لجريدة عمان:
2025-08-02@17:14:05 GMT

حين مات الموت!

تاريخ النشر: 13th, February 2025 GMT

ذات ليلة كان الملك فاروق ملك مصر والسودان مدعوًا إلى حفل غنائي بهيج ولكنه حين حضر إلى الحفل صُدم الحاضرون من حالة الملك فقد كان عابس الوجه ضائق الصدر وحين بدأ الحفل أخذت المطربة الشهرية تصدح بصوت عذب واصفة حبيبها بأنه جاء إليها يمشى سعيدًا فرحًا كأنه ملك.

استمع الملك إلى كلماتها فشَرد ذهنه لبُرهة يتأمل معانيها ثم عبس وجهه وزاد ضيقه وتحدث إلى من جواره قائلًا: لماذا يظن الناس أن الملك لا بد أن يكون سعيدًا فرحًا دائمًا؟! أوليس هو بشرًا أولًا وأخيرًا وأنه يعيش في الحياة الدنيا وبالتالي فهو يسعد ويحزن مثل غيره من بنى البشر وهو كذلك له نصيبه من الأتراح كما له حظه من الأفراح فلا سعادة كاملة ولا راحة دائمة في الحياة الدنيا حتى ولو كنت مالكًا من ملوكها.

!

نعم لقد أصاب الملك كبد الحقيقة بهذه الكلمات فالحياة الدنيا ناقصة لا كمال لها ولذلك نُعِتت بالدنيا ولكن أين هي العليا إذن؟ إن الحياة العليا -إن جازت التسمية- هي مختلفة كل الاختلاف مختلفة شكلًا ومضمونًا وإجمالًا وتفصيلًا وإني لأدعوك أخي الكريم لتشاركني لحظات من التأمل في هذه الحياة لنقارن بنذر يسير بينها وبين الحياة الدنيا فهيا معي.

1) السعادة: في الحياة الدنيا السعادة لا تدوم فإنها إن مكثت برهة من الزمن تغيب أزمانًا وغالبًا الأحزان والمنغصات تفوق المسرات، فالهَمٌّ أشكال وألوان وكلٌ لديه ما يبكيه وها هو عملاق الأدب عباس العقاد يصف أحوال الناس في الدنيا قائلًا:

ورب المال في تعبٍ

وفي تعبٍ من افتقرا

وذو الأولاد مهموم

وطالبهم قد انفطرا

ويشقى المرء منهزما

ولا يرتاح منتصرا

أما الحياة التي نقصدها فلا نَصَب ولا شقاء فيها بل سعادة دائمة بلا زوال أو انقطاع بل هناك ما هو أكثر من السعادة وهو رضوان الله عز وجل الذي يحل بأهل هذه الحياة فتبلغ السعادة مداها ويبلغ السرور منتهاه.

2) الطعام: الطعام الطيب في الحياة الدنيا كثير إلا أن الإنسان له حدود فيما يمكن أن يتناوله من الطعام وذلك على قدر استيعاب معدته وكذلك على قدرته المالية للشراء، ولكي ينعم الإنسان بطعامه يجب أن يمر الطعام على جسده وصحته مرورًا حميدًا وأخيرًا هو يحتاج إلى الذهاب إلى الغائط للتخلص من فضلات هذا الطعام مهما كان هذا الطعام طيبًا شهيًا! أما في الحياة التي نقصدها فأطايب الطعام لا حصر لها ولا حدود والكمية التي يمكن أن يتناولها الإنسان أيضًا لا حدود لها كما أنه لن يحتاج إلى أن يذهب إلى الغائط فليس هناك فضلات ولكن فقط ينضح جسده برائحة المسك! (تستحق التأمل).

