آفاق وتحديات العمل الإغاثي في سوريا الجديدة
تاريخ النشر: 18th, December 2024 GMT
يواجه السوريون ظروفا معيشية قاسية، وحقائق صادمة تكشفت لهم، ومعاناة إنسانية تتطلب تدخلا عاجلا لمواجهة آثارها المدمرة علي المجتمع، ففي خلال سنوات الحرب الـ13 الماضية (من 2011 إلى 2024)، فقد حدث تدمير واسع للبنية التحتية في البلاد، بالإضافة إلى مقتل وجرح أعداد ضخمة من المدنيين، مع تدفق ملايين النازحين والمهاجرين.
فقد تعرضت العديد من المدن السورية لتدمير شبه كامل، أبرزها حلب، وحمص، والرقة، ودير الزور، وإدلب، وغيرها من المدن. في عام 2017، قدرت الأمم المتحدة أن حوالي 60 في المئة من البنية التحتية في سوريا قد دمرت جزئيا أو كليا، ففي حلب وحدها، تم تدمير أكثر من 50 في المئة من المباني، بينما في الرقة، دُمرت حوالي 80 في المئة من المدينة أثناء معركة السيطرة عليها، ووفقا لتقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية. وبلغ عدد القتلى في سوريا منذ بداية الحرب حتى نهاية عام 2023 نحو 500 ألف قتيل في حين بلغت أعداد الجرحى أكثر من 1.5 مليون شخص أصيبوا بجروح متفاوتة الخطورة بسبب القصف والقتال الدائر في مختلف المناطق السورية، وذلك حسب تقديرات الأمم المتحدة والمنظمات الطبية.
يتأكد لنا التأثير العميق للقتال المستمر على البنية التحتية للبلاد وعلى سكان سوريا عموما، ويشمل ذلك تدمير المدن، ونقص الخدمات الأساسية. وأثّر النزاع على المجموعات السكانية المتنوعة وبات الوضع الإنساني في سوريا يمثل تحديا دوليا، حيث يتطلب استجابة سريعة وشاملة من المجتمع الدولي
أما أعداد النازحين واللاجئين فيُقدر عدد النازحين داخليا في سوريا بحوالي 7.1 مليون شخص حتى عام 2024، في حين تقدر أعداد اللاجئين السوريون خارج البلاد حتى عام 2024 بحوالي 6.9 مليون سوري في دول الجوار مثل تركيا، ولبنان، والأردن، والعراق، كما توجه السوريون إلى دول أخرى في أوروبا وأمريكا الشمالية.
ومن المفزع حقا أن تُشير تقارير إلى أن أكثر من 100 ألف شخص مفقودون حتى الآن في سوريا بسبب النزاع.
ومن تلك الإحصائيات الأممية والدولية والتي ربما تقل عن الأرقام الدقيقة يتأكد لنا التأثير العميق للقتال المستمر على البنية التحتية للبلاد وعلى سكان سوريا عموما، ويشمل ذلك تدمير المدن، ونقص الخدمات الأساسية. وأثّر النزاع على المجموعات السكانية المتنوعة وبات الوضع الإنساني في سوريا يمثل تحديا دوليا، حيث يتطلب استجابة سريعة وشاملة من المجتمع الدولي.
إن "سوريا الجديدة" التي تواجه تحديات إعادة بناء الدولة والمجتمع بعد سنوات من الصراع؛ لا بد فيها من التركيز على العمل الإغاثي والإنساني في ضوء التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تطرأ على البلاد، وكيف يتكيف الشعب السوري مع الوضع الجديد، ويطمح إلى تحقيق استقرار طويل الأمد.
من ها نود أن نلقي الضوء على التحديات التي تواجهنا وما هي آفاق العمل الإغاثي في سوريا الجديدة.
التحديات الرئيسية للعمل الإغاثي في سوريا
الاحتياجات الإنسانية
الغذاء: هناك حاجة ماسة للمساعدات الغذائية بسبب فقدان القدرة على إنتاج الغذاء المحلي بسبب النزاع، بالإضافة إلى انعدام الأمن الغذائي في العديد من المناطق.
