الذات العربية وإشكالات الواقع
تاريخ النشر: 7th, February 2025 GMT
ما زال العقل العربي يحبذ المركزية الذاتية، وبها ومن خلالها يدير واقعه، ويرى في الآخر مهددا لوجوده، ويرى الرأي المختلف مقوضا لكيان المجتمع ومهددا لاستقراره، ويبدو أن الذي حدث خلال ما سلف من الأيام والشهور والأعوام دال على ذات الإشكالية التي يعانيها الحاكم العربي والمجتمع العربي من أقصاه إلى أقصاه، كما أن الذي حدث في عام 2011م من حركة ثورية حاول المجتمع العربي من خلالها التنفس والإعلان عن وجوده لم تحمل الأمل المنشود لأنها جاءت من فراغ فكري وذهبت إلى التيه، ولم يكن تيها واعيا ولكنه أصبح حالة تشبه الضياع في كثير من البلدان العربية، فالبلدان التي ما زالت تشهد استقرارا خرجت لتعبر عن ضيقها كما شهدنا ذلك في السودان، والبلدان التي نالها من الترف الشيء اليسير كدول الخليج والسعودية خرجت نماذج منها لتعلن عن ضيقها وتذمرها من واقعها، وها هي بعض النماذج تذهب إلى الغرب بضجيج إعلامي ملفت للنظر كما في حال بعض الفتيات والفتيان الذين يطالبون باللجوء السياسي أو الإنساني وغالب أولئك من دول الخليج ومن السعودية .
ثمة صراع اليوم يغتلي في الوجدان الجمعي العربي وهو إما ظاهر أو خفي، فالظاهر نشهد صراعه وحروبه منذ أمد غير بعيد وما يزال، والخفي يبعث بين الفينة والأخرى إشاراته ورموزه، هذا الصراع في جوهره ينشد واقعا جديدا يتجاوز عثرات الماضي، ويلبي طموحات الحاضر، ويكون تعبيرا عن الزمن الجديد الذي نعيش، فالإصلاحات أصبحت ضرورة حتمية لا يمكن تجاوزها، أما النسج على منوال الماضي فهو تكرار قد يديم أمد الصراع العربي ولا يعمل على تنمية حالة الاستقرار .
دلت حالة الغليان في البلدان العربية أن القوة الناعمة سوف تستمر في نشدان مستقبلها ومناغاته في كل حال وفي كل ظرف، كما دلت أن المركزية والتفرد والذم والإقصاء يفضي إلى دائرة مغلقة يفترض أن يتم تجاوز محطاتها، فالذي يتكرر في الوجدان لا يخرج من النتيجة نفسها التي آل اليها الواقع العربي في سالف أيامه .
إذن .. نحن أمام واقع جديد لا يمكن ترويضه بعد أن أعلن عن نفسه، ولا بد من التعامل معه وفق أسس ومبادئ جديدة تضمن وجود الكل ورفاه الكل ومشاركة الكل ومسؤولية الكل، ومثل ذلك لا يمكنه التحقق دون ثورة ثقافية حقيقية تعيد للألفاظ براءتها وللمعاني عذريتها، بعد كل هذا الظلام، وكل ذلك التعويم لمفاهيم الوطنية والهوية، والسيادة، والحرية، والاستقلال، فقد كان هدم النظام العام والطبيعي في المجتمعات العربية التي اجتاحتها ثورات الربيع هي التمهيد الحقيقي للوصول إلى الغايات والمقاصد التي رسمتها استراتيجية راند لعام 2007م .., ومنها السيطرة على مصادر الطاقة من أجل إخضاع الحكومات، والسيطرة على منافذ الغذاء من أجل إخضاع الشعوب، وقد تحقق ذلك في الكثير من البلدان، تحققت تلك الغايات في العراق، وتحققت في اليمن، وفي ليبيا، وهي أكثر تحققا في دول الخليج العربي التي في سبيل وهم الإصلاحات سعت إلى بيع أسهم الشركات النفطية، مثل شركة أرامكو بالسعودية التي باعت الكثير من أسهمها لصالح شركات عالمية، ودول الخليج أكثر الدول العربية خضوعا للبيت الأبيض – كما هو شائع- وليس بخاف أن صراع الأسر المالكة في تلك الدول تفصل فيه أمريكا وجهازها الاستخباري، كما حدث في موضوع محمد بن نايف ومحمد بن سلمان في السعودية مثلا، وهو أمر ليس ببعيد عن الذاكرة، فخضوع ابن نايف لقرار إقالته من ولاية العهد لم يكن بالأمر الهين ولا العابر بل كان أمرا عصيا استخدمت فيه أمريكا العصا الغليظة لترويض المرحلة لما تريد، وقد حدث ما كانت ترسمه في مخيلتها، وتحقق لها القدر الكافي من الاستقرار الاقتصادي بعد سنوات من الحديث عن الأزمات الاقتصادية التي كان العالم يتحدث عنها في أمريكا .
نجحت أمريكا في تنشيط سوق السلاح من خلال صناعة الحروب في المنطقة العربية ووجدت في غباء بعض القادة العرب مساحة واسعة من السريالية السياسية كي تتحرك فيها، فخاضوا حروبا مباشرة وغير مباشرة وكان عدوانهم على اليمن بمثابة القشة التي سوف تقصم ظهر البعير في قابل الأيام والأعوام .