3) الشراب: الماء واللبن والخمر والعسل كلها مشروبات نحتسيها في الحياة الدنيا ولكن قد يكون الماء غير عذب وقد يفسد اللبن ويتغير طعمه والخمر حُرِم علينا في الدنيا والعسل قد يكون غير صافٍ، أما في الحياة التي نقصدها فهذه المشروبات تجرى في أنهار وبكميات لا حدود لها والماء عذب هنيئًا للشاربين واللبن سائغ لم يتغير طعمه والعسل مصفى والخمر لذة للشاربين فهو ليس متاحًا وحلالًا فقط ولكنه لذيذ الطعم على عكس خمر الحياة الدنيا الذي يكون غالبًا طعمه كدرًا يغبه الشارب غبًا بلا تذوق حتى يتجنب سوء طعمه ولكنه يشربه فقط من أجل أثره في تغييب العقل.

4) المَلبس: قطن أو كتان أو صوف وغيرها من المنسوجات هي ملبسنا في الحياة الدنيا ومهما طال عمرها فهي تبلى ويخبو زهوها وكذلك مهما بلغت زينتها فهي محدودة مؤقتة أما الحياة التي نقصدها فالملبوسات خضرٌ من سندس وإستبرق محلاة بالياقوت واللؤلؤ والمرجان، تُرى كيف سنبدو في هذه الملابس؟

5) متعة الجسد: في الحياة الدنيا يحل للمسلم أربع زوجات فقط وحتى إن كان غير ملتزم بمنهج الله ويقع في كبيرة الزنا والعياذ بالله فإنه محدود أيضًا بقدراته الجسدية كما أنه ليست كل نساء الدنيا جميلات أما في الحياة التي نقصدها فالمتعة لا نهاية لها والصحة موفورة والجمال بلا حدود فهن حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون دائمًا أبكارًا عربًا أترابًا لا حصر لعددهن.

6) الملل والسأم: من غرائب صفات الحياة الدنيا أن الإنسان كلما أفرط في تلبية رغباته الحسية زاد مَلله وفاض سأَمه وملأ الضجر حياته فيكرهها بكل ما فيها وتصغر في عينيه ويشعر بدونيتها وحقارتها أما في الحياة التي نقصدها فلا سأم فيها ولا ملل فأهلها لا ينزفون أي لا يسأمون فالمتع يتبعها متع أكبر وألذ دون رتابة أو ملل فالنفس طيبة والرضوان يملأ الجنبات.

7) النهاية: مهما عشت في الحياة الدنيا فإنك ميت لا محالة ومفارق هذه الدنيا ونعيمها فالموت كأسٌ كل الناس شاربه طال العمر أو قصر فالنهاية قادمة بلا أدنى شك، أما في الحياة التي نقصدها فالموت قد مات حيث يؤتى به في صورة كبش فيذبح إعلانًا عن الخلود الدائم فلا موت ولا فراق أنت إذن منعمٌ خالدٌ في النعيم فهو لن يتركك ولن تتركه فالله أكبر، قد مات الموت والحمد لله قد قُتل السأم.

8) الثمن: في الحياة الدنيا كل شيء له ثمن فلكي تحظى بأي متعة لا بد أن تكون جاهزًا للدفع من كدك وشقائك وقد يكد الإنسان ويشقى ولا يحصل على متع الدنيا وقد يسعى ويشقى لسنوات حتى ينال طيب العيش وفي أغلب الأحيان يفوق الثمن المدفوع المنفعة المتحصلة أما الحياة التي نقصدها فللمتعة والنعيم فيها ثمنٌ أيضًا ولكن المنفعة المتحصلة أعلى بمراحل لا نهائية ولا تقارن بالثمن وهذا الثمن يدفع في الحياة الدنيا فقط وهو بضع عقود تحياها تمشى فيها على السراط المستقيم فتحظى بالنعيم الأبدي فضلًا عن حياة طيبة تحياها في الحياة الدنيا أيضا.

تلك إذن كانت بعض تفاصيل هذه الحياة فهل راقت لك هذه الحياة؟ أما ماذا أنت فاعلٌ بنفسك؟!

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی الحیاة الدنیا هذه الحیاة لا حدود

إقرأ أيضاً:

الحياة بيدٍ واحدة!

