"نيويورك تايمز": ملايين الأفارقة يواجهون مصيرًا مجهولًا جراء انهيار وكالة التنمية الأمريكية
تاريخ النشر: 9th, February 2025 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، في عددها الصادر اليوم الأحد، أن انهيار الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية "USAID" على أيدي الرئيس دونالد ترامب والملياردير إيلون ماسك ترك بالفعل فجوات هائلة في الرعاية الصحية الحيوية وغيرها من الخدمات التي يعتمد عليها ملايين الأفارقة من أجل بقائهم.
واستهلت الصحيفة مقالًا لها في هذا الشأن، نشرته في عدد اليوم، بسرد أن منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ظلت لعقود من الزمان محورًا منفردًا للمساعدات الخارجية الأمريكية حيث تلقت القارة أكثر من 8 مليارات دولار سنويًا، وهي الأموال التي استُخدمت لإطعام الأطفال الجائعين وتوفير الأدوية المنقذة للحياة وتوفير المساعدات الإنسانية في زمن الحرب.
ولكن منذ أسابيع قليلة، أحرق الرئيس ترامب والملياردير المولود في جنوب إفريقيا إيلون ماسك الكثير من هذا العمل وتعهدا بتدمير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية تمامًا.. حسب قول الصحيفة. فمن جانبه، كتب ترامب على وسائل التواصل الاجتماعي يوم أمس الأول: "أغلقوها!"، متهمًا الوكالة بالفساد والاحتيال غير المحددين.
وأضافت الصحيفة أن قاضيًا فيدراليًا أوقف يوم الجمعة بعض محاولات ترامب لإغلاق الوكالة في الوقت الحالي ولكن السرعة والصدمة التي أحدثتها تصرفات الإدارة أدت بالفعل إلى الارتباك والخوف وحتى جنون العظمة في مكاتب الوكالة في مختلف أنحاء أفريقيا، وهي من أكبر الجهات المتلقية لتمويل الوكالة. فقد تم فصل العاملين أو إحالتهم إلى إجازات مؤقتة.
ومع ظهور الحجم الحقيقي للتداعيات، تساءلت الحكومات الأفريقية عن كيفية سد الفجوات الهائلة التي نتجت عن وقف التمويل لدى الخدمات الحيوية، مثل الرعاية الصحية والتعليم، والتي كانت حتى الأسابيع الأخيرة تمولها الولايات المتحدة. وقد شهدت جماعات المساعدة وهيئات الأمم المتحدة التي تطعم الجائعين أو تؤوي اللاجئين تقليص ميزانياتها إلى النصف، أو ما هو أسوأ من ذلك.
وتابعت "نيويورك تايمز" تقول إن الأفارقة العاديين هم من سيدفعون الثمن الأعظم، حيث يعتمد الملايين منهم على المساعدات الأمريكية من أجل البقاء. ولكن العواقب يتردد صداها أيضًا عبر قطاع المساعدات الذي كان بمثابة ركيزة أساسية من ركائز المشاركة الغربية مع أفريقيا لأكثر من ستة عقود. ومع انهيار الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، اهتز هذا النموذج بالكامل بشدة.
وقال موريثي موتيجا، مدير برنامج أفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية، في لقاء أجراه مع الصحيفة:" إن هذا أمر دراماتيكي وذو عواقب وخيمة، ومن الصعب أن نتخيل التراجع عنه"، واصفًا انهيار الوكالة بأنه"جزء من تفكك النظام الذي أعقب الحرب الباردة"..
وأضاف:" في وقت ما، كان الغرب هو المسيطر في أفريقيا. لم يعد الأمر كذلك ".
ويقول خبراء إن التراجع المفاجئ للوكالة سوف يكلف العديد من الأرواح من خلال خلق فجوات هائلة في الخدمات العامة، خاصة في مجال الرعاية الصحية، حيث كانت الوكالة الأمريكية تغطي الكثير من مواردها.
ففي كينيا وحدها، سيفقد ما لا يقل عن 40 ألف عامل في مجال الرعاية الصحية وظائفهم، كما يقول مسئولون في الوكالة. وفي يوم الجمعة، بدأت العديد من وكالات الأمم المتحدة التي تعتمد على التمويل الأمريكي في تسريح جزء من موظفيها. كما تقدم الولايات المتحدة معظم التمويل لمخيمين كبيرين للاجئين في شمال كينيا يأويان 700 ألف شخص من 19 دولة على الأقل.
