الجزيرة:
2025-07-27@07:07:30 GMT

عبد الله تايه: ما حدث في غزة أكبر من وصفه بأية لغة

تاريخ النشر: 31st, January 2025 GMT

عبد الله تايه: ما حدث في غزة أكبر من وصفه بأية لغة

وثق النتاج الإبداعي للقاص والروائي الفلسطيني عبد الله تايه، الفائز بجائزة غسان كنفاني 2024، معاناة الموت والتشرد وفقدان الأحبة في قطاع غزة. ويحكي بلغة سلسة جاذبة في مفرداتها ورموزها نبض حياة الغزيين، ويصور واقع العدوان المتواصل منذ سنوات وما يخلفه من دمار وتخريب على الإنسان والأرض.

برؤية إنسانية اتخذت من الإبداع عنوانا وأسلوبا سرديا متألقا، بعيدا عن الاستعراض أو التقعر في اللغة، وبثراء في الحوارات، عايش -الروائي المقيم في غزة- الألم الفلسطيني وحوله إلى شهادة إنسانية تروى للأجيال المقبلة، مما لاقى استحسان النقاد والمثقفين والمهتمين.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2رابطة الكُتاب الأردنيين في "يوبيلها" الذهبي.. ذاكرة موشومة بالصبر وجمر الكلماتlist 2 of 2ما زال حاضرا بعد 35 عاما من الغياب.. غالب هلسا مثقف أردني بهوية عربية مركّبةend of list

وباستعراض سريع لروايته الجديدة "مذاقات الموت والركام" الصادرة عن دار المصرية السودانية الإماراتية للطباعة، نلمس صرخة تعبر عن الصمود الفلسطيني في مقارعته للمحتل، وتؤرخ لحكايا الحرب وويلاتها، وتعكس مشاعر الغضب في لمسة سردية تتمسك بالصمود ومقاومة العدو، وترفض رفع الراية البيضاء.

والقاص والروائي عبد الله تايه، فاز عن روايته "وجع لا بد منه" بجائزة غسان كنفاني للرواية العربية 2024، وحاز على وسام دولة فلسطين للثقافة والعلوم والأدب 2022. كما اختارته وزارة الثقافة شخصية العام الثقافية، وحصل على الجائزة التقديرية لبيت الصحافة 2022. وتم اختياره من مؤسسة الصحافة العالمية ضمن أفضل الكتاب عام 2009، كما اختاره "البرلمان الدولي للكتاب" لمنحة تفرغ للكتابة لمدة سنتين في المكسيك عام 2003.

إعلان

وتحوَّلت قصته "أنا لا أحب القتل" إلى فيلم قصير فاز بالجائزة الفضية في مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون. وصدر له 25 مؤلفا متنوعا، من بينها مجموعات قصصية مثل: "من يدق الباب"، "الدوائر برتقالية"، "البحث عن إيقاع مستمر"، "انفلات الموج"، "جنود لا يحبون الفراشات"، "ما قاله الرواة عن الحواري"، و"قصص من غزة". وقد تُرجمت بعض قصصه إلى الإنجليزية والإيطالية والإسبانية.

أما رواياته، فمنها: "الذين يبحثون عن الشمس"، "العربة والليل"، "التين الشوكي ينضج مبكرا"، "وجوه في الماء الساخن"، "قمر في بيت راس"، و"الحرب على غزة".

وقال إنه حاول تصوير النازحين في إحدى المدن الهادئة، واحتفظ في ذاكرته بصور البؤس والفقر والجوع وإقامة الخيام. وأضاف: "ما حدث في غزة كان أكبر من أية لغة… اللغة لم تكن تسعفك مهما كنت بارعا"، داعيا المثقفين الذين سخروا أقلامهم في تصوير حياة البؤس والمخيمات، ثم انهزمت أحلامهم، إلى معاودة النهوض وبث الأمل في مستقبل يعيشون فيه كغيرهم من الشعوب.

