوة خطيرة وصارخة، تمهّد لتدخل دولي في الشأن السوداني.

وقال، في تصريحات صحفية له: “على الآلية الرباعية أن تستند إلى إرادة الشعب السوداني، لا إلى أجندات خارجية”.

وعبر عن رفضه لأي تحرّك يؤدي إلى تقسيم البلاد أو انتهاك سيادة السودان.

المحقق – طلال إسماعيل

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • النمر يذكر الأطعمة التي تحسن صحة القلب
  • مشروع تأسيس الانفصالي بالسودان.. رفض دولي وإقليمي واسع
  • حكومة السوداني تُنجز المرحلة الأولى من مشروع المدارس النموذجية
  • السوداني يوجه بإزالة جميع المعوقات التي تعترض مشاريع الطاقة
  • عناوين الصحف السودانية الخميس 31 يوليو 2025
  • كتاب يعيد قراءة سقوط الدولة الأموية وصعود العباسيين
  • خالد عكاشة: تصريحات حماس «مؤسفة ومُضللة» وما يحدث في السودان «جرس إنذار»
  • عناوين الصحف السودانية اليوم الأربعاء 30 يوليو 2025
  • خالد أبو بكر: مواقف الرئيس السيسي القومية رسخت مكانته لدى المصريين ..فيديو
  • حريق جزئي بمركز كونترول “الشهادة السودانية”.. و”التربية” توضح