سودانايل:
2025-06-02@15:48:49 GMT

عندما تصدق الكلاب ويكذب الانسان

تاريخ النشر: 25th, December 2024 GMT

سابقتان في مجلس القضاء صدقت فيهما الكلاب وكذّب الانسان.
الأولى من قصص التراث الشعبي العربي وقد تكون قد حدثت بالفعل فليس للكذب والكاذبين حدود وهي تروي عن قصة رجل ثري من أهل اليسار تعلق قلبه ببنت جميلة ولكنها من اسرة فقيرة وفكر في الزواج منها، ذهب فطرق باب ابيها المسكين الفقير بسيط الحال وطلب منه يد ابنته فسر الرجل المسكين وقال له لا بد من مشورتها وموافقتها بعد ان اخبرها فوافقا على ذلك ثم وافقت البنت على طلب الزواج ثم أحضر هذا الرجل الثري شيخاً لكتابة عقد الزواج وبحضور شاهدين والتزم بموجب العقد ان يدفع الصداق مؤجلاً أي الى أقصر الأجلين الطلاق أو الموت وتم العقد بعد أن شهد الشهود في حضور الأب الولي الشرعي للبنت.


وبعد سنين قليلة من الزواج ساءت العشرة من جانب الزوج مما حدا بالزوجة طلب الطلاق فطلقها وبعد أن سألت عن حقوقها الزوجية في الصداق المؤجل والنفقة رفض ان يعطيها أي شيء من ذلك فرفعت امرها للقاضي فطلب القاضي الزوج والشهود والشيخ الذي أجرى العقد فأنكروا جميعا واقعة الزواج من الأساس. فنظر القاضي للزوجة وأبيها نظرة فراسة فأدرك أنهما من أهل الصدق ولكن ليست ثمة بينة يقضي بها لهما. ففكر بحكمة وذكاء ثم سأل الزوجة وزوجها هل لكما كلب أو كلاب في بيت الزوجية؟ فقالا: نعم.
فقال القاضي هل تحتكمان الى شهادة الكلاب؟ فرد الزوج على القاضي أتهزأ أم تمزح، وكيف تنطق الكلاب حتى تشهد؟ فقال القاضي أريد إجابة بنعم أم لا.
فقال الزوج نعم نقبل بشهادة الكلاب أن كانت فعلاً تشهد.
فأمر القاضي أثنين من رجال الشرطة أن يصطحبا المرأة وأبيها الى بيت الزوجية وعند مقربة من البيت وبمسمع من الكلاب دون مرأي أن يشهدا عندما تدخل المرأة وحدها للبيت هل تنبح الكلاب أم لا؟
صحب رجال الشرطة المرأة وابيها كما أمر القاضي الى بيت الزوجية واختبأ الشرطيان وأبو الزوجة على مقربة من البيت دون أن تراهم الكلاب.
وعندما دخلت المرأة البيت استقبلتها الكلاب ببشر وترحاب وهي تهز ذيولها ترحاباً بها حيث كانت تطعمهم.
شهد الشاهدان من رجال الشرطة بما رأوه ثم شعر الزوج بالذنب يحوك في صدره ثم أقر بواقعة الزواج والمهر فحكم القاضي للزوجة بما طلبت وأرسل الزوج والشهود والشيخ الذي أجرى العقد الى السجن ثم قال:
تباً لقرية كلابها أصدق من أهلها.
السابقة الثانية وهي واضحة بذاتها جرت في المحاكم السودانية وفيها بينة كلب بوليسي مؤيدة ببينات أخرى بعد أن أنكر المتهمان ما نسب اليهما من تهمة جنائية.

