حكومة المليشيا وحلفها السياسي هي تحدي سياسي جديد
تاريخ النشر: 18th, February 2025 GMT
عندما قامت الحرب في 15 أبريل كان هناك نزاع على الشرعية في الأيام الأولى بين البرهان المحاصر في القيادة العامة وحميدتي الذي أرسل مستشاره السياسي يوسف عزت لمقابلة رؤساء الدول.
حاول حلف المليشيا مع قحت مع داعميهم من الدول الإقليمية نزع شرعية الحكومة التي يمثلها البرهان كرئيس لمجلس السيادة، وكلنا نتذكر تصريحات رئيس الوزراء الأثيوبي في ذلك الوقت، وكيف كانت الدول تتعامل مع حميدتي والبرهان كندين متقابلين.
بعد خروج البرهان من القيادة العامة وقيامه بعدد من الزيارات الخارجية ثم مخاطبة الجمعية العامة للأمم المتحدة (حاول حميدتي مخاطبة الأمم المتحدة في تسجيل فيديو وأرسل حمدوك خطابا للأمين العام للأمم المتحدة يدعوه لعدم الاعتراف بشرعية البرهان كممثل للدولة السودانية) تم حسم أمر النزاع لصالح الدولة ممثلة في مجلس السيادة. تعززت الشرعية لاحقا أكثر وأصبحت غير قابلة للنقاش، ومع تقدم الجيش واستعادة السيطرة على الأرض مع تفكك المليشيا وانحلالها أخلاقيا وسياسيا بالجرائم والانتهاكات الفظيعة التي قامت بها في كل مكان دخلته وتفككها عسكريا بضربات الجيش أصبحت شرعية الحكومة السودانية من المسلمات الواضحة.
مع توالي الهزائم العسكرية للمليشيا وتقدم الجيش واستعادته للأرض بوتيرة تؤكد أن استعادة كامل أو معظم التراب السوداني هو مسألة وقت لا أكثر؛ من هذا الواقع جاءت خطوة الحكومة الموازية، ولذلك هي كما قلت بنت الهزيمة في المقام الأول. هي نتاج لفشل المليشيا في تحقيق هدفها الأساسي المتمثل في السطيرة على الدولة، ثم فشلها في العودة إلى المشهد عبر اتفاق سلام يترجم مكاسبها العسكرية إلى مكاسب سياسية، ثم فشلها في المحافظة مكاسبها العسكرية نفسها وانهيارها المتسارع وسيطرة الجيش على مجريات الحرب بشكل سبه كامل. فهي خطوة في طريق الانحدار في الأساس.
الآن بدلا من المنازعة في تمثيل الدولة وفي السيطرة على الدولة تحاول المليشيا وحلفاءها الجدد والقدامى خلق شرعية جزئية موازية على الأراضي التي تسيطر عليها وتوشك أن تفقدها في دارفور، ووسط حالة رفض متنامية من المكونات المحلية في دارفور نفسها. فهي لا تحوز لا على سيطرة حقيقية في دارفور ولا على تمثيل سياسي. وفي كردفان وضعها أسوأ.
ومع ذلك فهناك مكاسب ستحققها المليشيا من هذه الخطوة. المكسب الأهم هو إعادة تقديم نفسها ضمن مشروع سياسي أكبر من الدعم السريع يضم حركات وقوى سياسية أخرى.
هذه الخطوة ستعزز الطرح السياسي للمليشيا وستقويه. هي نقطة قوة للمليشيا وللحلف الجديد الذي أصبحت جزء منه. ستصبح الدولة مواجهة بخطاب سياسي جديد أكثر جدية ولا يجدي معه اختزال المليشيا في الجرائم والانتهاكات التي ظلت تقوم بها. نعم هو طرح تقدمه قوى عميلة متورطة في جرائم فظيعة بما فيها جرائم إبادة جماعية، ولكنها سترتكز على إرث متراكم من النضال الطويل ضد الدولة المركزية بكل مشاكلها، وهذا الخطاب لن يكون بلا قيمة. فنحن هنا أمام مستوى جديد من الصراع السياسي وهو صراع سياسي متقدم مع قوى سياسية حقيقة من أحزاب وحركات مسلحة وقوى مجتمع وهي مسلحة بخطاب سياسي لا يستهان به ولا يخلو من موضوعية ولا يمكن بالتالي اختزالها في مليشيا آل دقلو الإرهابية وما تقوم به، هذا لن يكون كافيا.