ومن بين أكثر من 10 آلافا موظف في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في جميع أنحاء العالم، سيبقى 300 فقط بموجب التغييرات التي تم نقلها إلى الموظفين مساء الخميس الماضي في حين سيبقى 12 فقط في أفريقيا.
وقال كين أوبالو، عالم السياسة الكيني في جامعة جورج تاون في واشنطن:" إن التحدي الأكثر إلحاحًا للعديد من الحكومات ليس استبدال أعضاء الموظفين الأمريكيين أو الأموال، بل إنقاذ أنظمة الرعاية الصحية التي بنتها أمريكا وأضحت اليوم تنهار بسرعة".
وأضاف أوبالو:" أن كينيا، على سبيل المثال، لديها ما يكفي من الأدوية لعلاج الأشخاص المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية لأكثر من عام. ولكن الممرضات والأطباء الذين يعالجونهم يتم السماح لهم بالرحيل، والعيادات تغلق أبوابها".
ومضت "نيويورك تايمز" تؤكد أن الأمر قد لا يتوقف عند هذا الحد ؛ حيث يُرجح أيضًا أن تحدث صدمات اقتصادية أوسع نطاقًا في بعض أكثر بلدان العالم هشاشة.. ونقلت عن تشارلي روبرتسون، الخبير الاقتصادي المتخصص في أفريقيا، قوله: إن المساعدات الأمريكية تمثل 15% من الناتج الاقتصادي في جنوب السودان و6% في الصومال و4% في جمهورية أفريقيا الوسطى.. وأضاف:" قد نرى الحوكمة تتوقف فعليًا في عدد قليل من البلدان، ما لم تتدخل دول أخرى لاستبدال الفجوة التي خلفتها الولايات المتحدة ".
وفي المراكز الرئيسية في كينيا وجنوب أفريقيا والسنغال، صُدم مسئولو المساعدات الأمريكية عندما وجدوا أنفسهم مصنفين على أنهم "مجرمون" من قبل السيد ماسك ثم أُمروا بالعودة إلى الولايات المتحدة، وفقًا لثمانية موظفين ومتعاقدين في الوكالة الأمريكية تحدثوا جميعًا بشرط عدم الكشف عن هويتهم خوفًا من الانتقام، في حين منحت إدارة ترامب جميع موظفي الوكالة إعفاءً من دفع الضرائب خلال الفترة المقبلة.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: ترامب ماسك الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية الأفارقة الوکالة الأمریکیة للتنمیة الدولیة الولایات المتحدة الرعایة الصحیة نیویورک تایمز فی الوکالة
إقرأ أيضاً:
نكوسي سيكليل أفريكا.. الترنيمة التي حررت جنوب أفريقيا
في أواخر القرن التاسع عشر، وجنوب أفريقيا ترزح تحت نير الاستعمار البريطاني، تنهش الحروب جسدها المترامي الأطراف وتئن من قسوة الفصل العنصري، وسط تلك الأجواء المشحونة جلس القس إينوك سونتونغا أمام آلة الأرغن في مدرسة صغيرة تابعة للبعثة الميثودية قرب جوهانسبرغ، لينسج من وجع القارة صلاته للأرض الجريحة، ترنيمته الخالدة "نكوسي سيكليل أفريكا" (يا رب بارك أفريقيا).
هذه الترنيمة لم تكن مجرد ترنيمة دينية، بل أصبحت لاحقا صرخة جماعية في وجه الظلم، صارت مثالا مبكرا لدور المقاومة الموسيقية السلمية للاستعمار ولنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، أضحت نشيدا تردده حناجر الآلاف في بداية ونهاية اجتماعات حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذي انطلق عام 1912 متحديا قوانين البيض العنصرية.
وقد عبرت هذه الترنيمة حدود الزمان والجغرافيا، فتبنتها 5 دول أفريقية نشيدا وطنيا، وخلّدتها روح المقاومة.
أنغام النضالتُعدّ الموسيقى في جنوب أفريقيا مرآة عاكسة لتاريخ البلاد النضالي العريق، فالموسيقى هناك تجاوزت دورها الترفيهي لتصبح أداة مقاومة فعّالة ضد نظام الفصل العنصري الذي حكم البلاد لأكثر من 4 عقود.
في بلد يتميز بذلك التنوع الثقافي والموسيقي اللافت، برزت أنماط موسيقية متعددة شكّلت ملامح المشهد الفني، مثل الكوايتو، والأفرو هاوس، والأمابيانو، والهيب هوب الجنوب أفريقي، بالإضافة إلى الجاز، والروك، والبوب، وأغاني الإنجيل.