في محكمة الاستئناف المدنية
الدائرة الجنائية
تأييد محكمة كبرى
حكومة السودان ضد كوكو تية انقلو وآخر
م ا / ت م ك / 216/71

المبادئ:
قانون الإجراءات الجنائية – قانون الإثبات – العدول عن الاعتراف القضائي – تقديم المتهم للكلب البوليسي بغرض التعرف على شخصيته – العدول عن الاعتراف بسبب الضغط على المتهم عن طريق استعمال الكلب البوليسي- هل يرقى استعمال الكلب للقول بانتفاء عنصر الطواعية في الاعتراف.
(1) إجراء طابور التعرف على المتهم بواسطة الكلب البوليسي وسيلة من وسائل التحري ولا تعتبر نوعا من أنواع الضغط على المتهم مما يؤثر في ارادته.
(2) لا يبطل ما يدلي به المتهم من اعتراف نتيجة التعرف عليه بواسطة الكلب البوليسي ولا يتعارض استعمال الكلب وعنصر الاختيار إلا إذا صاحب التعرف على المتهم شراسة أو وحشية من الكلب نحو المتهم.
(3) لا يلزم ان تتوفر البينة مؤيدة للاعتراف إذا ثبت أن الاعتراف صحيح واختياري إلا في حالات الجرائم المعاقب عليها بالإعدام وفي جرائم القتل الجنائي.
الحكم:
عمر بخيت العوض – قاضي المحكمة العليا بالإنابة بتفويض من السيد رئيس القضاء – 28/3/1972
هذا طلب للاستئناف تقدم به المتهمان أعلاه للطعن في الحكم الصادر ضد الأول بالسجن لمدة ثلاثة أعوام مع الغرامة خمسمائة جنيه وفي حالة عدم الدفع يسجن لمدة سنتين وضد الثاني بالسجن لمدة عامين مع الغرامة خمسمائة جنيه وبالعدم يسجن سنتين وذلك تحت المادة 396/78 من قانون العقوبات مع إنذارهما تحت المادة 77/أ تحت نفس القانون. وأصدرت الحكم محكمة كبرى عقدت في واد مدني في يوم 3/5/1971.
وبالرجوع إلى المحضر نجد أن البينة الموجودة ضد المستأنفين هي الاعتراف القضائي الذي أدلى به المتهم الأول حيث اعترف على نفسه وعلى المتهم الثاني بأنهما اشتركا في ارتكاب السرقة والاعتراف الذي أدلى به في مرحلة التحري وقد شهد عليه الضابط المتحري الذي أدلى بأقواله على اليمين موضحا أقوال المتهمين الأول والثاني وأخيرا الاعتراف الذي أدلى به المتهم الثاني لشاهد الاتهام الثاني مأمون أبو سنون.
في هذه الاعترافات أقر المتهمان الأول والثاني أنهما اشتركا في ارتكاب جريمة الكسر المنزلي ليلا بقصد السرقة ولكنهما في مرحلة التحقيق القضائي وأمام المحكمة الكبرى زعما بأن هذه الاعترافات غير اختيارية وتمت عن طريق الخوف والإرهاب البوليسي الذي تعرضا له من الكلب البوليسي الذي وصفاه بقولهما بأنه ذئب وليس كلبا وذلك بقولهما أن البوليس في طابور الشخصية أطلق عليهما ذئبا (مرفعين) وليس كلبا ومن هنا يتوجب علينا معالجة المسائل التالية:
أولا: هل صدرت اعترافات المتهمين طواعية واختيارا؟
ثانيا: إذا كانت الإجابة بنعم فهل تعتبر هذه الاعترافات مسحوبة مما يلزم تأييدها ببينة أخرى؟
فيما يتعلق بالنقطة الأولى فإننا نجد أن مزاعم المستأنفين تنحصر في أمرين أولهما تعذيب البوليس لهما وهذا الزعم لا أساس له ولا تسنده بينة وإنما هو في رأينا مجرد زعم ألقى به المستأنفان سعيا وراء إبطال هذا الدليل الوحيد وطالما أنه مجرد من أي شيء يسنده فإننا لا نود أن نقف أمامه طويلا خصوصا تلك الفرية التي قال بها أحدهما واصفا ما لحقه من تعذيب بان البوليس كان يتركه يقف عاريا أمام الجمهور إمعانا في تعذيبه نفسيا حتى يحمله على الاعتراف مما أدى بالمتهم للتفكير في الانتحار حسب ما زعمه. ولو كان هذا الأمر صحيحا لوجد المتهم واحدا من أفراد الجمهور الذين شاهدوه يقف بتلك الصورة ولقدمه كأحد شهوده سواء في مرحلة التحقيق القضائي أو في مرحلة المحاكمة وليس هذا بمستبعد لا كلا المستأنفين من سكان مدني وإذا لم يعثرا على شاهد من أفراد الجمهور فلماذا لم يقدما شاهدا واحدا من الذين كانوا معهما في الحراسة لكي يشهد على ذلك التصرف.