الرعاية الصحية: تدمير العديد من المستشفيات والمرافق الطبية تسبب في نقص الرعاية الصحية الأساسية، وهناك حاجة كبيرة للمعدات الطبية والكوادر الطبية المؤهلة.
المياه والصرف الصحي: نقص مصادر المياه النظيفة في المناطق التي تأثرت بالصراع، وتهديدات الأمراض الناتجة عن ضعف البنية التحتية للصرف الصحي.
التعليم: عدم توفر التعليم للأطفال بسبب تدمير المدارس والنزوح المستمر للمجتمعات، مما يجعل الأجيال الجديدة محرومة من فرصة التعليم.
الإسكان: تدمير المدن والأحياء أدى إلى خلق أزمة في السكن، مما يتطلب إعادة بناء المنازل والبنية التحتية بشكل عاجل.
دور العمل الإغاثي لا يقتصر فقط على تقديم المساعدات الغذائية والدوائية، بل يجب أن يتعداه إلى مشاريع إعادة الإعمار، بما في ذلك إعادة بناء المرافق الصحية، والتعليم، والبنية التحتية العامة والمساكن. وقد تحتاج تلك المشاريع إلى مزيج من التمويل الدولي والحلول المحلية
البيئة الأمنية والسياسية
مع استمرار النزاع والصراع على النفوذ بين القوى المحلية والدولية، يمكن أن يكون الوصول إلى بعض المناطق الإغاثية محدودا أو صعبا للغاية. فالنظام السياسي المعقد والمتعدد في سوريا، والمناطق الخاضعة لسيطرة أطراف مختلفة (حكومة، قوات كردية)، يجعل التنسيق والتوزيع الفعال للمساعدات تحديا كبيرا.
التحديات اللوجستية
تعاني العديد من المناطق من صعوبة الوصول إليها بسبب تدمير الطرق، أو بسبب مناطق الألغام المنتشرة، ما يجعل الوصول إلى المستفيدين أمرا معقدا.
الفساد
الفساد في المؤسسات الحكومية والمجتمعات المحلية قد يؤثر على فعالية توزيع المساعدات، حيث يتم تحويل بعض المساعدات إلى جهات غير مستحقة أو يتم استغلالها لأغراض سياسية.
آفاق العمل الإغاثي في سوريا الجديدة
دور المنظمات المحلية
مع التدهور المستمر في الوضع، أصبحت المنظمات المحلية السورية أكثر قدرة على الوصول إلى المناطق المتضررة، حيث يمتلكون المعرفة الثقافية والجغرافية، كما أن تطوير العمل بكثير من المنظمات لسورية خلال العقد الماضي جعلها تتسم بالمهنية والاحترافية ومراعاة المعايير العالمية في العمل الإنساني، كما يعطيها فرصة أكبر في تلافي أخطاء الماضي وإصلاح منظومة العمل. ولا يمكننا أن نتجاهل أهمية تسليط الضوء على أهمية تدريب ودعم هذه المنظمات في تلك الفترة الحرجة من عمر سوريا الجديدة.
التعاون الدولي
التعاون بين المنظمات الإنسانية الدولية والمحلية أصبح أمرا ضروريا لتنسيق الجهود وتوزيع المساعدات بشكل متوازن. وتبرز هنا أهمية بناء شبكات وتنسيقيات وشراكات تضمن التعاون المستمر بهدف التوزيع العادل للمساعدات لجميع السكان، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الطائفية.
التكنولوجيا والابتكار
استخدام الابتكارات التكنولوجية يمكن أن يكون له تأثير كبير في تسهيل إيصال المساعدات. فعلى سبيل المثال، يمكن استخدام التطبيقات الرقمية لتتبع المساعدات أو تقديم المساعدات للأسر بما يعرف بأتمتة العمل الإغاثي، وأيضا يمكن أن يساهم الذكاء الاصطناعي والتحليل البياني في تحديد المناطق الأكثر حاجة وتحليل البيانات لتقديم الدعم بشكل أكثر دقة.