لكن خلف هذا التنوع كان هناك تيار موسيقى يحمل طابعا خاصا ورسالة تتجاوز الإيقاع والنغمة، كان ذلك تيار "أغاني المقاومة والحرية" الذي استمدّت جذوره من موسيقى "الماكوايا" أو موسيقى الجوقة التي امتزجت بترانيم مسيحية وتقنيات تقليدية محلية، لتنتج شكلا فنيا يُعبّر عن المقاومة بطريقة ذكية ومشفرة، إذ غالبا ما عبّرت الأغاني عن مطالب المحتجين بكلمات ظاهرها بريء، لكن مضمونها مشحون برسائل احتجاج خفية، في تحدٍّ للرقابة الصارمة التي كانت مفروضة آنذاك.
إعلانتصف الباحثة المتخصصة في موسيقى المقاومة الدكتورة ميشيلا فيرشبو هذا الدور بقولها "خلال 46 عاما من الحكم العنصري تحوّلت حركات المقاومة من مجموعات سلمية غير منظمة إلى تحالفات قوية مثل المؤتمر الوطني الأفريقي".
وخلال هذا التحول شكّلت موسيقى التحرير عنصرا محوريا في إشعال جذوة النضال وتوحيد الصفوف، ولم تكن مجرد أغانٍ، بل كانت أفعالا جماعية للتعبير سلطت الضوء على ظلم النظام، وأسهمت في الدفع نحو التغيير السياسي والإصلاح الجذري.
وهكذا، شكّلت الموسيقى في جنوب أفريقيا أكثر من مجرد نشاط فني وثقافي، لقد كانت سلاحا ناعما في وجه الاستبداد، ورسالة شعب لم يتوقف عن الغناء للحرية حتى انتصر.
في عام 1954، أطلق الأسقف الإنجليزي الأنجليكاني تريفور هدليستون دعوة جريئة لمقاطعة ثقافية ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، لتصبح هذه المبادرة بداية لمسار طويل من التضييق الثقافي والسياسي على النظام.
نجحت الدعوة في عام 1968 حين أصدرت الأمم المتحدة قرارا يدعو الدول الأعضاء إلى قطع جميع "الروابط الثقافية أو التعليمية أو الرياضية" مع حكومة بريتوريا. شكل نجاح المقاطعة دوليا ضغطا متزايدا على الفنانين والموسيقيين العالميين بعدم التعامل مع مؤسسات النظام العنصري أو المشاركة في فعاليات تقام على أراضيه.
وبحلول عام 1980، دعمت الأمم المتحدة بشكل رسمي مبدأ المقاطعة الثقافية، مانحة شرعية دولية لأي مقاطعة تُفرض على النظام باعتبارها أداة مقاومة سلمية في وجه التمييز العنصري.
رغم ذلك، لم تخلُ هذه الجبهة من التوترات. ففي أواخر الثمانينيات، أثار الفنان الأميركي بول سايمون جدلا واسعا بتسجيله ألبومه الشهير "Graceland" في جنوب أفريقيا، بمشاركة موسيقيين سود من جنوب أفريقيا.
اعتُبرت هذه الخطوة خرقا صارخا لقرار المقاطعة، وتعرض سايمون لانتقادات حادة، لا سيما من "فنانين متحدين ضد الفصل العنصري"، وهي منظمة أسسها دالي تامبو، نجل زعيم المؤتمر الوطني الأفريقي، أوليفر تامبو. ورغم ادعاء سايمون حصوله على موافقة المؤتمر الوطني الأفريقي، نفى تامبو صحة هذا التصريح.
سعى الموسيقي الجنوب أفريقي الشهير هيو ماسيكيلا، الذي كانت له علاقة قديمة بسايمون، إلى تهدئة الأزمة من خلال اقتراح جولة موسيقية مشتركة، تضمنت أغاني من ألبوم "Graceland"، إلى جانب أعمال لفنانين سود بارزين من جنوب أفريقيا، مثل ميريام ماكيبا.
وبرر ماسيكيلا هذه الخطوة قائلا إن المقاطعة الثقافية، رغم عدالتها السياسية، تسببت في "ضعف نمو الموسيقى الجنوب أفريقية"، مشددا على ضرورة إيجاد توازن بين المبدأ الأخلاقي وتطلعات الفنانين المحليين.