أما الادعاء الثاني فهو يتلخص في أن المستأنفين يدعيان بان البوليس أطلق عليهما(مرفعينا) وهما يقصدان بالطبع الكلب البوليسي إمعانا منهما في وصفه بصورة وحشية ليدخلا في روع المحكمة أنهما كانا تحت تأثير خوف شديد من ذلك الكلب المتوحش(كالمرفعين) ومن هنا لم تكن اعترافاتهما إرادية.
إن استعمال الكلاب البوليسية أحد الوسائل الناجحة التي يستخدمها البوليس في مراحل التحري لتساعده في الكشف عن الجريمة وأنها دربت خصيصا لهذا الغرض بعيدة عن الشراسة والعدوان. وقد جرت العادة على إجراء طابور التعرف بحضور أعداد كبيرة من غير المتهمين وفي حضور المدرب ولم يعرف عن أحد من المشتركين في طابور التعرف ساوره الهلع أو الخوف إلا هذين المتهمين اللذين تعرف عليهما الكلب البوليسي وحاولا وصفه بهذه الصورة المخيفة والوحشية. ومن العادة أن يجرى طابور التعرف في حضور مدرب الكلب الذي من واجبه منع الكلب من أي تصرف شرس حيال المتهم أو اي مشترك آخر في طابور التعرف. ولم يعرف عن الكلاب البوليسية مع قصر استخدامها في السودان أن قامت بمهاجمة متهم بصورة وحشية تدخل في نفسه الرعب إلا في حالات نادرة لا يجوز اتخاذها قاعدة عامة.
ومن هنا فإننا نرى أن مجرد إجراء طابور التعرف بواسطة الكلاب البوليسية لا يمكن اعتباره نوعا من الإرهاب المؤدي إلى التأثير في إرادة المتهم وقد يكون لهذا الدفع وجاهته إذا اثبت المستأنفان أن الكلب البوليسي تصرف بوحشية أثناء الطابور وأن هذا التصرف جرى تحت بصر مدرب الكلب والشخص المشرف على التحري وأنهما تركا الكلب يتصرف بهذه الطريقة حتى يدخلا قدرا من الخوف في قلب المتهمين ليحملاهما على الاعتراف.
والمستأنفان في هذه القضية لم يوضحا أي شيء يدل على أن طابور التعرف بواسطة الكلب البوليسي قد جرى بصورة غير مألوفة ولا يشفع لهما ما تصوراه من شكل للكلب البوليسي كأنما هو(مرفعين).
ومن هنا نرى أن مجرد استخدام الكلاب البوليسية في مراحل التحري يهدف إلى التوصل لمعرفة المتهم ولا يعتبر نوعا من الإرهاب والتخوف الذي يبطل الاعتراف ما لم تصاحبه ظروف واضحة تبرز شراسة ووحشية الكلب البوليسي أثناء إجراء الطابور حيال المتهم.
وما يدل على انعدام أثر الخوف في نفس المستأنفين أن الفترة الزمنية التي مرت بين طابور التعرف بواسطة الكلب البوليسي والاعتراف القضائي كانت طويلة نسبيا امتدت لأكثر من أسبوع ولو كان أحد المتهمين قد تأثر خوفا فإن هذه الفترة الزمنية تعتبر دليلا قويا على أن آثار الخوف حتى ولو كانت موجودة آنذاك قد زالت عند الإدلاء بالاعتراف. وعليه فإننا نرى أن تلك الاعترافات كانت إرادية ومبرأة من عيوب الإكراه والإغراء وعليه نرفض ما دفع به المستأنفان.
ولما كان الاتهام قد أثبت صدور هذه الاعترافات عن طريق تقديم المتحري وشاهد الاتهام الثاني لإثبات الاعترافات غير القضائية التي صدرت عن المتهمين كما قدم الاتهام القاضي الذي دون اعتراف المتهم الأول القضائي فإننا نصل إلى نتيجة محددة هي أن هذين قد أدليا باعترافات حقيقية مبرأة من العيوب لفشلهما في إثبات أي نوع من الإكراه والإغراء.