الاستجابة الفعالة للتغيرات
يجب أن تكون استراتيجيات الاستجابة الإنسانية مرنة بما يسمح للمنظمات بالتكيف مع التقلبات الأمنية والسياسية، ويمكن أن يشمل ذلك استراتيجيات لتوسيع نطاق العمل الإغاثي أو تغيير طرق التوزيع بما يتناسب مع تغيرات الوضع.
الحلول المستدامة
التنمية المستدامة مقابل الإغاثة الطارئة
من الضروري دمج مشاريع الإغاثة الإنسانية الفورية مع استراتيجيات التنمية طويلة الأمد، فالإغاثة وحدها لن تضمن استقرارا مستداما، بينما تساهم مشاريع التنمية المستدامة في إعادة بناء الاقتصاد المحلي وخلق فرص عمل للشباب.
التعليم والتأهيل
يعد الاستثمار في التعليم والتأهيل المهني من أولويات المستقبل، خصوصا أن سوريا بحاجة إلى جيل جديد مؤهل لبناء البلاد بعد انتهاء الصراع، وينبغي تخصيص موارد لبرامج تعليمية ودورات تدريبية موجهة للشباب لتزويدهم بالمهارات اللازمة حسب حاجة سوق العمل.
إعادة الإعمار
دور العمل الإغاثي لا يقتصر فقط على تقديم المساعدات الغذائية والدوائية، بل يجب أن يتعداه إلى مشاريع إعادة الإعمار، بما في ذلك إعادة بناء المرافق الصحية، والتعليم، والبنية التحتية العامة والمساكن. وقد تحتاج تلك المشاريع إلى مزيج من التمويل الدولي والحلول المحلية.
التوقعات المستقبلية
التطورات المحتملة
العمل الإغاثي في سوريا الجديدة سيكون معقدا، ولكنه ليس مستحيلا، ويجب أن تواصل المنظمات الإغاثية المحلية والدولية جهودها لمواجهة التحديات مع إدراك أن كل تحدٍ يقدم فرصة للتغيير الإيجابي
من المحتمل أن تشهد السنوات القادمة تحسنا تدريجيا في الوضع الإغاثي إذا تم تعزيز التعاون بين المنظمات الإنسانية والجهات الحكومية والمحلية، والتي عليها إنشاء جهة تختص بالتعامل مع الهيئات الإغاثية المحلية والدولية وتيسير عملها وتقديم التسهيلات من أجل خدمات إغاثية أفضل لأهل سوريا، كما يكون من اختصاصها متابعة وتقييم وتقويم الأعمال الإغاثية كنوع من الرقابة الإيجابية التي تدفع العمل نحو جودة أفضل وبشفافية، دون أن تعيق سير المشروعات.
كما ينبغي الاهتمام الشديد بكيفية تحسين الوضع الأمني، بحيث يمكن تقديم المزيد من الدعم للمناطق التي كان من الصعوبة الوصول إليها سابقا.
فرص الاستثمار في العمل الإغاثي
مع الانتقال نحو سوريا الجديدة، ستكون هناك حاجة ملحة للاستثمار في القطاع الإغاثي، مع التركيز على البنية التحتية والقطاعات التي تساهم في تنمية المجتمع بشكل طويل الأمد، لذا فمن الضروري جدا إعداد البنية القانونية والتشريعية التي تخدم ذلك الهدف.
في الختام، ينبغي التأكيد على أن العمل الإغاثي في سوريا الجديدة سيكون معقدا، ولكنه ليس مستحيلا، ويجب أن تواصل المنظمات الإغاثية المحلية والدولية جهودها لمواجهة التحديات مع إدراك أن كل تحدٍ يقدم فرصة للتغيير الإيجابي.