وهكذا، تكشف المقاطعة الثقافية لجنوب أفريقيا عن واحدة من أكثر المراحل تعقيدا في تداخل الفن بالسياسة، حيث تحوّل الإبداع إلى ساحة صراع أخلاقي ودبلوماسي، وأصبحت الأغنية موقفا، والحفلة الموسيقية قرارا سياسيا.
في ظل نظام الفصل العنصري "الأبارتيد" الذي فرض نفسه على جنوب أفريقيا طوال النصف الثاني من القرن العشرين، أُجبر السكان السود على العيش في بلدات فقيرة، وحُرموا من أبسط حقوقهم الإنسانية.
إعلانكانت الدولة تستند إلى عقيدة عنصرية ترى أن البلاد ملك للبيض وحدهم، وهي الفكرة التي جسدها ونفذها بقسوة هندريك فرينش فيروورد، أحد أبرز مهندسي نظام الأبارتيد، والذي شغل منصب أول وزير لشؤون السكان الأصليين، ثم رئيسا للوزراء في حكومة الحزب الوطني
ورغم أن فناني جنوب أفريقيا لم ينظروا إلى موسيقاهم في البداية على أنها سياسية بشكل مباشر، فإن أربعينيات القرن الماضي شهدت تحوّلا مهما، إذ بدأ بعضهم في استخدام الموسيقى كوسيلة للتعبير عن القمع الذي يواجهونه، لا كردّ مباشر على قوانين الفصل، بل كرد فعل إبداعي على الاضطهاد العام.
لكن مع تصاعد قوة حكومة الفصل العنصري خلال خمسينيات القرن العشرين، وتعاظم نشاط حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، أصبح للموسيقى بُعد نضالي واضح.
برز في هذه الفترة الموسيقي والنقابي فوييسيل ميني، كواحد من أوائل من استخدموا الموسيقى بشكل صريح لمقاومة الأبارتيد، من خلال أغنيته الشهيرة "انتبه يا فيروورد"، المكتوبة بلغة الهوسا، والموجهة مباشرة إلى رئيس الوزراء فيروورد:
احذرْ يا فيرويرد الظالم
فالظلم يعود على الظالم
زرعتَ القهر فها أنت تجني
فلا تلتمسْ عذرا وتتظلم
تحولت هذه الأغنية إلى نشيد احتجاجي يتردّد في المسيرات والتجمعات المناهضة للتمييز العنصري، واكتسبت شهرة واسعة داخل البلاد وخارجها، وأداها فنانون بارزون مثل ميريام ماكيبا وأفريكا بامباتا. ولم تكن الأغنية مجرد كلمات، بل كانت إعلان تحدّ في وجه نظام قمعي استخدم كل أدواته لإسكات الأصوات المعارضة.
لاحقا، وصف الشاعر والمناضل جيريمي كرونين فوييسيل ميني بأنه "تجسيد للقوة الكامنة في الأغاني داخل حركة التحرر". فعندما اعتُقل ميني عام 1963 بتهمة "جرائم سياسية"، وحُكم عليه بالإعدام، قيل إنه كان يغني بثبات وقوة وهو في طريقه إلى المشنقة، تاركا إرثا موسيقيا لا يُنسى، ورسالة مفادها أن الفن لا يُكمّم، والنغمة أبلغ من الرصاصة.
"باي باي صوفيا تاون" موسيقى التهجير القسريرغم مرور عقود على سقوط نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، تبقى الأغاني التي وُلدت من رحم المقاومة في خمسينيات القرن الماضي شاهدة على واحدة من أعنف مراحل التهجير القسري والاضطهاد الثقافي.
خلال تلك الفترة، ازدادت شعبية أغاني الاحتجاج بشكل ملحوظ، وبدأ الموسيقيون التعبير علنا عن رفضهم سياسات التمييز العنصري، لا سيما تلك المرتبطة بإجبار المواطنين السود على حمل تصاريح الهوية التي تقيد حركتهم وتحصرهم في مناطق اجتماعية محدودة.
واشتهرت في تلك المرحلة أغنية "حكومة الدكتور مالان قاسية" للفنانة دوروثي ماسوكا، التي انتقدت فيها رئيس وزراء جنوب أفريقيا آنذاك دانيال مالان، المعروف بتشريعاته الصارمة لترسيخ نظام الأبارتيد.
