قصائد موشحة بالدلالات في بيت الشعر
تاريخ النشر: 1st, February 2025 GMT
في إطار فعاليات منتدى الثلاثاء الذي يفتح في كل موعد شعري أفقا جديدا على الإبداع، نظم بيت الشعر بدائرة الثقافة في الشارقة أمسية شعرية ، شارك فيها كل من الشاعر جعفر حمدي أحمد، والدكتور خليفة بوجادي، والشاعر عمر المقدي، وحضرها عبدالله العويس رئيس دائرة الثقافة، ومحمد عبدالله البريكي مدير بيت الشعر، وجمهور من الشعراء والنقاد والباحثين والمهتمون بالشعر، وقدمها الدكتور أحمد سعد الدين، الذي رحب في البداية بالحاضرين، مقدما الشكر للشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، على اهتمامه بالثقافة العربية، وجعله الشارقة عاصمة للثقافة والإبداع وجعل بيت الشعر بيتا للشعراء، ثم أضاف في افتتاحيته: " الشِّعرُ لُغةُ الرُّوحِ وصَوتُ القَلبِ، والنَّافذةُ التي تُطلُّ على عوالمِنا الداخليةِ".
افتتح القراءات الشاعر جعفر حمدي أحمد، الذي توشحت قصائده بالدلالات والصور الشعرية العميقة، فطاف بكلماته بين حالات الشاعر الوجدانية وقضاياه الإنسانية، ورسم بلغة شفيفة ما يختلج في صدره من رؤى وأفكار ومشاعر، فيقول:
هذا الوحيدُ مشىٰ بالنهرِ مُؤتنِسًا،
إنْ حطَّ فِي الماءِ لم يحفَلْ بهِ السَّمكُ
وإن أشارَ إلى الغيماتِ؛ ظُنَّ بهِ
بعضُ الجنونِ وغاضَ الغيمُ والفَلَكُ
أما في قصيدة "فتى المواجيد" فتظهر صورة الشاعر المشرقة ومكانته في المجتمع، بما يحمله من صدق ونقاء، وبما يراوده من تأملات، فيؤكد بذلك ما ذهبت إليه العرب منذ القدم، حين جعلوا من الشاعر صوت قومه وقدوتهم، فيقول:
قلبي النقيُّ مشىٰ بئرًا لواردِهِ
كما تهيأَ عصفورٌ لصائدِهِ
مشىٰ يُقلِّبُ كَفَّيْ شِعْرِهِ، فغَدَا
يَلُوحُ للشمسِ إذ تزهُو بعائدِهِ
فَمَا تهيأَ طِفلٌ ما لقِبلتِهِ
إلاَّ وأصبحَ ظِلاًّ مِنْ فرائدِهِ
حتَّىٰ تفاخرَ قومٌ حينَ غايرَهُمْ
فتىٰ المواجيدِ، وانصاعُوا لشاردِهِ
ثم قرأ الدكتور خليفة بوجادي نصا بعنوان "إيراقة الرمل والأحجار" والذي دار حول استذكار العمر وما مضى منه، والتأمل في محطاته، فيقول:
عامٌ تَقضّي فلا كُرّرتَ يا عــــامُ
كذلكِ العمرُ.. عامٌ بعدَه عامُ
عشرون عاماً وخمسٌ فوق راحلتي
غادرتُ فيها صِباً تحدوهُ أحلامُ
عشرون عاما وخمسٌ يا مهنّئَــتي
والنّفسُ يعكسُها دهرٌ وأقزَامُ
ثم قرأ قصيدة أخرى بعنوان " هذي الحال" تناولت موضوع رثاء الأم، وما يخلفه فقدها من ألم ومرارة ويتم، فيقول:
أطْللتِ في وجَع التذكُّر بلسَمـــــَـا
وزرعتِ في جدْب القصائد موسمـــــَـــا
من بعد ما لبسَ الفؤادُ شحوبـــــــــَـــه
وضياءُ عُمْري بعد غمضكِ أظلمـــَــا
لــمّا وقفتِ بمَحْجر العَين التي
مُذ غبتِ عنها، غالبتْ دمعي الدّمَــا