وبعد أن تأكد لدينا وجود هذه الاعترافات ذاتها قانونية فإننا نتساءل هل يعتبر سلوك هؤلاء المتهمين بشأن هذه الاعترافات سحبا لها؟ وإن كان الأمر كذلك فهل يلزم تأييدها بينة أخرى؟
إننا نفضل أن ننظر إلى هذه الاعترافات كأنها اعترافات مسحوبة طالما أن المتهمين كانا يطعنان في صحتها وأن هذا ادعى لحماية موقف الدفاع ولأنه يسمح للمحكمة بفرصة أكثر للتأكد والفحص في الأدلة حتى تصل لقرار عادل وسليم وبعيد عن كل شك معقول.
وما دام الأمر كذلك فهل يلزم لمثل هذه الاعترافات المسحوبة أن تؤيد بينة أخرى وفي مثل هذا النوع من القضايا؟
ومن المعلوم أنه لا يوجد لدينا قانون للإثبات يتطلب تأييد الاعتراف المسحوب ولكن باستقرائنا للسوابق نجد أن العمل قد جرى على تأييد الاعترافات المسحوبة في جرائم القتل باعتبارها من الجرائم الخطيرة حيث تصل عقوبتها إلى الإعدام عند ثبوت القتل العمد وعندما يكون الدليل الرئيسي في الإثبات هو اعتراف المتهم المسحوب فإن المحاكم قد جرت على إقرار مبدأ التأييد.
والحكمة في هذا واضحة وتكمن دائما في خطورة الجريمة منظورا إليها في خطورة العقوبة التي قد تصل إلى الإعدام. وهذه الخطورة تفرض على المحاكم أن تكون أكثر تمحيصا حتى لا تأمر بإزهاق روح بشرية بأدلة مشكوك فيها.
ولكن عندما تنعدم خطورة الجريمة وما يترتب عليها من عقوبة وتصل إلى أدنى درجات الجرائم والمخالفات فإننا لا نلمس وجها للحكمة خلف مبدأ التأييد ولم نجد سابقة واحدة تدل على ضرورة تأييد الاعتراف المسحوب في المخالفات والجرائم البسيطة كالأذى البسيط والتهجم والسب.. الخ
ولكن الأمر يبدو غامضا بالنسبة للجرائم المتوسطة الخطورة والتي تقع بين جرائم القتل والجرائم الطفيفة فهل تعامل مثل هذه الجرائم معاملة الجرائم الخطيرة أو معاملة الجرائم البسيطة.
إن جرائم السرقات والكسر المنزلي وإن كانت جرائم خطيرة وإن عقوبتها في بعض الأحيان قد تمتد إلى أربعة عشر عاما من السجن إلا أنها لا تصل في درجة الخطورة إلى مرحلة الحكم بالإعدام. وما دامت الحكمة تكمن في الخطورة وما دامت الخطورة قد وضحت بأنها عقوبة الإعدام فإننا لا نرى ضرورة تأييد الاعتراف المسحوب في مثل جرائم السرقات والكسر المنزلي وما شابهها من جرائم وقصره فقط على جرائم القتل العمد أو الجنائي، ولكن يجب على المحكمة قبل الأخذ بالاعتراف المسحوب أن تتأكد من أن الاعتراف صدر صحيحا وبعيدا عن الإكراه والإغراء وهذا يساعد على تحقيق العدالة بحيث ينال كل مجرم عقوبته ولا نجعل من السهل عليه أن يفلت من العقوبة لمجرد سحبه للاعتراف الصحيح قانونا مع العلم بأن الاعتراف الصحيح هو خير الأدلة فلا يضحي به من أجل وهم يثيره المتهم. أما عن العقوبة فإنني أرى أنها ملائمة ومناسبة للفعل الذي ارتكبه المتهمان باعتبار أن الجريمة من الجرائم الماسة بأمن المجتمع وتضر بأموال الناس مما جعل المشرع يصعد بعقوبتها إلى أربعة عشر عاما عندما يكون هدف جريمة الكسر المنزلي ارتكاب السرقة ومن هنا يبرز الصالح العام الذي دفع بالمشرع لوضع حد عال من العقوبة هذا يدخل على الفور عامل الردع حماية للمجتمع. وإذا انتقلنا إلى عنصر الملائمة نجد أن المال المسروق كبير وينبغي أن يجد المجرم عقوبة تتلاءم مع ما ارتكبه من فعل وأخيرا فإن سوابق كل المستأنفين توضح سلوكهما المخالف للقانون مما يستوجب النظر إليهما نظرة مخالفة لأولئك الذين لم يحتو سجلهم على سوابق ما.
وعليه فإننا نرى أن محكمة الموضوع قد راعت هذه القواعد وأصدرت حكما لا يدعونا للتدخل فيه.
أمر:
تؤيد الإدانة والعقوبة.