إحدى أكثر اللحظات المأساوية التي وثّقتها الموسيقى كانت تهجير سكان حي صوفيا تاون عام 1955. هذا الحي -الواقع في إحدى ضواحي جوهانسبيرغ- كان رمزا للتنوع العرقي والثقافي، ومركزا نابضا لموسيقى الجاز والفنون والكتابة السياسية.
ومع ذلك، لم ينجُ من قبضة النظام العنصري، حيث هُدم بالكامل من قبل السلطات، ونُقل نحو 60 ألفا من سكانه قسرا إلى مستوطنة "ميدولاندز"، ضمن خطة ممنهجة لإعادة تنظيم الخارطة السكانية على أسس عنصرية صارمة.
جاء رد الفنانين سريعًا ومؤثرا، إذ كتب الموسيقي وعازف الطبول سترايك فيلاكيزي أغنية "ميدولاندز" التي أصبحت نشيدا شعبيا يعكس الألم والحنين والنقمة على السياسات التهجيرية.
وتحولت الأغنية إلى واحدة من أشهر الأعمال المناهضة للأبارتيد، خاصة بعد أن أدتها أيقونة النضال الغنائي الجنوب أفريقي ميريام ماكيبا، وأسهمت في نقلها إلى جمهور عالمي.
في أغنيتها الأخرى "Sophiatown Is Gone" وثّقت ماكيبا أيضا مشاعر الفقد والخذلان التي خيّمت على السكان بعد تدمير الحي:
رحلت الطيور
الشوارع تبدو حزينة وجافة
رحلت صوفيا القديمة
بوم، بوم، بوم، بوم، بوم
رحلت صوفيا القديمة إلى الأبد
أطلال، أطلال
بهذا الصوت الممزوج بالحزن والعزم، لم تكن موسيقى الجاز في جنوب أفريقيا مجرد فن للترفيه، بل تحولت إلى وسيلة للتوثيق والمقاومة.
في 21 مارس/آذار 1960، وقعت واحدة من أكثر المحطات دموية في تاريخ جنوب أفريقيا الحديث، حين أطلقت الشرطة النار على حشد سلمي يضم نحو 5 آلاف مواطن تجمعوا أمام مركز الشرطة في بلدة شاربفيل، استجابة لدعوة من حزب المؤتمر الوطني الأفريقي لترك "دفاتر المرور" في منازلهم، في خطوة احتجاجية ضد القوانين التي فرضت على السود حمل وثائق تثبت عرقهم وقبيلتهم.
إعلانأسفر إطلاق النار عن سقوط عشرات القتلى والجرحى، في حين سُجّلت الواقعة في التاريخ باسم "مذبحة شاربفيل" والتي شكّلت نقطة تحول مأساوية عمّقت حدة الفصل العنصري، وأشعلت شرارة القمع السياسي على نطاق واسع.
رد النظام كان سريعا ووحشيا؛ فحُظر كل من المؤتمر الوطني الأفريقي ومؤتمر عموم أفريقيا، وقُدّم 169 من قادة النضال الأسود إلى المحاكمة بتهمة الخيانة.
في المقابل، بدأ الفنانون مثل ميريام ماكيبا، وهيو ماسيكيلا، وعبد الله إبراهيم، وجوناس غوانغوا، وكريس ماكجريجور توجيه موسيقاهم لتسليط الضوء على جرائم الأبارتيد وتوعية العالم بممارسات النظام العنصري. لكن السلطات واصلت تضييق الخناق، حيث شددت هيئة الإذاعة الجنوب أفريقية قيودها على المحتوى، ومنعت بث أي موسيقى تُعدّ "تخريبية".
في عام 1961، أثارت المغنية دوروثي ماسوكا عاصفة عندما أصدرت أغنية بعنوان "لوممبا" في إشارة إلى اغتيال الزعيم الكونغولي باتريس لومومبا.
كانت الأغنية تلمّح إلى تورّط جهات غربية في مقتله، وأغضبت الأغنية النظام، مما أدى إلى مداهمة الأستوديوهات، ومصادرة الألبوم بالكامل، وإصدار مذكرة باعتقال دوروثي، التي اضطرت إلى الهرب والعيش في المنفى أكثر من 3 عقود.
تخليدا لذكرى شاربفيل، نالت المنطقة التي شهدت المجزرة اعترافا عالميا عام 2024 بإدراجها على قائمة مواقع التراث العالمي والمعروفة باسم مواقع إرث نيلسون مانديلا.
