هراري والإنسان الحالم بالألوهية
تاريخ النشر: 28th, December 2024 GMT
صار البروفيسور يوفال نواه هراري، شاغل الناس ومالئ دنيا الأكاديميات، بكتابه "تاريخ مختصر للجنس البشري" الذي صدر قبل عشر سنوات، والذي تصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعا في الولايات المتحدة وأوروبا، لحين طويل من الدهر، ثم كتاب "نيكسوس: تاريخ موجز لشبكات المعلومات من العصر الحجري إلى الذكاء الاصطناعي"، ثم جاء كتاب "الإنسان الإله: موجز تاريخ الغد" لتناهز مبيعات كتبه التي ترجمت إلى خمس وستين لغة الـ 45 مليون نسخة، وصار هراري ضيفا على منتديات كبريات الجامعات والمنابر الثقافية في أوروبا وأمريكا الشمالية، باعتباره شيخ المؤرخين المعاصرين في مجالات لا يطرقها المؤرخون عادة.
هراري إسرائيلي، يعمل أستاذا للتاريخ في الجامعة العبرية في القدس الشريف، ولا يجد القبول لدى الدوائر الصهيونية، لأنه يردد في تلميح أقرب إلى التصريح أن التلمود الذي تروج له المؤسسات الدينية اليهودية مليء بـ "التخاريف"، وهو بهذا يقول إن كون إسرائيل هي أرض الميعاد، وكون اليهود شعب الله المختار خرافة، وبالمقابل وجد هراري التقريظ والسند من الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، وبيل غيتس مؤسس شركة مايكروسوفت، ومارك زكربيرغ مؤسس فيسبوك، وغيرهم من المشاهير.
أما كتاب هراري الأكثر إثارة للجدل فهو "الإنسان الإله: تاريخ موجز للغد"، الذي يعنى بالمشاريع المستقبلية الكبيرة التي تواجه البشرية في القرن الحادي والعشرين. ويقول فيه إن الطفرات التكنولوجية في السنوات الأخيرة، تجعل من روادها الذين يحسبون أنفسهم عباقرة من نسل نادر، أشخاصا يسعون إلى "الألوهية" بإلغاء الانسان ودوره في الحياة، بأمور مثل الذكاء الاصطناعي وهندسة الجينات، "مما قد يؤدي الى زوال الانسان كما نعرفه اليوم بحلول عام 2034".
إن الطفرات التكنولوجية التي تهدف إلى خلق كائنات أسطورية القدرات، ستؤدي إلى خلق طبق غنية بالمال وبالإمكانات الفنية، هي تلك التي تتحكم سلفا في دنيا المعلومات، مثل غوغل وأمازون وفيسبوك، وبالمقابل سيصح البلايين عمالة فائضة، لا تصلح للنشاط الاقتصادي أو العسكري، ولا تحسن التعامل مع أجهزة ومعدات عالية الكفاءة وذات قدرات خاصة.يعرض هراري في هذا الكتاب التاريخ الموجز لشبكات المعلومات من العصر الحجري إلى عصر ثورة المعلومات والذكاء الاصطناعي. ويستكشف العلاقة المعقدة التي تربط بين المعلومات والحقيقة، والبيروقراطية والأسطورة، والحكمة والسلطة، ويعرض في سياق كل ذلك الخيارات والتحديات التي يواجهها إنسان العصر "لكون الذكاء الاصطناعي يهدد وجوده ذاته".
يقول هراري في كتاب "الإنسان الإله: موجز تاريخ الغد": إن الانسان المعاصر يعمل على اجتراح وهندسة حقبة يسيطر خلالها على البيئة، وشكل الحياة على الأرض، بل وطبيعة الجسم البشري، وذلك بـ "خلق" أشياء أكثر ذكاء وقدرة على التحليل واتخاذ القرار من الآدمي، ستؤدي في تقدير هراري، إلى مصادرة تلك الأشياء قدرات ومهارات الجنس البشري، مما يجعل البشر هامشيين في عالم الغد، وفاقدي السيطرة على مجريات حياتهم، ويخلص من هذا إلى أن "قيامة الآدميين وشيكة" لأن الإنسان يسعى إلى حتفه بظلفه، بأن يحسب نفسه إلها قادرا على تمديد الأعمار وتغيير تركيبة الكون بل وتشكيل أنماط جديدة من الكائنات، مما يعني أنه سيدفع ثمن تكالبه على "السلطة على الأكوان".