حسين إبراهيم علي جادين

alaaggean@outlook.com

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الکلاب البولیسیة هذه الاعترافات جرائم القتل على المتهم الذی أدلى فی مرحلة ومن هنا نجد أن نرى أن

إقرأ أيضاً:

الاعتراف بدولة فلسطينية.. ماكرون في مواجهة جينيه: ماذا تبقى من الضمير الفرنسي؟

في 30 مايو 2025م وبحسب وسائل إعلام عربية وغربية أطلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من سنغافورة تصريحًا بدا وكأنه انعطافه في الخطاب الأوروبي إزاء المأساة الفلسطينية، وهو تصريح لا يبدو مفاجئاً لمن يعرف حقيقة الموقف الفرنسي المتمثل في كبار مثقفيها من القضية، وفي قراءة لتصريح الرجل فإنه لم يكتف بالتحذير من تراخي إسرائيل في التعامل مع الكارثة الإنسانية في غزة، بل مضى إلى القول: «بأن الاعتراف بدولة فلسطينية ليس مجرد واجب أخلاقي، بل مطلب سياسي». وهنا يصح التساؤل حول هوية هذا الموقف، فهل يأتي التصريح في لحظة صحوة ضمير؟ أم هو مجرد حديث للاستهلاك السياسي؟ وقد بدا لنا الأمر مستحقاً للقراءة والفهم، فهل كان السيد ماكرون وهو يستدعي مفردة «الواجب الأخلاقي»، يتذكّر جان جينيه وهو يكتم أنفاسه ويفقد بلاغته المعهودة عندما كان يتفحص الجثث في صبرا وشاتيلا؟ أم ترى تذكر طالب الفلسفة في جامعة باريس الفيلسوف جيل دولوز وهو يقارب بين الفلسطيني والهندي الأحمر في تجارب الاضطهاد والقمع وإعدام الذاكرة؟ أم أن الرئيس الفرنسي، كعادة السياسيين، يستعير لغة الضمير كي يُخفي صمت الفعل؟

إن هذا السؤال لا يُفهم خارج التاريخ العميق لصورة فرنسا في الوعي العربي - تلك الصورة الملتبسة، المترددة بين الأنوار والسلاح، بين فولتير ونابليون. إنها فرنسا المعبأة في ذهن العربي آية من التناقض والجمال، فمنذ الثورة الفرنسية لم تكن باريس مجرّد عاصمة حرة، بل كانت تُستحضر في المخيلة العربية كمدينة رمزية، موطن للفكر الحر، وقِبلة للباحثين عن عدالة النموذج خارج بلادهم، باريس المرفأ لمن أرهقتهم الأنظمة القمعية، وقيَّدَهُمُ الجهلُ المُقدَّسُ. ودافعنا في كتابة هذه المقالة هو تصريح السيد ماكرون، لذا قررنا الذهاب إلى تاريخ صورة «الفرنسي» في العقل العربي طمعاً في الإجابة عن سؤال يؤرقنا، وهو؛ ترى لماذا تتنكر فرنسا لحقيقتها الإنسانية؟! وما نكتبه هنا ليست عودة إلى تاريخ الوعي، بل تذكير بما يجب أن تكون فرنسا أمينة له ذلك أن شعار 1789م (حرية- مساواة - إخاء) قد تآكل أثره، ولم تبق له من الحياة إلا غبار يسكن جدران مباني قصر العدل في باريس. كما أن هذه الصورة التي ترسخت في وعينا العربي عن فرنسا لم تولد من دعاية، بل من تماسٍ فعليّ مع الثقافة الفرنسية بوصفها فضاءً معرفيًا أعلى صوتاً من الجغرافيا السياسية. ولهذا، فإن مقاربة الموقف الفرنسي من الاعتراف بفلسطين لا تُقاس فقط بمعايير الواقعية السياسية، بل أيضًا بمرآة الذاكرة الثقافية، فكيف رأى العرب فرنسا؟ وهل لا يزال لنداءات الضمير فيها مكانٌ يمكن الاتكاء عليه في لحظة العتمة؟