مايبوي وأماندلا.. الموسيقى رافعة النضالومع تصاعد القمع خلال سبعينيات القرن الماضي، أدرك ناشطو المؤتمر الوطني الأفريقي أن الفعل الثقافي لا يقل أهمية عن النضال السياسي، بل يمكن أن يُستخدم أداة لرفع الوعي، وحشد الدعم الشعبي والدولي. وهنا وُلدت في عام 1975 فرقتا مايبوي الثقافية وأماندلا.
أُسّست أماندلا على يد الناشطَين باري فينبرغ وروني كاسريلز اللذين استلهما اسم الفرقة من الشعار النضالي "دعوا أفريقيا تعود".
ضمّت المجموعة فنانين من خلفيات مختلفة، واعتمدت على مزيج من الغناء الجماعي، والشعر، والسرد القصصي، لتصوير الحياة اليومية تحت حكم الأبارتيد، وتوثيق النضال ضده.
قدّمت الفرقة أكثر من 200 عرض في أنحاء العالم، لا سيما في أوروبا، وكانت تُعد الذراع الثقافية الرسمية لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي.
وقد استطاعت عبر فنّها إيصال رسالة المقاومة إلى جمهور عالمي، في وقت كانت فيه الرقابة الصارمة تمنع تلك الأصوات من الوصول إلى الداخل الجنوب أفريقي.
هيو ماسيكيلا.. المقاومة ضد الفصل العنصريفي عام 1976، كتب الفنان الجنوب أفريقي هيو ماسيكيلا أغنية "سويتو بلوز" التي كانت ردا موسيقيا مؤثرا على مذبحة سويتو التي شهدتها البلاد، حين أقدمت قوات حكومة الفصل العنصري على قتل أكثر من 700 محتج، وإصابة آلاف آخرين، احتجاجا على قرار فرض اللغة الأفريكانية كلغة تعليم عوضا عن الإنجليزية في المدارس.
أشعلت هذه الأحداث شرارة انتفاضة استمرت بضعة أشهر في بلدات سويتو، وأصبحت لحظة فاصلة في تاريخ الحركة المناهضة للأبارتيد.
غنت الفنانة الأسطورية ميريام ماكيبا أغنية "سويتو بلوز"، لتصبح جزءا لا يتجزأ من عروضها الحية على مدى سنوات، وتوصل معاناة الشعب الجنوب أفريقي من خلال أنغامها المؤثرة.
ولم تكن هذه الأغنية الوحيدة التي ألّفها ماسيكيلا في سياق المقاومة، فقد كتب أيضا إحدى أشهر الأغاني المناهضة للفصل العنصري، وهي أغنية أعيدوه إلى الوطن (نيلسون مانديلا) والتي عبّرت عن رغبة شعبه في حرية زعيمهم الذي كان معتقلا مدى الحياة آنذاك.
نيلسون مانديلا كان من أشد المعجبين بموسيقى ماسيكيلا، وقد أرسل له رسالة تهنئة في عيد ميلاده عام 1985 عبر المهربين، مما ألهم الفنان لتأليف أغنيته الشهيرة التي استمرت رمزا للكفاح من أجل الحرية.
"نكوسي سيكليل أفريكا".. الترنيمة التي وحدت أفريقياتُعتبر ترنيمة نكوسي سيكليل أفريكا (يا رب بارك أفريقيا)، التي ألّفها القس إينوك سونتونغا، النشيد الوطني الأفريقي غير الرسمي، ورمزا بارزا للنضال من أجل الوحدة والتحرر في جنوب أفريقيا والقارة الأفريقية بأسرها.
يصف عالم الأنثروبولوجيا ديفيد كوبلان هذا النشيد بأنه أكثر تعبير ثقافي عن الروح الأفريقية المقاومة، حيث أصبح شعارا يُجسد الأمل والتحدي في وجه الظلم.
وفي عام 1994، أصدر نيلسون مانديلا مرسوما رسميا باعتماد مقطع من أغنية "نكوسي سيكليل أفريكا" نشيدا وطنيا مشتركا لجنوب أفريقيا، معبرا عن بداية حقبة جديدة من الوحدة والمصالحة.
وفي 24 سبتمبر/أيلول 1996، أُعلن قبر القس إينوك سونتونغا نصبا تذكاريا وطنيا، إذ كشف الرئيس مانديلا الستار عن النصب، ومنح مؤلف النشيد وسام الخدمة المتميزة (الذهبي) بعد وفاته، تكريما لإرثه الخالد ودوره في رسم ملامح الحرية الأفريقية.
إعلان