وأضم صوتي الى دعوة المعهد الدولي للإغاثة لعقد مؤتمر دولي عاجل في دمشق بحضور المنظمات المحلية والدولية والحكومة الانتقالية لبحث آفاق وتحديات العمل الإغاثي في سوريا الجديدة، فهذه دعوة إلى المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية للمساهمة في بناء سوريا جديدة قائمة على الاستقرار، والتنمية المستدامة، والمساواة بين جميع السوريين.
(خبير في العمل الإغاثي- عضو المعهد الدولي للإغاثة)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه سوريا المنظمات التنمية الإغاثة سوريا تنمية إغاثة منظمات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المحلیة والدولیة البنیة التحتیة المجتمع الدولی إعادة بناء العدید من یمکن أن
إقرأ أيضاً:
مسيحيو لبنان.. هويات مشرقيّة صغيرة بين محدودية التمثيل وتحديات الوجود
يشبه لبنان متحفاً حيّاً للطوائف، وفسيفساء مذهبية فريدة من نوعها في محيطه العربي. وقد اتسم تاريخه بالتداخل بين الدين والسياسة، والصراعات على النفوذ وحفظ الهوية، ما جعل منه حالةً فريدةً في الشرق الأوسط، أو ربما استثناءً تاريخياً في تشكيله الطائفي المتنوّع الذي يتجاوز الصورة التقليدية لطوائفه الكبرى المعروفة، والتي لعبت أدواراً محورية منذ استقلاله، مروراً بالحرب الأهلية، وصولاً إلى مرحلة ما بعد الطائف. إذ تختزن ذاكرة هذا البلد الصغير تنوعاً مذهلاً لطوائف ومذاهب، بقي بعضها مجهولاً للكثيرين، تُشكّل جزءاً لا يتجزأ من نسيجه الاجتماعي والثقافي والتاريخي. وفي ظلّ تجاهل إعلاميّ معتاد، بقيت هذه الطوائف في الظلّ، رغم ما تحمله من إرث غنيّ وقصص غير مروية، ودورٍ لا يُستهان به في تشكيل الهُوية اللبنانية، والتأثير على المشهد السياسي والاجتماعي.
من هنا، يخصص موقع "عربي 21" سلسلة مقالات بعنوان "لبنان متحف طوائف الشرق الأوسط" وخصص هذه الحلقة للأقليات المسيحية في لبنان: اللاتين والآشوريين والكلدان، في محاولةٍ جادة وعميقة لإلقاء الضوء على هذه الجماعة، واستكشاف خصائصها وتاريخها وتراثها، والتعرف إلى الدور الذي لعبته وتلعبه اليوم في الواقع اللبناني، بعيداً من الصور النمطية والأحكام المسبقة.
هذه السلسلة ليست مجرد بحثٍ معرفي، بل هي جولةٌ بين مكوّنات مجتمعٍ زاخر بالتنوع، لا يزال رغم صراعاته قادراً على البقاء كأحد أغنى نماذج التعددية في الشرق الأوسط.
تُشكل طوائف اللاتين والآشوريين (السريان الشرقيون) والكلدان جزءًا هامًا وإن كان ضئيلاً من الفسيفساء المسيحية اللبنانية. تتشارك هذه الطوائف في الانتماء إلى المظلة المسيحية، لكنها تتباين في أصولها التاريخية، طقوسها الليتورجية، وواقعها الديموغرافي.
الخصائص الاجتماعية والدينية
تعود نشأة طائفة اللاتين التابعة للكنيسة الكاثوليكية في روما إلى البعثات التبشيرية الأوروبية والإرساليات وكذلك إلى وجود بعض الرعايا الأجانب في لبنان (تجّار، دبلوماسيون، موظفون) الذين يتبعون الطقس اللاتيني. وتُعد هذه الطائفة الأصغر ديموغرافيًا ويتركز أبناؤها في بيروت الكبرى وضواحيها، ويغلب على فئة منهم الاندماج الاجتماعي والمهني ضمن النخب المتعلمة ويُعرَفون بالتوجه نحو التعليم العالي والمهن الحرة. ومن أشهر عائلات اللاتين في لبنان: كفتاوي (أصلها keftago)، إسكندر، كتانة، منصور، غنطوس، ريشا، الداية، بوشي، سبيللا (Spella)، سيستو (Sisto).