ولذلك فالعرب اليوم أمام مفترق طرق إما الخضوع أو صناعة واقع جديد يكون مؤثرا في السياسة الدولية، ومثل ذلك لن يتحقق إلا من خلال قيادة عربية تحمل مشروعا نهضويا يسير بخطى ثابتة نحو المستقبل بعدد من الإجراءات الإصلاحية التي تكون تعبيرا عن المستوى الحضاري الجديد الذي وصل إليه العالم المتحرك والمتجدد من حولنا .
فالعرب لم يصلوا إلى هذا الشتات الذي وصلوا اليه اليوم, إلا بعد القضاء على حركات الفكر المتجدد من خلال الاجتياح أو الاغتيالات أو التغييب أو التهميش أو من خلال القضاء على حركات التحرر التي تتم بواسطة الحروب التي يشنها عدوهم ضدهم، أو من خلال زعزعة المجتمعات بالحركات الإرهابية، ولن يستعيدوا ألقهم ومجدهم إلا من خلال عودة الاهتمام بحركة الفكر والتجديد والتحديث في المنظومة الثقافية، وفي مؤسسات التكاثر الثقافي، فالفكرة الجديدة هي أساس النهضة وأساس التأثير في السياسات الدولية عن طريق القوة الناعمة التي تجبر الآخر على التعامل معها بقدر من توازن المصالح .
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
دليل الهجرة.. رحلة جاكلين سلام لاستكشاف الذات بين وطنين ولغتين
في رحلة تمتد لأكثر من ربع قرن بين سوريا وكندا، توثق الشاعرة والكاتبة السورية الكندية جاكلين سلام خطواتها الأولى في المهجر، وتجاربها الإنسانية والإبداعية، في كتابها الجديد "دليل الهجرة.. خطوات امرأة بين سوريا وكندا".
يصدر هذا العمل، وهو الكتاب الثامن في مسيرة الكاتبة، عن "منشورات الضفدعة المجنحة" في مصر و"منشورات إنخيدوانا" في كندا، ليقدم للقارئ العربي رحلة بانورامية متعددة الألوان، تسلط فيها المؤلفة الضوء على أولى خطواتها من مطار بيرسون في تورنتو عام 1997، وصولًا إلى آخر محطاتها بين الكتب والمهرجانات والبيوت، بما حملته هذه الرحلة من عثرات ومسرات.
لا يتردد الكتاب، الذي يقع في 390 صفحة، في كشف بعض محطات تجربة سلام العملية والمهنية مترجمة في الحقل الاجتماعي والقانوني الكندي، وعلاقتها الشائكة والحميمة باللغتين العربية والإنجليزية. ومن خلال فصوله الخمسة، يعكس طبيعة الخليط البشري الكندي والمهاجرين العرب الذي اختبرته الكاتبة وهي تعيش التجربة مهنيا وإبداعيا كامرأة وأم وناقدة في الحقل الثقافي والاجتماعي.
وفي مقدمة الكتاب، يكتب الفنان والناقد ياسر عبد القوي "هذا الكتاب هو بشكل ما رحلة جاكلين سلام في المهجر، ليس لاستكشاف المهجر، بقدر استكشاف نفسها. أعتقد أن سؤالها لم يكن: ما هو هذا المكان؟ بل بالأحرى كان: من أنا في هذا المكان؟".
ويضيف أن الكتاب هو "نوع من سيرة ذاتية، لكنه ليس سيرة ذاتية اعتيادية، فالكاتبة تحكي سيرتها من خلال كيفية رؤيتها للعالم.. إنه فعلا دليل على كيف يمكنك اكتشاف العالم في مكان جديد، في وطن جديد، وكيف تتجنب الوقوع في فخ الانشطار بين من كنتَ في وطنك الأصلي ومن ستكون في وطنك الجديد".
ينقسم الكتاب إلى خمسة فصول متنوعة، تبدأ بفصل بعنوان "مارغريت أتوود كما عرفتها"، يقدم مقالات عن عوالم الأديبة الكندية المرشحة الدائمة لجائزة نوبل. يليه فصل "أفكار ملونة" الذي يتناول العلاقة الشائكة بين المثقف والدكتاتور ومأزق الحريات. وفي فصل "أضواء على الكتابة"، تغوص الكاتبة في قضايا الكتابة والهوية الثقافية.
إعلانأما الفصل الرابع "أيقونات الفكر والأدب العالمي"، فيوثق لقاءات الكاتبة مع عمالقة الفكر والأدب أمثال أمبرتو إيكو، وألبرتو مانغويل، وول سوينكا، وأليس مونرو. ويختتم الكتاب بفصل "أسرار المحبرة"، وهو الفصل الأكثر قربا إلى السيرة الذاتية، حيث تقدم شهادات شخصية عن تجربتها كامرأة مهاجرة من سوريا إلى كندا.
يُذكر أن جاكلين سلام هي شاعرة ومترجمة وكاتبة صحفية سورية كندية، هاجرت إلى كندا عام 1997. وهي عضو في اتحاد كتاب كندا ومنظمة "القلم" الدولية. حازت على جائزة الإبداع الأدبي، واختيرت شخصية العام الثقافية في كندا عام 2013. صدر لها سبع مجموعات شعرية، بالإضافة إلى كتاب "حوارات على مرايا الهجرة".