واختتم القراءات الشاعر عمر حسين المقدي الذي كان نصه المعنون "الخزف الشفاف" لوحة فنية متقنة، تتداخل فيها ألوان المعاني الرقيقة بقوة البلاغة واتساع القاموس اللغوي، فيقول :
لَمْ يَعْرِفِ النَّاسُ عَنْهُمْ عِنْدَمَا عُرِفُوا
فَخَبَّأُوا السِّرَّ فِي الأَرْوَاحِ وَانْصَرَفُوا
وَمِثْلَمَا تُكْمِلُ الأَقْمَارُ رِحْلَتَهَا
نَحْوَ البِدَايَةِ مَا بَانُوا وَمَا ازْدَلَفُوا
العَائِدُونَ مِنَ الغَيْبِ البَعِيدِ مَدًى
الذَّاهِبُونِ إِلَى الغَايَاتِ مَا انْحَرَفُوا
مَرُّوا عَلَى اللَّوْنِ شَفَّافِينَ تَحْمِلُهُمْ
دُمُوعُهُمْ إِنَّمَا أَوْجَانُهُمْ ضِفَفُ
أما في نصه " حديث جانبي" فقد استطاع الشاعر أن يدير ببراعة حوارا داخليا مجازيا مع الروح الشاعرة وتطلعاتها وارتباطها باللغة وبحثها عن الجمال، فيقول:
قَرِيبٌ أَنْتَ مِنْ تَحْقِيقِ ذَاتِكْ
تُسَاوِمُكَ الطَّرِيقُ عَلَى جِهَاتِكْ
تَسِيرُ إِلَى الأَمَامِ بِكِبْرِيَاءٍ
وَيَحْلُمُ كُلُّ شَكٍّ بِالتِفَاتِكْ
تَهُزُّكَ نَسْمَةٌ خَجْلَى وَلَمَّا
يُشَاهَدْ أَيُّ شَيءٍ فِي ثَبَاتِكِ
مَجَازِيًّا تَطِيرُ لِأَلْفِ مَعْنًى
تُدَافِعُ بِالقَصَائِدِ عَنْ لُغَاتِكْ
وفي الختام كرّم عبدالله العويس بحضور الشاعر محمد البريكي، المشاركين في الأمسية.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: عبدالله العويس منتدى الثلاثاء محمد عبدالله البريكي المزيد بیت الشعر
إقرأ أيضاً:
الشاعرة وواقع الإكراه
وأنا أتابع بعض اللّقاءات على مواقع التواصل الاجتماعي للشاعرة العُمانيّة عائشة السيفي، وهي تُبدي جوانب من مكابدتها الحياتية بسبب ميلها إلى الشعر وجنوحها إليه، وهي سليلة أسرة محافظة من عمق داخليّة عُمان، ترتبط بمرجعيّات دينيّة، الأدب في تصوّرهم هو تبتّل وعبادة وخوض في محاسن الخلق والخلائق ونقاء وصفاء وعمل على التقرّب به شعرًا أو نثرًا إلى درجات العبادة القصوى.
تابعتُها وهي تُصرِّح بعسر أن تكون المرأة شاعرة في عالمٍ لا يرى المرأة إذا خرجت إلى عالم العمل إلاّ مدرِّسة في مدارس البنات، في عالم ما زال ينظر إلى المرأة كائنًا مائلاً إلى الخطيئة، تراءت لي، وأنا أتابع هذه التصريحات (التي لا تخصّ وضع عموم المرأة في عُمان، ولكن تخصّ بعضًا من الأسر والعائلات والأفراد) فكرةَ التساؤل عن إكراه أن تكون المرأة شاعرة في مجتمع يُصَادرُ صوتَها، وفي واقع يراها ناقصة، وحاملة لغوايتها، في واقع لا تكون فيه المرأة راغبة طالبة وإنّما وجب أن تكون مرغوبةً، محبوبة، في واقع ما زال يجتهد في لجم المرأة والمحافظة عليها من رياح السّموم، وكأنّها كائن آبق، مرشَّح للغواية، وكأنّ الرّجل سالمٌ من كلّ علّة يُمكن أن تصيبه، محميّ بذكورته من رياح السّموم، يجوز له ما لا يجوز لصنوه وضريعه وشقّه في الإنسانيّة والخلْق.