وعليه، فهذا التحدي بقدر ما هو مكسب للحلف الجديد الذي يضم المليشيا وحلفاءها فهو فرصة لاستجابة جدية من الدولة ممثلة في الحكومة التي يرأسها البرهان والجيش والقوى المساندة له. التحدي الذي أمامنا الآن هو إبطال دعاوى الحلف الجديد التي ترتكز على ترسانة هائلة من الخطاب النقدي تجاه الدولة السودانية دولة 56 منذ قيامها وهو نقد لا نستطيع الهروب منه. ولذلك فالاستجابة الصحيحة هي تقديم النموذج العملي الذي يدحض هذه الدعاوى ويجلعها غير صالحة. كيف؟
بإقامة نموذج لدولة مؤسسات حقيقية وعدالة ودستور ومشاركة حقيقية للشعب بكل مكوناته. بذلك سنكون انتصرنا سياسيا وحسمنا المعركة. ولكن أي أخطاء من الحكومة الحالية سيتم استغلالها وتوظيفها ضمن الدعاية المضادة للحلف الجديد.
إن منطق التحدي والاستجابة هو أحد محركات التاريخ كما يقول توينبي، فبقدر استجابتنا بشكل صحيح للتحدي نتقدم للأمام. ووجود خصم سياسي قوي في الطرف الآخر بقدر ما هو خطير فهو أيضا مفيد لنا لأنه يضعنا أمام تحدي سياسي حقيقي وجدي، وليس أمامنا خيار سوى النجاح.
لقد اشتغل منطق التحدي والاستجابة بالفعل على المستوى العسكري وكلنا رأينا استجابة الشعب السوداني في المقاومة الشعبية ومساندة القوات الملسلحة والشعب والجيش الآن أقوى من قبل. حكومة المليشيا وحلفها السياسي هي تحدي سياسي جديد وينبغي الإستفادة منه وتحويله إلى دافع للتقدم وذلك بمعالجة الإشكالات السياسية بما يجعل طرح الحكومة الموازية ومنطقها بلا مضمون واقعي.
بكلمات أوضح يجب أن نخلق نحن المشروع السياسي الذي يعبر عن تطلعات الشعب السوداني عن حق، وبشكل إيجابي واقعي ملموس لا بالاعتماد على بؤس الطرف الآخر وسوءه وفشله وإجرامه.
حليم عباس
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
فرنسا بين الانفجار والانفراج السياسي
تعيش فرنسا منذ ما يقارب العام أزمة سياسية، اقتصادية، اجتماعية وحزبية لم تشهدها منذ عقود، وما يؤكد تلك الأزمة هو استقالة ثلاثة وزراء حكومة خلال عام، آخرها استقالة سيباستيان ليكورنو، الذي لم تدم حكومته أقل من خمس عشرة ساعة، وذلك بعد فشله في إقناع الأحزاب السياسية لتمرير خطة الميزانية الفرنسية للعام 2026، بل ولاصطدامه بالعديد من النقاط الخلافية التي ترفضها الأحزاب وبخاصة حزب اليمين المتطرف، بالإضافة إلى الأحزاب اليسارية، والمتعلقة بالتقشف في الإنفاق، وتأثير ذلك على الطبقات الكادحة، وقانون التقاعد الاجتماعي الذي كان قد أقره الرئيس الفرنسي رغم رفض غالبية المجتمع الفرنسي لهذا القانون، وما صاحبه من احتجاجات فرنسية متواصلة من جانب الفرنسيين، ومن جانب الأحزاب اليسارية، ورغم قبول الرئيس إيمانويل ماكرون استقالة ليكورنو، إلا أنه قد أمره بالاجتماع بقادة الأحزاب من أجل التوصل إلى انفراجة لتلك الأزمة السياسية التي تعصف بفرنسا، وبالفعل فقد تمكن ليكورنو من إقناع بعض الأحزاب بتقبل تعيين رئيس للحكومة المقبلة، وعدم رغبة قادة بعض الأحزاب في إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، ومما