وفي حديثه للجزيرة نت اعتبر أن البطل الحقيقي هو جمهور "الناس الذين وقفوا بصمود بين واقعين: النزوح والخوف من القصف، والمأساة التي فرضت عليهم من دون إرادتهم… هم أبطال الرواية بصبرهم وقلقهم وحزنهم وموتهم، وهم الخلفية لمسرحية القتل".

رواية "مذاقات الموت والركام" للروائي عبد الله تايه (الجزيرة) في روايتك "مذاقات الموت والركام"، تروي حكاية غزة وحياة أهلنا في الخيام، ومعاناتهم من البرد والجوع والتدمير الممنهج على يد أقذر جيش عرفه التاريخ. ماذا تختزن ذاكرتك بعد 470 يوما من الصمود والتضحيات؟

في روايتي الأخيرة "مذاقات الموت والركام – الحرب على غزة"، نزحتُ عن بيتي إلى مدينة أخرى. سمعت ورأيت القصف والموت، والركام يملأ الطرقات والأزقة والشوارع. أرسل الجيش تحذيراته للإخلاء عبر منشورات ورقية أسقطتها إحدى طائراته، وحين ذهب الناس، خاصة الأطفال، لالتقاط هذه المنشورات، تبين أن مدينة غزة والشمال ستصبح مناطق غير آمنة.

إعلان

وعلى مدى أكثر من عام، تابعت أخبار الموت والقصف والتهجير، ورأيت كيف بدأنا نقيم الخيام وسط انتشار البؤس والفقر والجوع والمرض والموت. واكتشفنا أنه لا مكان آمن. لا تزال تلك الأحداث والصور راسخة في الذاكرة، ولن تمحوها الأيام.

حاولت تصوير حال النازحين في إحدى المدن التي اتسمت دائما بالهدوء في مختلف فترات الصراع، لكن اللغة لم تكن تسعفني، مهما كنت بارعا في السرد. ما يحدث كان أعظم من أي لغة وأكبر من أي تصور.

الناس الغلابة البؤساء هم أبطال الرواية بصبرهم وقلقهم وحزنهم وموتهم.

الأدب الفلسطيني في أغلبه أدب مقاوم، ويبدو أن هذا قدره… أو تعبير عن الحنين للوطن. في ظل الظروف الصعبة، يبرز بطل. من وجهة نظرك، من يكون بطل المرحلة روائيا؟

في هذه الشهور المؤلمة والقاسية، التي لا تزال مستمرة، يبرز البطل الحقيقي، وهم الناس الذين لا حول لهم ولا قوة؛ أولئك الذين وقعوا بين واقعين: واقع النزوح والخوف من القصف والموت، وواقع المأساة التي فرضت عليهم من دون إرادتهم. فالناس الغلابة البؤساء هم أبطال الرواية بصبرهم وقلقهم وحزنهم وموتهم، أما البيوت والقبور والركام، فهي بطل الخلفية لمسرحية القتل.

الثقافة رافعة وطنية تعيد الأمل فما المطلوب من المثقفين في مرحلة بقي فيها شعبنا وحيدا في التصدي للمشروع الصهيوني الذي يخطط لابتلاع فلسطين

المثقفون والكتّاب والأدباء والفنانون، منذ بدايات القرن الماضي وحتى الآن، كان لهم دور ثقافي وأدبي وفني رافق تطورات القضية الفلسطينية منذ الانتداب وحتى اليوم، في مختلف مراحل التغيير.

ورغم هذا الزمن الطويل، الذي لم يحقق لقضية فلسطين أي حل عادل، ظل هؤلاء الذين سخروا أقلامهم لتصوير حياة البؤس والمخيمات والاقتلاع، يأملون في مستقبل أفضل. وكلما انهزمت أحلامهم، عاودوا النهوض وبثوا الأمل في مستقبل يعيشون فيه كغيرهم من شعوب الأرض. ويظل هذا الظلم التاريخي ماثلا أمام رغبة الحياة.

في التراث الفلسطيني، تودع الأمهات أبناءهن بالزغاريد، لكن مع ذلك، تبقى حسرة الفقد وألم الرحيل حاضرين على مدى الأيام.