المرأة الشاعرة تخصيصًا والأديبة تعميمًا والفنّانة بشكل أوسع، هي تفتكّ منزلتاها ومكانتها بالشدّ على النواجذ، وتعيش إكراهات وصعوبات، ليس في واقعنا العربيّ فقط، بل في كلّ واقع يتحدّد منظوره للمرأة برؤية تجعلها خطّاءةً، حمّالةَ ذنوبٍ.
عندما نلتفتُ إلى تاريخنا القريب والبعيد لا نجد حضورًا طاغيًا أو مُعادلا للرّجل أو طبيعيًّا للمرأة في الأرضيّة الشّاعرة، وما زلنا نحن -المثقّفين- نخادع النّاس وأنفسَنا ونقول إنّ للمرأة تاريخًا شعريًّا في حضارتنا، والحالُ أنّ صوتها مكلوم مكتوم، رغم يقيني أنّ ظاهرة النّساء الشاعرات المكتومات والمغيَّبة أصواتهنّ لأسبابٍ قد تكون أوفر وأثرى من شعر الرجال.
لقد حفظ لنا التاريخ امرأة شاعرةً أراد العقل العربيّ أن يحبس مجالَها الشعريّ في البكائيّات والرثائيّات، وهي الخنساء، الخنساء التي صارت نموذجًا للمرأة الشاعرة التي يُمكن أن تُبْدع في الشّعر، ولكن تنحبس فقط في غرضٍ هو الرّثاء، ولعلّ هذا ما حدا ببعضِ نقّاد الأدب وعلى رأسهم عباس محمود العقّاد، أن يذهب إلى أنّ المرأة إن قُدِّر لها أن تقول الشّعر فمجالها هو الرّثاء! شاعرةٌ ثانية، كان لها عميق الأثر والرّواج في التراث الإسلاميّ، وهي ليلى الأخيليّة التي كانت لها أخبارٌ ووقائع ومناظرات شعريّة مع النابغة الجعديّ، ومع الحجّاج بن يُوسف الذي قال فيها «للّه بلاؤها ما أشعرها!»، وقد تقبّلتها الذائقة العربيّة بسبب من ذلك، ولكن هل تُعادِل أصغر شاعر من شعراء الدولة الأمويّة، دراسةً وتدريسًا وجمعًا لشعرها؟ لقد عملت كتبٌ قليلة على جمع أشعر النساء والاجتهاد في ضبْطها منذ القديم، منها كتاب المرزباني «أشعار النساء» وجلال الدين السيوطي «نزهة الجلساء في أشعار النساء»، وهو كتاب على درجة من الأهميّة، ليس لأنّ كاتبه هو الإمام السيوطي الفقيه الشافعي والإمام الحافظ المفسّر فحسب، بل لأنّه ثبّت عددًا من الشاعرات المجهولات، وأرّخ لأبياتٍ وقصائد يُنكرها الفقيه المتزمّت ولا يرويها، وقد جعل الشعر النسائيّ راجعا إلى رأسين، رأس في المشرق تمثّله الشاعرة عليّة بنت الخليفة المهديّ وفي المغرب ولاّدة بنت المستكفي التي ضارعت ابن زيدون ودخلت معه في ردود شعريّة، وأثبتت جدارتها في عالم الرجال.