إن أقدم مظاهر الحضور الفرنسي في الثقافة العربية جاءت عند رفاعة الطهطاوي وذلك في كتابه تخليص الإبريز (1831) حينما كتب: «ليس كل ما عند الفرنساوية يُذمّ، كما أنه ليس كله يُمدح، والعاقل يأخذ ما ينفعه ويدع ما يضره». ثم جاء الإمام محمد عبده ومن باريس نفسها، بعد نصف قرن، وذلك في رسائله المضمنة مجلة «العروة الوثقى» حين التحق بأستاذه جمال الدين الأفغاني حيث كتب: «إن المدينة الأوروبية تقوم على أسس العلم والعمل، لا على الخرافة أو التقليد...»

لكن هذه الصورة تنقلب عند آخر خارط النموذج الفرنسي واختار نقده لا الانبهار به، إنه أحمد فارس الشدياق الذي كتب في «الساق على الساق فيما هو الفارياق- 1885م» من منفاه الباريسي كاشفاً عن تناقض أحوال مدينة الأنوار: «الفرنساويون لا يرون في الشرقي إلا رجلًا نصف إنسان، ولو لبس كل حريرهم وتكلم بكل لغاتهم». وذهب أبعد بقوله: «يعبدون الحرية في كلامهم، ثم يسحقونها في أفعالهم». وهكذا انقسم الوعي العربي باكراً أمام فرنسا إلى صورتين: الأولى مؤسّسة على الانبهار، والثانية مشروعة بالشك. وهو انقسام لم يكن جماليًا، بل سياسيًا كذلك. فالحقيقة أن تاريخ الموقف الفرنسي من القضية اتسم بمراحل مختلفة، وصل بعضها إلى النقيض من ذاته، ففي عام 1947م كانت فرنسا من أوائل من صوّت لصالح قرار تقسيم فلسطين تحت مبرر «الحل العادل»، ثم شاركت فرنسا سياسيًا وعسكريًا في العدوان الثلاثي. غير أنها وفي عهد ديجول، عادت إلى رشدها بعد ما جرى في حرب 1967م وتوسع الكيان في الأراضي العربية ما دفع أبو الجمهورية الخامسة أن يصرح في نوفمبر 1967م بأن: «إسرائيل أصبحت الآن دولة احتلال... وهي تخالف قرارات المجتمع الدولي»، ثم يأتي عقد الثمانينيات والذي سيشهد تصاعدًا لصوت الضمير لدى المفكرين الفرنسيين، وبحق كانت هذه الفترة اختباراً لصدق نسبهم الحضاري إلى عصر الأنوار، إذ ارتفعت في تلك المرحلة أصوات الفلاسفة والكُتّاب تأييدًا للحق الفلسطيني، في مواجهة صمت سياسة التواطؤ. ومن أبرز تجليات تلك المرحلة الحوار الذي جرى عام 1980م بين الفيلسوف جيل دولوز، والمفكر الفلسطيني إلياس صنبر، رئيس تحرير النسخة الفرنسية من مجلة دراسات فلسطينية، وهو الحوار الذي أحدث دوياً بسبب تصريحات دولوز والتي قارن فيها بين نموذجين من عمليات المحو الثقافي، فقد رأى بأن ثمة تشابه كبير بين ما جرى للهنود الحمر، وما يُمارس على الفلسطينيين، وفي ذلك مقولته بأن الفلسطيني الذي ظل في عقل النخبة الفرنسية مجرد «لاجئ» فإنه اليوم مقاوم لصالح قضية، وأن ما يتم بحقه محاولة لبناء أمة فوق أنقاض أخرى. ثم جاءت مذبحة صبرا وشاتيلا عام 1982 لتوقظ ضميرًا فرنسيًا آخر، هو الكاتب جان جينيه والذي لم يقوَ على الصمت أمام ما رآه من فظائع الموت، وبشاعة ما ارتُكب جراء الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ليكتب مقالته الشهيرة «أربع ساعات في شاتيلا» وذلك بعد زيارته المخيم، وقد جاءت كلماته انحيازًا للإنسان، بوصفه كائنًا يستحق العدالة، وقد ضُمِنت مقالته هذه في الكتاب الذي صدر بعد وفاته 1986م تحت عنوان يمكن ترجمته بـ«العاشق الأسير»، كتب: «كنت أدوس الأجساد، دون أن أستطيع أن أتفاداها.. رأيت طفلًا قُطع رأسه، وقد وُضع الرأس في كيس بلاستيكي بجوار جسده.. أن تكون فلسطينيًا، هو أن تُغتال مرتين: مرة برصاصة، ومرة بالصمت». واحتوت هذه المقالة حواراً مع الذات بلغ أقصى درجات الإدانة، فالرجل وهو يتحرك بين جثث الأطفال والنساء قال: «لم أعد أرى بشرًا، بل أشلاء... كأن اللحم العربي وحده هو ما يجب أن يُسحق بلا حساب.. ثم يبلغ الموقف ذروته ليقول: «كنت هناك، ولم أصرخ. كنت شاهداً، لكن الكلمات في فمي كانت جثثًا أيضًا».. والحقيقة لم تعدم فرنسا أصوات الأحرار في لفت أنظار العالم لما يلاقيه الفلسطيني، فالفيلسوف ريجييه دوبريه يُعد أحد أبرز الأصوات في مواجهة عدوان الكيان، وإرهابه كان قد كتب في العام 2009م «لماذا لم أعد أؤيد إسرائيل؟!» والتي حاكم فيها بلاده وكشف عن تناقضها، فالموقف الفرنسي في نظره يعيش كآبة منطقية، وأنه لا يمكن لفرنسا أن تكون صديقة للعدالة وهي تتجاهل مأساة الفلسطينيين.