كأديب فلسطيني سخر مشواره الإبداعي لخدمة وطنه وقضيته.. من وجهة نظرك لماذا تودع أمهاتنا الشهداء بالزغاريد؟ وما تقول للأم الفلسطينية المناضلة الصابرة؟ إعلان

كلما سقط الأبرياء في القصف، تعلو زغاريد الأمهات اللاتي يعتززن ويثقن بأن أرواح أبنائهن في حواصل طيور خضر في الجنة. إن هذه الزغاريد، في الغالب، لا يمكن أن تكون زغاريد فرح، فهل هناك إنسان يمكن أن يفرح لمقتل فلذة كبده، التي رواها سنوات طويلة بالسهر والألم؟! في التراث الفلسطيني، تودع الأمهات أبناءهن بالزغاريد، لكن مع ذلك، تبقى حسرة الفقد وألم الرحيل حاضرين على مدى الأيام.

وجهت رسالتين إلى روح الشهيدة "فاطمة أبو جش" و"ختام تايه". ماذا قلت لـ"ختام" حين وقفت أمام بيتها في جباليا؟ وأي رسالة يمكن توجيهها إلى شهداء طوفان الأقصى، ومخيمات الضفة الغربية المحتلة، ومدنها؟

الشهيدة فاطمة أبو جش من الضفة الغربية، و"ختام تايه" ابنة جباليا، وعمرها حين استشهدت كان في الـ12 من عمرها. وهما شخصيتان حقيقيتان قتلتا ظلما. ربما كنت أود باختيارهما الإشارة إلى وحدة المكانين، وأن الظلم يسود فيهما معا، وأن القاتل لا يقدر حياة الأبرياء في المكانين الفلسطينيين. في هذه المقتلة الكارثية، أتساءل: إلى متى؟ ولماذا؟ وهذا الاحتلال، أما له من نهاية؟

وفي الحوار السهل الممتنع قبل استشهاد ختام، حين وقفت أمام بيتها، نقتبس: "ختام، أسرعي إلى السطح… هناك سترين بوضوح أكبر قنابل الفوسفور التي سمعنا عنها ورأيناها في التلفزيون… وعندما صعدنا، في تقافز طفولي، تذكرنا الدبابيس الفضية الكثيرة اللامعة التي زيّنت ثوب العروس ليلة احتفال زواج بنت الجيران قبل أيام".

في مجموعتك القصصية "من يدق الباب"، تصوّرين نماذج إنسانية فلسطينية في قطاع غزة، وترصدين الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية… فما الذي يمكن رصده أو تشخيصه في ظل مخرجات العدوان الإسرائيلي؟

في بداية كتاباتي، كنت أنا ومجموعة من الكتاب والأدباء في أواسط السبعينيات، ومنهم المرحومان غريب عسقلاني وزكي العيلة، نرى المظاهر العيانية للاحتلال العسكري: من عربات عسكرية، وجنود، وبنادق، وحواجز، وكل مظاهره المرئية.

إعلان

ثم تبين بعد ذلك أن للاحتلال وجها آخر غير مرئي يؤثر في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. فكانت مجموعتي القصصية "من يدق الباب" وما تلاها من مجموعات قصصية تحاول التعبير عن بعض هذه المضامين، خاصة بؤس المخيمات وأحوال ناسها.

في مجموعتك "العربة والليل"، حضر سجناء الحرية وتحدثت عن رغبة الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في الحياة بسلام. فهل يمكن العيش المشترك بين صاحب الأرض وسارقها؟

رواية "العربة والليل" نُشرت عام 1982، وجاءت بعد المتغيرات في ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، وبعد العلاقات الكبيرة مع اليسار الإسرائيلي وشخصيات فلسطينية في الداخل وفي أوروبا. وجاء في الرواية الحديث عن الآخر وإمكانية الحل معه بما يحفظ الحقوق الفلسطينية. وفي الرواية، توجد شخصيات يهودية وفلسطينية، وكل منهما يتحدث عن ظروفه ولجوئه وهجرته، وتفهم كل منهما لاحتياجات الآخر.