غير أنّ الجدير بالذكر في هذا الكتاب المقدّمة التي أبان فيها موقف المثقّفين العرب أواسط القرن العشرين من النساء الشاعرات، ولعلّ الموقف ذاته متواصِلٌ لحدّ اليوم، وهو موقفٌ وجب التذكير به، والوقوف عليه، إذ خاض المثقّفون جدلاً وحوارًا حول الشعر النسائي وجدارته والمواضيع التي يخوض فيها وقدرة المرأة على إتيان الشعر، ويُمكن أن أعرض بعضًا من هذا الجدل البائن في قول صاحب المقدّمة، فبدايةً يعرضُ محقّق كتاب «نزهة الجلساء في أشعار النساء» تساؤلاً واردًا على لسان من سمّاه بأحد النقّاد، يقول فيه «هل يحقّ للمرأة أن تقول شعرًا في الغزل؟؟ وإذا كان لها ذلك ففيمن تتغزَّل؟ أتتغزَّل في امرأة مثلها؟ أو تتغزَّل في رجل؟» ويذكر الناقد نفسه مسترسلا، معلّقًا على ديوانٍ تحقّق لشاعرة اسمها عائشة تيمور عنوانه «حلية الطراز»، احتوى على 1936 بيتًا من ضمنها 554 بيتًا في الغزل، فقال ناقدنا : «الواقع أنّنا إذا نظرنا إلى ما وصل إلينا من آثار شاعرات العرب لا نجد لهنّ شيئًا في الغزل، فممَّا لا شكَّ فيه أنّ عائشة انفردت دون الشاعرات العربيّات بما نظمته في هذا الباب»، وهو أمرٌ -لعمري- قصير النظر، كالذي يقول إنّ الشعر الجاهليّ يخلو من الغزل، وكأنّ الأمر ليس معقودًا بمؤسّسة قويّة اسمها مؤسّسة الرواية في التراث العربي تستصفي ما شاءت أوَّلاً، وبمجتمع لا يتقبّل الشاعرة المتغزِّله ويقذفها بشتّى النعوت، مثلما كان الأمر مع ولاّدة بنت المستكفي، وقد راقني جدّا أن وجدتُ الردّ الأوفى في كتابٍ خطّته ضريعةُ عائشة تيمور أو عائشة التيمورية، يحمل عنوانا اسم الشاعرة، ويختصّ بذكر حياتها وأشعارها ومعاناتها، مي زيادة التي كان لها كبير الأثر في تغذية حديث الأدب في العالم العربيّ، كانت قد واجهت الحجز والحجر والمنع والحصار من عائلتها أساسًا.
في نفس هذا السياق نجد العقّاد الجامع بين حداثة عصره والارتباط بالتقليد جوهرًا، يقول إنّ الاستعداد لقول الشعر في الأصل هو فعل نادر على الوجه العامّ وهو أندر عند المرأة، والسبب الذي يُقدّمه أنّ المرأة يُمكن أن تخوض في القصص وفي التمثيل وفي مختلف الفنون الجميلة، ولكنّها لا يُمكن أن تُحسن الشعر، وذلك راجع أساسًا إلى جنسها وطبائعه، إلى أنّ الأنوثة عسيرة التعبير عن عواطفها، ولا يُمكن أن تكون شخصيّة مائلة إلى التغلّب والسيطرة لتستولي على شخصيّات أخرى، بل هي أقرب إلى الكتمان وإلى الإخفاء وإلى تسليم «وجودها لمن يستولي عليه من زوج أو حبيب»، فوفقًا لرأيه إذا لم تكن الشخصيّة قادرة على البوح، وعلى الاستقلال بذاتها وإذا كانت فاقدة للرغبة في «التوسّع والامتداد، واشتمال الكائنات، فالذي يبقى لها من عظمة الشاعريّة قليل»، وهو أمرٌ مُرعبٌ، مرهبٌ، أن نُجيز الشعر في عمومه للرجل ونكتمه عن المرأة، وأن نجيز الغزل للرجل ونمنعه عن المرأة، بل ونتعجَّب من تغزّلها، لأنّ المركوز في الأذهان أن يتغزَّل الرجل بالمرأة، وأن تستحي المرأة وتكتم عشقَها، ومن مظاهر هذا المغروس في الأذهان أنّنا اعتبرنا إنطاق المرأة لتتغزّل بالرجل في شعر عمر بن أبي ربيعة من مسالك التجديد والتحديث.
لعلّ إشكاليتي الأساس في عالمنا العربيّ أنّنا ما زلنا نطرح القضايا ذاتها منذ ألف عام، ما زلنا نمايز -مهما علت ثقافتنا- بين الرجل الذي نسمح له بما يُسْمَح به للمرأة وبين المرأة التي يبقى منظورنا إليها فارقًا قائمًا على التناقض وعدم الوضوح.