تُشكل طوائف اللاتين والآشوريين (السريان الشرقيون) والكلدان جزءًا هامًا وإن كان ضئيلاً من الفسيفساء المسيحية اللبنانية. تتشارك هذه الطوائف في الانتماء إلى المظلة المسيحية، لكنها تتباين في أصولها التاريخية، طقوسها الليتورجية، وواقعها الديموغرافي.
فيما تعود أصول الآشوريين وهم السريان الشرقيون إلى سوريا والعراق وماردين في تركيا وهي طائفة أصيلة لها امتدادات تاريخية جاءت إلى لبنان في موجات لجوء تاريخية، أبرزها بعد مذابح سيفو عام 1915 وعملية سميل 1933. يتبع أبناء طائفة الآشوريين إلى الطقس السرياني الشرقي (الذي يُعرف خطأً بـ "النسطوري") وهي تُمثل أكبر الأقليات الثلاث التي يتناولها هذا البحث. يتركز أبناؤها في زحلة، وبلدة "الفاكهة" في البقاع الشمالي، وبيروت وبعض ضواحي المتن (مثل سدّ البوشرية والجدَيدة وسن الفيل والدورة) و يتميزون بالحفاظ على لغتهم السريانية الشرقية. ومن أشهر العائلات الآشورية في لبنان: يونان، خوري آغا، قاشا، عائلة كيوركيس/ كوركيس، بايتو، شمعون، مراد.
أما الكلدان فهم بالأصل طائفة سريانية شرقية مثل الآشوريين، لكن الطائفة انفصلت عن كنيسة المشرق واتّحدت مع الكرسي الرسولي (الفاتيكان، روما). وفدوا إلى لبنان بشكل أساسي من العراق في موجات هجرة ولجوء متتابعة، آخرها بعد الحرب الأميركية –البريطانية على العراق في العام 2003 وما تلاها. للكلدان في لبنان وجود ملحوظ خصوصاً في قضاء المتن (مناطق الدورة والجدَيدة وعين الرمانة) وكذلك في مدينة بيروت. ويتميزون بالحفاظ على طقوسهم الكلدانية الخاصة ولغتهم السريانية الآرامية الحديثة. ومن أبرز عائلات الكلدان في لبنان: حكيم، تفنكجي، قصارجي، سـاكي، حنّاوي، تيغو، ورده، موصلي، ترزيخان، كوبلي، زريفة.
إذاً، يمكن تلخيص نقاط الاختلاف الجوهرية بين الطوائف الأقلية الثلاث بأنها تباينٌ لا أكثر، تباين الأصول والطقوس الليتورجية إذ ما زالت طائفة اللاتين متأثرة بالطقس الغربي (الروماني) الذي يجعلها في نظر البعض "أجنبية" وغير أصيلة في المشرق، فيما يتأثر الآشوريون والكلدان بطقوس شرقية (سريانية) مستوحاة من أصولهم المشرقية القديمة ومن تاريخهم المرتبط باللجوء القسري من المشرق رغم أن الكلدان اختاروا الاندماج مع الكنيسة الكاثوليكية، بينما الآشوريون لم يختاروا ذلك.
الأدوار السياسية
من الاستقلال إلى الطائف مروراً بالحرب الأهلية اللبنانية، بقي الدور السياسي لهذه الطوائف الثلاث، محكومًا بـ تحالفاتها الإقليمية والتحاقها بالمظلة المارونية الأكبر، نظرًا لضآلة حجمها، أو محكوماً بتأثير شخصياتها الذين يشغلون مواقع مهنيّة حساسة أو يمتلكون ثروات.