وتطرح الرواية الوضع الطبقي للفقراء في الجانبين "الفلسطيني والإسرائيلي" واستغلالهم من قبل أصحاب العمل، ورغبة الطرفين في الحياة بسلام وقيام دولة فلسطينية مستقلة وعودة اللاجئين إلى قراهم ومدنهم التي طُردوا منها.

أهديت مجموعتي القصصية "ما قاله الرواة عن الحواري" للإنسان الذي "يرتدي ثيابي". فمن تقصد بهذا المفهوم؟ إنسان عادي أم سوبرمان؟

الإهداءات في الكتابات الأدبية هي أسلوب شكر واحترام لمن بذل جهدا في تيسير طباعة ونشر الكتاب، أو الرقن على الكمبيوتر لتجهيزه، أو إهداء لشخص عزيز.

أنا، بعد 45 عاما، رأيت أن الإهداء في مجموعة "ما قاله الرواة عن الحواري" يجب أن يكون لمن كتب وقضى أياما قاسية في الكتابة ليبدع عملا ذا شأن؛ وهو الكاتب الذي أعد الكتابة عملا جادا وليس مجرد تسويد الصفحات بالحبر.

الأدب الإنساني هو أدب ذو قيمة عالية، وأنا، بعد هذه التجربة الطويلة، أرى نفسي كاتبا إنسانيا محبا للخير والسلام لكل الإنسانية.

إعلان الجوائز الأدبية، وفقا لبعض الآراء، تجعل الأدب سلعة، وهناك من يراها اعترافا بالإبداع.. فماذا ترى؟

من الواضح لكثير من الكتّاب أن كثيرا من الجوائز الأدبية محفوفة بشيء غامض من التوجه السياسي لمانحي الجوائز، سواء كانت عربية أو أجنبية. وهناك أمثلة كثيرة على ذلك لا مجال لسردها.

وإلا، لماذا لا يحصل عليها بعض الكتّاب الكبار ذوي القيمة والقامة الأدبية؟ ومن المعروف أن الفوز بهذه الجوائز يلفت نظر الناشرين والمترجمين الذين تعدّ هذه هي سلعتهم للتربح، في حين أن الكاتب يرى فيها تقديرا واعترافا بإبداعه.

لماذا لا يجربون إقامة دولة فلسطينية وإنهاء الاحتلال ليعم السلام في الإقليم؟

وأخيرا، من وجهة نظرك كمثقف وسياسي فلسطيني، كيف تنظر لدعوة الرئيس الأميركي ترامب لترحيل مليون فلسطيني من غزة إلى الأردن ومصر؟

هناك أمثلة كثيرة مرت منذ النكبة عام 1948م حتى الآن حول الترحيل، الذي هو بالأساس توجه الأحزاب الإسرائيلية اليمينية، التي طرحت ذلك بما سموه "ترانسفير". كل هذه الأفكار فشلت ولم تنجح. لماذا لا يجربون إقامة دولة فلسطينية وإنهاء الاحتلال ليعم السلام في الإقليم؟ ولماذا دائما يفكرون فقط في الضغط على المظلوم؟

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات

إقرأ أيضاً:

(مطالعة اقتباس الرواية ونقد المعيش ..) واشتباك الزمن الروائي بالزمن المرجعي)…مطالعات

#سواليف

(مطالعة اقتباس الرواية ونقد المعيش ..) واشتباك الزمن الروائي بالزمن المرجعي…مطالعات…