أدى إلى تفاقم تلك الأزمة أيضا هو أن الانتخابات البرلمانية التي أجريت منذ أكثر من عام قد أسفرت عن برلمان معلق ومنقسم لثلاث كتل أحزاب معارضة لم تتمكن كل منها من الحصول على الأغلبية، ومنها حزب ماكرون الذي جاء ثانيا، الأمر الذي حرمه من مواصلة مدته الرئاسية بأريحية مقابل أغلبية نسبية لأحزاب اليسار مجتمعة، ليجد الرئيس الفرنسي الذي اجتمع مؤخرا بقصر الإليزيه من أجل الخروج من تلك الأزمة إما بنجاحه في اختيار رئيس حكومة متوافق عليه ومقبول من الأحزاب، وإما بتبكير الانتخابات البرلمانية، أو أن يجد الرئيس ماكرون نفسه مجبرا على تقديم استقالته قبل نهاية مدته الرئاسية، لِمَ لا والوضع الاقتصادي والاجتماعي يزداد تدهورا، والانتقادات تزداد من جانب المعارضة وبعض الأحزاب، ومن جانب الشارع الفرنسي، وكلها انتقادات تنهال على الرئيس ماكرون بسبب زيادة الدين الخارجي لفرنسا، والذي تخطى الثلاثة تريليونات يورو، مع تدهور الأوضاع الاجتماعية وتراجع القوى الشرائية للفرنسيين، الذين يجدون أنفسهم أمام مشروع ميزانية تتطلب توفير أكثر من 60 مليار يورو، انطلاقا من مشروع رئيس الوزراء السابق فرانسوا بايرو الذي كان قد اعتمد فيها على التقشف وتقليل النفقات الحكومية، وإلغاء بعض العطلات الرسمية، وإلغاء بعض المساعدات الاجتماعية التي تمس الغالبية الكبرى من الفرنسيين.
ومع الاقتراب من انفجار تلك الأزمة وتداعياتها السلبية الخطيرة على الاقتصاد الفرنسي، بل وتأثيرها على دول الاتحاد الأوروبي فإن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يأمل من خلال اجتماعه بقادة الأحزاب باستثناء حزب فرنسا الأبية، وحزب التجمع الوطني يوم الجمعة الماضي الموافق العاشر من أكتوبر بالتوصل إلى انفراجة، وحل مرضٍ لتلك الأزمة.
وفي حال تراجعه عن بعض القرارات يمكن أن يتوصل ماكرون إلى إحداث انفراجة في تلك الأزمة، فإما أن يقوم بتعيين رئيس حكومة مرة أخرى من أحزاب اليمين، وعندها سيكون قراره هذا بمثابة استفزاز للفرنسيين، واستمرار للأزمة، وفي حال تعيينه لرئيس وزراء اشتراكي بشروط قوى وقادة اليسار، فإن هذا القرار سوف يزعج الأحزاب اليمينية التي يمكن أن ترفض هذا التعيين، وعلى الجانب الآخر فإن رئيس حزب فرنسا الأبية "جان لوك ميلونشون" كان قد قدم عريضة من أجل عزل الرئيس ماكرون، والتي لم تحصل بدورها على الدعم الكافي من نواب البرلمان من أجل تمريرها، وأيضا فإن رئيسة حزب اليمين المتطرف جوردان بارديلا قد أعلنت هي الأخرى عن غضبها ورفضها لأي حكومة جديدة، ومطالبتها بإجراء انتخابات برلمانية تسعى في حال حدوثها على حصولها على الأغلبية، ومطالبتها الرئيس ماكرون بتقديم استقالته، وتحمل مسئولياته الكاملة عن تلك الأوضاع الاقتصادية، الاجتماعية، والسياسية التي تعيشها فرنسا، فهل يمكن أن يتمكن الرئيس ماكرون من وضع حل مرضٍ لتلك الأزمة، أم أنه سيواصل تعنته السياسي وإيصال البلاد إلى الانفجار-وهو أمر لا يتمناه الفرنسيون والأوروبيون-؟