ومن خلال تعداد المحطات المفصلية في تاريخ لبنان السياسي والاجتماعي يتبين أن الطوائف الثلاث ركزت على حماية وجودها وتثبيت مؤسساتها أكثر مما ركزت على لعب أدوارٍ قيادية مؤثرة في مسار الأحداث.
ففي مرحلة السعي للاستقلال (1920 ـ 1943) كان دور اللاتين يتمحور حول الوجود الدبلوماسي والثقافي الغربي وتأثيره. كان بعض أفرادهم يعمل في مؤسسات الدولة الحديثة أو الإرساليات الأوروبية، ما ساهم في صقل النخب اللبنانية. فيما تركز دور الآشوريين على تثبيت وجودهم كلاجئين والسعي للحصول على الجنسية اللبنانية والحقوق الكاملة، بالاعتماد على دعم بعض القوى المسيحية الأكبر فيما اقتصر دور الكلدان على الاندماج الاقتصادي والاجتماعي، من دون دور سياسي فاعل ومستقل نظراً لمحدودية توزعهم الديمغرافي وقلّة عددهم.
أما خلال سنوات الحرب الأهلية (1975 ـ 1990) فلم تنتج أي من الطوائف المذكرو ةحزباً سياسياً خاصاً بها أو ميليشيا خاصة، لكن برزت بعض الشخصيات اللاتينية في مواقع تحالفات داخل الأحزاب المسيحية الأكبر من دون أن يُعرفوا بنحوٍ مباشر على أنهم لاتين، أما الطائفة ككل، فمالت إلى الابتعاد عن الانخراط المباشر، رغم أن بيروت الشرقية التي يتمركز فيها اللاتين تعرّضت للقصف والاشتباكات.
فيما انخرطت فئة من شباب الآشوريين في أحزاب القوات اللبنانية وغيرها من الميليشيات المسيحية للحماية الذاتية، خصوصاً في مناطق المتن (مثل الجدَيدة). كما شكلوا بعض التنظيمات الصغيرة للمطالبة بحقوقهم.
وبقي وضع الكلدان هشًا بسبب ضعف التنظيم الداخلي للطائفة وتفاقم الهجرة لذلك انخرط الكلدان بشكل محدود جدًا في حماية مناطقهم، لكن دورهم كان هامشيًا مقارنة بالطوائف الكبرى.
وأخيراً، خلال مرحلة الطائف (1990) وما تلاها تجلّى دور اللاتين بشكل أساسي من خلال النخب المتعلمة في القطاع المصرفي وسلك القضاء والمناصب الدولية، مستفيدين من الاندماج في النسيج المهني اللبناني من دون تشكيل قوة تصويتية مستقلة ومؤثرة.
بينما كثّف الآشوريون جهودهم للمطالبة بترسيم هويتهم السريانية ضمن القانون، والمطالبة بمقعد نيابي خاص بهم لتعزيز تمثيلهم كطائفة عابرة للحدود. وركز الكلدان على الدفاع عن حقوق المهاجرين الجدد من العراق وسوريا، والعمل على تأمين الإقامة وتسهيل الاندماج، مستفيدين من الدعم الكنسي.
رغم انتماء هذه الطوائف إلى المظلة المسيحية اللبنانية، فإن حضورها السياسي ظلّ هامشيًا عبر مختلف المراحل ولم تُنشئ أي منها تنظيماً خاصاً يحميها في بلد الطوائف والمحاصصة،تجدر الإشارة إلى أن التمثيل النيابي لهذه الطوائف الثلاث غير مباشر رغم أن القانون اللبناني يخصص مقاعد مباشرة للطوائف الـ 18 المعترف بها رسميًا في الدستور. لذلك يتم إدراج التمثيل النيابي للاتين ضمن خانة "الأقليات" المسيحية التي تتشارك في مقاعد محددة أو تتوزع على لوائح الأغلبية في دوائر بيروت فيما يصوّت اللاتين المسجلون في الدوائر الانتخابية الأخرى ولا سيما المتن من دون تخصيص طائفي. ويُذكر أن الطائفة اللاتينية تحظى بمقعد في مجلس بلدية بيروت (مخصّص لطائفة اللاتين في القيد البلدي).