#بسام_الهلول


… #رواية للكاتب المغربي #محمد_زفزاف…( #النباش )…دفعها الي الدكتور محمد الرواشدة لتيقنه التمام اني مولع جدا وبفضول النباش بما يصدر عن المدرسة المغاربية من اعمال فنية ولعلمه اليقين اني متمدرس باهتمام حيال ما يكتبه المغاربة فحظيت منه اليوم السعد باطلاعي على رواية زفزاف( النباش) ومن باب الاستطراد ورد هذا المصطلح في المدرسة الفقهية وبجواره( الطرار)..وهو من يقدم على شق جيوب السابلة ويخرج ما فيها من دراهم فهذان مصطلحان متجاوران إذا ورد النباش تبادر للذهن ( الطرار).. او مانطبق عليه في عاميتنا الاردنية( النشّال)…الامر الذي يذكر برواية( الزلزال ) للطاهر وطار بعد إصداره رواية(اللاز) والذي يعري فيها المؤسسات ومغامرته في ان تكون الرواية شهادة على المعيش اليومي الذي ينتهي منه الروائي في ترسم خطى( بو الأرواح ( العاقر) الذي اهمل ذويه الفقراء فرواية( النباش) تحيلنا إلى اشتباك الزمن المرجعي بالزمن الروائي وعلى نحو مطرد وأعمق بحيث تتقاطع أولياته مع رواية( عرس بغل) للطاهر وطار في شخصية( الهتاف) اذ الوضع فاسد لن يصلحه امام او خليفة ولن يصلحه دين حيث مثاله السيء ( الحاج كيان) المثقف الزيتوني الذي نفي عشرين عاما بتهمة قتل( هزيين) بسبب عشقه للعنابية المنفية مثله ولكن في ما خور حيث يعود اليها لينشر أفكاره المتطرفة وتراه يظهر صورا من الاجتماع هنا يبيع الخبز واخر يبيع الزيت والملح واخر يبيع الجنس ولا يقبض شيئا ومابين رواية( النباش) وعرس بغل ثمة تشابه في الخلق الروائي حيث يتخيل الحاج كيان انه حمدان القرمطي يتناوله الحشيش وسط القبور انه الفساد الذي استشرى غمر الاجتماع كله بكليّته هذا هو نظام الحياة انه فاسد بحاجة إلى حمدان ليقرمط بين الناس…وعودة لرواية( النباش).. للمغربي( زفزاف) ومانشر على اطرافها من تهميش او قراءة على عتباتها جعلني ان يكون الاقتباس يشغل مساحة من مقالتي لاهميته وفائدته للمهتمين فيما ينشر في المغرب. حيث يقول المنقول. وبتعليق الناقل والسارد:
إن العنوان باعتباره عتبة دلالية وإيحائية ومفتاحا تأويليا هو نص مصغر يحيل على النص الكبير والممتد ليدل عليه ويضيء معانيه وأبعاده..النباش هو هذا المزاول لفعل النبش،فعل التنقيب بين الأشياء المقيتة الملقاة،الحفر عميقا .
النبش هو كسر السطح،كشف المخبوء،هو التحرر من الظاهر،التمسك بالمتوقع والمنشود بدل الرضوخ للواقع الضيق والمأزوم.
أو كما يقول السارد :”1*وفي اعتقاده أن كل من ينبش لابد أن يصل ذات يوم سواء إلى القمة أو الهاوية التي لا يزال ساقطا فيها هو الآن،” النباش هو صورة مصغرة لطبقة اجتماعية مدحورة،منبوذة،يزاول نشاطا لا يسمو ليكون حرفة أو مهنة رغم الجهد الشاق المبذول،وذلك بفعل النظرة المعيارية النمطية للمجتمع، و ما تستبطنه من تبخيس ودونية..لكن نمط شخصية النباش،كما تخبرنا أحداث النص، ليس انهزاميا أو سلبيا بل هو يحيل على شخصية استشرافية،إيجابية، تسعى إلى بلوغ أفق حياة جديدة ولو على سبيل الحلم والجهد والحفر الدائم ،والنبش الشاق بين تلال القمامة في المطرح القذر.

مقالات ذات صلة دغيمات برعى حفل معهد تدريب الفنون في مركز اربد الثقافي 2025/07/24

تبدأ القصة بوصف عام عبر عين سارد يمسح الفضاء السردي بدقة،حيث تتراءى الملامح والسمات الأولى
للمكان..إنه فضاء لطرح النفايات،تعيش فيه كائنات حية وجدت فيه ضالة قوت عيشها،وهي:( القطط،الكلاب..)، ثم يظهر كائن آخر، بشري،(النباش) يفتش بين النفايات عن أشياء قد تتضمن قيمة ما.
يصور السارد مشهد القطط وهي تأكل، لتنسحب،في لحظة، هاربة من الكلب الذي حل بالمكان، كما يحضر النباش بنفوذه ليسود المشهد اليومي. إنه،في واقع الأمر، ليس مشهدا اعتباطيا،كما يبدو،بل هو صورة رمزية تعبر عن المجتمع الإنساني في هرميته المبتذلة والصارخة.
إن السلسلة الرمزية للقطة القوية والقط الصغير في موازاة مع الكلب المتسلط، ثم وجود النباش،هي تعبير عن سلسلة السلطة،والقوة في تجلياتها المتباينة.