والسؤال أيضًا للسيد ماكرون: هل الاعتراف بدولة فلسطينية هو موقف أملاه استدعاء الضمير الفرنسي في مواجهة الظلم، والوقوف إلى جانب الضحية؟ وهل هي تحية لروح جيل دولوز، الذي رأى في المأساة الفلسطينية مرآةً حديثة لمصير الهنود الحمر، حيث تُكتب سردية المنتصر على أنقاض الضحية؟ وهل هي استعادة لصوت جان جينيه، ذلك الذي لم يستطع أن يصمت أمام بشاعة مذبحة صبرا وشاتيلا، فكتب شاهدًا بالكلمات التي صارت جثثًا؟ - ثم هل يتذكر الرئيس ماكرون أن ديجول قال ذات مرةً: «إن فرنسا لا تساير أحدًا حين يتعلّق الأمر بالكرامة والحرية».

غسان علي عثمان كاتب سوداني

مقالات مشابهة

  • بن شرادة: لا حاجة لمزيد من التشريعات.. المطلوب حكومة تنفّذ
  • حملة لتطعيم الكلاب الضالة ضد مرض السعار بميت أبو غالب
  • بعد مهاجمة كلب لنجلي الفنانة زينة.. القانون يحدد شروط اصطحاب الكلاب والعقوبة
  • بعد تعرض نجل الفنانة زينة لهجوم كلب.. شرطان لاصطحاب الكلاب في الأماكن العامة
  • 33 يوماً فقط… موقوف يخرج حراً رغم الاعترافات
  • حماس تدين مقترحا أمريكيا لإقامة دولة فلسطينية على جزء من فرنسا
  • السعودية: يجب على أوروبا الاعتراف بدولة فلسطين الآن
  • رئيس اتحاد جمعيات الرفق بالحيوان: لا نعرف عدد الكلاب الضالة في مصر
  • خطة وطنية لمكافحة داء الكلب… والزراعة تبدأ بالمرحلة الأولى
  • الاعتراف بدولة فلسطينية.. ماكرون في مواجهة جينيه: ماذا تبقى من الضمير الفرنسي؟