ويقول هراري إن الطفرات التكنولوجية التي تهدف إلى خلق كائنات أسطورية القدرات، ستؤدي إلى خلق طبق غنية بالمال وبالإمكانات الفنية، هي تلك التي تتحكم سلفا في دنيا المعلومات، مثل غوغل وأمازون وفيسبوك، وبالمقابل سيصح البلايين عمالة فائضة، لا تصلح للنشاط الاقتصادي أو العسكري، ولا تحسن التعامل مع أجهزة ومعدات عالية الكفاءة وذات قدرات خاصة.
ما يقوله هراري في كتاب "الانسان الإله"، فيه كثير من الشطح الذي لا يختلف كثيرا عما قاله الفيلسوف الأمريكي فرانسيس فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، الصادر سنة 1992، بعد سقوط جدار برلين و"إمبراطورية الشر" (الاتحاد السوفييتي سابقًا)، بأن الديمقراطية الليبرالية وقيمها عن الحرية والفردية والمساواة والعولمة والليبرالية الاقتصادية، تشكل ذروة التطور الأيديولوجي للإنسان بعد إجماع معظم الناس على صلاحيتها، وعدم وجود بديل أفضل. ومن ثم رأى فوكوياما أن كل الأيديولوجيات وكل المعارك الحضارية انتهت، بعد أن أحكمت الليبرالية قبضتها وسيطرتها الأيديولوجية والثقافية في كل الميادين، وأن ذلك يمثل نهاية التاريخ بالمعنيين الحضاري والثقافي.
بين الكثير من الأقلام والأصوات التي تناولت كتاب الإنسان الإله بالنقد والتحليل والتقريظ والتشنيع، استوقفني ما كتبه عنه العماني سعود بن علي الحارثي، الذي دعا كُلّ مواطن عربي إلى التعامل مع الكتاب قراءةً وتفكيرًا وتدبُّرًا "لكَيْ يعيَ ويدركَ المسافات الواسعة، والفجوات العميقة الَّتي تفصلنا نحن العرب عن الآخر، الَّذي يفجِّر الثَّورات العلميَّة الواحدة تلوَ الأخرى، ويصنع التحوُّلات الفكريَّة والثقافيَّة الَّتي تجعل من الأُمم المتخلِّفة أكثر عزلةً وتبعيَّة وضعفًا، وبُعدًا عن مركز الأحداث، والاشتغال بحقول الذَّكاء الاصطناعي وجمْع البيانات والهندسة البيولوجيَّة والغزو الخوارزمي لسُوق العمل، حيث تتجاوز هذه الطَّفرات الهائلة "مسرعةً في طريقها قدراتنا المعرفيَّة، وقريبًا ستفوقنا الحواسيب الآليَّة في قيادة المَركبات، وتشخيص الأمراض، وخوض الحروب، بل وحتَّى في فَهْمِ المشاعر البَشَريَّة".
ويقول الحارثي إنَّها دعوةٌ صادقة ومخلِصة لاقتناء وقراءة هذا الكتاب المُهِمِّ جدًّا جدًّا، عساه يزرع فينا بذرة العمل على إحداث التَّغيير الإيجابي.
ويلفت الحارثي الانتباه إلى أن هراري يطلق في مقدِّمته للنّسخة العربيَّة من كتابه هذا نداءً موجَّهًا إلى الأُمَّة العربيَّة، تُمليه عليه "مسؤوليَّته كمؤلِّف وعالِم وباحِث مُلِمٍّ ومُدركٍ وقارئٍ لأحوال العرب وأوضاعهم وأزمتهم الحضاريَّة الَّتي يعيشونها اليوم، امتدادًا وتجذُّرًا من عالَم الماضي"، كي لا يغفلوا عن معطيات الحاضر فيتخلفوا عن الركب كما حدث لهم عندما ضاع ماضيهم التليد في العلوم والاكتشافات بعد الخضوع لسلاطين غزاة وصاروا على دين سلاطينهم هؤلاء.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه امريكا كاتب رأي أطروحات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة من هنا وهناك من هنا وهناك سياسة صحافة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الإنسان الإله إلى خلق
إقرأ أيضاً:
كتاب يُعيد تعريف اللغة والمنطق بوصفهما جوهر الوجود الإنساني
عمّان "العُمانية": يرتاد الباحث الأردني صادق إنعام الخواجا في كتابه "رسالة في اللغة والمنطق" عوالم فكرية وفلسفية غير تقليدية بينما يحاول إعادة تعريف اللغة والمنطق بوصفهما جوهر الوجود الإنساني لا مجرد أدوات تواصل أو تفكير عادية.