لفعل النبش تجليان:نبش مادي في جغرافية الهامش والمنسي والبغيض،بحثا عن الأشياء الحسية ذات القيمة،ونبش رمزي في جغرافية الممكن ضد الواقع الصلب والاشكالي بحثا عن الحلم..الحق في الحلم..تجسيد الحلم، قهر المستحيل،أملا في العثور على أسباب للقفز إلى طبقة اجتماعية أعلى،حيث تتعدد أصداء الحكايات والوقائع النادرة لنباشين عثروا، بغتة،على أشياء نفيسة،حولتهم من منبوذين إلى أثرياء ومترفين،أو سخروا جهد كفاحهم لتأسيس مشاريع صغيرة مربحة، تتنامى في الزمن.
تعتبر قصة” النباش” التي تنتمي إلى المجموعة القصصية(العربة ،1993)،من أكثر القصص تأثيرا ودرامية وجرأة أدبية في طرح تيمة تندرج ضمن الطابوهات الاجتماعية المسكوت عنها غالبا:أبناء الخطيئة أو الأجنة المعدمة بكامل القصدية والقرار، للهروب من الفضيحة والعار الاجتماعي.وقد يبدو هذا القول موشى بالانطباعية والتأثر الانفعالي،ربما،وإن كان الانطباع والتأثر الأدبي، هما ما يدهشنا في عملية التلقي للعبور نحو مدارج الفهم والتحليل، ولكن الأمر،في الأساس،هو انطباع محكوم باعتبارات موضوعية هامة:

أ/التيمة المغايرة والتي تتسم بجرأة الكتابة حول عيوب المجتمع الاخلاقية وأزماته العلائقية والإنسانية التي تنتهي بالمأساة،وبنقل جينات الضحية عبر تسلسل الأجيال.هذا إذا ما عاش الفرد المتخلى عنه، فاقد الهوية،أما عندما يرمى وليدا في الخلاء بعد إعدامه ،فحينئد تعدم معه جينات القهر في مطرح النفايات.،فتصير الخطيئة خطيئتين،الانجاب خارج الإطار الشرعي والتخلي عن الصبي الصغير،ثم قتل الضحية لإخفاء الخطيئة الأولى.
ب/الحكاية الغائبة في القصة وإن أخذت حيزا ضيقا من السرد، فإنها تعتبر الحدث المركزي الذي مهد له السارد بالتدرج من المألوف إلى الغريب والصادم،ومن البسيط إلى المركب،مصورا تلك البساطة الخادعة والرتابة الآلية لواقع يقيني ببدو أنه لا تتخلخل سيرورته الثابتة الجاثمة،ليتحول، في الأخير، إلى حالة من الالتباس والهاجسية والغموض، فيهرب النباش بعيدا عن المكان، وقد تملكته مشاعر الخوف الهستيري.

ج/التبئير لشخصية مغمورة،بل منبوذة في المجتمع: النباش، أو( البوعار”)..
إنه ذلك المقيم في الهامش الظلي،المعتم،الموارب،الذي يكشف عن الحقائق الكلية وعن قيمة الكائن الإنساني وجدوى القيم ،تمزق المجتمع وانفصاله بين طبقات متناقضة يربط بين أفرادها انطباعات سوء الفهم وسوء الظن والأحكام الجاهزة، والكراهية الاجتماعية المتبادلة.
بالمقابل،فإن النباش هو إحالة على طبقة اجتماعية لا يعوزها الذكاء الاجتماعي، إذ يستطيع هؤلاء المنبوذون والهامشيون ابتكار أسباب جديدة ومغايرة للتكيف والبقاء والعيش،وربما تحقيق حلم الثراء والصعود الطبقي،كما يشي بذلك النص والواقع في آن.