هذه هي المرة الأولى التي أكتب فيها مقالًا بفمي؛ أُملِي الكلمات على الهاتف فتتحول أمام عينيَّ إلى نصٍّ مكتوب. وكم أنا ممتن للتقنية التي أتاحت لي تعويض يدي المعطلة. من نافلة القول إننا لا نشعر بأهمية أشياء كثيرة في حياتنا إلا حين نفقدها أو نكون مهددين بفقدانها، ومن هذه الأشياء أعضاؤنا التي لن أضيف جديدًا إن قلت إن الله لم يخلقها لنا عبثًا. هل كان يلزمني دليل مادي لأثبت هذا الأمر؟ أن توضع يدي اليمنى في الجبس مثلا، لأكابد بعدها الحياة بيد واحدة؟!

ها أنا بعد أن قضيتُ خمسين عاما من عمري يمينيًّا، أتحول بأمر طبيب هندي إلى رجل يساري، لثلاثة أسابيع على الأقل. قال الدكتور جانيش إن الأشعة السينية اكتشفت أن ألم اليد الذي كان يعاودني خلال الشهر المنصرم ليس سوى كسر في الرسغ، ويستدعي أن توضع يدي في الجبس لواحد وعشرين يومًا قابلة للزيادة. كان أول سؤال قفز لذهني: كيف سأستحم؟ رد الطبيب ببرود من اعتاد هذه الأسئلة الساذجة: «لف الجبيرة ببلاستيك». شردت لثوان وأنا أتساءل في نفسي: «وهل هناك قطع بلاستيك خاصة لاستحمام مكسوري اليد؟»، ويبدو أن أخي محمود قرأ حيرتي، فقال مبتسمًا: يقصد أن تَلُفَّ الجبيرة بكيس بلاستيك أثناء الاستحمام لكي لا تتبلل، دع أخانا حمدان يشرح لك، فهو خبير بسبب كسوره العديدة.

في طريق العودة إلى البيت كنت أتأمل جبيرتي الزرقاء التي تلف زندي ورسغي، وتخرج منها أصابعي الخمس لتذكرني بكل الأشياء التي لن أستطيع الإمساك بها. سأل محمود الذي يقود السيارة عن موعدنا المسبق للذهاب إلى العزاء في حفيت صباح الغد، صَمَتُّ للحظة، لأنني تذكرتُ أيضا عزاء سماء عيسى. تخيلتُ نفسي أدخل مجلس العزاء الكبير وأنحرف يمينا إلى أول صف. علي أن أختار إحدى طريقتين لمصافحة جموع المعزّين؛ إما أن أصافحهم جميعا بيدي اليسرى، وهو ما لن يستسيغه البعض منهم، خصوصًا كبار السن، أو أن أجازف بمد يدي اليمنى بجبيرتها وأترك الباقي لتقديرهم. يكفي أن يسيء واحدٌ منهم فقط التقدير لأصرخ وأندم على مدها. قلت لمحمود: «كلا، لن أذهب، وسأطلب من عبدالله حبيب أن يعزي سماء نيابة عني»، وطفقتُ أفكر في إجابة السؤال الذي سيتكرر علي كثيرا في الأيام القادمة: «سلامات أيش حصل؟»، ذلك أن إجابة من قبيل أن جهاز «الباور بانك» الضخم سقط بحافته من علٍ على رسغ يدي فكسره، ستحيل الأمر برمته إلى فيلم هندي رديء، وستجعل الحادث مجانيًّا، وخاليًا من أية بطولة، فلا أنا تعثرت في مباراة كرة قدم مهمة، ولا سقطتُ من على ظهر حصان، ولا حتى تعرضتُ لحادث سير.

وأنا أتناول طعام الغداء في صحن منفرد بيدي اليسرى، وبواسطة ملعقة، كنتُ أبتسم وأنا أستحضر النكتة التي أطلقها أحمد بدير في مسرحية «الصعايدة وصلوا» قبل أكثر من ثلاثين عاما، عن ذلك الرجل الذي قيل له: «لا تأكل بيدك اليسرى لأن الشيطان يأكل معك» فوضع سُمًّا في الأكل!! كانت يدي اليمنى تنظر إليّ من تحت الضمادة ولا تضحك، بل شعرتُ بها تعاتبني: «تبتسم؟! تظن أنك تستطيع الاستغناء عني بهذه البساطة؟!».