تقوم فرضية الكتاب الصادر مؤخرًا عن "الآن ناشرون وموزعون" على أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي الكينونة ذاتها أو جوهر التفكير ذاته، فهي "ليست مجرد أصوات يلفظها الإنسان، بل نظام داخلي معقّد يُفعّل الذاكرة وينظّم فعل العقل ويُنتج الفكر بشكل متداخل لا انفصال فيه".
من هذا المنطلق، يتتبع المؤلف العلاقة بين الصوت والنطق والمعنى، ليصل إلى أن "كل فكرة هي كلمة، وكل كلمة هي فكرة، ولا يمكن فصلهما أو التعامل معهما ككيانَيْن مستقلَّين".
ينظر الخواجا إلى اللغة كنظام صوتي وجدلي يعكس تركيب الجسد الإنساني وتفاعلاته مع محيطه، مستعرضًا كيفية نشوء اللغة من تفاعل الأصوات الداخلية للإنسان -كنبض القلب، وأنفاس الرئتين، وتناغم الأعضاء المختلفة- مع الأصوات الخارجية التي يلتقطها من العالم، هذه الأصوات، التي قد تبدو عشوائية في ظاهرها، تتحول عبر عمليات عقلية وعصبية معقدة إلى "تراكيب لغوية محملة بالمعنى"، ومنها يُبنى نسيج المعرفة الذي يُخزّن ويُستعاد ويُطوّر الحضارة الإنسانية.
ويمتد النقاش في الكتاب إلى مفهوم المنطق، حيث يفكك الخواجا المفهوم التقليدي السائد للمنطق بوصفه "قواعد صورية جامدة ومعزولة عن الواقع"، ليعيد تأسيسه كمنهج جدلي ينبع من الواقع ويتحرك معه. فالمنطق عنده ليس معيارًا نهائيًّا للحقيقة، بل هو "أداة لغوية حية لوصف الحقيقة وتشكيلها وتطويرها عبر الزمن".
ويقارن الخواجا بين المنطق الأرسطي التقليدي، والمنطق البياني عند المعتزلة، والمنطق الجدلي عند هيجل، ليخلص إلى ضرورة "تأسيس منطق لغوي جديد ينبع من طبيعة اللغة ذاتها، وليس من قواعد مفروضة عليها من الخارج".
ومن مميزات هذه الأطروحة انفتاحها على مصادر فكرية عميقة، لكنها مهملة أو غير معروفة في سياقات الدراسة التقليدية، مثل أعمال علي زيغور، وأحمد الداوود، وعالم سبيط النيلي، وعلي فهمي خشيم. ووفقًا للمؤلف، "يشكل هؤلاء المفكرون جبهة تفكر في اللغة من خارج المنظومة الغربية السائدة، ويعيدون الاعتبار لمفهوم الحرف العربي كوحدة دلالية متعددة الأبعاد تجمع بين الشعور والنطق والبعد النفسي". وبذلك، تفتح هذه الرؤية آفاقًا جديدة لفهم اللغة العربية على نحوٍ "يتجاوز مجرد كونها أداة اتصال، لتصبح كيانًا ذا حضور وتأثير حيّ في تكوين الفكر".
إلى جانب ذلك، يوجّه الخواجا في أطروحته نقدًا ضمنيًّا للمنظور الأوروبي السائد في دراسة اللغة، الذي يربط بين الكتابة وتعدد الشعوب ويرى في اختلاف الرموز دليلًا على اختلاف الأجناس والثقافات، وهو منظور "قلّص من وحدة اللغة العربية وجعلها عرضة للانقسامات والتجزئة". في المقابل، يقدم المؤلف رؤية عربية-جغرافية توضح أن اللغة العربية "نظام صوتي موحد يمتد عبر الزمان والمكان، لا يحتاج إلى فرض سلطوي أو قوة خارجية لتثبيته أو تأكيد وحدته".
ويتجاوز هذا الكتاب مجرد كونه دراسة تحليلية للّغة والمنطق، ليغدو "تجربة فكرية عميقة تعيد للغة قدسيتها، وللفكر أصالته، وتفتح مسارًا لتجديد البناء المعرفي العربي من الداخل، انطلاقًا من مفاهيم ذاتية نابضة بالحياة تعكس عمق الحضارة والثقافة العربية في أبهى صورة".