.من يكون هذا الصبي الميت والملقى داخل كيس بلاستيكي أسود كأي شيء مقيت؟من يكون الجاني؟ المرأة أو الرجل؟ كلاهما؟أم هو،على الأرجح، السياق الاجتماعي المحكوم بالحتمية والضرورة،والمطبوع بتبلد الشعور بالذنب والمسؤولية؟!
أي قدر سري،ساق الرحم المدان للوهلة الأولى، الذي حبل بالجنين المنبوذ زمنا ،ليتخلص منه سريعا كأنه يتخلص من تهمة الحياة،حياة صغيرة،صغيرة جدا تدل على حياة أكبر وأعقد وتدينها؟هل يمكن أن تكون الحياة تهمة؟حكم إدانة؟هذا ما نلمسه من الحكاية الغائبة المفترضة للصبي
الميت المطروح في امتداد النفايات “*2..لكن المخطاف جذب كيسا أسود ملفوفا في قعر القمامة. وضعه على الطوار ثم فتحه بأناة.كان يعتقد أن في داخله ديكا هنديا، لأن ما ماكان في داخله شيء
طري،إلا أنه فوجئ عندما عثر داخل الكيس على صبي ميت.”

إن نهاية القصة الصادمة تعبير جلي عن بنية التحول: التحول من قذارة الطبيعة إلى قذارة الإنسانية.

اعتمد السارد على تقنية التشويق و الصدمة عبر تسلسل وتنامي الأحداث، من خلال سلسلة من الأحداث الجزئية الصغرى، للوصول إلى الحدث المركزي والمفصلي للنص:العثور على جثة صبي داخل كيس بلاستيكي بين قمامة مطرح النفايات.. وهروب النباش من هول الصدمة وفداحة الجرم.. مما يكسر أفق انتظار المتلقي الذي كان يفترض،لامحالة، العثور على كنز صغير،أو أي شي ذي قيمة،حتى ولو كان ديكا هنديا..وميتا ،فوق ذلك..!
يهيمن السارد كلي المعرفة،الهلامي،العليم،الذي لا يفتأ يعبر عن حكمه القيمي ونظرته الخاصة أحيانا،كما هو سائد في نماذج من سرديات محمد زفزاف،ومن الأمثلة نذكر..”و3على كل حال فهو يعرف أنه يعيش في بلد يباع فيه كل شيء” ،للدلالة على تراجع القيم المعنوية والرمزية داخل المجتع وتغول القيم المادية والاستهلاكية التي صار يتحطم على صخرتها جوهر كيان الفرد” يقول السارد:4والحقيقة أن بعض البيوت ليس فيها مراحيض رغم أن فتيات أنيقات يخرجن من تلك البيوت” ،وذلك لإبراز إشكالية التناقض الطبقي الاجتماعي السائد والمتغلغل داخل مجتمع
تغيب فيه العدالة الاجتماعية

“أو قوله:5* وعلى كل حال،فلايمكن للإنسان أن يموت جوعا في المغرب.”
للتعبير عن رؤية مثالية حول الوطن، وهي من الأقوال المسكوكة والنمطية اجتماعيا، التي تعكس حقيقة نسبية، بالأساس، فعدم الموت جوعا لا يعني بالضرورة،نجاة الفرد من وطأة الواقع الاشكالي،أو خلاصه من الموت المعنوي،بالتقسيط،و من ثمة ضياع معنى الحياة.

قصة “النباش” بروحها الواقعية الاجتماعية، تستنطق الهامش، تحرره من معانيه الظاهرة والسطحية،التي تقود إلى القدحية والوسم والميز،لتخلق كوة جديدة لأجل رؤية تلك الزوايا المجهولة من الواقع الاجتماعي،التي قد تتجاوز الخيال بإدهاشها وغرابتها.