أما الآشوريون والكلدان فليس لهم مقعد مباشر كأفراد لكن، تم إقرار مقعد مخصص لـ "السريان الكاثوليك والأرثوذكس" وكنا قد تحدثنا عنهم في مقال سابق، لذلك ينظر أبناء الطوائف السريانية الأخرى إلى مقعد "السريان" كاسم جامع يمثل هويتهم المشرقية الواسعة (الآشوريون، الكلدان، السريان).
لا بدّ من الإشارة إلى أن المقعد الذي يُشار إليه أحيانًا بـ "مقعد الأقليات المسيحية" في بيروت الأولى (دائرة الأشرفية، الصيفي، الرميل) هو مقعد يتنافس عليه عدد كبير من الأقليات، بما في ذلك اللاتين والكلدان والآشوريون والأرمن الكاثوليك وغيرهم.
الواقع والتحديات
تواجه هذه الأقليات المسيحية الثلاث تحديات عميقة تهدد استمراريتها وتأثيرها في المجتمع اللبناني، وهي تحديات مشتركة لكل الأقليات المسيحية المشرقية. وتتمثل بـ:
-ـ الهجرة والنزيف الديموغرافي: إذ يسجل الآشوريون والكلدان أعلى معدلات الهجرة، بسبب الظروف الاقتصادية في لبنان، وبعضهم ينظر إلى لبنان بوصفه محطة عبور (ترانزيت) للهجرة إلى أميركا وأوروبا وأستراليا، حيث توجد تجمعات كلدانية وآشورية أكبر وأكثر دعمًا واحتضاناً. فيما تستمر فئة من اللاتين في الهجرة لأسباب مهنية أو لعودة الأصول إلى أوروبا.
ـ الاندماج السياسي مقابل الحفاظ على الهوية: يواجه الآشوريون والكلدان تحدّيًا بين الاندماج الكامل في المجتمع اللبناني (لغةً وثقافةً) وبين الحفاظ على لغتهم السريانية/الآرامية وطقوسهم الشرقية الخاصة. كما أنهم يطالبون بـ اعتراف سياسي أوضح يمنحهم تمثيلاً نيابيًا صريحًا.
ـ صعوبة التعبير السياسي المستقل: نظرًا لضآلة العدد، تجد هذه الأقليات صعوبة في تشكيل قوة تصويتية مستقلة، مما يضطرها إلى التحالف مع الطوائف المسيحية الكبرى (كالموارنة والروم الأرثوذكس) أو الذوبان فيها، الأمر الذي يقلل من ظهور قضاياهم الخاصة على الأجندة الوطنية.
ـ التحديات الاقتصادية والاجتماعية: أزمة لبنان الاقتصادية أثرت بشكل خاص على الكلدان والآشوريين، الذين يعتمدون على شبكات دعم اجتماعي أقل رسوخًا مقارنة بالطوائف اللبنانية الكبرى.
في الخلاصة، رغم انتماء هذه الطوائف إلى المظلة المسيحية اللبنانية، فإن حضورها السياسي ظلّ هامشيًا عبر مختلف المراحل ولم تُنشئ أي منها تنظيماً خاصاً يحميها في بلد الطوائف والمحاصصة، ولعل هذا ما يجعل التحديات المستقبلة أكثر صعوبة ومصيرية من تلك التي تواجهها الطوائف الكبرى التي لا تخشى تآكل وزنها الديموغرافي. وفي ظل غياب تمثيل سياسي واضح يعكس خصوصيتها، تعيش الأقليات المسيحية ولا سيما اللاتين والآشوريون والكلدان أزمة وجودية قد تهدد استمرار حضورها التاريخي في لبنان كمكوّن أصيل من فسيفسائه الطائفية.