في الأيام التالية تفهمتُ مشاعرها أكثر حين وقفت على الكم الهائل من الخدمات التي كانت تقدمها لي وهي صامتة، بينما كنتُ أتلقى خدماتها دون أي امتنان، وكأنها أمر مفروغ منه: فتح الأبواب والنوافذ، كتابة المقالات والنصوص وتنسيقها في ملف الوورد، تقليب صفحات الكتب الورقية، وتحميل الكتب الإلكترونية، التوقيع على أوراق وعقود العمل، اللعب بالهاتف، الوضوء، حركات الصلاة، تحريك السكر في الشاي، لبس الدشداشة وتشبيك أزرارها عند الرقبة، واعتمار المصر، وربط الإزار، تمشيط الشعر، وإمساك فرشاة الأسنان، حمل الأطفال والمسح على رؤوسهم، التلويح للمسافرين، إطفاء المنبه كل صباح، وتضبيطه كل مساء، تناول النقود من المحفظة، وإدخال بطاقة الفيزا في آلة الصرف، تشغيل السيارة وضبط زر مكيفها، والبحث فيها عن الإذاعة، فتح أكواب الماء المغلفة بالبلاستيك، تعديل وضعية الوسادة قبل النوم، نقل الأغراض الصغيرة من مكان إلى آخر، كل هذه الأفعال والحركات وعشرات غيرها لم أستطع تنفيذها بالسلاسة نفسها التي كانت قبل تعطل اليد المسكينة.

لتعجيل التئام الكسر حاولت أمي إقناعي بتناول أدوية شعبية مجربة، كشرب «حبر الحبار» و«الموميان» -على سبيل المثال- لكنني لم أستسغهما، أما مشروب «تفر التيس» الذي نصحني صديق به، فقد كان اسمه كافيًا لينفرني منه. وبعد أن نجحت في تنفيذ بعض الأعمال بيدي اليسرى، كان عليَّ أن أجرب الاستحمام ممتثلًا لنصيحة الدكتور جانيش. خطر لي للحظة أنني «أَخِيل»؛ ذلك البطل في الأسطورة الإغريقية الذي أرادت أمه أن تخلده فلا يموت، فكان أن غمسته في نهر مقدس يَمنح أي عضو من أعضاء الإنسان الذي يلامس ماءه حصانة من الأذى. لكنها نسيت وهي تعلقه من كعبه وتغمسه في النهر أن تغمس الكعب أيضا، فلم يمسه الماء، وكان هذا كافيًا ليتسبب في مقتله، لأن خصومه عرفوا أن «كعب أخيل» هو نقطة ضعفه، فرموه بسهم قاتل. كنت «أخيل» إذن، وكانت يدي التي لُفَّتْ بالبلاستيك فلم يمسسها الماء هي «كعبي».

انتهى المقال الآن، وقد جعله فمي سهل الكتابة. لكن إرساله إلى إيميل الجريدة لن يتأتى بالفم للأسف، وهذه معضلة على أخي فيصل مساعدتي في حلها.

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني

مقالات مشابهة

  • أسبوع من الدنيا في لبنان
  • الحياة بيدٍ واحدة!
  • يسري جبر: هكذا نفرق بين علماء الدنيا والآخرة
  • ما معنى نزول الله الى السماء الدنيا؟.. الدكتور يسري جبر يجيب
  • رسميًّا.. موعد الحدود الدنيا لتنسيق جامعات المرحلة الثانية 2025
  • أغلى حاجة في الدنيا.. أحمد السقا يهنئ نجله بعيد ميلاده
  • بسمة وهبة: تظاهرات تل أبيب من إحدى عجائب الدنيا.. فيديو
  • في لحظة واحدة خسرناها وخسرناه.. شقيقة ضحية والدها: كان أحن أب في الدنيا وما كانش يقصد| القصة الكاملة
  • هتكسري الدنيا.. شيماء سيف تهنئ دنيا سمير غانم على فيلم «روكي الغلابة»
  • هيكسر الدنيا.. إيمي سمير غانم تهنئ شقيقتها على فيلم روكي الغلابة