إن الهامش تعبير عن الحقيقية الكلية الغائبة،وقد أخذت تتبلور وتتجلى أمام الأفراد نصف الصورة الغائبة في المرآة العاكسة للمجتمع،وهو تجسيد لغياب قيم العدل والمساواة.
ولعل دور الأدب بالأساس هو التعبير عن المنسي والمجهول وما أخطأته حاسة الإدراك والتأمل في اليومي المتبلد والسادر،وفي هدير طواحين الزمن الاجتماعي المشحون بالانشغالات الاستهلاكية
و الرغبات الحسية والأحلام اللامتناهية.
خلاصة القول، فإن السارد صور لحظة زمنية هامة ومفصلية من حياة النباش، وهو ينقب بين النفايات بحثا عن حلم بالثراء والتسلق الطبقي..لكن نهاية الأحداث تكشف خيبة الأحلام الطوباوية للنباش، وتصور،على نحو جذري، أزمة الأخلاق المجتمعية وانهيار النسق القيمي،عبر الهروب من الخطيئة،ثم تهريب أثرها/أثر الضحية،ومحاولة التخلص من هذا الأثر الذي يدين الجاني، بين نفايات المطرح القذر.
لقد استطاع السارد أن يشد انتباه المتلقي وأن ينقله من مستوى حسي: فضاء مطرح النفايات بقذارته المقززة، إلى مستوى رمزي، أعمق وأعقد هو فداحة الجريمة و قذارة الخطيئة
.نستنتج أن سيرورة السرد تمركزت حول تصوير الجهد اليومي للنباش وإبراز التداعيات النفسية التي تعتمل في نفسه، من حوار داخلي وأحلام ورغبات..بينما ذلك التسلسل الحدثي، لم يكن في الواقع،سوى تمهيد مسترسل للوصول إلى حدث آخر أكثر مركزية وجوهرية:فكرة الخطيئة المركبة،والحياد السلبي المجتمعي اتجاه الظاهرة.
إن الحكاية الغائبة داخل القصة،تؤسس ميثاقا جديدا،وخاصا مع المتلقي،نحو بناء تأويلات وتصورات تكمل رسم المعالم والتفاصيل المتخيلة والممكنة حول بناء حكاية الخطيئة القاتلة ،وتصادي هذا العالم الشائك مع عالم النباش،ما يعكس وحدة المأساة والمصير الغامض.

:الهوامش
1، محمد زفزاف،الأعمال القصصية الكاملة، المركز
الثقافي العربي، (ط1،)ص 644
2,نفس المرجع ،ص 644
3,نفس المرجع،ص 642
4،نفس المرجع، ص641،
5,نفس المرجع، ص 643
المصادر والمراجع:محمد زفزاف ،الأعمال القصصية
الكاملة..المركز الثقافي العربي، 1ط ,2017
رشيد مليح

مقالات مشابهة

  • لماذا تكره القبائل التي تشكل الحاضنة العسكرية والسياسية للجنجويد دولة 56؟
  • أحمد موسى: لا بدائل عن قناة السويس التي تستقبل أكبر الحاويات في العالم
  • إعلان الفائزين في ختام مسابقة "الرواية" عن يحيى السنوار بمسقط
  • الرئيس الفلسطيني يشكر المملكة على جهودها التي أسهمت في الالتزام الفرنسي التاريخي بالاعتراف بدولة فلسطين
  • (مطالعة اقتباس الرواية ونقد المعيش ..) واشتباك الزمن الروائي بالزمن المرجعي)…مطالعات
  • محللون إسرائيليون: نخسر معركة الرواية في كارثة الجوع بغزة
  • قبلان: لا ضامن لهذا البلد أكبر من جيشه وشعبه ومقاومته
  • البكيري يفتح النار: استقالة فهد سندي ضرورة عدلية قبل انتخابات الاتحاد
  • قائد أنصار الله: لن نألو جهدا في نصرة الشعب الفلسطيني ونسعى لدراسة خيارات تصعيدية إضافية
  • نقابة المالية تدافع عن مديرية الضرائب بمراكش وتندد بـ”حملة افتراءات ممنهجة”